Skip to main content

إِلَامَ نَنْتَظِرُ الفَرَجَ…؟

By الأثنين 24 ربيع الثاني 1435هـ 24-2-2014ممحرم 21, 1441دراسات

فِتنٌ يُرقق بعضها بعضاً، ومصائب تترى، تأخذ بحُجز بعضها، حتى لا يرجو الناس بين الواحدة وأختها فرصة لالتقاط الأنفاس .. إنّها حال المسلمين الحاضرة، وبخاصة بعد أحداث سوريا .. وإنّ ما يجري على أرض سوريا معركة الأمة الإسلامية كلها، لكنّها أُديرت والأمة غائبة، فكان ما كان..! ولا أتمنى يوماً يأتي يُقال فيه، من مسلمين، في غير سوريا: (إنُما أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض)، أسأل الله أنْ يدفع عن المسلمين، تفضلاً، إلى حين يُصبحون قادرين أنْ يدفعوا عن أنفسهم.! ولاحول ولا قوة إلا بالله.

نعم لقد صار لسانَ حال الناس عبارةُ العنوان (إِلَامَ نَنْتَظِرُ الفَرَجَ…؟)، وزيادة في الإيضاح (إلامَ = إلى متى) .. ورغم اتفاقهم على السؤال إلا أنّ منطلقاتهم إليه مختلفة .. فالأحداث، ومرة أخرى، أقول: لشدتها إلى حد غير مقبول بل غير معقول، خلفت الناس من المسلمين على أحوال أربعة:

1. يائسٍ سلبته الأحداث الأمل والعمل، فهو في حال لا يُحسد عليها، ولهؤلاء أقول: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).

ولماذا يكون اليأس كفراً؟ لأنّ اليأس وصول إلى تغليب الحسابات المادية الأرضية على الثقة بالله وبما عنده .. وإنّ ما عنده ليس عند أحد، ومن ثم الشك في وعد الله وقدرته أمام هول طغيان الواقع، وهل الكفر إلا ذلك..؟ والمثل يقول: لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة .. إذن هو الحال الأسوأ .. ولعل بقية من الإيمان تكون عندهم فتردهم إلى الصواب.


2. مستغربٍ للحال، لسان حاله أو مقاله يقول: كيف يمكن أنْ تصل الأمور إلى ما آلت إليه، وصلوات تقام، ودعوات ملء الحناجر، وظلم وقتل وانتهاك للحرمات..! ولهؤلاء يقال: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ). إنّه الابتلاء، والابتلاء سنة الله في خلقه، ومُحال أنْ لا يخضع لسنة الابتلاء أحد من بني البشر، النصوص كثيرة منها، فواتح سورة العنكبوت: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)، ولعل هؤلاء يفيئون إلى أمر الله.


3. مستبطيءٍ .. (وهو على حافة اليأس ولما يقع فيه بعد) ونُذكره بالحديث التالي: عن عدي بن حاتم قال:
(بَيْنَا أَنَا عِنْد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ثُمَّ أَتَاهُ الْآخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ. فَقَالَ: (يَا عدي هَل رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ فَلَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَلَئِنْ طَالَتْ بك حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ فَلَا يجد أحدا يقبله مِنْهُ وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ فَلَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أَبْعَثْ إِليك رَسُولا فليبلغك؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ). قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ)).


وقد يستغل أهل النفاق وأعداء المسلمين، وأعداء الدين هذا الاستبطاء ليوضعوا خلال صفوف المؤمنين ويبثوا أراجيفهم يبغونهم الفتنة، وقد جاء عن ابن عباس وغيره في سبب نزول قوله تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) أنّ متعب بن قشير قال: (كان محمد يرى أن يأكل من كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط).

نقول لهؤلاء: إنّ وعد الله حق، وما أُوتي العبد خيراً من الصبر، فدعوا الاستعجال، ما دام الأمر عند الحكيم الخبير.


