Skip to main content

البَحْثُ عَنِ الذَّاتِ عَلَى الصَّعِيدِ الجَمَاعِي

By السبت 8 شعبان 1429هـ 9-8-2008ممحرم 21, 1441دراسات

إذا تحدد الانتماء الفردي بعد عملية البحث عن الذات، في طورها الأول، إلى منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، صارت الحركة، بعد ذلك، حركة مجموع أو جماعة يوحدهم المنهج، فاتسعت الساحة، ونشطت الحركة، وتعددت الهموم، وزادت التحديات، وكبرت الأهداف .. ولا بد من العلم القاطع أنّ الحركة في الإسلام وبالإسلام لا بد من أن تكون ضمن إطار الجماعة وجوباً وليس اختياراً .. يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى:

(وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا، وألا يتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالي به في كتابه .. ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة، مثل قوله: (عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة)، وقوله: (فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)، وقوله: (من رأي من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه)، وقوله: (ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلي يا رسول الله. قال: صلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين). ا.هــــ

فوجوب لزوم الجماعة في الإسلام، والعمل الجماعي، كما أسلفت، ليس خيارا إنّما هو واجب شرعي يؤاخذ المسلم بتركه لأنّ ترك الجماعة تفرق، والنصوص كلها تأمر بالجماعة، وتذم التفرق كما جاء في الحديث: (الجماعة رحمة والفرقة عذاب). ومن أكبر الأدلة على دور الجماعة في دين الإسلام، أنّ جُلَّ العبادات رُبطت بالجماعة في أدائها، وهل ينكر دور أداء الصلوات الخمس يومياً جماعة وإيجابها على الرجال في القول الراجح، في بث روح الجماعة، وترويض نفس الفرد على التكيف مع العيش في الجماعة في كثير من الشؤون، والتعامل ضمن إطارها، ليصبح الأداء الجماعي الديني سليقة وطبيعة لدى المسلم..؟ ولنقل الشيء نفسه في الصيام وفي الحج.

بل إنّ حديث الترمذي: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) يؤكد ربط العبادة بالجماعة .. وقد فهم منه ابن تيمية أنّ من رأى هلال الصوم أو الفطر بأم عينه، ولم تصم المجموعة من حوله لعمل إمامها بخلاف ذلك، لم يجز للرائي أن يصوم لرؤيته بل يدعها ليصوم مع مجموع المسلمين، وبعض العلماء قالوا يصوم سرا، والأول أولى.

إذن بمجرد أن يستكمل المسلم مشواره في البحث عن الذات على الصعيد الفردي لا بد أن ينخرط مباشرة وتلقائياً بحكم المنهج الذي اختاره في الجماعة التي تكونت تلقائيا من التزام المنهج الواحد، ليبدأ الطور الجماعي من العمل .. وكما بحث الفرد عن ذاته ليجد دينه وطريقة تدينه، والمنهج المأمور به لصحة التدين، فلا بد للجماعة المسلمة من أن تبحث عن ذاتها وسط بحر لجي من الجماعات، في طول بلاد المسلمين وعرضها، وهي لكثرتها فوق الحصر والعد، ولتنوعها فوق التصنيف والتبويب، وكل واحدة من أولئك تدعي أنّها الإسلام، أو على الأقل، على الإسلام، وكل يدعي وصلا بليلى .. وأول المطالب، وأوْلاها في هذا البحث أن نبدأ بالسؤال الآتي:

كيف تتشكل الجماعة في الإسلام؟ أبالتنظيم الحزبي؟ أم بالتجمع المشيخي؟ أم بالتعصب الوطني؟

كل أولئك أصل غير شرعي، وغير صحيح للجماعة في الإسلام. والبدء بالكلام عن كيفية تشكل الجماعة في الإسلام، يجعلنا نستحضر عبارةً في علم الاجتماع، والتي هي على كل لسان: (الإنسان اجتماعي بطبعه) .. ولعلي أعَدِّل كلمة في العبارة لأجعلها أقرب إلى أن تكون شرعية فأقول: (والإنسان اجتماعي بفطرته) (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). فدين الإسلام دين الجماعة، ولننظر إلى أداء شعائره، كما قلنا سابقا، معظمها يكون جماعيا، كالصلاة والصوم والحج.

