Skip to main content

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ

By الأثنين 14 شعبان 1436هـ 1-6-2015ممحرم 21, 1441دراسات

يوشك أنْ يتلألأ هلال رمضان في الأفق، مُؤْذِناً بإهلال الشهر المبارك، شهر الصوم على المسلمين. وهو ميعادٌ تهوي إليه أفئدة المسلمين، وله في كل نفس موقعٌ وذكرى، ترقبٌ وحنين، يعجز أفصح الناس عن وصف إحساسه، لعمقه وتنوعه وتماهي ذكريات سني العمر، مع أيام وليالي هذا الشهر .. تلك أمور أقرب إلى الخصوصية والوجدانية لدى كل نفس، والذكريات أمتع ما تكون أثراً، حين يعيشها الإنسان في خلوة مع نفسه وخياله ووجدانه. ولا تصلح مادةً لحديثٍ مفتوحٍ في العلن، فالمشترك فيها قليل .. إذنْ فليكن الكلام عن رمضان في المشترك العام، فهو الأمتع لأنّه الأنفع.

ولا يحسن البدء بالسلبي، ولكن كونه إشارةً عابرةً سريعةً لا بد منها، ونصيحةً، والدين النصيحة، فلا يُستغنى عنها، يُسيغ ذلك، ليبقى الجزء الأوفر من الهمة والاهتمام والوقت، مخبوءاً ومكرساً للإيجابي.

العادات الاجتماعية قوية التأثير في كل شيء، والتصدي لها للإلغاء أو التغيير صعب. ولم يسلم شهر الصوم من فعلها فيه، فصار عند بعضهم (فولكلورياً)، وقد آثرت إثبات اللفظة الأجنبية، للتعبير عما أريد، تحديداً، فهي من الأعجمي المتداول، وبالتالي أدق دلالة على المراد. نعم لقد تحول رمضان إلى موسم احتفالات، والجانب العبادي فيه، إلى نظام غذاء سنوي ضروري (ريجيم) .. ومع أنّها تُوَشَّحُ بوشاح ديني، وتُطَعَّمُ بالإنشاد الديني، لكنّها، ومن المنظور الديني، ليس لها في الدين والتدين موقع، بل هي من المُحْدَثِ المقبوح، إن لم نقل المُحَرَّم.

نعم صار رمضان يسمى: شهر السهرات، والمسلسلات، والزيارات، والاستراحات، والصالات والولائم، ما يُنْهِك مَن ابتلي بذلك مادياً وصحياً وفكرياً ونفسياً، بل و(دينياً)، فلا يبقى منه للعبادة إلا حضورٌ فيزيائيٌ، يتناوشه الجوع والعطش..!

ولنكفُفْ عن الحديث في السلبي، رغم خطورته، ولنَكْتفِ بما قيل، (والحر تكفيه الإشارة). ولعله يُوَفق إلى التقاطها، من هو معني بها.

من أسماء شهر الصوم، شهر القرآن لقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ). وقد جاء في الحديث المتفق عليه: (إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِى الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِى الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ حَضَرَ أَجَلِى). والشاهد، أنّ كلاً من الرسول المَلَك، والرسول البشر، عليهما السلام، كانا يتذاكران كتاب الله في شهر القرآن. ونخلص إلى النتيجة أنّ كتاب الله تبارك وتعالى يجب أنْ يحظى بالنصيب الأوفى من عمل المسلم في رمضان. وحتى يحقق المسلم من عمله ما يرجوه عند ربه، عليه أنْ لا يخطو خطوة إلا عن بينة وبصيرة، ليكون عمله اتباعاً لا ابتداعاً. ولا يخفى على حاملِ هَمٍّ، كم صار انتشار البدع في حياة المسلمين الشرعية لافتاً .. ويحسن أنْ نستحضر في هذا السياق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ).
ولعل المسلم الحريص على أنْ يخرج من رمضان بتوفيق الله، والقرآن حجة له عند ربه، واجدٌ في هذه الصفحات، إنْ شاء الله، ما يعينه على تحقيق ما يريد، في شهر القرآن، مع القرآن.

