Skip to main content

الانْتِمَاءُ… تَحْقِيقَاً، وَتَدْقِيقَاً، وَتَعْمِيقَا

By الثلاثاء 19 جمادى الأولى 1436هـ 10-3-2015ممحرم 21, 1441دراسات

قبل البدء بالموضوع، أستأذن بملحوظة أراها نافعة بين يديه، وهي من باب النصح، فأقول: إنّ من لا يستطيع أن يستبعد من خاطره مجموعة الافكار الآتية، والتي هي عند بعض الناس قواعد، فلن ينتفع بما سيطرح، والدين النصيحة، وما هي هذه الأفكار؟

1. التعامل العاطفي (الذي لا يعتمد العلم) مع الإسلام.

2. النظرة الساذجة للإسلام، والفهم العامي له، متمثلاً في أنّ كل تدين مقبول، (وأنّ الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق).

3. اعتبار ضغط رأي الأكثرية، وأنّه مُرَجِحٌ في الإسلام. وكذلك الخضوع لضغط الواقع، وجعله المعيار في الخطأ والصواب.

ولمن أفلح الآن في تحييد نفسه، عن هذه المؤثرات أقول: الذي استوحيت منه هذا العنوان بل هذا الموضوع: آيات وقصة .. أما القصة:

فعن أحد الدعاة (رحمه الله) أنّه كان ذات مرة نزيل فندق في بلد أجنبي يؤمه كثير من العرب والمسلمين، وقد طالت إقامته هناك، وكان معظم جلوسه في بهو الفندق. يقول: لما كان يوم الجمعة خرج أعداد من النزلاء ظهرا فعرفت أنّهم مسلمون خرجوا لأداء الصلاة. ولما كان الأحد خرج آخرون فعرفت أنّهم نصارى. وكان السبت فخرج أقوام فعرفت أنّهم يهود. والذي يدعو للعجب أنّ أشخاصاً لم يخرجوا لا السبت ولا الأحد ولا الجمعة فقلت: إلام ينتمي هؤلاء..؟

والشيخ جعل من تلك القصة مدخلا لمعالجة مشكلة عدم الإنتماء، ودراسة واقع اللامنتمين (للدينٍ طبعاً). وليس هذا الذي يشكل هم بحثنا الحاضر..!

ليست غاية البحث التعامل مع من لم ينتم للإسلام، ولم يرفع بذلك رأساً، فلهؤلاء حديث آخر. لكن البحث اليوم غايته النظر في أحوال من يظنون أنّهم منتمون للإسلام، وليسوا بمنتمين. إذ أنّ الانتماء بين المسلمين اليوم، ليس مفقوداً أو معدوماً بالنظرة السطحية، لكنّه بالنظرة الواعية المدققة، مُفرغ من المحتوى، عارٍ عن المضمون، تبرزه السطحية والشكلية، وتسقطه الحقيقة والموضوعية. وهمُّ هذا البحث معالجة قضية الانتماء للإسلام وتحريكها من الركود إلى الفاعلية .. ومن الدنيوية إلى الأخروية.

وأما الآيات، وهي بيت القصيد، فلقد وجدت نفسي في وقفة تأمل وتبصر مع قوله تعالى:

.(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

. (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).

. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وما استوقفني تحديداً من الآيات هو: (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) و (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

ولم أفهم من هذه الكلمات الزاكيات إلا معنى التأكيد الشديد على أمر الانتماء، وأنّ الانتماء هو المدخل الأساسي للتدين، وهو الأساس الذي يقوم عليه.