4. مصدِّقٍ غيورٍ، يحمل بين جنبيه هماً كبيراً، لكن قسوة الأحداث نالت من توازنه، وأحرجت صبره، لكنّها لم تنل من إيمانه، وثقته بخالقه .. وهو يبحث عن دوره في زحمة الأحداث، ليعلم أين يضع نفسه على طريق الإصلاح..!؟ ومن أين يبدأ؟ وكيف يبدأ؟ وأين تكون المرجعية؟ ومن هنا، ومع هذه الشريحة يبدأ الحديث ويطول .. ولا ينبغي أنْ يكون الكلام مثالياً، بمعنى أنْ يُجافي الواقع، فالإنسان خُلِق ضعيفاً، وخُلِق عجولاً، وخلق جزوعاً، وخلق هلوعاً، وخلق يئوساً، والمصائب والفتن تقهر كل ما هو معنوي في الإنسان قبل أنْ تصل إلى المادي .. لكن الذي يفقه عن الله ورسوله، ويأوي إلى منهج علوي رباني، لن تغلبه أرضيته وطينيته، مهما اشتدت عليه الخطوب .. فبالذي يفهمه عن ربه ونبيه، وبالمنهج الذي يستهدي به، يُصبح عنده الضعف قوة وصموداً، والعجلة روية وحكمة، واليأس أملاً وعملاً، والجزع صبراً واحتساباً، والهلع شجاعة وثباتاً..! ولكن أين من يفقه عن الله ورسوله..؟

لقد اتبع المسلمون السُبل التي حذّر الله من اتباعها، ووقعت الأمة في النتيجة التي حذر الله منها (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، تعددت السُبل، وتفرق المسلمون، ودخلت الحيرة النفوس، وسار كل في اتجاه، وصار أمرهم فُرطا .. لأنّ كل من حاد عن سبيل الله القويم، والمنهج المؤصل، يستهدي بعقله، وشيخه، وتصفيق العوام، ويستهويه العاجل عن الآجل، إنّه أبعدَ نفسه عن فرص الهداية والسداد، وترك سبيل السلامة والرشاد، حتى أصابه وصف الله (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا).

وهنا تأتي البراهين تترى على ضرورة المنهج، ودوره الرئيس، وقيمته في التدين .. فالمنهج الحق، ضمان لبقاء أهل الحق في السوح، وإنْ تواروا أحياناً، متحرفين أو متحيزين .. ولن تنتهي هذه الشريحة الميمونة من البشر، وستكون في كل زمان وعلى كل أرض .. ولقد جاء في هذه الشريحة أو الطائفة بالتعبير النبوي، أحاديث صحيحة و بروايات عدة بألفاظ وأوصاف مختلفة، ومن المفيد استعراض أكثر من رواية، للتعرف الكامل على تلك الطائفة الميمونة:

. (وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ).

. (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة).

. (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون).

. (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ).

والمعركة التي يجب أنْ تسبق كل معركة، والإعداد الذي يجب أنْ يفوق كل إعداد، والمهمة التي يجب أنْ تتقدم كل مهمة .. أنْ تظهر تلك الطائفة بعد أنْ أفلست كل الطوائف التي استأثرت بميادين العمل، وأخرجتها، فالآن جاء دورها. وأهم دور لها، بعث الأمة من جديد، تلك المهمة المصيرية التي غابت عن أفكار وأنظار وبرامج كل من سبق .. يجب أنْ يُلَّم شعثُها، وأنْ يتعارف أبناؤها، وأنْ يكون بيدها زمام المبادرة .. إنّه ليس عملاً سرياً أو تحت الأرض، ولا همساً وإشارات، إنّه عمل مستعلن يُنادي بمنهج (ما أنا عليه وأصحابي)، يدعو إليه كل من رضي بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن كتاباً، وبالإسلام ديناً .. أنْ يتركوا كل أسباب الفرقة، ويهجروا كل السُبل المضلة، ويبرؤوا من كل عصبية وجاهلية، ودعوات مبعثِرة أرضية، ليلتقوا على سبيل ربهم: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)، وينعموا ويشرفوا، أنْ يُكسبوا أنفسهم وصف نبيهم الذي يُبشرهم بالفلاح والنجاة .. والأمر ليس فيه خيار لمن أراد السلامة والفلاح.

