Skip to main content

الأُمّةُ .. ثُمّ الأمّةُ .. ثُمّ الأمّةُ

By الخميس 9 صفر 1435هـ 12-12-2013ممحرم 21, 1441دراسات

تكرر ذِكر الأمة فيما كتبت ونشرت، في الفيسبوك وغيره، وفي ما لم يُنشر بعد .. وكان ذكر الأمة في معرض الحديث عن دورٍ مركزي هام يجب القيام فيه، في خضم ما يجري من تفاعلات على الأرض في ديار المسلمين، جاء بها الربيع أو التسونامي العربي. وأُلخص ما قلت بالآتي ليكون منطلقا لما سيأتي:

حينما تصل العداوة للإسلام وأهله على الأرض، إلى حد إعلان حرب من كل الدول بلا استثناء، لكنّها تحت مُسمى موارب (الحرب ضد الإرهاب) ومن الضروري هنا إقحام عبارة تقتضيها الأمانة، ويُمليها الصدق، ويُحتِّمها الواقع، ولا يتردد فيها الواجب، ألا وهي: أنّ في المسلمين إرهابيين، ولا زال فيهم من يُؤيدهم حتى من طلبة العلم .. وإنّهم ليسيئون إلى الإسلام كإساءة من يشنون الحرب على الإسلام، وفي النتيجة، فالطرفان في خندق واحد.

ومثل هذه العداوة من أهل الأرض مجتمعين، تفرض على المسلمين، في كل مواقعهم، أنْ يُدركوا أنّ رد ذلك الكيد، وصد تلك العداوة لا يُمكن، ولا ينبغي إلا أنْ يكون بالأمة المجتمعة على أمر الله، المعتصمة بحبله، وهي اليوم غائبة، غائبة، غائبة .. وقد أخذ مكانها لغثائيتها، أشخاص، وجماعات، وأحزاب، وأنظمة، وكيانات مصطنعة، من كل المشارب والألوان، ولكل مصالحه وبرامجه .. وما زاد ذلك المسلمين إلا خبالاً .. فلن يُغطي دور الأمة الغائبة أحد، ولا يُمكن الوصول إلى الدور المطلوب، وتحقيق الأهداف المنشودة إلا بها.

ويُضاف إلى المعنى السابق غطاؤه الشرعي بالقول: إنّ الأمة المجتمعة على ما يُريد الله ويرضاه، تكون يد الله فوق أيدي كل العاملين من أجل رفعتها ومنعتها، فالله مولاها، إنّه نعم المولى ونعم النصير .. والأمة هي الصخرة الصلبة التي تتكسر عليها كل العداوات والأطماع، بإذن الله وتوفيقه.

وإذنْ لا بُد من تسلسل المراحل وعدم التخبط والقفز فوقها .. وباختصار، لا بد من أنْ تنتهي مرحلة غياب الأمة وغثائيتها، وألا يشغب على هذا الهدف هدف، ولا يُزاحم هذا العمل عمل .. وهذا هو المشروع الإسلامي العظيم الذي ينتظر المسلمين وينتظرونه، بعد سنوات، بل قرون الضياع والهوان، على الله وعلى الناس .. وسيكون ما يأتي محطات على طريق تحقيق هذا المشروع


المحطة الأولى: إذا أمكن تشبيه الإسلام بكائنٍ حي، فجسده الأمة، وروحه الوحيان، والأفراد والجماعات والمؤسسات خلايا وأجهزة في هذا الجسد، وإن اعتل اعتلت معه، إلا من شاء الله.


المحطة الثانية: فالأمة هي الحصن والسياج الواقي والحامي، وهي مصدر الضبط والربط والإصلاح والتصحيح، وبها تتم الحركة على الأرض لتحقيق الاستخلاف، وباختصار بها يتجسد الحضور المادي والمعنوي الملفت للمسلمين، على الأرض..! ولا يُمكن لأي جهة على الإطلاق أنْ تقوم مقام الأمة في إنجاز تلك المهمات المصيرية، كما أُكِّد سابقاً .. وهي التي يجب أنْ تبقى حية لتكون قوية، وقد يعتريها الوهن والضعف، إلى حد قد تصل فيه وأستميح الأطباء عذراً، إلى حالة (الموت الدماغي) أو (الحياة النباتية)، فبعض الأجهزة تعمل بأداء ناقص، والخلايا تعيش بأدنى أشكال الحياة مع أجهزة طبية مساندة لبقاء هذا النوع من الحياة الشكلي الذي هو حالة احتضار .. وقال بعضهم عن المريض الذي يصل هذه الحالة (ليس بحي فيرجى، ولا ميت فيترحم عليه)..! وليس هذا التشبيه بِدعاً من القول، فها هي كُتب التاريخ تطلق وصف (الرجل المريض) على مراحل معينة من حياة بعض الأمم والدول .. وأمة الإسلام في هذه الحالة الآن. وأترك الكلام في الطب، معتذراً عن أخطاء علمية يمكن أنْ أكون وقعت بها بسبب الجهل، لأستدل على ما قلت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا). فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ). قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).

والآن قولوا بربكم، وبأمانة، هل تداعت الأمم من كل أفق أم لا..؟ وهل الأمة في مرحلة الغثائية، ولم تُغن عنها كثرتها أم لا..؟ وهل بيع الدم السوري، بأبخس الأثمان، في مقايضات ومزايدات وصفقات، لا ناقة للسوريين فيها ولا جمل أم لا..؟

ثم قولوا لي بربكم هل كان ذلك ليكون لو كانت الأمة الواحدة، التي تنصر بالرعب مسيرة شهر، والتي يرمي الله عنها ويحمل، حاضرة قوية..؟

ويندر في الأيام الحاضرة أنْ أدخل نقاشاً، إلا ويرفض بعض المُناقشين فكرة غُثائية الأمة وضعفها وغيابها، ويرون الحديث في ذلك يأساً، ومبالغة .. فالناس يخلطون بين حياة أفراد المسلمين وحياة أمة الإسلام، فما داموا يرون الحركة والصخب، وعمارة الدنيا، يظنون أنّ الأمة بخير، وهيهات.

ومن النصوص القاطعة في هذا الموضوع (غياب الأمة وغثائيتها، واحتضارها)، الحديث الذي يرويه معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما خرج النبي عليه السلام معه يودعه حين أرسله إلى اليمن: (إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي، وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ من كانوا وحيث كَانُوا. اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ ما أصلحت وايم الله لَيَكْفَأُنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا يُكفأ الْإِنَاءُ فِي البطحاء).

وليتأمل القاريء هذا التشبيه النبوي، في وضوح بيانه، ودقة دلالته، في أنّ أمة الإسلام ستكفأ عن دينها بالطريقة نفسها التي يُنثر فيها الماء من الإناء بإمالته ليفرغ مما فيه. ودين الأمة سيكفأ بأيدي أبنائها أكثر من أيدي أعدائها الخارجيين..! ودققوا أنّ النبي عليه السلام ندب أولياءه المتقين لإصلاح ذاك الفساد (إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ ما أصلحت)..! فكم أضاعت المكابرة والمماحكة الحق عند كثير من الناس..؟

ومن وفق إلى إجابات صحيحة واقعية صادقة، عن التساؤلات التي طرحناها قبل قليل، فقد أحرز مفتاح فهم كل ما سيأتي، أما المُكابد المُعاند، أسير النظرة العاطفية، قصيرة المدى، فلا أحب أن أقول له ما قال الشاعر: (فلم يبق إلا أن نُعد المراثيا)..!


المحطة الثالثة: والآن .. بعد أنْ وقع ما وقع، وهو قدر الله الذي لا يبرر ما كان، ولا بُد أنْ يُحفز النفوس لتستعد لما يجب أنْ يكون .. أختصر الرؤية للمستقبل، ليس من موقع المنظر، ولا الزعيم ولا السياسي إنّما ممن وفقه الله، فألقى جانباً كل قول إلا قال الله وقال رسوله، وأشاح عن كل نظرة غير النظرة الشرعية، واستغنى كل الغناء عن مصادر العناء والشقاء والعاطفة، وضغط الواقع، واستعجال الثمرة..! فإنْ أصبت فمن الله والحمد له وحده، وإنْ أخطأت فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله من ذلك. أجل، أختصر بالنقاط الآتية:

وأستأذن أنْ أقول: إنّ السطور القادمة ورقة عمل، تُحفز الغيورين على المشاركة، وتستدعي المؤهلين إلى المؤازرة، وتحثّ كل قادر أنْ يُدلي بدلوه، فالإسلام تحرك جماعي، والأزمة أزمة أمة، ونجاة السفينة من الغرق مطلب لكل من فيها، والمؤمن قليل بنفسه كثير بأخيه، وليس في الناس معصوم بعد نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام.

أولاً: الهدف الرئيس، والمشروع الإسلامي العظيم الذي لا يجوز أنْ يُقدم عليه عمل أو انشغال، إحياء الأمة المحتضرة .. وإعادة حضورها بعد غياب طال، لتتابع الحياة من جديد، بعد تعثر شديد ومديد. ولنذكر جيداً في هذا السياق المرحلة المكية في السيرة النبوية. ولنطرح السؤال الآتي: ماذا كان الهدف في تلك المرحلة؟

وأعتقد أنّ الجواب المتفق عليه دون مخالف (بناء الأمة). ذلك هو الهدف الذي عمل من أجله النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث عشرة سنة. ولم يشغل صلى الله عليه وسلم نفسه ولا المؤمنين معه، آنئذ، بغير العمل لذاك الهدف: بناء الأمة التي ستحمل الإسلام، وتدافع عنه، وتُرسي قواعده في الأرض، ليكون دين البشرية الخاتم، ولا دين سواه، إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها.

حتى القتال لم يكن مأذوناً به في تلك الفترة، كي لا يشغل عمّا هو أهم وهو بناء الأنفس على طريق بناء الأمة .. ولما مالت بعض النفوس إلى اللجوء إلى القوة، بسبب ازدياد أذى المشركين على المؤمنين في مكة، نزل النهي الصارم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا). ولعلها حكمة مُرادة، أنْ يتم بناء أنفس نواة الأمة، تحت ظروف صعبة، وأذى مستمر، ومعاناة شديدة، وهو ما يسمى بالمصطلح العسكري: (التطعيم قبل المعركة)، فالمهمة شاقة، والشدائد تصنع الرجال، وما ذاك إلا الابتلاء للتمحيص. كما أنّ ذاك النهي، أعني النهي عن القتال، كان ليكون العمل، والوقت، والتضحية كلّها محشودة لهدف واحد لا يتعدد، بناء الأمة.