وانطلاقاً من هذا الفهم، أجدني أسائل نفسي، وأرجو مشاركتي هذا التساؤل: ماذا يكون لو أنّ امرءاً دعا إلى الله، وعمل صالحاً، من منظوره الخاص، ولم يقل إنّني من المسلمين؟ وماذا يكون دين وتدين إنسان لم يعلن بقوله وفعله إسلام وجهه لله؟ وماذا يكون لو أنّ ولداً من ذرية آدم مات على غير الانتماء للإسلام؟ أيكون هؤلاء مقبولين عند الله؟

الجواب بكل ثقة واطمئنان، لا. وقد يعن لمعترض أن يعترض ويقول: وما أدراك؟ أجيبه: وهل جاءت تلك الآيات إلا لتقول ذلك وتؤكده..؟ وهل لمستنبط موفق أن يفهم غير هذا..؟ فالنصوص المذكورة إذن، وغيرها كثير في كتاب الله وفي سنة نبيه عليه السلام، تؤكد أهمية وضرورة الانتماء في حياتنا الدينية.

وحتى نخرج من بحثنا بنتيجة مرضية لا بد ابتداء من التفريق بين انتماء شكلي، لفظي، وراثي، سطحي، ساذج .. وانتماء فعلي حقيقي علمي .. وللإيضاح فالفرق بينهما كالفرق بين رجل يملك مئات الألوف من أوراق نقدية حقيقية، والآخر يملكها مزورة، هذا يتنعم والآخر يدخل بها السجن.

إنّ الانتماء الحق والصحيح لهذا الدين، هو العنوان الواضح والكبير والمعلن الذي يجب أن يتوج كل عمل يعمله الإنسان، وهو المنطلق العقدي الذي يشكل النية الصادقة من وراء كل عمل ديني، والله لا يقبل عملاً لا تسبقه نية متوجهة إليه تبارك وتعالى. وهو بالنتيجة ضمان لقبول العمل عند الله .. وإنّ غياب الانتماء الحق فقدانٌ للدين، وتحول بالتدين إلى شعبة من شعب النفاق .. والتلازم بين التدين والانتماء كالتلازم بين اشتعال النار والضياء من حولها، وبين جريان الماء والخضرة على شاطئيه .. فغياب واحد برهان حتمي على غياب الآخر.

وإذا غاب الانتماء الحق والصحيح، تسلل الشرك الذي يخرج من الملة أو يحبط العمل. والشرك أنواع فوق الحصر، وكأنّي ببعض الناس لغلبة النظرة السطحية عندهم، ولتحكيم العاطفة في الدين يستبعدون وجود تلك الأنواع غير المقبولة عند الله بين المسلمين، وهم يرون الجعجعة والضجيج، وكثرة الحركة والعجيج، فيحسبون القوم على شيء، وليسوا عندالنقد على شيء.

أعيذها نظرات منك صائبة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

ولاستكمال الإيضاح لا بد من الاحتكام للواقع فأقول:

القادياني الذي يشهد أن لا إله إلا الله ويدعو إلى الإسلام من وجهة نظره (وتعلمون أنّ للأحمدين قناة فضائية تبث 24 ساعة) هل أفلح في ربط انتمائه بالإسلام الحق، وهل يقبل منه ذلك، ولو ادعاه. وأفعاله وأقواله تكذب ذلك. أبسط اتهام أنّه يعتقد بنبوةٍ بعد محمد صلى الله عليه وسلم..؟

والبهائيون الذين يدعون إلى الإسلام بزعمهم ويعتقدون (أنّ الباب هو الذي خلق كل شيء بكلمته وهو المبدأ الذي ظهرت عنه جميع الأشياء). إلى غير ذلك من عقائد منحرفة كتقديس العدد 19 وغير ذلك .. هل أفلحوا في ربط انتمائهم الصحيح بالإسلام الحق..؟ وهل يقبل ذلك منهم لو ادعوه.