وإنّ من المناسب البدء من تساؤلاتٍ مررت عليها في النت وإجاباتٍ عنها. ملخص تلك الأسئلة عن حكم تلاوة القرآن الكريم، بلا فهم وتدبر، وهو حال أكثر المسلمين .. وأضيف إلى هذه أنّ اختلاطي بالناس أوصلني إلى قناعة بأنّ أكثر من يقرؤون القرأن في رمضان وغيره، هم ممن يقرأ بلا تدبر، وهَمُّهُ عدد الختمات، لأنّه فهم من قراءة وسماع بعض الفتاوى أنّهم مأجورون على ذلك، إضافة إلى كونه لا يحسن الأمر الآخر. ثم إنّني بعد اطلاعي على بعض الفتاوى، عن تلاوة القرآن، وجدت أنّها تشي بهذا الفهم، وهو أنّ التالي للقرآن بلا فهم مأجور. ولا أُخًطِّيء تلك الفتاوى، بل أرى أنّها ينقصها بعض الإيضاح، فأُسِيءَ فَهمُها. وسأحاول تجلية هذا الأمر وإيضاحه، بعون الله.

وقبل الدخول في لب الموضوع هناك معلوماتٌ مفيدة في ما نحن في صدده. تحسن مذاكرتها:

مفهوم المصطلحات الآتية:

الترتيل: فالترتيل، في اصطلاح القراء، هو قراءة القرآن على مُكثٍ وتفهمٍ من غير عجلة، وهو أفضل مراتب التلاوة، لأنّ القرآن نزل بذلك كما قال تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ). وقال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، وقد فُسر الترتيل بأنّه تجويد الحروف، وإتقان مخارجها، ليصل التالي في قراءته إلى أقرب ما يكون من الصفة التي نزل بها كتاب الله، وقرأه رسول الله، وأخذ الصحابة عنه ذلك.

التلاوة: وتأتي تلاوة القرآن بمعنى اتباعه، ومنه قول الله تبارك وتعالى: (الذين آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). وعن ابن مسعود أنّه قال: (حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله عز وجل، ولا يحرفه عن مواضعه، ولا يتأول شيئاً منه على غير تأويله).

ولعل هذا هو المراد الأهم من التلاوة، لأنّ القرآن ما أنزل إلا ليُتدبر، ويفهم، ويعمل به. وسيأتي تفصيل إنْ شاء الله.

إذن، التلاوة: لفظ عام يشمل القراءة كما ذكرنا ويشمل الاتباع.

جاء في تفسير السعدي: (يخبر تعالى أنّ الذين آتاهم الكتاب، ومنَّ عليهم به منة مطلقة، أنّهم {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} أي: يتبعونه حق اتباعه، والتلاوة: الاتباع، فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه).

وفي تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور: (و{الْحق} هُنَا ضِدُّ الْبَاطِلِ أَيْ تِلَاوَةً مُسْتَوْفِيَةً قِوَامَ نَوْعِهَا لَا يَنْقُصُهَا شَيْءٌ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِي التِّلَاوَةِ وَتِلْكَ هِيَ التِّلَاوَةُ بِفَهْمِ مَقَاصِدِ الْكَلَامِ الْمَتْلُوِّ فَإِنَّ الْكَلَامَ يُرَادُ مِنْهُ إِفْهَامُ السَّامِعِ فَإِذَا تَلَاهُ الْقَارِئُ وَلَمْ يَفْهَمْ جَمِيعَ مَا أَرَادَهُ قَائِلُهُ كَانَتْ تِلَاوَتُهُ غَامِضَة ً، فَحَقُّ التِّلَاوَةِ هُوَ الْعِلْمُ بِمَا فِي الْمَتْلُوِّ).

وفي كتاب (مفتاح دار السعادة) لابن القيم رحمه الله كلام نفيس عن تلاوة القرآن فلنقرأه: (قوله تعالى: {الذين يتلون كتاب الله} وفي قوله: {الذين ءاتينهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} والمعنى: يتبعون كتاب الله حق اتباعه. وقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} فحقيقة التلاوة في هذه المواضِع هي التلاوة المطلقة التامة، وهي تلاوة اللفظ والمعنى، فتلاوة اللفظ جزء من مسمى التلاوة المطلقة، وحقيقة اللفظ إنّما هي الاتباع ، يقال: اتلُ أثر فلان، وتلوتُ أثره، وقفوته وقصصته؛ بمعنى: تبعتُ خلفه، ومنه قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} أي: تبعها في الطلوع بعد غيبتها.