وعلى ذكر الابتلاء أذكر قصة قرآنية عظيمة الدلالة على ضرورة تمحيص الصف قبل استقبال المهام الصعبة: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). أما القصة القرآنية:

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

ولن أعدّه إطالة، ولا استطراداً، أنْ أعرض لكم تعليقات في الظلال لسيد قطب رحمه الله فالكلام نافع جداً وفي سياق ما نحن بصدده تماماً، وقد وفق الرجل أيما توفيق في إسقاط تلك الحادثة البعيدة تاريخياً، على حال أمة الإسلام اليوم، ومرة أخرى أعتذر عن الإطالة. يقول سيد قطب رحمه الله:

(إنّ الله سبحانه علم أنّ أجيالاً من هذه الأمة المسلمة ستمر بأدوار كالتي مر فيها بنو إسرائيل، وتقف من دينها وعقيدتها مواقف شبيهة بمواقف بني إسرائيل فعرض عليها مزالق الطريق، مصورة في تاريخ بني إسرائيل، لتكون لها عظة وعبرة ولترى صورتها في هذه المرآة قبل الوقوع في تلك المزالق أو اللجاج فيها على مدار الطريق!)

ويُضيف: (إنّ هذا القرآن ينبغي أن يقرأ وأن يتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي. وينبغي أن يتدبر على أنّه توجيهات حية، تتنزل اليوم لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل. لا على أنّه مجرد كلام جميل يرتل أو على أنّه سجل لحقيقة مضت ولن تعود! ولن ننتفع بهذا القرآن حتى نقرأه لنلتمس عنده توجيهات حياتنا الواقعة في يومنا وفي غدنا كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تتلقاه لتلتمس عنده التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة).

ثم يقول: (سنجد عندئذ في القرآن متاعاً وحياة وسندرك معنى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» فهي دعوة للحياة، للحياة الدائمة المتجددة. لا لحياة تاريخية محدودة في صفحة عابرة من صفحات التاريخ).

ويتحدث الآن سيد رحمه الله عما يُستخلص من قصة طالوت وجنوده، وهي التي تكررت في قصة الذين قيل لهم كفوا أيديكم مع نبينا، فالتجربة الإنسانية واحدة، والعبرة بها قائمة. فيقول:

(وكان هذا النصر كله ثمرة مباشرة لا نتفاضة العقيدة من تحت الركام وثبات حفنة قليلة عليها أمام جحافل جالوت! وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين: من ذلك أنّ الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها. فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة. فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل- من ذوي الرأي والمكانة فيهم- إلى نبيهم في ذلك الزمان، يطلبون إليه أن يختار لهم ملكاً يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون. فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال، وقال لهم: «هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا!» استنكروا عليه هذا القول، وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: «وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا؟»

ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها، وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة وكما يقول السياق بالإجمال: «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ». ومع أنّ لبني إسرائيل طابعاً خاصاً في النكول عن العهد، والنكوص عن الوعد، والتفرق في منتصف الطريق، إلا أنّ هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال، في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغاً عالياً من التدريب. وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل. فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل.

ومن ذلك أنّ اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول. فإنّ كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم. ولم تبق إلا في الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة، ووقوع علامة الله باختياره لهم، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة.

ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى. وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم: «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي- إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ- فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ». وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية.

فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاوت العزائم وزلزلت القلوب: «فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ». وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة، التي اعتصمت بالله ووثقت، وقالت: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ». وهذه هي التي رجحت الكفة، وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين).

فلنقرأ ذاك التعليق مرات، وبإمعان ولندونه في الذاكرة، لاستدعائه في كل موقف. فالمسلمون اليوم على طريق شبيه بذاك الطريق، وقد تعترضهم العقبات نفسها، ولا سيما التي تأتي من لدن أنفسهم. ولنتذكر أثر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه المُخرج في مسند ابن أبي شيبة: (لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ بَنِي إسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ غَيْرَ أَنِّي لاَ أَدْرِي تَعْبُدُونَ الْعِجْلَ أَمْ لا).


وبالرجوع إلى قصة (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) نُلاحظ أنّه لمّا جاء النهي الصارم عن القتال، ذكر مباشرة البديل الذي يجب أنْ يُشتغل فيه في تلك الحقبة: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) عبر بالأمرين: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) عن العملية التربوية لبناء الأنفس على تعاليم الدين، ونزع ما كان فيها من أمر الجاهلية .. ومعلوم أنّه لمّا بلغ البنيان تمامه انتقل النبي عليه السلام بالأمة التي صنعها على عينه، إلى المدينة، بأمر من ربه، ليُقيم بها دولة الإسلام الأولى، التي ستبدأ مهمات الدعوة للدين الجديد ونشره، والجهاد من أجل ذلك. وأهم ما يجب علينا استخلاصه: (أنْ لا دولة بلا أمة، واللهاث سعياً إلى الدولة، والأمة غائبة، عمل عبثي).

ثــانـياً: إنّ الذي أوصل أمة الإسلام إلى الاحتضار شرودها عن منهج الوحيين، منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، الذي شردت عنه طويلاً وبعيداً .. وقد دب فيها داء الافتراق، وظهرت الفرق الناكبة عن الحق، وكل ذلك مما حذّر منه النبي عليه الصلاة والسلام. ومع ذلك فقد وقعت فيه الأمة، ولم تستطع الخروج منه بعافية، رغم أنّ نبيها حذر من المشكلة والداء، وأرشد إلى المخرج والدواء. وبدأت تلك الفرق الناكبة عن الصراط تفعل فعلها في دين الأمة، وتحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، فإنّ تلك الفرق مع اختلاف وتباين وتناقض مناهجها، إلا أنّها تتفق وتُوحد جهدها في مواجهة عدو واحد، أهل الحق، الفرقة الناجية، أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) .. وبكل أسف فقد كان على الطرف المقابل تساهل وتنازل وتفريط، لأنّ الفرق الناكبة عن المنهج الحق استطاعت أنْ تُؤثر بمناهجها الخاطئة، وانحرافاتها، وعن طريق إقحام العقل في الاستدلال الشرعي، في تمييع منهج أهل السنة والجماعة، فقد أغمض كثير من العلماء أعينهم عن تسلل بعض الأفكار، وتسرب بعض المقولات إلى مناهجهم، ولم يتصدوا بحزم، إما يُسكتهم الخوف من الفرقة والاختلاف أنْ يدبا في صفوف الأمة، تارة، أو الظن الخاطىء أنّ إصلاح ذلك يسيرٌ مع الأيام، فلا يشتدون في التصدي للانحراف، وتارة أخرى، وأسوأ الحالات أنّ بعضهم قد اقتنعوا بما يطرحه أهل الباطل، ويتأولون لذلك..!

وحتى لا يبقى الكلام مجرد دعوى، فلنستدل بالواقع، وإنْ كان لا يروق لبعض المسلمين ذلك، لكنّ البوح بالحقائق المُرّة أسلم لأمر الدين من كِتمانها.

لا يستطيع أحد أنْ يُنكر، إنْ كان منصفاً، أنّ الفكر الصوفي، بكل شطحاته وتفاهاته، والمنهج الأشعريي بكل تأويلاته ومخالفاته، وجدا الطريق مفتوحاً إلى عقول علماء في الأمة، أو مشائخ، وهو الأصح، وليسوا بالقليل، فصاروا يُدافعون عنه بل يتبنونه، وفي أحسن الأحوال كانوا يُهادنونه، على أنّه اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد.

ومن المقولات التي هي من عمل الشيطان، والتي سرت في الأمة بترويج أهل الفرق لها، للتهوين من أمر البدع التي فشت، تُخالف ما كان عليه سلف الأمة، وأهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، إنْ في التصوف، أو الانحرافات العقدية عند الأشاعرة، مقولة: (مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم)، تضع هذه القاعدة مذهب السلف بتأصيله واتباعه، ومذهب الخلف بزيغه وابتداعه، في كفتين متوازنتين، وكأنّها تقول للناس: بأيهما أخذتم نجوتم، وهيهات..! وصورت القاعدة المسألة ظاهرياً غاية في البساطة، فهي بين اختيار (الأسلم أو الأحكم والأعلم) أما في باطنها وما تنطوي عليه فهي الكفر بعد الإيمان، لِما تنطوي عليه من مخالفة هدي النبي، ومصادمة صريحة لقول الله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، فيُمَوَّهُ هذا الشطط الكبير على عقول الناس بكلمات الأسلم والأعلم والأحكم..!

ومن العلماء من رأى السكوت أهون الشرين، وقد أخطأوا في ذلك، ولا شك، لأنّهم مكنوا للباطل بسكوتهم .. وازداد الانحراف واتسع الخرق على الراقع، وابتليت الأمة بفتنة (تبديل الدين)، وفعلت تلك الفتنة فعلها في دين الأمة، وظهرت الغربة، غُربة أهل الحق العاضين بالنواجذ على اتباع هدي محمد وتحقيق (ما أنا عليه وأصحابي) في أنفسهم وفي الأمة، فصدق في وصف الغرباء قول نبيهم: (ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).

واستمرأ المسلمون الانحراف مع مرور الزمن، وغياب المصلحين، حيث كانوا منبوذين متهمين بتهييج العوام والطغام عليهم .. فصارت المشكلة تصغر وتصغر في أعين الناس لإلفهم لها، وتغيرت دقة المقاييس الشرعية، وإحساسها بالخطر. فكثر الدخل والدخن في دين الأمة، مصداقاً لما جاء عن النبي عليه السلام في حديث حذيفة المشهور .. حتى غدا منهج الأمة أشعرياً، صوفياً .. والويل لمن يقف في وجه تلك الانحرافات.

ولا بُد من التأكيد أنّه لم يخل تاريخ الأمة من مصلحين ومجددين، لكنّ سلطان العوام الذين يُهيجهم، ويُجندهم أهل الباطل كان أغلب. إضافة إلى دور حكّام السوء وعلماء السوء. لا تستغربوا أيها الناس هذا الكلام فكله حدث. لقد سُجن الإمام أحمد وأُهين، لأنّه يُدافع عن عقيدة أهل السنة والجماعة التي جاء بها القرآن صريحاً، وأكدتها السنن الصحيحة .. ونُفي ابن تيمية مرات وسُجن، ومات سجيناً .. هكذا كان يُفعل بالمصلحين، من قِبل أهل الباطل وأعوانهم. وفي قصة ابن تيمية مع علماء زمانه وحكامه، ومن بعدهم حتى اليوم عبرة، وأريد اختصاراً أنْ أُبرز جانباً واحداً فيها، وهو ما تذكره مُعظم الروايات من أنّ الذين أدخلوا ابن تيمية سجن القلعة الذي مات فيه لم يكونوا يهوداً ولا نصارى ولا كفاراً ولا من التتار الذين حاربهم، إنّما كانت رسالة بتوقيع كبار أئمة المذاهب الأربعة في دمشق إلى السلطان، أنّ الرجل يُريد تبديل دين الأمة..!