والمتصوفة أتباع ابن عربي وعبد الغني النابلسي الذين يصرحون بلا مواربة بعقائد باطلة، من مثل أنّ فرعون مؤمن وأنّه ناج .. هل حققوا الانتماء الحق للإسلام، وهل يقبل ذلك منهم لو ادعوه، وهم يكذبون بعقولهم وأهوائهم وأقوال مشائخهم الله ورسوله..؟

والذين لم يقدروا الصحابة حق أقدارهم، ونالوا منهم، واتخذوهم غرضاً، وقذفوا بعض أمهات المؤمنين، ولم يرعوا لهم حرمة أبداً .. ويوم استهدفوهم أرادوا استهداف النبي واستهداف دين الله، وهم يدعون إلى الإسلام، بزعمهم، بل يزاودون على أهل الإسلام .. هل صح إنتماؤهم له..؟ وهل صدقوا الله ورسوله فيه..؟ وهل يقبل منهم لو ادعوه..؟

ودعاة كثر في فضائيات وأرضيات، يتفننون في أساليب الدعوة وعصرنتها، ويتحمسون لما يقدمون وينجزون، ولسان حالهم يقول (ليس في الساحة غيرنا. ومن يحظى بالقبول مثلنا. وهل ينصر الدين سوانا). وإن تستمع قولهم تتذكر قول الله تبارك وتعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا). ماذا يفعلون..؟ ولمَ يستحقون هذا الوصف..؟ لأنّ السنة عندهم انتقائية مزاجية، ما أعجبهم منها أخذوه ووظفوه لما يريدون، واختزلوا النبوة فيه، وتراه لدى التدقيق ضعيفاً هالكاً. وأما ما لا يعجبهم في السنة أهملوه، ورفضوه، وحشدوا المبررات العقلية والواقعية لإسقاطه، وإن كان من المتفق عليه بين الشيخين .. فماذا يغني عن هؤلاء انتماؤهم المزعوم..؟

أمثلة من الواقع، وفصائل من جند إبليس، لضرب الإسلام والتلبيس على أهله، كبَّرَت من لافتات الإنتماء المزيف، دعائياً، بقدر ما صَغَّرت من حقيقتة فعلياً .. لذلك وجب القول الصريح على مرارته نصحاً وتحذيراً وإبراء للذمة .. والأمثلة كثيرة وكثيرة.

إذن .. إعلان الانتماء لهذا الدين، بالقول والفعل، والعمل بما يقتضيه هذا الانتماء، عنوان كبير لا يصح إيمان بتركه.

وأرجع إلى العنوان، وتلاحظون أنّني لم أقتصر على كلمة الانتماء، لأنّ أمر الانتماء لهذا الدين العظيم، قد اعتراه ما اعتراه من تشويش، وعبث به ما أصابه من انحراف، وعكر صفاءه ما لصق به من ادعاء .. لذلك كان لا بد من تحرير القول في هذا الأمر العظيم الذي هو أصل في الدين ليعود إليه نقاؤه، ويُرد إلى مساره الصحيح، ويصفى من كل ما علق فيه مما ليس منه.

وإنّ وضع مسألة الانتماء موضعها الصحيح ضرورية للمسلم نفسه وللآخرين من حوله. ليعرف أين هو من القبول عند الله أو عدمه، وأين هو من الطاعة وضدها، وأين هو من الالتزام الحقيقي أو الزائف وليميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من المنافق بين الناس كلهم .. ورأيت كل ذلك لا يتحصل إلا بأمور ثلاثة: بالتحقيق .. والتدقيق .. والتعميق.

أما كلمة (التحقيق) فمن معانيها إصابة الحق في الأمر، وإن شئتم فبعبارة أخرى، هو التأصيل على الحق. وعملية التحقيق يجب أن تسبق الانتماء، ليعلم المسلم الذي يرجو الله والدار الآخرة، إلام ينتمي .. وهل يبلغه هذا الانتماء السلامة التي يرجوها..؟ وإذا أردتم الاستدلال بالنصوص، فرأس ذلك كلمة التوحيد، التي تنقل قائلها ومعتقدها من الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الضلالة إلى حقيقة الانتماء .. ولا يخفى عليكم أنّ في هذه الكلمة الطيبة نوعين من التوحيد: توحيد الألوهية، وتوحيد الرسالة أو التلقي .. ومن انتمى إلى دين الإسلام بغير هذين التوحيدين كان انتماؤه باطلاً أو مشوباً بشرك وابتداع. والانتماء غير المحقق لا قيمة له، والأمثلة المطروحة سابقاً شاهدة لذلك.

