Skip to main content

أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا

By الخميس 7 رجب 1424هـ 4-9-2003ممحرم 21, 1441دراسات

لن نتحدث عن فتنٍ نزلت وما تزال تنزل بساحات المسلمين، وما أكثرها..! بل ما أخطرها..! إنّما الحديث عن نوع من الفتن شديد الفتك، وبيل العاقبة .. يعايش المسلمين ويضاجعهم ويؤاكلهم ويشاربهم .. ومع هذا فلا زال على الكثيرين خفياً، وعن طروحات أهل الإصلاح قصياً..! إنّه فتنة النفس .. وهل من فتنة أشد من أنْ يفتن الإنسان نفسه، أو أن تفتن الأمة نفسها..؟

وابتداءاً أقول: إنّ اصطلاح فتنة النفس ليس من عندي إنّما استعرته من كتاب الله تبارك وتعالى: (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).

ولقائل أنْ يقول إنّ الكلام هنا في المنافقين. أقول نعم، ولكن كم من وصف في كتاب الله جاء بحق الكفار وغيرهم وهو اليوم ببعض المسلمين لصيق..! والقاعدة الأصولية تقول: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المناسبة).

* المعنى اللغوي:

جاء في القاموس المحيط : (والفِتْنَةُ، بالكسر: الخِبْرَةُ، وإِعْجابُكَ بالشيءِ، والضلالُ، والإِثْمُ، والكُفْرُ، والفَضِيحَةُ، والعذَابُ، وإِذابَةُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، والإِضْلالُ، والجُنونُ، والمِحْنَةُ، والمالُ، والأَوْلادُ، واخْتِلافُ الناسِ في الآراء).

ولقد جاء في بعض كتب التفسير في تفسير آية الحديد المذكورة ما يناسب المعاني التي نريد الدندنة حولها فإليكموها:

قال ابن كثير: (قال بعض السلف أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات وتربصتم أي أخرتم التوبة من وقت إلى وقت. وقال قتادة وتربصتم بالحق وأهله وارتبتم أي بالبعث بعد الموت وغرتكم الأماني أي قلتم سيغفر لنا وقيل غرتكم الدنيا حتى جاء أمر الله).

وجاء في الظلال: ((ولكنّكم فتنتم أنفسكم): فصرفتموها عن الهدى. (وتربصتم): فلم تعزموا ولم تختاروا الخيرة الحاسمة. (وارتبتم): فلم يكن لكم من اليقين ما تعزمون به العزمة الأخيرة. (وغرتكم الأماني): الباطلة في أن تنجوا وتربحوا بالذبذبة وإمساك العصا من طرفيها!).

قولوا لي بربكم، أليست التفسيرات المذكورة آنفاً تحكي حال بعض المسلمين بل أكثرهم..؟

والآن إلى السؤال: كيف يكون ذلك؟ أي كيف يفتن المسلمون أنفسهم؟

إنّ الأمة (بمجموعها أو بأفرادها) حينما تواجه النوازل بمواقف: اللامبالاة، الهروب والتشاغل، الجهل والتجاهل، الانفعال والافتعال، تبرئة النفس واتهام الآخرين، منطق الشارع وهيشات الأسواق ولغة العواطف. تكون قد أسلمت نفسها إلى دُوَّامة (فتنة النفس)، مما يزيد الفتن أواراً والمسلمين دواراً.

* بعــض مــظاهر فتـنـة النـفـس:

1. الفتنة الكبرى التي عاشتها الأمة ولا تزال، ونسأل الله المعافاة منها، فتنة البعد عن الوحيين: الكتاب والسنة. قال تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً).

كان همُّ أعداء الله، أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وأعداء الدعوة، وهدفهم الأول فتنة المسلمين في أن يتركوا العمل ببعض الوحي. بدأت تلك المحاولة وإنْ شئتم فلنقل المؤامرة، ورسول الأمة صلى الله عليه وسلم حي بين ظهراني المسلمين. واليوم يدخل المسلمون هذه الفتنة باختيارهم تحت دعاوى مختلفة (التجديد، مسايرة الواقع، حوار الطرف الآخر، العصرنة، الانفتاح..).