والغربة، غربة أهل الحق التي نتحدث عنها، لم تغب من أي زمان أو مكان .. وما ينقضي عجبي، وأتمنى على كل أحد أنْ يُعجب مثلي لقراءة مقدمة كتاب (الاعتصام) للشاطبي عالم الأندلس رحمه الله ، يذكر معاناته وما لاقى من أهل زمانه، يوم قام يحارب البدع، ويدعو إلى الاتباع، فكأنّه يعيش في زماننا تماماً، والكتاب نفيس .. وذلك يدل على أنّ الاستعداد للانحراف موجود في الأمة، بمجرد أنْ يغيب عنها نور الوحيين بفعل أهل الباطل. ولا يرتبط ذلك بمكان أو زمان أو جيل، إنّما العامل المؤثر هو القرب والبعد من الوحيين، ومشكاة النبوة (الاتباع).

وحين تكون الأمة حاضرة برجالها، حُراس الدين من العلماء الربانيين ينحسم الانحراف والعكس بالعكس. ولو وُجد العلماء والأمة غائبة لمروا في تاريخها، كأن لم يغنوا بالأمس، دون أثر يُذكر لأنّهم يُغلبون عل أمورهم، كالأمثلة التي ذكرنا، حيث أنّ الحارس الحقيقي والقوي للدين وأهله هي الأمة الحاضرة.

ولا أملُّ من التساؤل دائماً: أي أمة هذه التي يقدس فيها ابن عربي، ويُلعن ابن تيمية..؟ إنّها ليست الأمة وإنّما من نصبوا أنفسهم نُواباً عن الأمة، ومتحدثين باسمها من كيانات مصطنعة أوجدها الباطل من كل الأطياف..! وقد ترافقت تلك الأحوال مع طامات أكبر فشت في الأمة، وهي ضعف الوازع الشرعي للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بل سادت دعوات تعين المنكر والباطل على نخر جسد الأمة، من ذلك قبول الاختلاف وتسويغه وتشجيعه حتى وضعت الأحاديث لذلك، من مثل (اختلاف أمتي رحمة) و (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، ما جعل الباطل يبيض ويفرخ في عقول أبناء الأمة.

وجاء العصر الحديث ليطرح أفكاراً جديدة، تزيد الأمر ضغثاً على إبالة .. رضعت لبون ديموقراطية الكفر، فطلع علينا المفكرون بمباديء الحوار وآدابه، والرأي والرأي الآخر، وعدم مصادرة الآخر، واحترام الآخر، والاعتراف بالآخر، وأدب الحوار .. قواعد يتعامل بها الغربيون في صالاتهم السياسية، وليتهم يطبقونها حقيقة، تلقفها المسلمون ليتعاملوا بها في مساجدهم، بعد أنْ صاغوها صياغات، ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا في ما اختلفنا فيه)، وكانت هذه القاعدة، وبكل أسف، السهم الأخير الذي أنهى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حياة الناس (باسم التدين) .. ورحم الله الشيخ العثيمين وجه إليه سؤال عن القاعدة الذهبية كما أسماها السائل، وهي (نتعاون في ما تفقنا…) فبعد أن أجابه الشيخ بما هو نافعٌ قال للسائل: (الأصح أن تسميها بالقاعدة الخشبية).

كل ذلك كان يسير بالأمة نحو الغثائية والاحتضار، ويُغري بها أعداءها، فاستباحوا بيضتها، وورثوا أرضها وديارها وأموالها في أكثر من أرض مسلمة..! فلسطين أفغانستان البوسنة العراق الصومال سوريا، ومناطق أخرى..!

وحينما نعلم ما الذي أوصل الأمة إلى الاحتضار نكون قد أدركنا كيف تُعاد الأمة إلى الحياة من جديد .. وبدهي جداً أنّ الحديث عن تنقل الأمة بين أطوار القوة والضعف والعافية والاحتضار هو في الحقيقة توصيف لحال أفرادها، وهل الأمة إلا مجموعة أفراد حالها من أحوالهم .. إذن المهمة الكبرى، والأولى العودة بالأمة إلى الوحيين.

Top of Form

ثـــالثـــاً: إذنْ، المُهمة الكبرى: (إحياء الأمة المحتضرة بإعادتها إلى الوحيين) .. كيف، ومن سيقوم بالمهمة؟

لتحقيق تلك المهمة العظيمة الخطيرة طريق واحد هو الدعوة إلى الله على بصيرة، والتصفية والتربية. وأجزم بالقول أنْ لا سبيل إلا هذا السبيل..! ولا ننسى أنّ العملية بناء نفوس..! وهل تُبنى النفوس بغير التربية، والتعليمُ جزء رئيس في التربية. والقائمون بتلك المهمة، هُم العلماء والدعاة ولا أحد سوى أولئك.

ويجب أنْ تتلاشى من حياة الأمة ألقاب وأوصاف من مثل مُنظّر ومُفكر ومُحلل، فهؤلاء أسهموا في سقوط الأمة أكثر من إسهامهم في خلاصها، لأنّهم يصدرون عن العقل والواقع والهوى، وتتخطفهم مشارب شتى وليس لهم منهج، وإلا لمَا رضوا بتلك المسميات الوافدة، ولو كانوا على منهج الحق لاختاروا الشرف العظيم أنْ يُلقبوا دعاة أو علماء (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلمِينَ) .. وإذن لكانوا رجالات الأمة بحق ولنفعوها في يوم عسرتها، لكنّهم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .. فليس في الوجود أرفع ولا أشرف للمسلم من وصف أنْ يكون داعياً إلى الله، يقضي عمره في ذلك، وهي مهمة الأنبياء والرسل.

والداعية مكانه الصحيح مع الناس وبينهم، وليس في صالونات السياسة، وعلى كراسي الوزارة، أو المجالس النيابية، أو مشاركاً في النشاط والاجتماعات الحزبية، ولو كانت التسمية (حزباً إسلامياً). ولا أعتقد أنّ ذمة المسلم تبرأ عند الله إنْ لم يكن له انخراط وانغماس في تلك المهمة .. وأرجو لِمن يُنشد الحق أنْ يرجع إلى مقال لي في الموقع بعنوان: (بين الصِّدِّيق والمُحَدَّث) ففيه إيضاح كبير للفكرة الأخيرة .. والأمة لم تسمُ على مر أيامها إلا بعلمائها الربانيين، وعلماء الأمة هُم دعاتها، ودعاتها هم علماؤها، والتفريق بين الصنفين مُحْدَثٌ لم يأت بخير.

وحتى تكون الصورة واضحة أكثر وأكثر، أستعيد إلى الأذهان ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وايم الله لَتَكْفَأَنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينَهَا كَمَا يُكْفَأُ الإِنَاءُ فِي الْبَطْحَاءِ). خطر عظيم تمر به أمة الإسلام، والنبي الناصح لأمته، يُقسم على حدوث ذلك، وهو صادق لو لم يقسم، لكنّها النذارة الكبيرة، والتحذير الشديد، وهل أخطر من أنْ يكفأ دين الأمة..؟ يعني أنْ تُصبح بلا دين، أو بتعبير أدق أنْ تُصبح على دين غير مقبول عند الله، فهو في النتيجة (كلا دين).

ولسبب النذارة الكبيرة، والتحذير الشديد، مرة أخرى فلقد بسَّط النبي عليه السلام العملية لدرجة يُدركها أصحاب الفهم السقيم..! إناء أفرغ بطيش واستهتار وجهل من الخير الذي فيه، فكيف تكون عملية الإصلاح إلا بإعادة ملئه..؟ فالعملية بأشد اختصار (إفراغ، وملء). والنبي عليه السلام، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وقد أُوتي جوامع الكلم، يضرب الأمثال ليصل بالفكرة إلى أبسط صورة للفهم، ليُريح أمته من الحذلقة والفلسفة، والجدل والمناورة بالنصوص لتواطيء الأهواء، وهو ما أزرى بالأمة حتى وصلت إلى قرب النهاية، لولا وعد الله .. وقد بَيّن عليه السلام مَن الذين ستُناط بهم تلك المهمة المباركة العظيمة: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ من كانوا وحيث كَانُوا اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ ما أصلحت وايم الله لَيَكْفَأُنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا يُكفأ الْإِنَاءُ فِي البطحاء).

فيا لها من مهمة خطيرة، لا يقدر عليها ولا يُحسنها إلا المتقون..! وهم المعنيون بقول نبيهم عليه السلام: (إِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ ما أصلحت) .. ولنْ تتقدم تلك المهمة مهمة في الأهمية، ولن ينفع المسلمين عمل، مهما كان عظيماً إنْ لم يسبقه إنجاز تلك المهمة. فأي خير يُرَجَّى والأمة غائبة..؟ فأين أنتم يا أيها المتقون، يا أولياء محمد، أروا ربكم من أنفسكم، وأروا نبيكم، وأعدوا أنفسكم لمهمة لا يُحسنها غيركم، ولا يستحق شرف إنجازها إلا أنتم. وشاء الله أنْ تكون مهمتكم مُضاعفة، لأنّكم ستعملون في خطين متوازيين، إصلاح ما فسد من حال الأمة، و(بالتعبير النبوي) ملء دين الأمة من جديد، بعد أنْ كُفيء..! وإفهام وإقناع الناس بهذا الدور العظيم الذي تتصدون له، وهي مهمة أشق من سابقتها، حينما تكون الأمة تعيش حالة شُحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأى برأيه .. فلا تستثقلوا الحِمل، ولا تستعظموا المسؤولية، فيد الله فوق أيديكم، وتدبيره قبل تدبيركم، وما النصر والتوفيق إلا من عنده، فتوسلوا إليه بإخلاصكم، يَكْفِكُم ما وراء ذلك..! وإنّ تلك المهمة قد استحقت منذ زمن بعيد، لكن لم تجد لها قائماً بها .. ومن يدري، والعلم عند الله، فقد يكون تعالى قد ادخر أجرها لكم.