ومن النصوص التي تؤكد أمر تحقيق الانتماء قول الله تبارك وتعالى لنبيه:

. (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).

. (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ).

فعبارة (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وعبارة (فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) قطع وبشدة لأي سبب من أسباب الانتماء بين المسلم وشكل ما من أشكال الباطل أو الانحراف أو الزيغ.

وبعبارة أخرى، فإنّ مما تؤكده عبارتا (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) و (فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) أنّ الانتماء الحق والصحيح لا يقبل التبعيض .. فيكون بعضه لله وبعضه لغيره، وبعضه للاتباع وبعضه للابتداع، وبعضه للطاعة وبعضه للمعصية .. بل إنّ الآية الأولى تؤكد ذلك في حق نبي الأمة وهو القدوة والأسوة لكل المسلمين.

وفي الحديث الشريف عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تمثيل واقعي عملي للانتماء للاسلام الحق، بتطبيق أحكامه ولزوم أهله وجماعته، يقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِى الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِى إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّى وَأَنَا مِنْهُمْ).

وما أكثر الأحاديث التي جاءت بلفظ: (لَيْسَ مِنَّا) وفيها بيان شاف لقطع دابر انتماء المسلم لكل ما لم يأت به الإسلام لأنّه ليس بحق، وكل انتماء غير مؤصل على ما جاء في الشرع باطل وألف باطل .. وكم من انتماءات ستسقط يوم نسير على طريق تحقيق وتدقيق وتعميق الانتماء .. وكم سنكتشف من بروق خلبية كنا نحسبها ضياء .. وكم من سرابات خادعة كنا نحسبها ماء، وعند تحقيق الانتماء لم نجدها شيئا .. هذا ما قصدت إيضاحه في (تحقيق الانتماء). وإليكم بعض تلك الأحاديث التي تؤكد أمر تحقيق الانتماء سرداً:

. قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من حلف بالأمانة، ومن خبب على امرىء زوجته أو مملوكه، فليس منا).

. وقوله: (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ في النار).

. (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ).

. (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا).

. (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحرله).

وأما (تدقيق) الانتماء، فالمقصود بكلمة التدقيق ما تحمله من معنى الدقة، في أن يعرف المسلم دقائق دينه وما يقتضيه الانتماء الصحيح فعله. وأن لا يكون انتماء المسلم عاماً ضبابياً، غير محدد التفاصيل، يخلط الأمور تضييعاً لحقائقها .. فلو سلم لبشر أمر تحقيق أركان الإسلام، وفرط في غيرها من تعاليم الإسلام، مخادعاً نفسه بأنّ الاشتغال بالعظيم والكبير من الأمور يسقط تبعة التفريط بالصغير. هل ينفعه هذا الانتماء العائم..؟

ولتعلموا الجواب اقرؤوا إن شئتم قول نبيكم صلى الله عليه وسلم: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ).

واقرؤوا الحديث الآخر: (لا ألفين أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).

ويبلغ أمر تدقيق الانتماء خطورته، حينما نسمع عن الصادق المصدوق، حديثاً ترتعد منه الفرائص، وتقشعر الأبدان: ((أبشر يا كعب) فقالت أمه: هنيئا لك الجنة يا كعب، فقال: (من هذه المتألية على الله؟) قال: هي أمي يا رسول الله، فقال: (وما يدريك يا أم كعب؟ لعل كعبا قال ما لا يعنيه، أو منع ما لا يغنيه)).