ملخص الفكرة أنّ الله خلق الإنسان اجتماعياً، وجعل دين الإسلام يتميز بجماعية الحركة على الأرض.

نعود ومعنا هذه النتيجة لنتابع بحث كيفية تشكل الجماعة في الإسلام، فنقول:

الجماعة أصل أصيل في الإسلام، ومن فهم الإسلام كما أراد الله عاش بالجماعة وللجماعة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شبْرًا فقد خلع رقة الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ). وفي رواية: (إِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ) .. ولنستعرض العناصر الرئيسية، أو المنطلقات الأساسية التي تؤكد مفهوم الجماعة في الإسلام، وتسهم في تشكل جماعة الإسلام الواحدة:

أولاً: قوله تبارك وتعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا). ولقد جاء الحديث الصحيح ليقرب مفهوم (حبل الله) إلى الواقعية أكثر من قربه إلى المجازية، ليتعامل معه المسلمون بمنتهى الجدية: (أَبْشِرُوا وَأَبْشِرُوا أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سببٌ طَرفُهُ بِيَدِ اللَّهِ وطَرفُهُ بِأَيْدِيكُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ فَإِنَّكُمْ لَنْ تضلُّوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أبداً). والحديث الآخر يؤكد المعنى نفسه: (كتاب الله، هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض). فكيف يُتَصور حال جماعة من البشر يمسكون بحبل واحد، أهم متفرقون أم مجتمعون؟

ثانياً: توحيد مصدر التلقي. فالإسلام أساسه نصوص الوحيين، ومن بنى دينه على شيء سواهما، فهو ليس على الإسلام يقينا .. وجماعة المسلمين هي التي تدين الله بالوحين ولا تقر غيرهما في الدين، ومن خالف فقد فارق.

ثالثاً: الاتباع، والاتباع في الإسلام أنواع أربعة:

أ. اتباع نصوص الوحيين: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ).

ب. اتباع سبيل الله عملا بقوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

ولأهمية فهم الناس لهذا الأمر الرباني، كي يعملوا به، شرحه الرسول عليه الصلاة والسلام معتمداً ما يسميه التربويون (الوسائل المعينة). فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَالَ: (هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ) ثمَّ قَرَأَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيله)).

ج. اتباع النبي الأمي صلى الله عليه وسلم: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

د. اتباع سبيل المؤمنين، وبخاصة أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً).

ولدى النظر والتدبر، تبدو الأنواع الأربعة شيئاً واحداً، فاتباع الوحي المنزل اتباع للنبي المرسل (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، واتباع لسبيل الله، وهل السنة إلا وحي..؟ واتباع سبيل المؤمنين اتباع للوحي وللنبي عليه الصلاة والسلام، وهل للمؤمنين من سبيل غير اتباع وحي ربهم، والاقتداء بهدي نبيهم، واتباع سبيل ربهم..؟ والفرد المسلم، بل الجماعة أيضا، تحيط بهم نصوص الاتباع أينما اتجهوا، فهل يضل سعيهم…؟

وعند الحديث عن اتباع الوحيين لا بد من التأكيد على نقطتين أساسيتين في الموضوع، حتى يُقطع الطريق على المُلبّسين:

أولاهما: ضرورة تقييد العمل بالوحيين بقيد، وهو أن يكون العمل بهما وفق فهم السلف لهما .. ولقد رفض بعض المسلمين وفيهم دعاة وعلماء، هذا القيد، بدعوى أنّهم لم يجدوا عليه دليلا، واتهموا القائلين به والداعين إليه بأنّهم تحجروا واسعا..!

ونقول لأولئك ألا يكفيكم القيد الذي جاء في كتاب الله في قوله تعالى: (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) .. لقد جعل الله في هذه الآية إيمان المخاطبين (آمَنتُم بِهِ) وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، النموذج للإيمان المقبول عند الله، والمفضي إلى الهداية، والمفهوم المخالف: أنّ من آمن بما يفارق ذاك الإيمان في الوصف فليس بمهتدٍ.