ومما يزيد هذا النوع من الفتنة خطورة أنّ لها ظواهر كاذبة خادعة، وبواطن مهلكة قاتلة. منها ما خرج به بعض الدعاة من التخلي عن بعض التعاليم التي جاءت زمن التشريع (قبل ألف وخمسمائة سنة) بدعوى مسايرة الواقع، والتيسير على الناس .. غرّهم في ذلك بعض ما جاء في كتب التفسير من سبب نزول الآية التي ذكرتها، والتي تفتقر إلى أسانيد صحيحة كما قال الشيخ الألباني رحمه الله .. أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُكَ تَسْتَلِمُهُ حتى تستلم آلهتنا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا عَلَيَّ لَوْ فَعَلْتُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مِنِّي خِلَافَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الْآيَةَ).

ومما يؤيد ضعف هذه الرواية أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يخطر في باله مثل هذا الأمر .. ولقائل أن يقول إذاً ما معنى ختام الآية بقوله تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا

أقول: هذا من باب تعليم الله الأمة بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنّه صلى الله عليه وسلم لا يقع في مثل ذلك، وهذه القاعدة لها في كتاب الله شواهد كثيرة، منها ما جاء في سورة الحاقة: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ). وقوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). فهل النبي الذي أوتمن على الوحي، والذي بُعث وأُرسل ليُعلم الناس التوحيد يقع في الشرك؟

الجواب: لا .. لكن خطاب لكل مسلم إلى قيام الساعة إذا كان الله توعد نبيه، إذا وقع بالمخالفة، العقوبة، فكيف بفرد من الأمة..؟ إذاً فالنبي صلى الله عليه وسلم بريء عن مثل هذا.

ومن فتن النفس التي وقعنا فيها أنّ كل فرد من المسلمين أو جماعة لن يقبل أنْ تقول لهم (لستم على الوحيين). وبالفعل فإنّ الكثيرين يتوهمون أنّهم على الوحيين، لأنّهم يعملون بهما وفق فهمهم لهما .. فالخوارج على الوحيين، والشيعة على الوحيين، والمعتزلة على الوحيين، والأشاعرة والماتريدية، والبهائية والقاديانية إلى أنْ ننتهي بشحرور .. وأخيراً فإنّ أهل السنة والجماعة هم على الوحيين أيضاً .. وعلى هذا يُصبح الإسلام ألف إسلام .. وأهله شيعاً وأحزاباً .. متشاكسون ينال بعضهم من بعض، بل قد يقتل بعضهم بعضاً. فهل نُسلم لكل فرقة بدعواها..؟ وهل الوحيان فعلاً يتسعان لكل هؤلاء..؟

لقد وقعنا فيما قاله مالك رضي الله عنه: (كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله).

وإزاء هذا الخلط والخبط، تظهر أهمية تحكيم المعايير النبوية، التي أرادها نبي الأمة صلى الله عليه وسلم عاصماً للأمة من هذه الفتنة النكراء في زمن التفرق والأهواء، وجامعاً شتاتها في مواجهة الأعداء. وتظهر أهمية بل حتمية العمل بالوحيين وفق فهم أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، حتى تغيب السبل المضلة ولا تبقى إلا سبيل الله .. قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً).

وجاء في الأحاديث: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ).

(افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال: الجماعة). وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي).

وتحت العنوان نفسه فإنّ القرآن الكريم يؤكد أنّ ترك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والعدول عن هديه فتنة تصيب الأمة: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

ورحم الله الإمام مالك حينما وعى هذه الحقيقة، وكأنّه ينظر إلى نذر الشر والتفرق والأهواء، وفتنة النفس في أفق المسلمين فقال: (كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله).