إنّ أحدنا ليتكلم في اليوم مئة مرة فيما لا يعنيه، ولا يدري أنّ ذلك قد يحول بينه وبين الجنة..! وكيف نقع في هذا..؟ لأنّنا لم ندقق في الانتماء لهذا الدين، ولجهلنا أنّ فوات مثل هذا التدقيق لانتمائنا يوقعنا في محاذير شرعية خطيرة، أو يحرمنا من مغانم شرعية وفيرة .. وسأسرد لكم بعض الأحاديث المؤكدة لذلك:

. قال صلى الله عليه وسلم: (وَدَنَتْ مِنِّى النَّارُ حَتَّى قُلْتُ أَىْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ فَإِذَا امْرَأَةٌ تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ قُلْتُ مَا شَأْنُ هَذِهِ قَالُوا حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، لاَ أَطْعَمَتْها ، وَلاَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشِيشِ أَوْ خُشَاشِ الأَرْضِ).

. (بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِىٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِى إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ).

. (نَزَعَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ غُصْنَ شَوْكٍ عَنِ الطَّرِيقِ إِمَّا كَانَ فِي شَجَرَةٍ فَقَطَعَهُ فَأَلْقَاهُ وَإِمَّا كَانَ مَوْضُوعًا فَأَمَاطَهُ فَشَكَرَ الله له بها فأدخله الجنة). وفي رواية للحديث: (لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِى الْجَنَّةِ فِى شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِى النَّاسَ).

. عن أبي هريرة قال: (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةً تُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: (هِيَ فِي النَّارِ). قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةً تُذْكَرُ قِلَّةَ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ وَلَا تؤذي جِيرَانَهَا. قَالَ: (هِيَ فِي الْجَنَّةِ)).

أفعال تدخل الجنة، وأخرى تبعد عنها وتوجب النار بكلام من الصادق المصدوق، لكنّنا بعقولنا، وبعيداً عن النصوص، وعن تدقيق الانتماء، نراها أحقر من أن تفعل ذلك .. ونضرب من واقعنا المعاش أمثلة لعدم تدقيق أمر الانتماء:

فامرأة تعتز بإسلامها وتؤدي بعض فرائضها، وهي ناشطة في جمعيات إصلاحية خيرية، وتكشف ما أمر الله به أن يستر من جسدها .. فهل دققت انتمائها..؟

وزوجان فتحا باب الشحناء والبغضاء على مصراعيه في حياتهما الزوجية، وجندا من نفسيهما عونا لإبليس على خراب بيتهما. فلا يعرفان في علاقتهما للمودة والرحمة والصفاء معنى أو موقفا إلا في دقائق معدودوة لأداء (الوظيفة الحيوانية) وأستأذن لهذه العبارة لأنّي أعنيها، فهما يمارسان ذلك مفرغا من الحب والعاطفة والحنان .. فليس فيه إلا تلبية غريزة، وإفراغ شهوة، وهذا ما تستوي فيه المخلوقات العليا والدنيا حسب تصنيف علماء الأحياء. فهل دققا انتماءهما للإسلام فنظرا إلى الزواج بالمنظور الإسلامي، فعلما أنّ الزواج حدود لله أُمرا أن يتعاونا على إقامتها وإلا أثما معا (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)، (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ).

وتاجر كتب على لوحة متجره (الحاج فلان) وهو في الصف الأول في المسجد المجاور، وله في كل عام حج أو عمرة، وله اشتراكات في أكثر الجمعيات الخيرية، لكن له في أكل الربا ألف تأويل وتأويل، لأنّه لم يدقق انتماءه.

والذي أبعد حقيقة تدقيق الانتماء ووجوب فعلها عن كثير من المسلمين، ما شاع بينهم، وعن طريق بعض دعاتهم ومشائخهم، من أنّ في الإسلام قشراً ولباباً، ومهماً وأهمّ، وأصولاً وفروعاً .. فغاب عن أفهامهم أنّ الدين أوامر من الله ونواهٍ، وأنّ القيمة للآمر بها وليس للفعل نفسه، والأفعال تتفاوت في الأهمية.

