Skip to main content

شَأْنُ الله

By الخميس 14 صفر 1434هـ 27-12-2012ممحرم 20, 1441بحوث ومسائل, عقيدة

شأن الله عظيم، لأنّ الله عظيم، وقد قال تعالى واصفاً نفسه: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). وجاء تفسير الآية في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (كل يوم هو في شأن) قال: (مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا ويرفع قوماً ويضع آخرين).

وضروري أنْ يُعلم أنّ كلمة يوم في الآية تعني كل وقت وكل لحظة، وليس الوقت الممتد من الفجر إلى الغروب. وهذا معروف في كلام العرب، ومن أمثلته في الكتاب الكريم: (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) أي حين ظعنكم، وحين إقامتكم.

وشأنه تبارك وتعالى هو أمره وأقداره، ومشيئته، وتصرفاته في الخلق والكون، كما جاء في الحديث السابق. وكل ذلك من الغيب، ولا سبيل للتعامل مع الغيب إلا بالتسليم الكامل والقبول، لأنّ الغيب مساحة خارج مُتناول العقل والحواس البشرية كلها .. ومن لم يُهْدَ إلى ذلك، فقد عذب نفسه بأكثر مما فعلت به المصيبة التي أفقدته توازنه، وأخرجته عن الصواب.


ومن المفاصل التي يتجلى فيها أثر التوحيد الخالص في سلوك العبد، هو تعاطيه مع شأن الله في نفسه وأهله وبلده والناس أجمعين والكون كله، بالأسلوب الصحيح. فمن سَلَّم فقد وحّد حق التوحيد، وعبد حق العبادة، واتقى حق التقوى، فماذا فاته إذن؟ فاته عرض من الدنيا زائل، مقابل حوزته أعظم كنوز الآخرة، وهو الفوز (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) .. فالمعادلة شرعية عقلية، وبغير هذه المعطيات يستحيل حلها. والله لا يأخذ إلا ليُعطي خيراً مما أخذ، ويحضرني حديث أُدلل به على ما قلت، وما أكثر النصوص في هذا الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة). فالتجارة مع الله، على ما أراد الله، دوماً رابحة..!


وحين تلف حياة الناس ظروف صعبة، وتشتد معاناتهم، وتُصبح المصائب أكبر من طاقة احتمالهم، يُصابون بشيء من فقدان التوازن، فيضعون الأمور في غير نصابها. من ذلك التعامل الخاطيء مع (شأن الله) .. وشأن الله تبارك وتعالى لا ينبغي أنْ يُناقش، أو يكون موضوع حوار ونقاش، ولو بين المرء ونفسه. وأبرز ما في ذلك الخطأ أنْ ينسى الناس كيف ينبغي التعامل مع الغيب، فيبدأون في إعمال عقولهم، والغيب لا يقبل مقاربة العقل له إلا ليقول لصاحبه هذا غيب لا ينفع معه إلا التسليم .. وحين يُعمل الناس عقولهم، فيتحدثون بالسبب والعلة، ويُخضعون ذاك الشأن العظيم لمفاهيم عقولهم المحدودة، واستنتاجاتها الأرضية المرفوضة، يُبعدون النجعة، ويُجانبون الحقيقة، ويقعون في المحظور، ولا تتغير أحوالهم التي لا تُرضي .. فكل من تعامل مع (شأن الله) بغير التسليم، فقد أخطأ ولو أصاب. وهل من محظور أكبر من التقحم على الشأن الإلهي بالعقل البشري..؟

وما أصدقها من كلمة كنت أسمعها منذ الصغر من المسنين، الذين لم يُؤتوا علماً، لكنّهم كانوا يصدرون عن فطرهم السليمة التي لم يُفسدها تدخل الفلسفة والعقل والجدل، يقولون: (دع الأمر لصاحب الأمر) .. ومن الآيات التي تُبين تجاوزات الإنسان في التعامل مع خالقه، للتحذير من ذلك المنزلق، قول الله تبارك وتعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) .. فكلما ضاق الأمر على الناس، فليأووا إلى ركن التوحيد ففيه الخلاص.