فلا يتصور أن يأتي بعد القرون الثلاثة من يقول في الإسلام قولاً أصوب من قولهم، ومن يفعل في الإسلام فعلاً أصوب من فعلهم، ومن يعتقد في الإسلام اعتقاداً أسلم من اعتقادهم، أبداً .. ومع ذلك رضيت الأمة وقبلت دعاوى غيرت ما كان عليه الدين، وأقولها بمليء فمي غيرت أهم شيء في الإسلام وهو توحيد أسماء الله وصفاته، وصار كثيرٌ من المسلمين يدينون الله بموقف من أسمائه وصفاته لم يكن معروفاً في زمن أولئك القرون الثلاثة، يعتمد فيما يعتمد على اللعب بدلالات القرآن الكريم، وتحكيم المنطق والعقل وعلم الكلام.

2. من مظاهر فتنة النفس أنْ تنزل بالمسلمين نازلة عظيمة فتستفزهم وتستنفرهم ويهيجون ويموجون، ويقومون ولا يقعدون. تراهم كذلك على كل الأصعدة وفي كل الميادين (سياسياً، عاطفياً، قومياً، وطنياً، عرقياً، قبلياً، إنسانياً) أما أنْ يتحركوا دينياً على طريق تغيير الأنفس فخامدون خاملون، لا تتمعر وجوههم في الله. ينظرون ويحللون ويعالجون بكل المناظير إلا المنظور الإسلامي. فالأمة وهي تُغيب النظرة الشرعية والمعالجة الإسلامية. هي في طريق الفتنة تسير…

3. حين تغيب المعالجة الشرعية أو تُغيب، ويتعاظم ضغط الواقع، ويمعن العدو في كيده، يقع الانفجار العاطفي الطائش المنفلت من كل الضوابط، الذي لا يعرف إلا الانتقام وتسجيل المواقف. عندها يغدو حاضر الأمة ومستقبلها رهين حركة عناوينها: (أوسعتهم سباً وأودوا بالإبل .. علي وعلى أعدائي .. خلينا انفش خلقنا).

أما (أوسعتهم سباً وأودوا بالإبل) هو مثل عربي يقال لمن يقصر فعله عن مشكلة تواجهه. وقصة المثل كما يرويها الميداني في كتابه مجمع الأمثال: (أنّ رَجُلاً من العرب أُغيرَ على إبله فأخِذَتْ فلما توارَوا صَعدَ أكَمَة وجعل يشتمهم فلما رجع إلى قومه سألوه عن ماله فَقَالَ: أوْ سَعْتُهُ سَبّاً وأودوا بالإبل).

أما (عليّ وعلى أعدائي) و(خلينا انفش خلقنا) فهروب من المعالجة الشرعية التي تحتاج إلى مدى طويل، وتحتاج إلى عودة واعية إلى الإسلام، وإلى تغيير الأنفس.

إنّ الاستمرار في طريق الدعوات الثلاثة السابقة هو إمعان في الابتعاد عن الحل الناجع بل الوحيد، وإشغال وانشغال بما لا ينفع، إذ تنعدم الحسابات الدقيقة، وتبتعد موازنات المصالح والمفاسد، ولا يحسب للمستقبل حساب .. وهكذا فالأمة في طريق الفتنة تسير…

4. إذا تحكم أهل الانفعال والاستعجال، وأنابوا أنفسهم عن الأمة تعسفاً وفضولاً، وصاروا هم الناطقين باسم الأمة، المخططين لحركتها، وصار أهل العلم والرأي والرشد إزاء هذا الواقع بين ساكت غائب، ومساير خائف، وراغب في السمعة مداهن، فمتى وكيف يُصحح المسار..؟ وكيف تنجو الأمة وعقيدتها من وبال أعمال تحسب عليها، يوظفها الأعداء كل يوم لما يريدون..؟ إنّ الأمة على طريق الفتنة تسير…

وتعجبني عبارات لأحد الدعاة فيها العلم والصدق والصدع بالحق، بصوت لا يخافت وصراحة لا تواري. وما دمنا نحتكم إلى الوحيين بعيداً عن الهوى وحظوظ النفس فلن نضل ولن نشقى. يقول: (وهؤلاء الشباب أمانة في أعناق الجميع، والصراحة والصدق معهم واجب على كل من يريد وجه الله ويحرص على قطع الطريق على من يتربص بالدين وأهله ويشوه سمعة الإسلام ويستر محاسنه من الكفار والمنافقين وأوليائهم.