ثم يأتي الحديث الصحيح وهو حديث الافتراق ليؤكد المعنى الذي جاءت به الآية حينما يصف الفرقة الناجية في آخر الحديث بوصف: (ما أنا عليه وأصحابي).

ثانيهما: كذلك فإنّ شهادة نبي الأمة صلى الله عليه وسلم للقرون الثلاثة في قوله: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) بوحي من ربه، فهي شهادة الله أيضاً، وهي تقديمٌ لهم للأمة على أنّهم النموذج الصالح، والأسوة الحسنة إلى قيام الساعة.

ولا يتصور مسلمٌ أن يأتي مَنْ بعدَهم بفهمٍ للوحيين، أو عملٍ بهما يقدم على من شهد لهم الله ورسوله بالخيرية .. وكم في المسلمين اليوم، من يعلنون وبإصرار أنّهم على منهج الوحيين سائرون، وبهما ملتصقون مع أنّهم، حقيقة، عنهما ناكبون بشهادة أقوالهم وأعمالهم عليهم، والتي فيها من بدع القول والعمل الكثير. ولا بد من أن يُبيَّن للناس حتى لا يُخدعوا ولا يُضللوا، بالادعاءات الكاذبة، أنّ بعض من يقولون إنّنا على منهج الوحيين، وأعمالهم وأقوالهم تـنكر ذلك، إنّما يعنون أنّهم على منهج الوحيين، بعد تأويلهما وفق مقتضى العقل والفلسفة وعلم الكلام.

هكذا، وباختصار، تتشكل جماعة الإسلام الواحدة .. ومن نافلة القول أنّها جماعة واحدة لا تقبل التعددية. ونعني بقول (لا تقبل التعددية) أي في تدينها ومنهجها وتطبيقها للدين، ولكنّها، ولا شك، متعددة في بلدانها، وطرائق عيشها وعاداتها، وإلى غير ذلك مما لا صلة له في الدين .. وزيادة في الإيضاح نسأل: هل الجماعات الكثيرة المبثوثة على امتداد الأرض الإسلامية، والتي تشكلت على أسس التنظيم السياسي، أو التجمع المشيخي، أو التعصب الوطني، بينها من الوحدة، والتعاضد، والانسجام ما هو موجود في جماعة الإسلام الأم التي قامت على التوحيد أولا، ثم على توحيد المنطلقات المذكورة آنفا..؟ لا وألف لا، إنّ بينها من التخالف، بل والحرب الباردة، ما الله به عليم.

وبعد هذا التعريف، الذي لا بد منه، لتُعرف جماعة الإسلام الواحدة، بخصائصها ومقوماتها، وأصولها الشرعية، وتتميز عن كل إدعاء. والواقع مليء بهذا الدخن والدخل. فلنبدأ بحثنا (كيف تبحث الجماعة عن ذاتها)…

إنّ بحث الجماعة عن ذاتها يكون معرفة دقيقة لنفسها أولا، فتعرف منطلقاته، ثم واجباتها، والدور المناط بها .. وبعد ذلك معرفةٌ لما حولها لتستطيع أداء مهماتها على الوجه الأكمل، دعوية
كانت لنشر
الدين الحق، وتعميق فهم الناس له، أم وقائية تـدافع عن الدين من استهداف المغرضين، أصحاب الأهواء، وتصد عنه كيد الكائدين سواء من داخل الصف الإسلامي، أو من عداوات خارجية، ولتتقي ما سيواجهها من خصومات ومعوقات تصرفها عن أهدافها، يثيرها انفتاح الجماعة على الناس بشكل غير خفي.