فيا أيها الإنسان، ما غرك بربك الكريم..؟ فأخرجك عن الطاعة والتسليم، وجرأك على المقام العظيم، إنّه عقلك الذي اغتررت به، وظننته طريقك إلى النجاة، فإذا به يُلقي بك إلى التهلكة..! هلا سألت لماذا..؟

العقل أعظم نعمة أسداها الله لبني البشر. وأصاب من العلماء من فسر قول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) بأنّ ذلك التكريم هو منحة العقل التي لا توجد في باقي المخلوقات .. وقد يكون العقل نقمة على صاحبه، فما هو الفيصل بين أنْ يكون العقل نعمة، ونقمة؟

لقد قال ابن تيمية رحمه الله ما معناه العقل كالعين لا تُبصر إلا بنور خارج عنها، وإن فقدت ذاك النور صارت كالعمياء، وكذلك العقل فإنّه لا يهتدي وينفع صاحبه إلا إذا اهتدى بنور الوحي، وإلا صار يخبط خبط عشواء..!

فالمؤمن له عقل، والكافر له عقل، والفرق بينهما، أنّ أحدهما عقل استنار بنور الوحي فصار صاحبه مؤمناً، والآخر أعرض عن الوحي، فصار عقله تبعاً لهواه فكان كافراً..! ولنقف ملياً مع إيحاءات هذه الآية الكريمة: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

ومن أشدّ الضلالات الجُنوح وراء العقل المنفلت من ضوابط الوحي، وما أضل الناس إلا تواضعهم على مفاهيم خاطئة، جعلها الإلف والعوائد عندهم صواباً. فالناس يعُدُّون العالم في أي فن، والمخترع، والمفكر عقلاء. والصواب أنّهم أذكياء وليسوا عقلاء. كيف يكون عاقلاً من أتقن علوم الفضاء والمجرات والثقوب السوداء وجحد ما أنزل الله، وما جاءت به الأنبياء والرسل، وهو يُعاين ويُعايش تلك الآيات البينات التي تدل على وجود الخالق..؟ يقول الحياة مادة، والكون وليد انفجار، وسيُفنيه انفجار مثله، فأوبق نفسه، ومن دعا بدعواه (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).


ولقد وَرَّث المعتزلة ومن رأى رأيهم، على مر التارخ، المسلمين إرثاً، كان وبالاً عليهم إلا من رحم الله، أفسد العقيدة والدين، من جراء تقديس وتقديم العقل .. ولا يُغالطن أحد نفسه اليوم فيقول تلك أمة قد خلت .. فإنّ فكر المعتزلة، يُطل علينا من جديد، وبتركيز وتجميل أشد من السابق، من خلال المدرسة العقلية، التي تستغل المناخ العلمي، وثورة الإلكترون، والحواسيب، والنانو، في العصر الحاضر، لتقديس العقل وإحلاله موقعاً مُتقدماً على النقل .. ومن هنا يبدأ تهميش دور الدين، شيئاً فشيئاً، لصالح العقل. وزاد الأمر ضغثاً على إبالة الفضائيات التي ارتضت نفسها منبراً لذاك التيار العاثر.

فالعاقل من أعمل عقله وكل حواسه، ليعلم سر وجوده على الأرض، وبالتالي طريق فلاحه في الآخرة، قبل أي علم آخر، وإلا فليس بعاقل، ولو علم كل علوم الأرض .. ولعلم موقعه الصحيح من (شأن الله)، فتتنزل عليه السكينة، ويتفيؤ ظلال جنة الرضا والتسليم على الأرض .. ولقد بين لنا نبينا في الحديث الآتي أصول التعامل مع (شأن الله) وذلك بالتسليم الكامل وعدم إدخال العقل في تفسير ذلك: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)، وهل (لو وما بعدها) إلا من إملاءات العقل المتردد في التسليم لأنّه يرى أنّه سيد المواقف..؟

ومما يشغب على أمر التسليم، الذي تناولناه في السطور السابقة، الاحتجاج بالقدر في غير موطنه الصحيح .. فلا ينبغي الخلط بين التسليم لأمر الله في مصيبة ليست من كسب يد الإنسان، وبين مكروه أصابه بسبب تفريط أو سُوء تصرف منه، فمراجعة النفس هنا، ولومها، والاعتبار بما حدث من الأمور المطلوبة بل الضرورية الواجبة .. والفرق بين الحالتين واضح. ولقد لخص بعض علماء العقيدة المسألة بكلمات فقالوا: (يُحتج بالقدر على المصائب، وليس على المعايب).