وهذه التلاوة وسيلة وطريق. والمقصود التلاوة الحقيقية؛ وهي تلاوة المعنى واتّباعه، تصديقاً بخبره، وائتمار بأمره، وانتهاء بنهيه، وائتماما به حيث قادك انقدت معه. فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه، وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة، فإنّهم أهل تلاوة ومتابعة حقاً).

وبعد … فلم نر في كل ما سقناه من شواهد عن التلاوة، قولاً واحداً يعترف بالتلاوة اللفظية دون فهم، ويقرها. ولا يَفْهَمَنَّ أحدٌ أبداً، أنّي أقول لمن اعتاد التلاوة بلا فهم، ولا يُحسن غيرها، دع التلاوة واهجر القرآن..! معاذ الله، وإنّما أقول: طَوِّر نفسك، فهذا دين، وهناك طرق عدة، كأن تبدأ يومياً باختيار آيات مما تقرأ أو تسمع في الصلاة، واقرأ تفسيرها، وستجد بعد فترة أنّك صارت لك دربة في التعامل مع كتاب الله، وستجد نفسك في تعلق أكثر بكتاب الله، لأنّك تفهمه .. ولا تضع في حسبانك الوقت، ولا نهاية الختمة، لتسجيل أجرها..! ولا يُفهم أنّ على كل مسلم أنْ يقف على تفسير كل آية، لا.. فمثلاً ليس كل أحد معنياً بآيات المواريث، والطلاق، والملاعنة .. فهذه للعلماء، وطلبة العلم. وحبذا لو تكون هذه الجلسات للتفسير جماعية، بين أفراد الأسرة أو الأصدقاء فذلك يعين على الهمة والمثابرة، وأفضل في النتائج. ويحسن، في البداية، اختيار السور التي تعتمد التوجيه الأخلاقي، والآداب الاجتماعية، من مثل سورة الحجرات.

التدبر: ونتعرف على ذلك من خلال آية كريمة (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ). ويحسن قراءة بعض ما جاء في تفسيرها، في كتاب التحرير والتنوير لابن عاشور رحمه الله فهو جيد في بابه:

(والتدبر: التَّفَكُّرُ وَالتَّأَمُّلُ الَّذِي يَبْلُغُ بِهِ صَاحِبُهُ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ مِنَ الْمَعَانِي.

والتَّذَكُّرُ: اسْتِحْضَارُ الذِّهْنِ مَا كَانَ يَعْلَمُهُ وَهُوَ صَادِقٌ بِاسْتِحْضَارِ مَا هُوَ مَنْسِيٌّ وَبِاسْتِحْضَارِ مَا الشَّأْنُ أَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْهُ وَهُوَ مَا يُهِمُّ الْعِلْمَ بِهِ، فَجَعَلَ الْقُرْآنَ لِلنَّاسِ لِيَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهُ وَيَكْشِفُوا عَنْ غَوَامِضِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ فَإِنَّهُمْ عَلَى تَعَاقُبِ طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ بِهِ لَا يَصِلُونَ إِلَى نِهَايَةٍ مِنْ مَكْنُونِهِ وَلِتَذَكُّرِهِمُ الْآيَةَ بِنَظِيرِهَا وَمَا يُقَارِبُهَا، وَلِيَتَذَكَّرُوا مَا هُوَ مَوْعِظَةٌ لَهُمْ وَمُوقِظٌ مِنْ غَفَلَاتِهِمْ).

(وأُولُو الْأَلْبابِ: أَهْلُ الْعُقُولِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَتَذَكَّرُوا بِالْقُرْآنِ لَيْسُوا مَنْ أَهَّلِ الْعُقُولِ، وَأَنَّ التَّذَكُّرَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فَهُمْ مِمَّنْ تَدَبَّرُوا آيَاتِهِ فَاسْتَنْبَطُوا مِنَ الْمَعَانِي مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَمَنْ قَرَأَهُ فَتَذَكَّرَ بِهِ مَا كَانَ عَلِمَهُ وَتَذَكَّرَ بِهِ حَقًّا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْعَاهُ ، وَالْكَافِرُونَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّدَبُّرِ فَلَا جَرَمَ فاتهم التَّذَكُّر).


عوداً إلى العنوان، فإنّه يحمل جزءاً من آية كريمة تمامها: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، وما دمنا في الحديث عن التدبر، فلنضف الآية الكريمة الأخرى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).