إنّه لمن المؤسف أن تغيب هذه الحقائق عن بعض إخواننا الدعاة وطلبة العلم، أو يستجرهم حماس بعض الشباب إلى إهماله، فنجدهم يستسلمون لأمواج الأحداث، ويدفعون بأنفسهم إلى موقع التهمة المباشرة في كل حادث، ويظهرون خلجات صدورهم على الأوراق، ولا يميزون بين ثبات مبدأ العداوة في الدين، وبين سعة أساليب التعامل مع المخالفين.

إنني أذكر المشايخ الأفاضل جميعاً بأنّ العلماء يجب أن يقودوا لا أن يقادوا، وبأنّ الشجاعة في مواجهة الحماس غير المحسوب لا تقل أهمية عن الشجاعة في مواجهة العدوان، وأنّ الصدع بالحق لا يقتصر على مخاطبة الحكام بل يشمل مخاطبة الجماهير والأتباع كذلك.

وإنّ اتهاماً يوجه إليك أيها الشيخ أو الداعية بأنّك مخذِّل أو متخاذل – مع درء فتنة عظيمة عن الأمة والدعوة – خير لك وللإسلام من أن يكال لك الثناء ثم تلقى الله وفي عنقك أنفس مسلمة معصومة، وأموال مسلمة معصومة، أو أسرى من المسلمين بيد العدو أخذهم غنيمة باردة، وذرائع لأهل الكفر يتسلطون بها على أهل الإسلام، وأسباب لأهل النفاق يحاربون بها الدعوة، ولا شيء يقابل هذا إلا موت عدد من الناس قد يموتون في حادث سيارة. فلو كان قتلهم جائزاً من كل الوجوه لكانت النتيجة خاسرة بميزان المصلحة والمفسدة).

5. حينما يستجاب للهوى، وتلوى أعناق النصوص لتسويغه، ويسبق الاعتقاد الاستدلال، ويتحدث الرويبضة، يضل السعي، وتنعكس الوجهة، وتنتكس النتائج .. ويصدق قول القائل: (إذا صارت أذنابنا رؤوسنا، فبحكم الطبيعة سنسير إلى الوراء). كل ذلك يكون: لأنّ الأمة على طريق الفتنة تسير…

لكن تبقى الأمة – أفراداً وجماعات – في خير ما طبقوا القاعدة الذهبية (استدل ثم اعتقد) في تعاملهم مع مسائل الدين، مستعرضين الأدلة الشرعية دون أي ميل أو ارتباط مسبقين.

6. حينما يفشل المسلمون لجهل، أو لوهْم، أو إصرار في الاعتقاد أنّ ما يصيبهم هو غضب الله وعقوبته أحلها الله بهم على أيدي أعدائهم، وأنّهم ليسوا دائماً الأتقياء الأنقياء المظلومين المجني عليهم، بل هم الظالمون لأنفسهم ظلماً استوجب ظلم أعدائهم لهم. ما دامت عندهم مشاجب جاهزة يعلقون عليها أخطاءهم وسلبياتهم في محاولة للتنصل منها وتحميلها الآخرين، إذ الأمر كذلك فمتى يدركون الحقيقة، فيعودوا إلى الله ليكف بأسه عنهم..؟ يقول المثل: (إذا كانت لغيرنا أخطاء الشياطين، فليس لنا أن ندعي لأنفسنا عصمة الملائكة). فالأمة على طريق الفتنة تسير…

* المــعـــالــجـــة:

أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة.

فإنّه لا نجاة للأمة من الفتن والشدائد التي حلت بها إلا بالتمسك بهما، لأنّ من تمسك بهما أنجاه الله، ومن دعا إليهما هُدِيَ إلى صراط مستقيم. يقول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا).

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي). ويقول: (إنّها ستكون فتنة، قالوا: وما نصنع يا رسول الله، قال: ترجعون إلى أمركم الأول).