وبعض المسلمين ممن عندهم شد مسبق إلى مواقف متشددة، استنبطوا من نصوص الوحيين قواعد اعتبروها، بفهم غير ناضج، قابلة لأنْ تُعايَر بها أحكام الله وأفعاله وتصرفاته تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .. ونسوا أنّ أفعال الله تبارك وتعالى تنسجم مع صفاته العلى كل الانسجام، وليس مع قواعد تتواضع عليها عقول البشر .. ولا ينبغي أن يُناقش الشأن الإلهي إلا من خلال الفهم العميق والدقيق لأسمائه وصفاته جل شأنه، فهي المرجع الوحيد لذلك ليس إلا. أليس الله تبارك وتعالى هو القائل (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ). والقائل: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) .. وعندنا تطبيقان في غاية الوضوح، ودقة الدلالة لهاتين الآيتين:

الأول: قوله تعالى مخاطبا نبيه عليه السلام: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

لمن الخطاب في هذه الآيات؟ للعارف بربه، الطائع لربه، المبلغ عن ربه، حامي جناب التوحيد ومعلمه للناس..! إنّه لا يقول ما يقول مخالفة لما علّمه ربه، ولا جهلاً بما يوحى إليه. لكنّها مشيئة الله في أن يُعَلَّم الناسُ المسائل الكبرى والخطيرة كالإيمان والتوحيد وغير ذلك بأشخاص المصطفين الأخيار، من الرسل، الذين قال عنهم ربهم: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) ليكون التعليم أوقع والنذارة أردع. ولن أطيل في قصص الأنبياء فكل وقع له مثل ذلك، بل سأكتفي بأمثلة عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه يُخاطبه ربه:

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين)، فهل يقع في الشرك مَن أُرسل ليعلم الناس التوحيد..؟ وخاطبه ربه في سورة الحاقة: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)؛ فهل يتقول على الله من ائتمنه ربه على الوحي، وشهد له بالبلاغ المبين..؟ والآية التي ذكرناها في البداية (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) هل تغيب هذه الحقيقة التوحيدية عمن يُعلم الناس التوحيد..؟ كل ذلك شاءه الله عز وجل ليتعلم الناس أنّ الرسل لا يُقبل منهم تلك التجاوزات (الافتراضية)، فكيف بمن هم دونهم في العِلم والخشية والمنزلة..؟ ولنقرأ هذين الحديثين الذين ساقهما الشوكاني في تفسيره:

عن ابن عمر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: (اللهم إلعن أبا سفيان اللهم إلعن الحارث بن هشام اللهم إلعن سهيل بن عمرو اللهم إلعن صفوان ابن أمية فنزلت هذه الآية { ليس لك من الأمر شيء }) وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَرُبَّمَا قَالَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِى رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِى يُوسُفَ). يَجْهَرُ بِذَلِكَ وَكَانَ يَقُولُ فِى بَعْضِ صَلاَتِهِ فِى صَلاَةِ الْفَجْرِ: (اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا). لأَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ)). 

ولنقرأ في تفسير الشيخ بن سعدي هذا التعليق الرائع على هذا الموضوع:

(جعل {أي النبي} يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فأنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله {ليس لك من الأمر شيء} إنّما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم، وإنّما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم، فإنّهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك الفعل، وفي هذه الآية مما يدل على أنّ اختيار الله غالب على اختيار العباد، وأنّ العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أول، ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم، وأنّ هذا شرك في العبادة، نقص في العقل، يتركون مَنِ الأمر كله له ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة، إنّ هذا لهو الضلال البعيد).

أما التطبيق الثاني: ففي صحيح مسلم عَنْ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ: (أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِى يَتَأَلَّى عَلَىَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ فَإِنِّى قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ). رجل جعل من عقله القاصر، وفهمه الكليل حَكَما على فعل الله وتدبيره، فاستحق أن لا يُبَرَّ قسمُه، وأن يُحبط عمله، عياذاً بالله .. أنا لا أريد أن أتحدث عن زلات عوام المسلمين، فهُم جهال، وقد يُعذرون أو لا يعذرون، لكنّ المشكلة أنّنا نقف على كلام لعلماء في القديم والحديث، ولكتاب ومتحدثين وخطباء معاصرين يتجاوزون الحد في التعاطي مع شأن الله، حتى يسقطوا في وهدة التألي على الله، وما اسوأها وأخطرها من وهدة..! وإذا أردنا أن نستعرض بإيجاز سبب الوقوع في تلك الوهدة عددنا الآتي:

1. عدم التعمق في التوحيد عامة، وفي موضوع (شأن الله) خاصة.