والأمر الذي يستوقفني مرات، وأعجب من كيفية تعاطي الناس، حتى النخب أحياناً، معه، حينما تُنشر صور، ويُعرض فيلم، وتُذاع تصريحات مسيئة إلى الإسلام وإلى النبي صلى الله عليه وسلم من كفار لا يُتوقع منهم غير ذلك، ولو كان غير ذلك لكان نفاقاً أو مجاملة.! فيُسْتَخَفُّ الناس، ويقومون ولا يقعدون، وتقوم المهرجانات، وتُقام الندوات، وتُعقد المؤتمرات، وتتحرك المظاهرات .. والمنكي والمبكي أنّه يُساء للإسلام ونبيه في ديار الإسلام أضعاف ذلك، ومئات المرات في اليوم الواحد من أبناء الإسلام، بل من بعض المتدينين، بل من بعض العلماء، حينما يهجرون سنته ويعطلون هديه، بنشر البدع، وتقديم أقوال الرجال والعصبيات من شتى الأشكال على سنته وهديه، ولا يتحرك أحد..! وبكلام آخر مستعار من النبي عليه السلام يُكفَأُ دين الأمة وبفعل أبنائها، والكل ساكت .. أما فعل مارق كافر برسوم أو كلام يُقيم الأمة ولا يقعدها .. فلا يستغربن أحد إذن، كيف وصلت أمة الإسلام إلى الغثائية والاحتضار..!

لا أحد يرضى أنْ يُساء إلى الدين وإلى النبي، لكنّه فرق كبير بين معالجة علمية حضارية يرودها علماء ودعاة الأمة من موقع الثقة والمسؤولية .. وبين تحرك غوغائي جاهل من فعل العوام، يُسيء أكثر مما يُصلح، ويفتح الأبواب لكل مندس مغرض مريد للفتنة، والواقع شاهد.

والذي ينبغي إيضاحه للناس، أنّ دين الأمة حينما يكفأ لا يكون بفعل الكفار والملحدين والزنادقة.! لكنّه من عمل المبتدعين، المعطلين للوحيين، التاركين منهج (ما أنا عليه وأصحابي) من أبناء الإسلام، وهم ولا شك أهل الفرق الذي حدث عنهم النبي عليه السلام في حديث الافتراق، ومن ساروا في ركابهم، ليغدو الدين الذي عليه الناس غير دين الله الحق، وكما ذكرنا سابقاً، الدين غير المقبول عند الله هو في النتيجة كلا دين .. فبهذه الطريقة الخافية على كثيرين يكفأ دين الأمة.


رابـــــعاً: بيّنا في البند السابق أنّ الركيزة الأساسية لإحياء الأمة تربية أبنائها. وقد ذكرت مع التربية كلمة التصفية، فما المقصود؟

إنّ الإسلام قد عَلِق فيه على مرّ الزمن من العوائد والبدع الشيء الكثير حتى صار ذلك الحادث الجديد الذي لا أصل له في الدين عند الناس من صلب الدين، ومن يخالفه يُصبح مخالفاً للدين. وكل ذلك كان بفعل الفرق التي تغلغلت في الأمة وبدلت دينها، كما ذُكر سابقاً. ويليق في هذا المقام أن نمعن النظر في هذا الحديث:

فقد صح عن ابن مسعود موقوفاً، وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حُكْماً، أنّه قال: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سنة، إذا تُرك منها شيء قيل: تركت السنة؟ قالوا: ومتى ذاك؟ قال: إذا ذهبت علماؤكم، وكثرت قُراؤكم، وقَلَّت فقهاؤكم، وكَثُرت أمراؤكم، وقلَّتْ أمناؤكم، والتُمِسَتِ الدنيا بعمل الآخرة، وتُفُقهَ لغير الدين).

فيالله كم هذا الحديث لصيق بواقع المسلمين اليوم، فما من فقرة فيه إلا ونجدها تحققت فينا، وهو ولا شك من المنذرات والتحذيرات، ولم ينتفع بها المسلمون فإلى الله المشتكى..

إذاً لا بُد من تصفية الإسلام العظيم مما قد دخل فيه، وهو ليس منه فاختلط فيه وحي السماء بطين الأرض، وشتان ما بينهما، يوم أُدخل في الدين اجتهادات وأفهام البشر لتحل محل النص المنزل، إرضاء للعقل والهوى، ومسايرة لواقع الناس.! ولا بُد من أنْ تتم التصفية قبل تربية الناس حتى لا يُربوا إلا على الوحيين. ولعل الجملة الأولى من أثر ابن مسعود كانت في الموضوع نفسه: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير)، إنّها إشارة واضحة إلى أهمية التصفية قبل التربية، في الدين، لتقي كل جيل لاحق من الوقوع في ما أحدثه الجيل السابق من انحرافات وخروج عن مسار الوحيين، بطريق تقديس الموروث، والتقليد، وغياب المراجعة .. فيصبح الموروث دينا بكل ما فيه من مخالفات، فيهرم الكبير، ويربو الصغير في تلك الفتنة .. وما أدقها من لفظة، وما أشمله من تعبير أنْ يُعبّر عن غياب التصفية لدين الناس، وقيام التربية على دين غير مصفى بأنّه فتنة..! وأي خير يبقى في الناس إذا عملت الفتنة فيهم عملها، لا سيما فتنة الدين..؟

ويحسن ألا نُغادر أثر ابن مسعود قبل الإفادة الكاملة منه، ولنتذكر أنّ له حُكم الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. يُخبر الأثر المذكور عن الظروف التي تُهيء للفتنة المّذكورة وتصنعها، وباختصار تكون بذهابٍ وبكثرتين وقلتين وانحراف. أم الذهاب فذهاب العلماء، وقلة الفقهاء والأمناء، وكثرة القراء والأمراء، والتماس الدنيا بعمل الآخرة والتفقه لمصالح أرضية وليس من أجل صحة الدين..! نعوذ بالله من كل ذلك .. وهل مرت أمة الإسلام بذلك..؟

عودة من جديد إلى التصفية والتربية، وضرورة تلازم ذينك الأمرين في أي عمل إصلاح ديني لبعث الأمة المحتضرة، ولنستعن للوقوف على الحقيقة بمثال واقعي من مدينة دمشق، أقال الله عثرتها. ففي الربع قبل الأخير من القرن الماضي شهدت مدينة دمشق نشاطاً مشيخياً لافتاً، وأقصد بالنشاط المشيخي تلك الظاهرة التي كانت سائدة آنئذ في دمشق، وهي التفاف مجموعة من الطلاب والمريدين حول شيخ مشهور، وما يُحيط بذلك الالتفاف من أنشطة قوية على كل الأصعدة، يُستفاد فيها من تنوع التخصصات والمهارات عند الشبان الملتفين حول الشيخ، إضافة إلى الولاء الشديد، إلى حد التعصب (الأعمى) للشيخ أحياناً، والرغبة في التفاني لخدمة الشيخ وتلك المجموعة معه. ومن أمثلة تلك التجمعات ما كان في مسجد (أبو النور) مقر الشيخ أحمد كفتارو، ومسجد (زيد بن ثابت) مقر الشيخ عبد الكريم الرفاعي، رحمة الله على الجميع، وهما أبرز ظاهرتين، ولا يعني ذلك خلو الساحة من غيرهما، لكنّني أكتفي بهذين النموذجين لأنّ غايتي التمثيل وليس الحصر. ولست أقصد باستعمال كلمة (مشيخي) الازدراء، ولكنّي ولا أُوارب قصدت إظهار الاعتراض، فما كُنت في يوم من الأيام أرى تلك التجمعات وافية بغرض إصلاح الأمة، أو بعثها، بل مُقصرة عن ذلك، لخلل المناهج..! وليس هذا بحثنا الآن .. فقد كُنتَ تدخل تلك المساجد فيبهرك النشاط التربوي، والعمل الدؤوب المبذولان لتربية الشباب بوسائل تريوية متنوعة وحديثة، وناجحة، والشهادة لله. حتى ليصدق أنْ توصف تلك التجمعتت بخلية النحل..! لكن تلك الجهود المضنية، وبكل أسف، لم تُؤت أُكلها إسلامياً..! لأنّها كانت تربية على إسلام مدخول، غير مصفى، وليس إسلام (ما أنا عليه وأصحابي)..! فلم يكن له فاعلية وصمود في وجه التحديات، بل الأسوأ، أنّ الأنظمة الشمولية استطاعت استيعاب بعض تلك النشاطات وتوظيفها لرفع خسيستها وقد نجحت..!

وأرى أنّ السؤال التقليدي والذي لم يغب حتى الآن من أي حوار إسلامي، سيثور في أذهان بعض القراء، ولا أُريد تجاوزه أو تجاهله..! السؤال: لِمَ تعتبر أنّ الإسلام الصحيح والمقبول هو إسلام (ما أنا عليه وأصحابي) فقط، ولا صحيح أو مقبول سواه؟

وأُجيب بملخص كلام سابق كثير، أنّ عبارة أو وصف (ما أنا عليه وأصحابي) ليست حكراً على أحد، بل لا يجوز لأحد احتكارها أو ادعاءها .. إنّ عبارة (ما أنا عليه وأصحابي) كلام نبوي جاء في وصف الفرقة الناجية في حديث الافتراق المشهور، وهي الفرقة الوحيدة التي تطمع بالنجاة .. وما كانت تلك العبارة من نبي الأمة إلا ليضع كل أحد من أمته على مضمار السباق، للتسابق والتنافس على اكتساب الأهلية لحيازة هذا الوصف النبوي، والنجاة من أنْ تعصف به وبتدينه المدخول، ريح الافتراق، وتيارات أهل البدع والأهواء. مرة أخرى، العبارة من كلام النبي عليه السلام، ليست من صنع أحد .. هي وصف نبوي يليق بكل مسلم عمل بمضمونها وجانب ما عليه أهل البدع والأهواء والافتراق، الذين نكبوا عن طريق الوحيين إلى العقل والهوى وعلم الكلام .. فليس لأحد أنْ يقول هي لي، بل على الكل أنْ يكونوا في سباق إلى استحقاقها. وكما أنّه ليس لأحد أنْ يقول: الجنة لي، إنّما على كل أحد أن يسعى لها سعيها (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) . وكذلك هذا الوصف النبوي الذي هو الطريق إلى الجنة لمن حظي به .. فكفانا جدالاً لا ثمرة له في هذه الفكرة والتي جعل بعضهم شعار الحديث عنها (وكل يدعي وصلا بليلى)، فما أنْ يبدؤ الجدال حتى يُواجهوك ابتداء بذاك الشطر، وقد ارتكبوا الخطأ الأكبر، حين جعلوا العبارة النبوية (ما أنا عليه وأصحابي) ادعاء على لسان كل أحد، وليس منهجاً وقاعدة نبوية..! كل ذلك لعدم الاعتراف بالمنهج الحق الذي لا يجوز أنْ يتعدد في الأمة، بل يجب أنْ يتوحد لأنّه ليس شعار فرقة أو تجمع أو حزب أو جماعة، إنّما هو وصية ونصيحة واختيار النبي صلوات الله وسلامه عليه لمن يريد الفلاح والنجاح في الدارين .. وكل تسمية أو وصف سوى ذلك يصدق فيها قول الله جل في علاه (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى).