ولعلي أحدد الكلام الآن في منحى واحد يتناول توصيف طريق (بحث جماعة المسلمين عن نفسها). وسأضع مجموعة صوىً على هذا الطريق .. وأقرب معنى، لكلمة صُوى، وهي كلمة فصيحة، بالتعبير العصري (لوحات إرشادية على الطرق) .. أجل، أضعها للإرشاد والتذكير، وهي مني جهد المقل، ونظرة الحادب الحاني، وخلاصة فهم، على قدر الوسع، مع استيعاب للواقع بقدر المتاح من التجارب، وحاشاي أن أدعي عصمة، أو أن تأخذني عزة فأقول:

إنّي وإنّ كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل

الأولى: إني أؤكد أنّ في الإسلام تنظيماً للبشر من أجل نجاحهم في الاستخلاف في الأرض من صنع خالق البشر، وفق ضوابط وقواعد حملتها للبشر نصوص شرعية. فجماعة المسلمين الواحدة تستمد مفهومها وقوتها ومنهجها من قوله تبارك وتعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) .. وتسعى باستمرارٍ لإصلاح ذات بينها لقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) .. وتضمن سلامة تحركها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّار). وقوله: (عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ وَفِيهِ وَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَة).

ولا ينبغي، ونحن نقرأ نصوص الوحيين السابقة الذكر، أن تفوتنا حقيقة مركزية في الحديث عن جماعة المسلمين، وهي أنّ لفظة الجماعة جاءت في كل النصوص بصيغة المفرد، مما يعني أنّ جماعة المسلمين واحدة، ومن قال بتعدد الجماعات، أو رضي بذلك، فقد قال منكراً من القول وزوراً، لمخالفته نصوص الوحيين، ولأنّ ذلك يسهم بتشظية جماعة المسلمين الواحدة، التي يد الله عليها .. أما ضمان صحة المنطلقات، وطرق التعامل مع كل القضايا، فيحقق ذلك التزام الاتباع بكل أشكاله ومعانيه، إذ إنّ منهج الجماعة، وهي الفرقة الناجية بإذن الله، من اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس من عصارة عقول المفكرين، وخواطر المنظرين..! فالمسلمون ليسوا بحاجة إلى عقل بشري ينظم حركتهم من أجل دينهم بعد أن علمهم ربهم، واستهدوا بهدي نبيهم.

ولا نختلف أبداً أن يكون في حياة المسلمين العملية، وفي كل الشؤون والمرافق (تنظيمٌ) وهو أصلٌ لكل عمل ناجح .. ولكن لا بد من التفريق بين كلمة التنظيم بمعنى (الضبط والربط، والدقة، وتوزيع المسؤوليات، وتقدير التخصصات، ووضعها في الأمكنة المناسبة…)، وبين كلمة التنظيم بمعنى (تنظيم الناس حزبيا)، وهو أمر لا محل له في مجتمع المسلمين، بل هو بدعةٌ وأي بدعة..!

ولسائل أن يسأل ما الفرق بين جماعة المسلمين والتي أُسمِّيها تمييزا لها بالأم، والجماعات التنظيمية العصرية المتعددة اليوم؟

وإجابة هذا السؤال هامة وضرورية لتجلية الأمر .. أقول مبينا الفرق في نقاط:

1. من حيث التكوين والمنشأ فجماعة المسلمين الأم والوحيدة أوجدها التفاف الناس حول الحق الذي أنزل من فوق سبع سماوات، فشَكَّل جماعةً واحدةً، تلتزم منهجًا واحدًا، ولا تقبل التعددية لا في منهجها، ولا في أهدافها، ولا في أسلوب حركتها، هي واحدة في كل شيء .. ولا بد عند الحديث عن جماعة المسلمين أن نتذكر قوله تعالى وهو الأصل في تشكيل الجماعة (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، فهل يتصور أن نضل، أو أن نتفرق، أو نسلك غير سبيل الله الواحدة، وهل تتعدد سبلنا وطرائقنا، ونحن نعتصم بحبل ربنا..؟ ونحن ملزمون بأمره تبارك وتعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه).