وإذا استوعبنا هذه الفكرة شرعياً، قبلنا من قائل ما نستعظمه منه ونرده عليه في غيابها. نعم نقبل أن يقال: (إنّ الطائف حول الكعبة، ومن يستنجي للوضوء والصلاة كل منهما يطيع الله ويعبده) فالفعلان يستويان في الطاعة، ويتفاوتان في طبيعة الفعل.

وأما (تعميق) الانتماء، في أن نخرج من سطحية الانتماء التي تغطيها كلمات وأفعال لا تعدو اللسان وبعض الجوارح .. تبتز منا لصاحبها شهادات حسن السلوك. بل التزكية الشرعية.

والدين الذي هو طاعة للخالق العظيم، وطريق البشر إلى النعيم المقيم، وخلاص من العذاب الأليم، أعظم بكثير من أن نتعامل معه بسطحية بلهاء، وممارسات جوفاء، من خلال انتماء سطحي.

ومن الآيات التي تأمر بالانتماء المعمق قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

فقول الله تبارك وتعالى: (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) أمر بتعميق الانتماء، والسلم بإجماع المفسرين في الآية هو الإسلام، واستُشهِد لذلك بقول الشاعر الكندي:

دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا

وقول الله تعالى كافة، أي في كل تعاليمه وأحكامه وأوامره ونواهيه .. ولن يتحقق ذلك إلا بمنهج التحقيق والتدقيق والتعميق وجاءالتحذير من عدم تعميق الانتماء، وهو ما عبر عنه بزلة القدم: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ). وزلة القدم التي تصاحب الجهل وتنتج عنه أهون من تلك التي تكون بعد العلم، لما تحمل من معنى التصميم على الخطيئة والإصرار على المعصية، وقد حذرنا الله من ذلك بقوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

ومما يصلح شاهداً على موضوع تعميق الانتماء، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ومعالجته بأسلوب صريح لا تفسده المجاملة ومراعاة الخواطر، قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

حقيقة شرعية معمقة جداً، بل عقدية يدعو لها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لتأصيلها وتعميقها في نفوس المدعويين، إذ أنّ الطبيعة البشرية لن تضعها موضعها الصحيح. فتعظيم (الأنا) وما يتصل بها من عواطف وعلائق طبع بشري غلاب .. فقليل أولئك الذين لديهم العمق في الفهم ليدركوا أنّ حب النبي صلى الله عليه وسلم دين، وأنّه ليس كحب أي شخصية بشرية فذة تألقت وسط مؤيديها.

مرة أخرى إنّ حبّ النبي صلى الله عليه وسلم دين كالايمان به، وأنّه المقدمة الأساسية لطاعته والتصديق بما جاء به .. ونظرة إلى الواقع في أحوال كثير من المسلمين تبين أسلوب تعبيرهم عن حب نبيهم بالحفلات، والزينات، والمهرجانات وما يسمى بالموالد، ويأتون فيها ما يصادم سنته وهديه لأنّهم فرقوا بين الحب والاتباع، لأنّهم لم يفلحوا في تعميق انتمائهم ليعلموا أنّ حب نبيهم دين، وأنّ اتباعه أكبر دليل على حبه، بل على حب من أرسله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).

ومن عجيب ما رأيت في هذا الصدد، شيء بسيط قد لا يلفت انتباه الكثيرين، لكنّه لدى التدقيق تبدو له دلالة وخطورة، رأيت في الأسواق أكوابا كبيرة نقش عليها بالحرف الكبير (محمد رسول الله) وتحت ذلك بحرف صغير (بمناسبة أسبوع نصرة النبي صلى الله عليه وسلم). وهل نعجب وعمر رضي الله عنه، وهو من هو، تفوته هذه الحقيقة، واقرؤوا هذه الرواية التي تحمل الصراحة النبوية الهادفة إلى تعميق الانتماء:

(كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِى. فَقَالَ النَّبِىُّ: (لاَ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ). فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ نَفْسِى. فَقَالَ النَّبِىُّ: (الآنَ يَا عُمَرُ)).