ونعود بعد استطراد بسيط إلى الفكرة، وهي واقع التجمعات، لقد كانت المحصلة لما بُذل من جهد في التربية دون التصفية صفراً، لأنّه لم يمنع الأمة من الغثائية والاحتضار، ولم يصُنها مما يحيق بها من كيدٍ وأخطار..! فمتى تكون للدين فاعليته وآثاره العظيمة إلا عندما تبقى له صفته العلوية السماوية..! فهو فاعل بنسبته إلى مُنزله تبارك وتعالى، وببقاء تلك الصفة فيه، وليس بأسماء وأشخاص مَن يحملونه .. ولنتذكر قول الله (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ). أما الدين الذي يختلط فيه الوحي المُنزل باجتهادات العقول الأرضية، فما يعود الإنسان على بينة، هل عَمله في الدين بأمر الله ورسوله، أم بأمر عقل بشري نافس الوحي .. فليس ديناً خالصاً، وليس كله لله، وربنا يقول: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) ويقول: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).

ولا يحسن أنْ نتحدث عن التصفية قبل التربية، دون أنْ نذكر بالعرفان والإجلال رائد هذه الفكرة المحورية في حياة المسلمين، والتي سبب تركها وعدم إعطائها الأهمية الأولى في كل عمل إسلامي انتكاسات مريعة أبرزها غثائية واحتضار الأمة، لأنّ ترك التصفية جعل الدين غير الدين، وهل يُبقي لأمة الإسلام عزتها ورفعتها وحضورها القوي إلا الدين الحق والدين الخالص..؟ إنّه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله .. لقد تنبه رحمه الله قبل أي عمل ونشاط إلى ضرورة التصفية وقد فشت البدع في الأمة وكثرت الأقوال والمذاهب في الدين..! ولقد قضى عمره كله في عمل دؤوب للتصفية، وعماد ذلك وحجر الأساس فيه، دراسة السنة بدقة وعمق، وتبيان صحيحها من سقيمها، وبيان ما سببته الأحاديث الضعيفة والموضوعة من انحراف في دين الأمة، والدعوة إلى العمل بالقرآن والسنة وفق فهم السلف لهما..! وكان، رحمه الله، لا يقبل أنْ يُقال: منهجنا العمل بالكتاب والسنة دون إرداف القول على منهج سلف الأمة، ويقول: حتى الطوائف المنحرفة تدعي على أنّها على الكتاب والسنة، ثم يُفسر كلٌ النصوصَ على هواه .. ولم يسلم الشيخ في ذلك الطرح من اعتراض، فلن أنسى مناقشات كثيرة قيل لي فيها: إنّ الشيخ تَحَجَّر واسعاً يوم قيد العمل بالكتاب والسنة بفعل السلف .. ويا سبحان الله..! هل التصفية إلا ذلك القيد..؟

وبكل أسف، فقد عمل الشيخ وحده طويلاً، ولم يجد مِعواناً أو مؤازراً على ذاك الطريق الصعب. وليته سلم من النيل منه والأذية، وكم جنّد أقوام أنفسهم ومن معهم لهدف إسقاط الألباني، ولا زالوا، حتى بعد موته. وكان وراءهم من وراءهم ولا شك..! لكنّ الله غالب على أمره.

ومعذرة إنّها وقفة للوفاء للأمة قبل أي اعتبار آخر، من خلال إنصاف من عملوا كثيرا لصيانة وحراسة دين الأمة، أبعد ما تكون عن الولاء الشخصي، والعصبية الجاهلية، فرحم الله الشيخ وجزاه عن الأمة خير الجزاء .. ولينتفع شباب الأمة من الألباني بعد موته، وقد ترك الكثير الكثير النافع، وقد حيل بينهم وبين الانتفاع بما عنده، وهو حي، بدافع الحسد، والعصبية والهوى أعاذنا الله من كل ذلك.

إنّ أهم تهيئة للنفس من أجل هذه المهمة، بل المشروع الإسلامي العظيم لإحياء الأمة من جديد، بعد التصفية والتربية والدعوة على بصيرة بالتفصيلات المذكورة، وإقامة إسلام (ما أنا عليه وأصحابي) في نفوس الناس .. أجل إنّ الذي يلي في الأهمية إسقاط عامل الزمن، وبتعبير آخر أوضح، عدم استطوالِ أمدِ المهمة، وعدم استبطاء النتائج .. وتحويل الاهتمام كله ليكون مُنصباً على المنهج وتأصيله وضبطه وحسن تطبيقه .. واستقراء الماضي يؤكد أنّ إجهاض كثير من الجهود كان بسبب الاستعجال .. والاستعجال يجعل همّ النتائج وهاجسها عِبئاً على المنهج، فيُبْدَأ بإسقاط فقرات أساسية من المنهج بتوهم شدتها وإعاقتها السير، وما يلبث أنْ يسقط المنهج ومعه المشروع كله، دون الغاية..!

وأقول للمستعجلين كم مكث الصليبيون في احتلال القدس؟ وما أجلاهم إلا مشروع إسلامي متكامل، وليس إغارة أو معركة..! والحديث في تاريخ الصليبين وإجلائهم من ديار المسلمين يطول، وفيه من العبر الكثير الذي نحتاجه في محنة المسلمين اليوم .. وأتحدث بالإشارة السريعة إلى حادثة تؤكد أنّ مشروعاً إصلاحياً كاملاً أُعدّ لإجلاء الصليبين، يبدأ بإصلاح ما فسد من دين الأمة، والبحث عن مزالق الانحراف وبؤر الفساد. كل ذلك كان تمهيداً ضرورياً للمعركة الفاصلة .. وأبرز مثال، والأمثلة كثيرة، أنّنا نُفاجأ بصلاح الدين الأيوبي رحمه الله يُحول هدفه من القدس إلى القاهرة لإسقاط الدولة الفاطمية القرمطية الشيعية، لماذا؟ لأنّ النظرة كانت نظرة منهجية شاملة، وليست نظرة ضيقة قاصرة، تستوعب الواقع بكل ما فيه، وتسعى للتعامل مع كل مواطن الخلل في حياة الأمة، ومن ضِمنها الاحتلال الصليبي، ولم تكن تقتصر عليه..! وكانت تلك النظرة الكلية تقضي إزالة ذاك الدخيل في حياة الأمة الذي كان يُمكّن لبقاء الصليبين، لقد كانت الخاصرة اليسرى للأقصى وما حوله، وهي مصر بيد طائفة منحرفة عدوة لله ورسوله، فهي أقرب إلى الصليبين من قُربها من جسد الأمة الإسلامية..! فهل من مدكر..؟

وكم لبث اليهود في فلسطين ولا يزالون، رغم أنّ الحركات والمنظمات والفصائل وخارطات الطريق، وأساليب التحرير فاقت الحصر، ولأنّ كل ذلك حدث والأمة غائبة، ولا مشروع بلا أمة، ولا أمة بلا مشروع … فلم يأت كل ما حُشد بخير حتى الآن..! فإذا سلّمنا أنّ العمل من أجل الإصلاح لِما فسد من أحوال المسلمين لا بُد أنْ يبدأ بنفخ روح جديدة في الأمة المحتضرة قبل أي شيء آخر، وعلى هذا المسار تجب مرعاة الآتي بعناية: ما دام بعث الأمة من جديد عملاً دعوياً تربوياً فإنّ طبيعة هذا العمل لا تقبل السرعة واختصار الزمن وحرق المراحل، بل لا بُد من أنْ يبلغ الكتاب أجله، ويستوفي شرائطه.

وما أُحب أنْ أُؤكد عليه: أنّ العمل الدعوي التربوي ليس بالضرورة أنْ يستوعب الأمة كلها، فدون ذلك خرط القتاد، وإنّما يستوعب أمة من الأمة، وهي الشرائح الفاعلة عادة، وهذه من الطبائع البشرية في كل تجمع بشري، في أنّه لا يتحرك بكل مكوناته نحو أهدافه، إنّما الفاعلية فيه لقلة لها من القدرة على الفعل، ومن سعة النظرة للأمور، ومن حمل الهمّ العام، ما يُغطي الأدوار الغائبة، للأكثرية الذين ينتظرون أنْ يُمطروا بدعوة غيرهم..! وهم من أسماهم ابن القيم رحمه الله بأصحاب المعاش والتجارات، الذين يحصرون همّهم واهتمامهم بدوائرهم الخاصة..! ولدى تجاذب الحديث في موضوع (أمة من الأمة) مع أخ كريم، أثلج صدري بفكرة كان قد قرأها في إحصائية عن أنّ الكتلة البشرية الفاعلة في عجلة الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية هي مليون شخص من أصل كل سكانها، وتكون النسبة قريبا من 3-4 بالألف، ولقد طرت بالفكرة فرحاً، لأنّني ما حدثت أحداً بمشروع بعث الأمة بالدعوة والتربية إلا ووجهت بسؤال: وهل هذا ممكن..؟ وكم من الوقت يستغرق..؟ وحين يُطرح على الناس أنّ الإصلاح يقع على كاهل أمة من الأمة، تكون النواة لنشر الخير (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تبدو المهمة في نظر الناس معقولة مقبولة ممكنة، فيُقبلون على واجباتهم بثقة وأمل..! والحمد لله على فضله العظيم.

وينقدح في ذهني الآن وأنا أكتب الآية السابقة فكرة أنّ الله وصف تلك الأمة من الأمة بقوله (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فأقول هم مفلحون عند ربهم في الآخرة، وهم مفلحون في تحركهم في دعوتهم وإصلاحهم لمجموع الأمة في الحياة الدنيا، فداخلني، والحمد لله والمنة، تفاؤل كبير أحببت مشاركة القراء به.