أما في الآية الثانية، ففيها بيان إلهي عن الغاية من إنزال القرآن إلى الناس، يستنبطه أهل اللغة من اللام في لفظة (لِيَدَّبَّرُوا). وأصلها (لِيَتَدَبَّرُوا). واللام تسمى لام التعليل أو لام (كي)، لأنّها بمعنى كي. فما بعد اللام أو كي تعليل لما قبلها، أو هو غايته. وعلى هذا تكون الغاية من إنزال القرآن قراءته وتدبره، أي التفكر في معانيه ليعلم الناس في النهاية ماذا أراد الله منهم، وعندئذ، تجب عليهم تقواه حق تقاته، وطاعته حق طاعته، وعبادته حق عبادته، فيفعلون ما أَمَر وينتهون عما نهى عنه وزجر .. فهل من غاية غير القراءة والتدبر..؟ ولو قرأ الناس كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، دون فهم، فماذا يتحقق له من مغنم..؟ وقد نقلنا، سابقاً، نقولاً في التفسير لهذه الآية، حري قراءتها ثانية بعد ما قيل.

أما الآية الثانية: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، فتبدأ بالاستفهام الإنكاري الذي يجمع النفي مع الاستفهام. واستعمال الاستفهام الانكاري، يكون لتحقيق غرضين، الأول تعجيب السامع من حال معينة، تدعو إلى العجب لغرابتها .. والغرض الثاني من الاستفهام الإنكاري، تقريع أصحاب تلك الحال، المتعجب منهم، ومن فعلهم وتبكيتهم.

إذنْ، يريد الله تبارك وتعالى في الآية أنْ يلفت انتباه الناس إلى شيء يستحق العجب، والغاية تحذير السامع من أنْ يقع في الحال المتعجب منها .. وببيان آخر للآية، إنّ الله يريدنا أنْ نعجب من حال من يكون الخلاص في متناول يده ولا يحاول الانتفاع به. فلقد أنزل الله القرآن للناس هداية وتعليماً وخلاصاً، ليقرأه الناس متدبرين فاهمين ماذا أراد ربهم منهم، ثم يردفوا العمل بعد ذلك.

والذين استحق عليهم العجب، هم من أعرضوا عن تدبر القرآن، وقد أتبع الله الاستفهام الأول بآخر مؤداه، هل قلوب هؤلاء الناس عليها أقفال تحول دون تدبر القرآن والانتفاع به..؟ وهذه التساؤلات هي في حقيقتها تقريع وتوبيخ وتبكيت لهؤلاء المقفلة قلوبهم. وما هي أقفال القلوب يا ترى..؟ إنّها الهوى، الكبر، تقليد الآباء والأجداد والأشياخ، والجهل.

ويذكرنا أصحاب القلوب المقفلة، بمقالة بعض بني إسرائيل: (قُلُوبُنَا غُلْفٌ). ونتذكر أيضاً ما حكاه الله تبارك وتعالى عن بعض الخلق: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)، ولا بد أنْ نعلم أنّ ربنا ما قصّ هذا القصص على الناس إلا ليحذرهم مما وقع فيه غيرهم فتكون عاقبتهم خسراً. ويندرج في هؤلاء الذين ناقشنا حالهم شريحتان: أناس أعرضوا بالكلية فلم يقرؤوا ولم يتدبروا، وهم أهل كفر. وآخرون قرؤوا ولم يتدبروا وبالتالي لم يعملوا، مع أنّهم، أصلاً مسلمون..! وهؤلاء الأخطر، وفي المسلمين، اليوم، منهم كثير ولعلهم يرجعون.


بيت القصيد في هذه الصفحات فكرتان أسوقهما، ثم أثبت نقولاً مفيدة تؤكد ما ذهبت إليه. والله الموفق.

الفكرة الأولى: حتى نكون ناصحين للمسلمين لا بد من الإيضاح الدقيق للمسائل الشرعية، أما أنْ نجعل (العامَّ) يضيع في ثناياه (الخاصُّ)، ابتغاء الاختصار والتيسير، فإنّ ذلك يُضَيِّع كثيرًا من الخير والنفع. فالتعامل مع المسائل الشرعية يجب أنْ يكون مضرب المثل في دقة التعاطي معه. واليوم يُضرب المثل في دقة التعامل مع القضايا الصحية، بدعوى أنّه ينبني عليها حياة أو موت .. وأقول إنّ المسائل الشرعية يترتب عليها جنة أو نار..! أضرب مثلاً سريعاً يوضح ما قصدت، نرى أكثر الدعاة والوعاظ يحضون الناس على تلاوة القرآن، دون أنْ يُبينوا لهم التلاوة الشرعية الصحيحة المقبولة.