ولم يعد للتردد دور وقد انكشف الزيف، وافتضح المخبوء، ووصل كل العاملين إلى طريق مسدود .. لقد جاء دور مَن أُبعدوا وهُمشوا واستُضعفوا، لأنّهم غرباء .. ولن يُنصر هذا الدين إلا بالغرباء .. أولئك المؤهلون والمرشحون والقادرون والمسدَّدون، لتحقيق المشروع الكبير، بعث الأمة الغائبة أو المحتضرة.

آن للصوت الإسلامي الصافي أنْ يعلو، وأنْ يسمع أهل الأرض جميعاً ذاك الصوت المعبر عن الإسلام الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إسلام (ما أنا عليه وأصحابي)، خلواً من بدع المبتدعين، وانحراف المنحرفين، وتشويه المغرضين، الصوت الذي أصم الكثيرون آذانهم عن سماعه، وفتحوا أسماعهم لأصوات الزيف، حتى من أهل الإسلام، فصار الإسلام عرضة لكل اتهام..!

فليجعل كل مسلم من نفسه، وبعد ضياعٍ في تيه الأقوال، وشطحات التنظير، وإقصاء الوحيين، وأنفاق السياسة، وبعد سقوط ذريع لكل شيء وإفلاسٍ من كل شيء .. أجل ليجعل كل مسلم من نفسه مشروعاً للانتساب إلى الطائفة الميمونة، التي يُناط بها الفوز والنصر والخلاص لكل الأمة، بعد توفيق الله تبارك وتعالى .. ولا يقولن أحد ممن همه وهمته رخيص الكلام: (إنّها دعوة جديدة لتنظيم حزبي…) أقول إنّها دعوة لتُفَعِّلَ أيها المسلم في نفسك دعوة ربك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، ولتعجل إلى ربك ليرضى، من قبل أنْ يُحال بينك وبين قلبك.


وعلى الطريق السوي، طريق الحق، لا بُد من تسلية لنفوس مَن يُفكر أنْ يكون مشروعاً جديداً في العمل .. مشفوعةٍ بضرب أمثالٍ بأنّ قسوة الواقع قد تُحدث في النفس زلزالاً .. ولدقة الموضوع لا أريد أنْ أبتعد عن النصوص إلى الرأي، نُصحاً لمن أُخاطب، فالله تبارك وتعالى، قال واصفاً صحابة نبيه في غزوة الأحزاب: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا). ويقول جل وعلا في آية أخرى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).

يا مَن عشتم أزمة الأمة بل مصيبتها، لا تبتئسوا، إنْ لمستم للضعف البشري مع قوة الأحداث بعض تأثير في نفوسكم .. ليس ذلك ذنباً اقترفتموه، ولا حوباً فعلتموه..! والله أنبأنا أنّ ذلك يكون في الخيّرين أتباع الرسل .. وإنّ الزلازل والزعازع التي تُصيب النفوس هي التي تُخرج منها الخَبْء الطيب، عندما يُفوض الأمر إلى الله، ويُحَكَّم التوحيد، ويبرأ الناس من حولهم وقوتهم البشرية إلى حول الله وقوته وتدبيره، وقديماً قالوا: رُب محنة أورثت منحة، بالعود إلى الله، وترك الإخلاد إلى الأرض.