تساؤلات وردود:

حكمة جميلة تلك التي تقول: (إنّ الكلام الطويل يُنسي آخرُه أولَه). ولا أُريد لموضوع الأمة أنْ يُصبح كذلك، فما دمت قد قدمت أساسيات الفكرة فلأغلق الموضوع .. ورأيت أنْ أجعل الخاتمة رداً على مجموعة مما وردني من تساؤلات أو استفسارت أو حتى اعتراضات.! وأحببت أنْ أُشير إلى أهميتها على أنّها زيادات توضيحية، لا غنى عنها، ولعلها تكون إضافات إلى الموضوع، نَدَّ عن قلم الكاتب بحثها فاستدركها آخرون، وهي ولا شك إثراءٌ يُعَض عليه بالنواجذ.


* هل الأمة غائبة أو محتضرة فعلاً؟

ما يزال كثير من المسلمين غير مقتنع بأنّ الأمة غائبة، لأنّها غثائية، أو محتضرة، لأنّها ليس لها أثر أو تأثير في ما يُواجهه المسلمون اليوم. والمسلمون اليوم في عالم أكثر من فيه قد شُحنت نفوسهم بالكراهية للإسلام بسبب الخوف منه إنْ انطلق أهله كما أراد الله لهم، إضافة إلى ما عندهم أصلاً بدافع التعصب .. وأرادوها حرباً استباقية قبل أنْ ينطلق (المارد) وهم واثقون من تلك الانطلاقة، أكثر من بعض أهل الإسلام .. فشعورهم بالخطر، بل الخوف، كبير. والدليل العناوين التي صارت ترى في الصحافة والأدبيات منذ الثمانينات تحمل مصطلحاً شاع في العالم اليوم وهو (الخوف من الإسلام) ((Islamphobia فلو أنّ الأمة حية واعية لاختلفت اللعبة السياسية على الساحة الدولية، من رمي الإسلام وأهله عن قوس واحدة، وهي أكبر وأخطر من تسميتها (بالحروب الصليبية الجديدة)، كما يرى بعضٌ تسميتها، إلى دراسات لفهم الإسلام، ليس بالضرورة لاعتناقه، إنّما لمعرفة طرق التعامل مع أهله، لأنّهم قوة لا تُتجاهل في العالم .. وإلى خطط ومشاريع للتعاون مع هذه القوة البشرية، والكتلة الاقتصادية ذات المصادر المتنوعة وبخاصة الطبيعية منها .. ولو أنّ الأمة كانت حاضرة تحضن أبناءها، وتدفع عنهم، وتُشيع فيهم الأمان، وأنّهم بعد الله، يأوون إلى ركن شديد، هو الأمة، لما خرجت أخطر ظاهرة أشغلت العالم بأسره اليوم وستبقى تشغله ما دامت أمة الإسلام غائبة، وهو الإرهاب.

وكما ذكرت في كلام سابق، فإنّ الحق والصدق والواقع تُحتم علينا أنْ نقول: إنّنا في الوقت الذي ننفي فيه أشد النفي أنْ يكون في الإسلام وتعاليمه دعوة للإرهاب، فإنّنا نعترف، وبالشدة
نفسها، أنّ بين المسلمين إرهابيين، وأنّ فيهم من يشجعهم .. ولو كانت الأمة حاضرة لانتفى الظلم الذي ولّد الإرهاب وما زال .. وكل المحاولات في العالم لإنهاء ما يسمونه (الإرهاب) فكّرت في كل سبيل للمعالجة، إلا إنهاء الظلم الذي ولّد الإرهاب، واستفز مرتكبيه، لماذا..؟ لأنّهم مفترون.

أوربا، وأكثر دولها قوية قادرة، وجدوا بالتجربة والدراسة والعقل والمنطق أنْ لا وجود للتفرد في عالم اليوم، إنّما الدّور دور الكيانات الكبيرة، ولعل ذلك يُتعلم ويُستفاد من الحياة البحرية، في أنّ الغلبة للأسماك الكبيرة فيه فقط. فتنادى الأوربيون لإقامة وحدة فيما بينهم تتجاوز التناقضات والخصوصيات، وما أكثرها، كي لا يسهل ابتلاع أوربا دولة دولة من (سمكة كبيرة). والمسلمون اليوم، كل شيء في دينهم وحياتهم وآمالهم وحاضرهم ومستقبلهم يدعو إلى الوحدة لأنّها الأمر الطبيعي في حياة المسلمين، وليس شيئاً طارئاً مفتعلاً، فالأصل قيامها، ولأنّ الاتفاق والتوافق في الثوابت والكليات بين المسلمين لا تحظى بالأقل الأقل منه أي أمة على وجه الأرض .. ويا للأسف فإنّ أهواءهم وبُعدهم عن وحي السماء، زهّدهم بخيرِ ما تتمناه أمة وهو الوحدة، مع توفر كل أسبابها لديهم، ما جعل أسباب الفشل والشقاء تغلب في حياتهم أسباب النجاح والسعادة.

وأختم هذه الفقرة بمثال صارخ من الواقع القريب يكاد يكون القول الفصل، والبرهان الساطع على غياب الأمة اليوم، لمن ما زال يُماري في ذلك: بالأمس القريب اجتمع في القاهرة خمسمائة عالم مسلم يُمثلون الأمة جمعاء، وهددوا وأبرقوا وأرعدوا، وأعلنوا الجهاد المقدس في سوريا..! فهل حركوا شعرة واحدة لدى أعداء الأمة..؟ ولو أنّ خمسة زعماء لدول في العالم، بل لو أنّ وزيرَي خارجية اجتمعوا وأصدروا بياناً مشتركاً لهزوا جزءاً من العالم فما السبب؟ إنّ علماء المسلمين ليس وراءهم أمة، إنّما أمامهم ووراءهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، أسماؤهم وأشخاصهم، وعمائمهم ليس إلا، فريحهم ذاهبة، وهم والأمة في الغيبة سواء. ولو بحثوا بجد عن أدوارهم الحقيقية لوجدوها بين المسلمين، دعاةً إلى الله على بصيرة لإحياء الأمة المحتضرة، وحضور الأمة الغائبة، ولما كان هذا الهوان الذي يعيشه المسلمون اليوم .. ولَمَّا لم يكن ذلك الأمر العظيم الذي يُبريء الذمة، ويُحيي الأمة، اختُزل دور العلماء بالاجتماع والشجبْ، فتؤدى (أعظم المهمات) وحسبْ، فما أعظمه من خطبْ..!

* هل سنُترك لمشروعنا العظيم، بعث الأمة، دون إعاقة أعداء الإسلام لنا؟

الجواب كرد فعل أولي مع الاختصار نعم..! وسيأتي التفصيل. والحقيقة، إنّه سؤال واقعي منطقي ذكي، وكل من يُلح عليه هذا السؤال سيجد عنده الجواب حاضراً، لا … يستلهم الجواب مما مضى. وبالفعل فإنّ الجزء الأكبر من القرن الماضي سجل هجمات شرسة على الإسلام والعاملين له، على أكثر من أرض، وصار ذلك ديدن ذلك القرن .. فهل قادم الأيام مختلف عن ماضيها؟ الجواب من وجوه:

أولاً: إنّ الأوضاع لا تبقى على حالها، وإنّ الواقع الجديد الذي جاء مع الربيع العربي، وأبرز سماته سقوط الأنظمة الشمولية في المنطقة، وسُطوع نجم الحرية بعد أُفول طويل عن المنطقة، يُبشر بعد توفيق الله بواقع متغير، للحرية فيه حضور كبير .. ولا يحملن الناس، وقد تعثرت الأحوال في أكثر البلدان التي مر بها الربيع العربي، على الإحباط، وبعده اليأس وتصديق مقولة إنّ الربيع العربي قد تحول شتاء قارساً .. إنّ التغير والتحولات الكبيرة بعد الأحوال الراكدة، والفساد العريض والطويل، لا بُد لها من مخاضات، فالولادة عسرة ولا شك لكنّها ستكون، بإذن الله. ويتحقق الكثير من الأهداف، وتعود الحرية المفقودة طويلاً لتسود.

ثانياً: إنّ المسلمين لا تتحقق أهدافهم بالمشاركة في الحُكم بعد سقوط الأنظمة، فدولة الإسلام الحقيقية، وليس المُدّعاة، لم يحن وقتها بعد، إلا بعد قيام الأمة المسلمة حقاً، إنّما الغنيمة الكبرى لهم أعظم بكثير من المشاركة في الحُكم، وأستطرد قليلاً لأقول كلمة جريئة، لا تُعجب كثيرين، ولا يقولها كثيرون وإنْ آمنوا بصحتها، لكنْ واجب النصح لله وكتابه ورسوله وللمسلمين تُحتم قولها: (إنّ مشاركة المسلمين في الحكم عقب سقوط الأنظمة إثم شرعي، وأي إثم..!). والسبب بسيط، لأنّ الأمة غائبة. ولنْ يكون حُكماً إسلامياً حقيقياً، إنّما العملية اقتسام غنيمة، وصفقات سياسية، (يتأسلم) فيها العلماني، و(يتعلمن) الإسلامي، والعمل مزدوج من تحت الطاولات ومن فوقها .. ما هي الغنيمة التي يُمكن أنْ يخرج بها المسلمون إذن..؟ إنّها الاستفادة من الحرية التي تأتي بها تغييرات الربيع العربي، وقد حيل بين المسلمين وبينها طويلاً، وتهيئة النفوس وتعبئتها للعمل الجاد والمؤصل في الدعوة على بصيرة، وبالتربية والتصفية، لبعث الأمة من جديد .. ونكون على الطريق الصحيح لتحقيق الأهداف الشرعية
الكبرى بالإخلاص، والتأصيل المنهجي، والترتيب المنطقي الشرعي، إنّه كما نُردد دائماً: مشروعنا الإسلامي العظيم لإحياء الأمة. وعندئذ يأتي ما غاب، وينجح ما تعثر، ويقترب ما بَعُد، وتقوم الحياة الطيبة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ). والابتعاد عن بؤرة التسابق بل الاقتتال على الحُكم، ودوائر المعترك السياسي سلامة في حد ذاته، وصيانة للعمل المؤصل من أجل الإسلام أنْ لا يُواجه. لأنّه يخرج بالمسلمين من دوائر المنافسة والتحدي .. كما أنّ المتكالبين على الحكم لا يعودون يرون في المسلمين وتحركهم باتجاه مشروعهم خصماً يُهدد مصالحهم وتسلطهم في المنظور القريب.