فرق بين محبة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم هي كأي حب بين بشرين، يعبر عنه بنفس وسائل التعبير وحب يفرضه تعميق الانتماء للدين فيصبح شعبة من الإيمان، بل أصلاً له يغيب بغيابه.

وتأملوا ملياً هذه الآية التي تمثل بكل وضوح مفهوم تعميق الانتماء فيفهم كل منتم لهذا الدين من خلالها حقائق لم تدركها كثير من العقول التي لم تستنر بنور الوحيين. والعالم المعاصر بكل مدنيته وقوانينه ومواثيقه، وزعمه الدفاع عن حقوق الإنسان لم يعالج تلك الحقيقة بالشكل الذي أراده الله للمنتمين لدينه أن يعالجوها: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ).

هل القتلة في كل بقاع الأرض علموا أية كبيرة يرتكبون، وأي إثم يحملون..؟ وماذا هم لربهم قائلون..؟ وهل في شرائع الأرض كلها من يعتبر قتل نفس واحدة بغير حق كقتل الناس جميعا في خطورتها ووزرها عند الله..؟

إنّ هذا القول ليس مبالغة أديب، ولا تخيل شاعر، ولا تشدد مصلح، إنّه كلام لله المنزل من فوق سبع سماوات .. وما ذاك إلا ليسود الحب والسلام بين ساكني الأرض وفق منهج الله وليس على رؤية المؤسسات الدولية التي صنعتهاعقول أهل الأرض فتحابي القوي (وهو الصانع لها) وتكرس ظلم الضعيف بأسماء يسمونها هم وأعوانهم.

ولأقترب قليلاً إلى ما هو ظاهر في الساحة الإسلامية فأقول: هل عمّق القتلة من أبناء الإسلام انتماءهم قبل أن يتأولوا بفقه أعوج، وفهم ظالم حل الاعتداء على الأرواح والممتلكات، بدعوى الجهاد..؟ وما يزالون بانتمائهم السطحي غير المعمق يحرفون مفهوم الجهاد عن حقيقته ويلطخون وجه الإسلام المشرق الذي يتبرأ منهم ومن انتمائهم المنحرف المريض..؟


والآن .. ما الذي يعيننا على تحقيق وتدقيق وتعميق انتمائنا لهذا الدين، بعد توفيق الله لنا؟ أمور أختصرها في الآتي:

1. أن نسأل أنفسنا بِم ندين الله، وأن تكون الإجابة محررة صريحة واضحة: إنّنا ندين الله بالوحيين وفهمهما على طريقة السلف. ومن هم السلف؟

إنّ الذين يختصرون ويختزلون السلف بأسماء يكررونها ويرددونها، يجادلون فيها ويفاصلون عليها هم أحد رجلين: جاهل حقه علينا أن يعلم، وواجبه أمام ربه أن يفهم، ويلزم. ومغرض يريد التشويه والتشويش، وحقه أن يبين له الحق، وتُزال من رأسه الشبه، ولعله يفيء ويرجع.

السلف قرون ثلاثة على رأسهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ).

واتخاذ هؤلاء قدوة وأسوة ومرجعاً وحكماً في الدين أمر لا خيار للمسلم فيه، بل هو واجب كوجوب الإيمان .. كيف لا وقد اجتمعت لهم في هذا الحديث شهادتان: شهادة الله الذي أوحى به، وشهادة النبي الذي بلغه. ومن لم ينزلهم المنزلة التي أنزلهم الله إياها، فقد رد شهادة الله ورسوله .. وهم القدوة والأسوة إلى قيام الساعة رغم كل أنف.

2. أن يكون لدى كل مسلم، جواب صريح محدد لا يقبل مواربة ولا تعمية ولا تورية عن السؤال الآتي، ونحن في زمن تجتاحه فتنة التبديل والتأويل، وقد فعلت الأهواء فعلها في دين الله كما أنبأ الذي لا ينطق عن الهوى .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دخله).