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (لَمَّا وَقَعَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ مَا كَانَ، وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَمْرِهِ، أَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ مَا الْمَخْرَجُ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ).

ثانياً: الالتفاف حول العلماء.

العلماء الربانيون عامل مُعين على عدم الزيغ والانحراف في وقت الفتن، وكيف لا وهم أنصار شرع الله والذين يبينون للناس الحق من الباطل والهدى من الضلال ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر)، وفي التاريخ الإِسلامي فتن ثّبت الله فيها المسلمين بعلمائهم، ومن ذلك ما قاله علي بن المديني رحمه الله: (أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة).

وعن بشير بن عمرو قال: (شيَّعنا ابن مسعود حين خرج، فنزل في طريق القادسية فدخل بستاناً فقضى حاجته ثم تؤضأ ومسح على جوربيه ثم خرج وإن لحيته ليقطر منها الماء فقلنا له: اعهد إلينا فإنّ الناس قد وقعوا في الفتن ولا ندري هل نلقاك أم لا، قال: اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة فإنّ الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة).

ما ذكره ابن القيم عن دور شيخه شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله في التثبيت: (وكنا إذا إشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا).

وإذا كنا – مع الأسف – وصلنا إلى زمن نقول إنّ العلماء الربانيين في الأمة اليوم قليل، فلا يعني ذلك أنّهم خلو من حياة الأمة، يقول أحد السلف: (لا تخلو أرض من قائم لله بحجة). لكن علينا واجب التحري والبحث عن أهل العلم وأهل الذكر المستمسكين بالكتاب والسنة على منهج (ما أنا عليه وأصحابي).

ثالثاً: لزوم الجماعة.

يقول الله تعالى 🙁وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا).

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة). ويقول عليه الصلاة والسلام: (الجماعة رحمة والفرقة عذاب).

فالمخرج عند حدوث الفتن والحوادث لزوم جماعة المسلمين، والجماعة ليست بالكثرة ولكن من كان على منهج (ما أنا عليه وأصحابي) فهو الجماعة، يقول عبد الله بن مسعود: (لو أنّ فقيهاً على رأس جبل لكان هو الجماعة). ويقول: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).

وفي حديث حذيفة رضي الله عنه المشهور: (فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)

رابعاً: التسلح بالعلم الشرعي

 قال عليه الصلاة والسلام: (إنّه سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاء شديد لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله فجاهد عليه بلسانه وقلبه).

فالعلم الشرعي مطلب مهم في مواجهة الفتن حتى يكون المسلم على بصيرة من أمر دينه، وإذا فقد المسلم العلم الشرعي تخبط في هذه الفتن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن وحدثت البدع والفجور ووقع الشر بينهم).

خامساً: التأني والرفق والحلم وعدم العجلة.

فالتأني والرفق والحلم عند الفتن وتغير الأحوال محمود، لأنّه يُمكِّن المسلم من رؤية الأشياء على حقيقتها وأنْ يُبصر الأمور على ما هي عليه.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ). ويقول عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ).

وعن الليث بن سعد عن موسى بن علي عن أبيه أنّ المستورد القرشي قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: (تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ). فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو أَبْصِرْ مَا تَقُولُ. قَالَ أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ).

قال أهل العلم: كلام عمرو بن العاص لا يدل على ثنائه على الروم ولكن ليُبين للمسلمين أنّ بقاء الروم لأنّهم عند الفتن فيهم من الحلم الذي يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها.

سادساً: النظر في عواقب الأمور، وتحكيم المصالح والمفاسد.

فرقعات كثيرة تشفي صدورنا نتيجة الضغوط الكبيرة التي نعيشها، لكن لا يكف هذا أن تجعلنا نصفق لها أو نستحسنها، بل الواجب علينا أن ننظر إلى عواقب الأمور، وما تنطوي عليه. وينبغي على المسلمين أن يكون عندهم من الجرأة المأخوذة من العلم والفهم حتى يقولوا لا، لكل جعجعة أو قعقعة لا تحمد عواقبها .. وليهتدوا بسلفهم رضي الله عنهم.