ثالثاً: إنّ أكبر ضمان لحرية العمل من أجل بعث الأمة، بعد توفيق الله، حُسن العمل من المسلمين .. فحين يجعلون كل توجههم واهتمامهم لمشروعهم الكبير، وتكون لديهم الرؤية الواضحة عن دورهم على الأرض، ويُدركون أنّ لهم على الأرض شركاء، وأنّ أولئك الشركاء شُركاء منزل، والأصل مع أولئك الشركاء على الأرض، المُوادعة وليس الاقتتال، والتعايش وليس الاستعداء، ما داموا لا يسيئون للإسلام عملاً بقوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ). وقد أوجب الله على المسلمين واجباً تجاه أولئك الشركاء، في دعوتهم إلى الحق، دين الإسلام .. وإنجاز هذا الواجب يقتضي أنْ يُدرك المسلمون أنّ أبلغ وأفعل دعوة للغير تكون بالسلوك والتطبيق العملي الصحيح للدين، أي الدعوة بالنموذج .. وإذا غاب هذا العنصر من الدعوة لا ينفع عندئذ الكلام .. ألم يَأْنِ للمسلمين أنْ ينزعوا من رؤوسهم الأفكار والممارسات الخاطئة واللاشرعية التي جعلتهم مكروهين على الأرض، بل بالتعبير العامي (بُعبع) الأرض .. أليس هذا من كسب أنفسنا، إما بتورطنا في اعتقاد أو عمل يُؤذي الناس ويُغضب الله، ولا يُحقق أي مكسب للإسلام، وإما بسكوتنا عن الخلل، بل الباطل، بدافع العواطف ومجاملة المنحرفين والخوارج .. فكان أنْ حمَّلْنا الإسلام وأهله تبعات ما فعل ويفعل السفهاء منهم.

وآخر وأهم عامل لضمان ألا يصادر حق المسلمين في العمل من أجل المشروع الكبير، بعث الأمة، أنْ يكون عملهم خالصاً لله في النوايا .. وأنْ يكون على وصف الفرقة الناجية، الذي هو هدية نبينا من أجل النجاة (ما أنا عليه وأصحابي)، في تأصيل العمل .. وأنْ يكون العمل مُغلفاً بالحكمة والموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة، بعيداً عن المجاملة والمصانعة في الأسلوب .. فحينما يُصبح التحرك الجديد، بعد الاعتبار بانتكاسات الماضي، بهذه المثابة، فإنّ الله لا يُضيع أجر من أحسن عملا .. ولن يترنا أعمالنا، ونطمئن حينئذ إلى أنّ الله يُدافع عن الذين آمنوا.. وإذا كان الفشل في ما مضى قد أورثنا عُقدة أنّ الأعداء لن يتركونا نؤدي ما أوجب الله علينا، فلنستحضر مع هذا الإرث أنّ عملنا لم يكن على منهج يجتمع فيه الإخلاص والصواب، وإذا عُرف السبب بطل العجب..! ودين الإسلام، دين الله الحق لا يمكن أنْ يستعدي عباد الله عليه ولا على أهله، فهو دين الفطرة الإنسانية .. وما فشل العمل الإسلامي زمناً طويلاً إلا لأنّ المسلمين لم يسلموا من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وهو ما أمرنا النبي عليه السلام بالاستعاذة منه، فكان المقتل.

* اعتراض: (لا … إنّ الأمة موجودة وحاضرة، لكنّ كيد الأعداء عظيم).

حركة الناس، أي ناس، وحياتهم ونشاطاتهم وإنجازاتهم لا تعني أنّ الأمة بخير .. وأضرب مثلاً يساعد على الفهم. إنّ المسلمين يعيشون بالطريقة نفسها التي تعيشها الجاليات الإسلامية في العالم الغربي .. يُمارسون بعض طقوسهم التي تُميزهم أنّهم مسلمون، أما ما تبقى فحياتهم وحياة أسرهم ومستقبل أولادهم مُبرمج، بل مُرتهنٌ في سياق البلد الذي فيه يقيمون .. فماذا يربطهم بالأمة، وقد بعدوا عنها مكانياً، وروحياً وحسياً..؟ لم يبق بينهم وبين أمتهم إلا بقية من عاطفة، تهيج في مناسبات، ثم تتلاشى..! وأثبت الواقع أنّ بعض المُقيمين في تلك الدول يتفاعلون مع قضايا ومشكلات الدولة التي يعيشون فيها أكثر من تفاعلهم مع قضايا أمتهم الإسلامية، بل إنّ بعضهم يتمتعون بالعضوية في مجالس نيابية أو بلدية أو غير ذلك وكل طاقاتهم توجه إلى ذلك .. فهم إذنْ يعيشون، وبحال أحسن من غيرهم، رغم أنّهم بعيدون عن أمتهم، ولا أقول مُنسلخون.

مرة أخرى هذا حال جميع المسلمين في ديار الإسلام في حال غياب الأمة .. لا نقول إنّ المسلمين يموتون في غياب الأمة..! إنّ لديهم حياة، وعندهم حركة كأعضاء وخلايا جسد، يعيش الحياة النباتية، وقد سبق تشبيه الأمة بذلك .. إنّ الأمة محضنٌ وسياج وحصنٌ وعز وحياة وحركة، وانتماء يترتب عليه تبعات، بل مسؤوليات دنيوية وأخروية، إذ أنّ العمل للأمة عمل للدين، والعكس، ولا انفكاك..! وحياة الأمة وعزها هو الاستخلاف والتمكين في الأرض، الذي وُعد به المؤمنون (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون).

أما في الآخرة، فالفكرة تتأكد لو دققنا النظر في بعض الأمور العبادية، حيث إنّ الشارع رتب على بعض الأعمال الفردية العبادية أجراً وثواباً دنيوياً قبل الأخروي، يصب في مصلحة الأمة، والشرح يطول وللاختصار أورد دليلين حول هذا السياق:

أولهما: عن النعمان بن بشير قال: (أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ – ثَلَاثًا – وَاللَّهِ لتقِيمُنَّ صُفُوفكُم أَوْ ليخالفنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُم). قَالَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يُلْزِقُ كَعْبَهُ بكعبِ صاحبهِ ومنكِبَهُ بمنكبِ صاحِبهِ). وفي رواية: (أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ). وهل تعني مخالفة القلوب والوجوه بين الأفراد، إلا ذهاب ريح الأمة، وأنّ يُصبح أمر الأمة فرطا.

وثانيا: قوله عليه السلام: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر). وهو ربط منه صلى الله عليه وسلم بين خيرية الأمة جمعاء وأعمال عبادية يقوم بها الأفراد.

وشرائع الإسلام، مع أنّها أعمال من واجبات الأفراد، إلا أنّها تُجسد كيان الأمة، وتُظهر وحدتها، وتُبرز عزتها وشوكتها، فتبقى مرهوبة الجانب، مصونة الحق، لا يعدو عليها عادٍ.! وعلى الناحية الأخرى، فإنّ القيام بتلك الشرائع يُعمق انتماء الأفراد للأمة، وتتماهى تلك الكيانات الصغيرة مع ذاك الكيان الكبير فيغدو المسلمون كما أراد لهم ربهم ونبيهم جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له الجميع بالحمى والسهر .. فأين تلك المعاني والحقائق في حياة المسلمين اليوم..؟ بل أين الأمة..؟ ولننظر إلى صلاة الجماعة وصلاة الجمعة، ولنتأمل في مواقيت العبادات التي يلتزمها المسلمون في كل مكان، وما تحمله من معاني الوحدة، لا يُغيرها نأي الديار، ولا لون البشرة، ولا أي انتماء أرضي آخر .. كل ذلك يؤكد في نفوس المسلمين مفهوم الأمة الواحدة، بأسلوب تربوي عملي مُعمّق، حتى يغدو ارتباط المسلم بالأمة عفوياً وتلقائياً بل فطرياً كارتباطه وانتمائه لأسرته .. وحُق لكثير من الأجيال الشابة المسلمة أنْ يَضْمر عندهم شعور الانتماء للأمة، وما يُشيعه ذلك الشعور في النفس من معان راقية سامية واعدة، لأنّهم فتحوا أعينهم على أمة غائبة، محتضرة، سُرق دورها، وصار يتكلم باسمها حكامٌ أو أحزابٌ أو جماعاتٌ، هُم بعض الأمة، ولا يُمثلونها، لكنّهم ظُنَّ أنّهم الأمة. وصار التغني بالأمة أناشيد وشعارات مفرغة من كل مضمون.

إنّ الأجيال التي تُربى في حال حضور الأمة وقوتها يخرجون أسوياء كالطفل الذي نشأ في حضن أمه تنتقل إليه بالتأثير ودفء المحضن، كل المشاعر الطيبة النبيلة تجاه الأم والأمة .. وغياب الأمة الطويل، كغياب الأم، حري بصُنع أجيال عاقةٍ، بل مُعاقةٍ عن العمل الجاد النافع..! وقد أضاف المسلمون إلى واقعهم المتردي اليوم مشكلة فشلهم بل فشل نُخبهم في تشخيص الداء، مما يُبعد لحظة الشفاء. ألم يَأْنِ للمسلمين أنْ يقولوا بصوت واحد: الأزمة غياب الأمة..! فلتُبنَ الأمة من جديد، ولنوفر كل جهد لذلك الهدف الوحيد، وكفانا مغالطة للحقائق.

وهل التمكين الذي تحدث عنه القرآن تمكين لأفراد..؟ أم للأمة..؟ ولننظر إلى خطاب الله في القرآن الكريم، وإلى خطاب النبي في السنة، هل هو خطاب مفرد؟ ولنأخذ مثلاً خطاب ربنا: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وخطاب ربنا: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) ، فهل هذا خطاب لأفراد أم لمليار مسلم ونيف..؟

* وردت تساؤلات عن دور التنظيمات الإسلامية، وهل هي ضرورية في عملية بعث الأمة؟

الموضوع طويل الذيل، ولكن لا بُد من إجابة مختصرة قدر الإمكان بإذن الله. ولنبدأ الإجابة بسؤال عن حكم الأحزاب والتنظيمات الإسلامية؟ واختصاراً، إنّي لأدين الله بأنّها غير جائزة، لما يأتي:

1. إنّه بالتجربة وعلى مدى قرن أو أقل بقليل ثبت أنّها تُفرق بدل أنْ تُوحد، وتُضعف بدل أنْ تُقوي، لأنّها نازعت أخوة الإيمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وأحلّت مكانها العصبية الحزبية. ووزعت الولاء بدل أنْ يكون خالصاً لله والرسول ولما جاء عنهما، وللمؤمنين عامة، فأشركت معه الولاء للحزب وقيادته وأعضائه .. ولا يجد الباحث في أحداث نصف القرن الماضي واقعة ذا بال، لتغيير الواقع المتردي في المنطقة الإسلامية يُسجل لصالح التنظيمات الإسلامية. بل الملاحظ ارتجال، وتفرد وتخبط، يتحرك بردود الأفعال، وأهدافه السلطة..! والحديث ذو شجون، ولمّا أغرت اللعبة السياسية من أسموا أنفسهم بالأحزاب السلفية مؤخراً، رأينا منهم ما رأينا من غيرهم، لأنّهم وقعوا في المطبات نفسها .. وكأنّ المناهج أُعدت للكلام النظري والكتابة على الورق والخطب، وكأنّ الأيام والأحداث لم تُعَلِّم ولم تُبَصِّر..!