والسؤال: هل كل وجه مطروح للإسلام اليوم مقبول، وهل للمسلم حرية الاختيار، وهل تبرأ الذمة بهذا الاختيار؟

لقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال، ليقطع كل إشكال، وينهي كل اختلاف، وينقل المسألة من أرضية تتجاذبها العقول والأهواء، إلى علوية لا تقبل إلا التسليم والانقياد لأمر الله ورسوله: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة، وفي رواية: ما أنا عليه وأصحابي).

ومن إعجاز الحديث النبوي، ولا عجب، فهو وحي، أن تأتي رواية تدمج بين حديثي الافتراق والأهواء:

عن معاوية رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة. وإنه ليخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله).

وهذا تأكيد نبوي لا يقبل مناقشة، أنّ التفرق والاختلاف وتعدد وجوه الإسلام من صنع أهل الأهواء .. ودين الإسلام واحد لا يقبل تعددية الوجوه وهو إسلام (ما أنا عليه وأصحابي).

واقرؤوا قول الصحابي الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوصي ويعظ صاحبه:

(دخل أبو مسعود على حذيفة رضي الله عنهما فقال: اعهد إلي فقال له: ألم يأتك اليقين؟ قال: بلى وعزة ربي، قال: فاعلم أنّ الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون فإن دين الله واحد).

وما أدري لمصلحة من..! ولحساب من..! يقف شيخ أو داعية من حديث الافتراق موقف التشكيك ويبث ذلك في الناس..؟ وهل المسلم يلبي نداء ربه، ويتبع هدي نبيه، أم يقول لأهل الأهواء لبيكم وسعديكم..؟

3. تحرير مسألة الحلال والحرام في دين الإسلام، وربطها بالأدلة من الكتاب الكريم، والسنة الصحيحة. والخروج بها من متاهات التأويل، وسلطان العصرنة، وضغط الواقع. وتسويغها في النهاية بمقولة هدامة (الاختلاف رحمة) وهذه مسألة هامة في عملية ضبط الانتماء، لأنّه حين تتعدد الأقوال في حكم مسألة شرعية لغياب التأصيل الدقيق، والاستدلال الصحيح، تعطى الفرصة للانجفال وراء الأهواء والمصالح، وتهتز قيمة الاتباع في أعين الناس، وبالتالي يتذبذب الانتماء. ولنتمثل كلمة لعمر بن عبد العزيز رحمه الله: (أيها الناس إنّه ليس بعد نبيكم من نبي، وليس بعد كتابكم من كتاب، وليس بعد أمتكم من أمة، ألا وإنّ الحرام ما حرمه الله حرام إلى قيام الساعة، ألا وإنّ الحلال ما أحله الله حلال إلى قيام الساعة).

4. يتوج المسلم الحق كل ما تعلمه من كتاب الله تبارك وتعالى، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بما يزكي نفسه، ويسمو بروحه، ويحدد مساره، ويضبط انتماءه ألا وهو تذكر الآخرة، ويوم الحساب، مدركا قيمة هذا الأمر وخطورته من قول ربه: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). واستحضار أنّها آخر آية أنزلت إلى أهل الأرض .. وليتذكر قول ربه في حق الأنبياء (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ).

ولدى الحديث عن اليوم الآخر يوم الحساب لا بد أن نعلم كيف يكون الحساب، وعن أي شيء سنسأل، لنعد للسؤال جوابا، كيما نزحزح عن النار وندخل الجنة .. ومادة الحساب والسؤال يوم القيامة نجدها في آيتين (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ). وقوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) .. وقد جُمع معنى الآيتين في آية واحدة: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

أسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على وقفة متأنية مع انتمائنا، لتحقيقه وتدقيقه وتعميقه، وفق ضوابط ذكرنا وذكّرنا بأبرزها … والله من وراء القصد