وأقول دائماً: لا ينبغي أن نقرأ هذه الآية إلا ونُثَني بالحديث العظيم الذي شرحها وبينها البيان الشافي، الذي يقطع الطريق على كل تأويل، وهل أزرى بأمة الإسلام إلا التأويل..؟ وقد ذكرنا حديث ابن مسعود قبل قليل ..
إنّ من أمسك بحبل الله لا بد أن تكون حركته إلى الله حيث طرف الحبل الآخر، وهذا لا شك عصمة من الزلل والانحراف وإضاعة الطريق، وإضاعة الفرص والوقت على الأمة، والتفرق في النهج والعمل .. ولا أُحب مغادرة مفهوم قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا) دون استعراض كلام لابن القيم، يقول في مدارج السالكين: (فالاعتصام به نوعان اعتصام توكل واستعانة وتفويض ولجإ وعياذ وإسلام النفس إليه والاستسلام له سبحانه. والثاني اعتصام بوحيه وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ومعقولاتهم وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم فمن لم يكن كذلك فهو منسل من هذا الاعتصام فالدين كله في الاعتصام به وبحبله علما وعملا وإخلاصا واستعانة ومتابعة واستمرارا على ذلك إلى يوم القيامة).

أما الجماعة بمفهومها التنظيمي المعاصر فالتفافها حول نظام الحزب أو الجماعة، وتمسكها بآراء وفلسفة مُنظريها .. فالأصل في تلك الجماعات التعددية في المنهج والفكر والطريق وإلا كانت واحدة .. هي إذاً حبال ممدودة كل حبل بيد قائد تنظيم فالأصل فيها التعددية والتغاير. فأين هي مما جاء في كلام ابن القيم السابق رحمه الله، وهو بلا شك قبس من الوحيين.

2. من حيث النظرة الشرعية، فهل الجماعة الأم، جماعة (وَاعْتَصِمُوا) التي تقوم على أمر الله وهدي نبيه، والتي يد الله عليها، كافية لتصل بالمسلمين إلى ما يرضاه لهم ربهم، وما يصبون إليه من أمر الدنيا والأخرة أم لا..؟ فإن كان الجواب نعم، فقد كفانا الله ورسوله البحث والتنظير والتنظيم..! وإن كان الجواب الثاني، وما أظن مؤمنا يرجو الله واليوم الآخر، يقوله لا بلسان حاله، ولا بلسان مقاله، لأنّ في ذلك نكرانًا لكفاية ربنا لنا في قوله تبارك وتعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
فهل بعد الرحمة والذكرى من ربنا مطلب..؟

واقرؤوا إن شئتم أيضا قول ابن مسعود رضي الله عنه الذي يجسد فهمه العميق لأمر الكفاية بما جاء من الله، ودعوة الأمة إليه: (أيها الناس اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعليكم بالأمر العتيق) .. يُفهم من هذا القول المؤصل لابن مسعود أنّ أمة الإسلام أمة كفيت التنظير من فوق سبع سماوات، وليس لها من مهمة إلا التعلم والاتباع والتطبيق.

3. يتضح الفرق بين جماعة الإسلام الأم والوحيدة، والجماعات التنظيمية المتعددة والكثيرة، من هذه الكلمة العجيبة السابقة لعصرها من الإمام الشافعي رحمه الله، يقول تعليقاً على كلام عمر رضي الله عنه: (فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) في كتابه المعروف الرسالة: (قال: فما معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزومهم الجماعة؟ قلت: لا معنى له إلا واحد. قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدا؟ قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان، فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وإن وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين والأتقياء والفجار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنّه لا يمكن، ولأنّ اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى، إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيها. ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها).

وأختم هذا الاستطراد الذي طال، وما أطلته إلا لضرورته بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفى على كثير من الناس وهو في مسلم: (لاَ حِلْفَ فِى الإِسْلاَمِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إِلاَّ شِدَّةً).
وفي هذا الحديث معنىً لائقٌ لتنزيله على التنظيم الحزبي في الإسلام .. وللشيخ بكر أبو زيد رحمه الله كلام نفيس في هذا السياق في كتاب وسمه (حكم الإنتماء للفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية)
وهو واحد في بابه فليراجع ..
فهل اتضح الفرق يا تُرى؟

الثانية: نعود للحديث عن الجماعة، فأقول: لقد قيل الكثير في تعريف الجماعة في الإسلام، قديماً وحديثاً، وأكاد أزعم أنّي استعرضت تلك التعريفات كلها فلم أجد للجماعة في الإسلام تعريفا وتوصيفا أجمع وأمنع وأدق من كلمة ابن مسعود رضي الله عنه (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك)، وجاء في رواية أخرى عنه رضي الله عنه: (الجماعة ما وافق طاعة الله) .. وإنّي لأعني ما أقول في لفظتي أجمع وأمنع، فهو أجمع لكل خير، وأمنع لكل مُبْتَدَعٍ قد يتسلل.