وآفة العمل، حتى عند أتباع الأنبياء والرسل، استعجال النتائج واستطوال أمد المعاناة، ولا شك أنّ لذلك فعلاً كبيراً في النفوس .. فلنقرأ كلام ربنا يصف من كان حول نبيه موسى عليه الصلاة والسلام:

(قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

نبيٌ يثق بما عند الله، لأنّه أعلم بالله من غيره من البشر، ويرى الضعف البشري يسرق من أتباعه الأمل والهمة فيُبصّرهم بما لا يعلمون، ويُفقههم ما لا يفقهون. أمرهم بالصبر والاستعانة بالله مع اليقين أنّ الأمر كله لله، وأنّ تحقيق النتائج لا يُفشله الضعف البشري لأنّه يأتي بقوة الله ونصره وتأييده إنْ صدق العاملون (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

ولما أبدى صحابة موسى عليه الصلاة والسلام أنّ الصبر أوشك أنْ ينفد، وأنّ أذى الأعداء استهلك كل الطاقة، صبَّرهم نبي الله بما عند الله، وأنّ مواجهاتكم مع عدوكم محلها على الأرض وتدبيرها في السماء: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

جاء في الظلال: (إنّها رؤية النبي لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه. ولحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه. ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون.

إنّه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين، وإلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين. وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه. وألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير…).


وهاهم أتباع نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام يُصيبهم ما أصاب أصحاب موسى، عن خباب بن الأرت قال: (شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِى ظِلِّ الْكَعْبَة، قُلْنَا لَهُ أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِى الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)).

مثلٌ ممن سبقهم على طريق الإيمان، وتأكيدٌ أنّ هذا طريق ليس بين الرياض والجنان، وليس مفروشاً بالورد والريحان .. إنّه طريق المعاناة ليتحقق الابتلاء، وتصل في النهاية الجائزة لمن يستحقها، لا مَن يدعيها، وهو التمحيص.

وأخيراً … بشارةٌ أنّ العاقبة لمن اتقى وصبر وأنّ الأمر بيد الله، وهو قادر عليه، مستغنٍ عن كل جهد، وأنّ جهد وفعل البشر ومعاناتهم سببٌ لرفعهم واصطفائهم أنْ يكونوا جنداً لله: (وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)، وقد كان صلى الله عليه وسلم يضرب المثل بنفسه في المعاناة والتحمل تصبيراً للناس، واستنهاضاً لهممهم، وتأكيداً لموعود الله في نفوسهم .. عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ).

أذى، خوف، جوع .. فماذا بقي؟ لا يبقى عند المؤمنين إلا الصبر على حكم الله، والثقة بموعوده .. وكان عليه الصلاة والسلام يُعلّم أصحابه حسن التأسي والنظر دائماً إلى المثل الأعلى: (رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَر).


مرة أخرى، يا أهل الفرقة الناجية، يا أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، يا من ستعيدون الأمة كلها إلى الحياة من جديد بإعادتها إلى الوحيين، طريقكم إلى ذلك الدعوة على بصيرة، والتصفية والتربية، وليس عيباً ولا نقصاً، أنْ يُرى للضعف البشري بعض أثر في النفس إن اشتدت المعاناة ما دامت الصلة والثقة بالله، لم تتغير .. إنّ ذلك أصاب الرسل قبل أتباعهم: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

كذلك، فلتكن مواجهتكم للمهام الصعبة، بما في نفوسكم من إيمان وتقوى وصبر، لا بعددكم وعِددكم، فالقرآن الكريم يُؤكد أنّ كل الدعوات الخيرة قامت على كواهل الضعفاء، واقرؤوا إن شئتم فواتح سورة القصص: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ).

والعاقبة عند الله، لا يأتي بها البأس الشديد، وذات الشوكة فقط، إنّما للضعفاء، بصدقهم ودعائهم، إن كانوا قد ربوا على التوحيد والاتباع، دور خفي، وقد يكون الأعظم: (أبغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم) .

يا أهل الإيمان، يا أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، إنْ فقهتم عن الله ورسوله ما يُتلى عليكم، وإنْ اعتبرتم بما يجري من حولكم، وإنْ أدركتم الواجب المُناط بكم، فستفارقون جميع الناس القائلين: (إلام ننتظر الفرج…؟)، لأنّكم ستنادون الناس بأعلى صوتكم (هلمَّ نَصْنعْ ونُعَجلِ الفرج..!) … والحمد لله رب العالمين