2. التعويل على نص يوافق الوجهة وترك نصوص أخرى، ومن البدهي أنّ الحُكم في أي أمر شرعي يجب أن يمر بالنصوص كلها ويخرج بالحصيلة النهائية، وإلا كان النقص والخطأ، وقد يصل الأمر إلى القول على الله بغير علم.

3. الهوى أو العاطفة أو الانجراف مع عصبية مذهبية.

وعندي من الأمثلة الكثير ولكني لا أريد التوسع، ولا أريد أن يُفهم نقدي على أنّه تجريح أو انتقاص..! أقول بجرأة وأنا أتحمل مسؤولية قولي أمام الله الذي لا أخشى ولا أرقب سواه:

إنّ التوسع في مسألة العذر بالجهل مثلاً والتعمق فيها، أو في مسألة تارك الصلاة، أظهرت الاختلاف الشديد بين العلماء إلى حد التراشق بالتهم والرمي بالكفر أو الإرجاء..! وأُوَضِّح ما أريد بحديث الرجل الذي أمر بنيه أن يحرقوه إذا مات ويذروه رمادا في البر والبحر، والحديث معروف، وفي آخره: (فجمعه الله فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك فتلقاه برحمته. وفي رواية: فَقَالَ خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ. فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ).

اختلف علماؤنا، والمعاصرون خاصة، حول السؤال لِمَ غفر الله لذلك الرجل وهو لم يعمل خيرا قط..؟ وهل عذره الله بجهله صفة القدرة..؟ وثار الجدل. ولم يقل الجميع، وهذا ما كان ينبغي عليهم: (هذا شأن الله) لا نُقاربه بعقولنا ونستحضر (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) و (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) و (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) . وأنّ السكوت والتسليم، والوقوف حيث أوقفنا ربنا هو الأسلم..!

وكنت كتبت أكثر من مرة في التعليق على هذا الحديث الفكرة الآتية: لو أنّ بيت القصيد في الحديث أن يَعْلم الناس لِم غفر الله لذلك الرجل، لبين لنا نبينا ذلك لأنّه يريد أن يُعلّمنا لا أن يُحيرنا، ويجعلنا نختلف..! لكنّ بيت القصيد أن يعلم الناس أنّ سيرة الرجل التي قُصّت عليهم تجعل كل سامع يعتقد أنّه سيكون من أهل العذاب الشديد، ومع ذلك تُفاجيء نهاية الحديث الناس بخلاف ما توقعوه. لماذا..؟ لأنّهم حكموا بعقولهم التي لم تُؤت من العلم إلا قليلا. وبتلك العقول يبيحون لأنفسهم التدخل في شأن الله، الذي وصف نفسه بالعدل والرحمة التي وسعت كل شيء، والذي يعلم السر وأخفى، فيطلع على أحوال وأسرار تنطوي عليها نفوس عباده، لا يعلمها في الكون إلا هو .. ويعلم جل شأنه ما وقر في قلوبهم، فيشاء برحمته وعدله أن يجزيهم به، ولو خالفوه بأعمالهم .. ولنقل الشيء نفسه في خلاف العلماء وبخاصة المعاصرين حول تارك الصلاة، وبخاصة خلافهم في الجملة الأخيرة من حديث الشفاعة الطويل: (ثم يقول الله شفعت الملائكة وشفع الأنبياء وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين قال فيقبض قبضة من النار أو قال قبضتين ناس لم يعملوا لله خيرا قط…). وفي نهاية الحديث: (يقول الرب بعد إدخالهم الجنة: رضائي عليكم فلا أسخط عليكم أبدا).

خلاف لا أول له ولا آخر، هل الذين لم يعملوا خيرا قط كانوا يصلون أم لا يصلون..؟ ووصل الأمر ببعضهم إلى رد الرواية الصحيحة، أو تحميلها من المعنى ما لا تحمل .. وكم كان يُجنب الأمة الاختلاف لو قيل في كل أمر كهذا هذا (شأن الله) لا ينفع فيه إلا التسليم..!

وأكتفي بهذين المثالين الذين تتفتق منهما مسائل عديدة لم نُوفق فيها في التعاطي مع (شأن الله) … والحمد لله على نعمائه