الفكرة الثانية: تأسيساً على ما ذكر في الفقرة السابقة، ومن باب النصح للمسلمين في دينهم، أقول: لا ينبغي مسايرة الناس في أهوائهم وما يستمرؤون فعله من أعمال عبادية، حولّها الإلف، وعدم انضباط الفتوى، إلى عادات لا تشكل ثقلاً على نفوسهم، معتبرين ذلك من الحكمة والتدرج..! من ذلك ما أفتى به بعضهم من أنّ تلاوة القرآن نوعان: قراءة لا يرافقها تدبر (تقليب صفحات وتسجيل أرقام ختمات)، حتى أوشكت أنْ تكون مسابقة بين المرأة وجيرانها أو صديقاتها على (الواتس أب)، لا سيما في رمضان، وليس بعض الرجال بعيدين عن تلك الحال. وقد وجد هؤلاء بغيتهم في فتاوى تطمئنهم أنّهم مأجورون بكل حرف عشر حسنات، فهموا أم لم يفهموا، تدبروا أم لم يتدبروا..!

أقول: لا أجد في كل نصوص الدين ما يؤيد ذلك، وحين تتكلم مع من يتبنى ذلك، يقول نريد أنْ نتألف الناس ونشدهم إلى القرآن، وقد أعرضوا عنه..! أقول: إنّ في ذلك تضييعاً للحقائق الشرعية. ولعل في النقاط التالية تجلية أكثر للموضوع:

أ. إنّ التلاوة وسيلة لتحقيق غاية، وهي التدبر. ولا يمكن للمسلم أنْ يصل إلى واجب التدبر إلا من خلال وسيلة التلاوة أو القراءة. وهنا نطبق قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وقاعدة (الوسائل لها أحكام المقاصد). ووجوبُ التلاوة إذن، قائم على أنّها مرتبطة بقصد تحقيق واجب التدبر لكتاب الله، فإن تخلت الوسيلة عن هذا المقصد، فقدت حُكمها ولم تعد عبادة واجبة فكيف يكون لها أجر..؟

وما أروع استشهاد الشيخ العثيمين رحمه الله بقول الله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، والشاهد في الأية أنّ من أهل الكتاب أُمِّيِّينَ أي: عواماً جاهلين، ليسوا من أهل العلم، (لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ)، أي ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط. دون فَهْم، فَهُم يعيشون في الظنون والتخرصات، لأنّهم لم يحاولوا تعلم ما في الكتاب. والأماني هي القراءات جمع أمْنِيَّة، وفي القرآن الكريم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فالأمنية في الآية القراءة.

وقد جاء في التحرير والتنوير: (قِيلَ الْأَمَانِيُّ الْقِرَاءَةُ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا كَلِمَات يحفظونها وَيَدْرُسُونَهَا لَا يَفْقَهُونَ مِنْهَا مَعْنًى كَمَا هُوَ عَادَةُ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ إِذْ تَقْتَصِرُ مِنَ الْكُتُبِ عَلَى السَّرْدِ دُونَ فَهْمٍ وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ حَسَّانٍ فِي رِثَاءِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ … وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ)

والشاهد كلمة (تمنى أي قرأ).

ب. قد يشغب أناس على الفقرة السابقة، محتجين بالحديث الآتي: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ: آلم حَرْفٌ. أَلْفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ). الحديث حسن، وعلى العين والرأس، وهو ولا شك نصٌ يأجر كلَّ تالٍ لكتاب الله، ما دامت تلاوته عبادة واجبة كتلاوة التدبر، والتلاوة في الصلاة. وفيه الحث والترغيب على تلاوة العبادة لا غيرها. فأين وجدتم أجرَ تلاوةٍ بلا هدف..؟

ويقول بعضهم إنّ العلماء ميزوا بين الوحيين القرآن والسنة، قائلين: إنّ القرآن يُتَعبد بتلاوة حروفه، أما الحديث فيتعبد بفهمه والعمل به. أقول: صدقوا وأنا أقول مثل ما قالوا، فتلاوة التدبر عبادة والتلاوة في الصلاة عبادة. والحديث نصٌ في أجرِ هاتين، بضميمة ما سبق.