عندما حوصر عثمان بن عفان رضي الله عنه في زمن الفتنة وقف بعض الصحابة يريدون الدفاع عنه كعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وأبي هريرة وغيرهم، فقال رضي الله عنه: (أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله). ولو تركهم رضي الله عنه لمنعوه ولدافعوا عنه ولكن نظر إلى عاقبة الأمر، وأنه ربما تسفك دماء، فاختار أن يكون خيرَ ابنيّ آدم.

سابعاً: الصبر.

وما أدراكم ما الصبر … عن الزبير بن عدي قال: (دخلنا على أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: (اصبروا، لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم)، سمعت هذا من نبيكم).

وقال النعمان بن بشير: (إنّه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتن فأعدوا للبلاء صبراً).

ثامناً: الحذر من الاشاعات.

لا شك أنّه في وقت الفتن تنشط الدعاية وتكثر الإِثارة وهنا يأتي دور الإِشاعة، لأّن المرجفين والكذابين يجيدون فرصتهم، فآمال الناس أمام واقع يعاكس كل هذه الآمال، ويتمسكون بهذه الاشاعات ويعتقدون أنّ بوادر النصر ظهرت .. ثم بعد ذلك يصحو الجميع من أحلام اليقظة، ووهم الخيال، ليجدوا الفتنة لا تزال فوق صدورهم جاثمة وأنّ الحل ليس بالوهم وليس بالتمني.

ومن المعلوم أنّ التثبت مطلب شرعي لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ). ويقول عليه الصلاة والسلام: (كفَى بالمرءِ إثماً أنْ يُحَدِّثَ بكلِّ ما سَمعَ). ولذلك حرص سلفنا الصالح على التثبت والحذر من الإشاعات، قال عمر رضي الله عنه: (إياكم والفتن فإنّ وقع اللسان فيها مثل وقع السيف).

ولقد سطَّر التاريخ خطر الإِشاعة إذا دبت في الأمة. لمّا هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة وكانوا في أمان، أُشيع أنّ كفار قريش في مكة أسلموا فخرج بعض الصحابة من الحبشة وتكبدوا عناء الطريق حتى وصلوا إلى مكة ووجدوا الخبر غير صحيح، ولاقوا من صناديد قريش التعذيب وكل ذلك بسبب الإِشاعة.

وفي غزوة أحد لمّا قتل مصعب بن عمير أشيع أنّه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل قتل رسول الله فانكفأ جيش الإِسلام بسبب الإِشاعة.

إشاعة حادثة الإِفك التي اتهمت فيها عائشة البريئة الطاهرة بالفاحشة وما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه من البلاء، وكل ذلك بسبب الإِشاعة.

تاسعاً: عدم تطبيق ما جاء من الأحاديث في الفتن على الوقع.

مراجعة أحاديث الفتن تكثر في مجالس الناس ومنتدياتهم وقولهم، قال رسول الله كذا، وهذا وقتها وهذه هي الفتنة التي أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، ولكن السلف الصالح رحمهم الله علمونا أنّ أحاديث الفتن لا تطبق على الفتن في وقتها، وإنّما يظهر صدق النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر به من حدوث الفتن بعد حدوثها وانقضائها، ولكن يحلو للناس تطبيق أحاديث الفتن على أوقات وأشخاص معينين وهذا منهج خاطئ وليس من منهج أهل السنة والجماعة، ولكن أهل السنة والجماعة يذكرون أحاديث الفتن محذرين منها، ومباعدين المسلمين من القرب منها، ولكي يعتقدوا صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذاً لسنا متعبدين بتطبيق أحاديث الفتن على الواقع ولكن ندع الواقع هو الذي ينطق، فإذا وقع الأمر قلنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وأما أنْ يتكلف الإنسان في تأويل النصوص الشرعية من أجل أنْ تطابق الواقع فهذا لا يصلح. وإنْ صلح للعلماء فلا يصلح لغيرهم … والحمد لله أولا وآخرا