2. إنّ فكرة الحزبية والأحزاب استوردها بعض المسلمين من دول العالم التي لا تدين بالإسلام، وأنا لا أناقش الآن صلاحية تلك الفكرة لأربابها في مُجتمعاتهم، فقد تكون صالحة لهم .. لكن بعض المسلمين أرادوا تطبيقاتها في المجتمع الإسلامي، دون تبصر، فما زادهم ذلك إلا تخبطاً، فليس بالإسلام التزموا، ولا إلى الديمقراطية على طريق أهلها احتكموا، فضاعوا وأضاعوا..! إنّي وبجرأة وصراحة أردّ مبدأ الحزبية في المجتمعات الإسلامية تماماً، ولا أجدني بحاجة إلى كبير عناء أو كثير كلام للدفاع عن رأيي، فأقول باختصار قبل التفصيل:

أردّه لعدم الحاجة إليه، فدخوله حياة المسلمين أحدث الإرباك في العمل، وأخذ مكان النافع المفيد بل الشرعي، وفوت الفرص .. وأقول إنّ مجتمعات الكفر تُحْكَمُ بما تُخرجه عقول النخب فيها، والدساتير التي هي أساس العمل من صنع تلك العقول، لأنّهم لا يملكون ثوابت .. وتوخياً للصواب وعدم انحراف المسار نحو أهواء بعض العقول، لانعدام الثوابت الحاكمة، فإنّهم يُقيمون من بعض العقول حارساً ومُراقباً ومُصوباً لبعضها الآخر، ولا سيما الذين يُديرون دفة الحُكم. ومن هنا نشأت فكرة الأحزاب المعارضة، وتداول السلطة بينها، بأساليب تُنظمها الدساتير والقوانين، وهذه هي أصول الديمقراطية .. ولما كانت المجتمعات الإسلامية تملك الثوابت الراسخة، وتنفرد بتلك الخصيصة عن كل أهل الأرض، أعني ثوابت الوحيين المنزلة من فوق سبع سماوات، لتُنظم الحياة على الأرض، فالصوابية في الحركة مستيقنة ما التُزم شرع الله وحُكِّمَ، وهو المنهج والمعيار والمقياس للمعايرة وتقويم الأداء .. وكفى بنصوص الوحيين التي هي فوق الجميع، لا تحابي أحداً ولا تُعادي أحداً، تضع الناس أمام مسؤوليتهم، وسيُسألون عما كانوا يعملون بين يدي بارئهم .. فهي الحارس، والمُصَوِّب، والضامن للاستقامة، فما دور الحزبية والأحزاب في المجتمعات المسلمة إذن..؟ إلا أنْ يكون الهدف الحقيقي منها، تقليص سلطان الدين في تلك المجتمعات، تمهيداً للحكم بغير ما أنزل الله، وقد حصل.

3. إنّ الحزبية والأحزاب هي من أصول النظام الديمقراطي في الحكم الذي يقوم على مبدأ المنافسة بين الأحزاب، ما دام كل حزب أو جماعة يصدر عن عقول مؤيديه، فالتنافس بين العقول إذن .. فعلام يكون التنافس في المجتمع المسلم، وبين أيديهم نظام مُتكامل مُنزل من الخالق لمصلحة من خلق؟ وإذا كانت الديمقراطية في المجتمعات الغربية تُؤمّن للناس المطالب الإنسانية المشروعة كالحرية، والمشاركة في حُكم البلد فإنّ الإسلام يضمن كل ذلك وبمراقبة الله تعالى والخوف منه، من الحاكم والمحكوم على السواء، وبقوة الدليل الشرعي.

وأخيراً، فما دامت الحزبية والأحزاب، بنت الديمقراطية، فلن تستطيع ممارسة دورها إلا في ظلها .. والكلمة التي أُريد قولها دون مواربة أنّ الديمقراطية والإسلام لا يلتقيان في شيء، وما من أمر تُحققه الديمقراطية إلا جاء الإسلام بخير منه وأحسن تأويلا .. ويحضرني حديث نبوي صحيح يتصل بالسياق الذي نحن في صدده، يقول صلى الله عليه وسلم: (لاَ حِلْفَ فِى الإِسْلاَمِ، وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إِلاَّ شِدَّةً). ونفي الحلف في الإسلام نفي لِما كان عليه أمر الجاهليه من التحالفات بين القبائل المتنافسة، حتى لو كانت على الخير ونصر المظلوم وإعانة المحتاج، لأنّ الإسلام قد جاءت شرائعه بكل ذلك على أنّها واجبات شرعية أمر بها الله ورسوله، فلا حاجة لتواضع الناس عليها، فأمر الدين أقوى وأفعل وأحكم مما يأتي به البشر .. ويُؤكد النبي عليه السلام أنّ كل أحلاف الجاهلية الخيّرة يقبل بها الإسلام، ولا يزيدها إلا شدة، بمعنى أنّ الإسلام جاء بما هو خير وأشد وأفعل. ونقيس الأحزاب على الأحلاف فما جاء به الإسلام خير وأبقى .. وهذا هو التاريخ الإسلامي في أزهى عصوره حقق الخير كل الخير للناس على كل صعيد، بما أنزل الله، وجعل ما أنزل تاماً مُتمِّمَا لكل ما يحتاجه الناس في دنياهم من أجل خير حياةٍ على الأرض، إن اتقوا … يقول تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) . فأين الديمقراطية والحزبية وكل ما تواضعت عليه عقول البشر مما أنزل الحق تبارك وتعالى..؟ ولكنْ يأبى المسلمون أو بعضهم إلا أنْ يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.

وبالشدة نفسها التي يرفض بها الإسلام الديمقراطية، فإنّه يرفض الظلم والاستبداد بالحكم ومصادرة الحريات، وعدم إقامة العدل بين الناس، ومن درس الإسلام عرف هذا! وهل يجوز للمسلمين، أو بعضهم أنْ يُصغوا لمن يُريدون أنْ يُطفئوا نور الله بأفواههم، وجعجعتهم وافترائهم الكذب، ويصيروا سماعين لهم..؟

ولعل سائلاً يسأل: وماذا عن الدور الدعوي للأحزاب الإسلامية؟ وبصراحة أقول: كل ما يُقال عن الدور الدعوي للأحزاب الإسلامية مُبالغ فيه، وهو ضامر جداً، للانشغال عنه بالعمل الحزبي التنظيمي، ولطغيان الدعوة إلى الحزب على الدعوة إلى الإسلام، إضافة إلى الانغماس في عمل سياسي ليُؤكد حضور تلك الأحزاب في الميدان السياسي، حتى لا يُخْرجوا من اللعبة (ومن المولد بلا حمص)، فماذا بقي عندهم من عمل للأمة..؟


* كيف تكون مشاركة المسلمين في العمل السياسي، في الأحوال المعاصرة، وعلى ضوء كل ما ذكر، إذن..؟

بعد أنْ بَيّنا أنّ الإسلام والديمقراطية لا يلتقيان، وأنّ الحزبية، حتى الإسلامية، أو ما اصطلح على تسميته (الإسلام السياسي) لا تحقق أهداف الإسلام التي أمر الله بها عباده المؤمنين، نقول: إنّ تحرير المنطلقات لتكون شرعية محضة، والنظر إلى الماضي القريب لدراسة مسيرة الأحزاب الإسلامية وما أنجزته، واستحضاراً لكل ما ذُكر عن الديمقراطية والحزبية تقضي بالآتي:

لا ينبغي بل لا يجوز أبداً أنْ يدخل المسلمون شركاء في أي عمل سياسي ليسوا فيه في موضع الرأس. حتى لا يُلجئهم ذلك إلى صفقات مع شركاء أقوى منهم وأبرزهم العلمانيون، الذين يستقطبون معهم كل من ليس إسلامياً، وقوتهم يستمدونها من غياب الأمة، وضياع جموع الناس في خضم ما يخترقهم ويُضخ في أذهانهم من دعوات ضد الدين. فتجارب الماضي المريرة تكفي .. ومهمتهم الشرعية يوم يكونون بعيدين عن رأس العمل السياسي، أنْ يكونوا بين الناس يدعونهم إلى الدين الحق، بالدعوة على بصيرة، وبالتصفية والتربية، سيراً على طريق إيجاد الأمة المسلمة (أمة من الأمة) من جديد، ووصولاً إلى الدولة المسلمة التي ستفرزها الأمة المسلمة تلقائياً، ويكون المسلمون فيها في موضع الرأس. عندها يُمسكون زمام الأمور ويحكمون بما أنزل الله، ويمدون أيديهم من موقع القوة وسيادة الدين، لكل مُؤهل يُريد التعاون لبناء الوطن مهما كان انتماؤه، مُعززاً مُكرماً ما دام يحترم الدين وأهله، ولا يُقيم حجاباً صاداً من العصبية ضد الإسلام، رائدهم قول ربهم: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وإنّ واجبات كالجبال تنتظر عملية الإصلاح بعد سنوات بل قرون من الضياع، وما كان من الممكن أنْ تجري والأمة غائبة، وسلطانها قاصر .. مشكلة هذا الطرح أنّه لا يُرضي المستعجلين من المسلمين، لأنّ عامل الوقت فيه هام، ولا يقبل الاختزال وإحراق المراحل، والقفز فوق الغايات، بل لا بُد أنْ يبلغ الكتاب أجله .. لكن، بعد التجارب المريرة لا يوجد بديل آخر، ومن لديه البديل فلْيُدلِ بدلوه .. وإنا منتظرون .. وعلى طريق بعث الأمة ماضون، وبمنهج (ما أنا عليه وأصحابي) نستهدي ونستضيء، وبأمر الله ورسوله نصدع.

وقدر الله أنْ يكون بُناة الأمة الأوائل، هم الغرباء الأولين، وأنْ يتنادى لبعثها من مرقدها اليوم الغرباء الآخِرون .. وقد يكون الحديث عن الأمة، وبعثها من جديد، غريباً إلا على الغرباء، فطوبى للغرباء … والحمد لله رب العالمين