ج. ويوردون حديث: (الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ). وما المانع أنْ يكون الحديث لحث وترغيب الناس على التلاوة من أجل التدبر أو الصلاة، وأن لا ييأسوا من صعوبة التلاوة عليهم ابتداء، مثل كبير في السن لم يؤت تعليما كافياً لإتقان القراءة، أو حديث عهد بإسلام، أو غير عربي، فهؤلاء يجدون صعوبة في تلاوة القرآن، فمنحهم الله أجراً مضاعفاً، تصبيراً لهم وتشجيعاً على الاستمرار.

د. كثير من الناس يعترضون قائلين: إنّ معظم الناس لا يحسنون فهم القرآن وهم يتلونه، فهم أميون أو أقرب إلى الأمية، فما الحل؟ الحل أنْ يفهم كل مسلم ابتداءاً أنّ المسلمين ليسوا متعبدين تجاه كتاب الله بغير فهمه وتطبيقه عملاً، وليس في تكليفهم الشرعي، وجوبُ عشر خَتْمات للقرآن في رمضان، ولا في غيره، حتى ولا واحدة.

واقبلوها من ناصح حريص عليكم، أنّ عشر آيات يُفهَمْنَ، ويُعمل بهن، خير من ختمة، أو أكثر، لم يأت بها تكليف، في رمضان أو غيره، وأنا مسؤول عن كلامي هذا أمام الله. فمن أعظم قواعد الإسلام (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا)، فليس في الإسلام تكليف بما لا يُطاق، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا قائلاً: (مه، عليكم بما تطيقون من الأعمال فو اللهِ لا يَمَلُّ اللهُ حتى تَمَلوا)، والتعويل في الإسلام على الكيف قبل الكم. بل إنّ الكمَّ غير مطلوب في الدين، إلا ما جاء الدليل بتحديده.

والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بدؤوا مراحلهم الأولى عقب إسلامهم، جاهلين بكتاب الله، والتعامل معه، بل بالدين كله، فكيف عالجوا تلك الحال، وكيف محوا ذلك الجهل؟ يقول التابعي الجليل أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنّهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا العلم والعمل جميعا). هذا تابعي يحدث عمن كانوا يعلمونهم القرآن، وهم الصحابة، وينصحونهم بتطبيق تجربتهم في تعلم الإسلام .. ألا تصلح نصيحتهم لكثير من المسلمين اليوم، الواجدين صعوبة في التعامل مع القرآن..؟ بلى، ولنرجع إلى القدوة، الصحابة. بمَ استعانوا على تلك المهمة العظيمة، وهي فهم كتاب الله، وهي مرة أخرى أعظم مهمة في حياة البشر، لمن كان يريد الله والدار الآخرة، وهي إقامة الدين، وتبدأ بلا شك، من كتاب الله. إنّهم استعانوا بعد الله، بالإرادة والصبر، وهل تنال الجنة إلا بهما (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا)، ولنقرأ قول ربنا أيضاً: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).

وأول ما يصرف إليه معنى الجهاد في الإسلام، جهاد النفس، يقول صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل). وبالمثابرة والصبر، يغدو كل صعب سهلاً..! ومما يجب أنْ يعلمه كل مسلم، أنّ التعامل مع الأمور الشرعية، له حسابات خاصة، نستخلصها من قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

وجميلٌ أنْ نقرأ بإمعان تفسير الشيخ السعدي للآية: (ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، لأنّه أحسن الكلام لفظا، وأصدقه معنى، وأبينه تفسيرا، فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير، وسهله عليه، والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة، ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا، أسهل العلوم، وأجلها على الإطلاق، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أُعِينَ عليه، قال بعض السلف عند هذه الآية: {هل من طالب علم فَيُعَانَ عليه}؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؟).

ولن يقف في طريق تيسير الله شيءٌّ كائناً ما كان..! وكما يقال: مفتاح العلم السؤال. وقد أُمِر المسلمون، من ربهم بهذا، ليرفعوا عن أنفسهم الجهل في الدين. قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). والمراجع، اليوم أقرب إلى كل مسلم من شراك نعله، وفيها الكتب والبحوث والفتاوى، وأقوال أهل العلم، ومراجعة أي مسألة ممكنة في البيت، والمكتب والمسجد والطريق والسيارة..! أليس في يد كل مسلم ومسلمة، اليوم (جهاز إلكتروني)، لا يدعه إلا وقت النوم، بل يصاحبه حتى في النوم..؟ فليجعل الانتفاع الأول به، أنْ يكون له، بعد توفيق الله، عوناً على تحقيق ما أمره الله به، في فهم معاني كتاب الله، وتطوير التلاوة، غير النافعة، وغير المأجورة، إلى التلاوة الشرعية المطلوبة والمأجورة (لا أَقُولُ: ألم حَرْفٌ. أَلْفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ)، وقد مرّ الحديث كاملاً. فهناك برامج تصلح لكل الأجهزة، تساعد على التلاوة الصحيحة والمأجورة، وتجد إلى جانب الصفحة معاني الألفاظ، أو التفسير الإجمالي أو الموسع، وأمامك خيار واسع من كتب التفسير.

وأريد أنْ أذكر الأخوة والأخوات، أنّ تلك الأجهزة التي تستمتعون بصحبتها، ولا تحتملون فراقها، وتملؤ أوقاتكم بل تضيق عنها..! وتستغلونها، أحياناً، لرفع الجهل عنكم، بطلب معلومة عن شيء من متاع الدنيا، وقد يكون تافها، وما أنتم بمسؤلين عنها بين يدي ربكم..! أفلا تستغلونها لما هو أعظم وأخطر، رفع الجهل عنكم في الدين..؟ إنّ هذه الأجهزة ستكون حجة عليكم عند الله وأنتم غافلون..! وفيها ما سيسألكم الله عنه، وأنت معرضون .. فأعدوا للسؤال جواباً..! ولا تكونوا في غفلتكم هذه، ممن يصدق فيهم قول الشاعر:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمولُ

ولقد مررنا على مسألة، تحتاج مزيد بحث. إنّها مسألة حالِ الأمي وغير العربي، مع تدبر القرآن. هؤلاء لا تكون وسيلتهم إلى تدبر القرآن التلاوة، ما داموا لا يحسنون القراءة لأميةٍ أو أعجميةٍ. وتكون وسيلة تدبر القرآن عند الأعجمي قراءة ترجمة معاني القرآن إلى لغته، والترجمات المعتمدة متوفرة بكل اللغات. ولا شك أنّ الله سيعوضه عن أجر التلاوة، بقدر حرصه على الفهم وقراءة الترجمات (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا). أما الأمي فوسيلته إلى تدبر القرآن السماع للأشرطة الصوتية والمرئية، وما أكثرها والحمد لله. وأنصح الأمي والأعجمي أنْ لا يألوا جهداً في تعلم اللغة العربية، لغة القرآن، فسييسر الله لهم ذلك، ويأجرهم عليه. ولم يدخل الإسلام أحد من السلف، من غير العرب، إلا تعلم العربية، وأتقنها كل إتقان. وأكثر علماء الحديث وفقهاء التابعين ليسوا عرباً.

ولا يفوتني أنْ أتذكر معكم الآية الخطيرة (وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)، ولتكن الخاتمة مع كلام ابن القيم، في كتاب (الفوائد) عن هجر القرآن:

(فَائِدَة: هجر الْقُرْآن أَنْوَاع:

أَحدهَا؛ هجر سَمَاعه، وَالْإِيمَان بِهِ، والإصغاء إِلَيْه.

وَالثَّانِي؛ هجر الْعَمَل بِهِ، وَالْوُقُوف عِنْد حَلَاله وَحَرَامه، وَإِن قَرَأَهُ وآمن بِهِ.

وَالثَّالِث؛ هجر تحكيمه والتحاكم إِلَيْهِ، فِي أصُول الدّين وفروعه، واعتقاد أَنه لَا يُفِيد الْيَقِين، وَأَن أدلته لفظية لَا تحصّل الْعلم.

وَالرَّابِع؛ هجر تدبّره وتفهّمه وَمَعْرِفَة مَا أَرَادَ الْمُتَكَلّم بِهِ (أي الله تبارك وتعالى) مِنْهُ.

وَالْخَامِس؛ هجر الِاسْتِشْفَاء، والتداوي بِهِ، فِي جَمِيع أمراض الْقلب وأدوائها، فيَطلب شِفَاءَ دائه من غَيره، ويهجر التَّدَاوِي بِهِ، وكل هَذَا دَاخل فِي قَوْله {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} وَإِن كَانَ بعض الهجر أَهْون من بعض) … والحمد لله رب العالمين