ومن أجمل وأعجب ما قرأت في تعريف الجماعة، والذي يدل على فهم عميق لقائله، وفكر مواكب للواقع، ما جاء عن نعيم بن حماد وهو من شيوخ البخاري: (إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فأنت يومئذ الجماعة). وفي هذا القول ملمح هام جدا من أجله أثنيت على القول، وهو تأكيد ثبات مفهوم الجماعة لأنّه قائم على منهجٍ والمنهج لا يتغير .. فلو تغيرت الجماعة لِتَغَيُّرِ أفرادها (أو لِنَقُل لانحرافهم عن المنهج) فالأفراد الخارجون عن المنهج يذهبون، والجماعة تبقى لثبات منهجها ومبادئها ومفهومها، وبمن لا زال ثابتا من أفرادها، ولو كان واحداً .. ولنقارن هذا الثبات بالجماعات المعاصرة التي تصيبها الانقلابات الداخلية، وتبدأ فيها عمليات الانشطار دون توقف، وقد تتغير مبادؤها ويبقى الاسم ثابتا. كذلك فإنّ القول السابق لنعيم بن حماد يفيد أنّ جماعة المسلمين واحدة لا تتعدد، ويفهم هذا من قوله (إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه قبل أن تفسد)، ولم يقل فابحث عن أخرى..!

الثالثة: لعل جُلَّ كلامنا السابق كان حول جماعة المسلمين الواحدة، ككيانٍ يجمع المسلمين على المنهج الواحد، ليكون منطلقا نحو كل عمل صالح يرضي الله، ونحو دعوة على بصيرة لدين الله. ولقد كثر كلامنا في السطور الماضية عن المنهج، وهو النواة التي تشكلت الجماعة عليها. ولعل الوقت حان لنسأل ما هو المنهج؟ وما المصدر الذي جاء منه؟ وعن الجانب العلمي فيه؟ ولنبدأ بمفهوم كلمة (المنهج).

إنّ الإسلام، ولا شك، (منهج حياة)، أُنزل للناس من فوق سبع سماوات، من لدن خبير عليم حكيم. ولكن لا يُمكن الوصول إلى الإسلام الحق الذي بشر به محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يقوم عليه التدين الصحيح، إلا عن طريق منهجٍ موصلٍ إلى الغاية، ولا سيما عند حالة الافتراق والتخبط وتعدد السبل، التي أصابت المسلمين ولا زالت في تفاقم مستمر. والذي يوضح تماما المفهوم الذي نقصده بالمنهج، العودةُ إلى الأصل اللغوي للكلمة. وما أجمل ما قاله ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) في تفسير قول الله (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) يقول:
(وَالشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ مِنْ نَهْرٍ أَوْ وَادٍ. يُقَالُ: شَرِيعَةُ الْفُرَاتِ. وَسُمِّيَتِ الدِّيَانَةُ شَرِيعَةً عَلَى التَّشْبِيهِ، لِأَنَّ فِيهَا شِفَاءَ النُّفُوسِ وَطَهَارَتَهَا. وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُ بِالْمَاءِ وَأَحْوَالِهِ كَثِيرًا. وَالْمِنْهَاجُ: الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ، وَهُوَ هُنَا تَخْيِيلٌ (تشبيه) أُرِيدَ بِهِ طَرِيقُ الْقَوْمِ إِلَى الْمَاءِ).

ولننظر هذا الفهم الرائع الذي خرج به ابن عاشور، الشريعة هي الماء الفرات، الذي لا تقوم الحياة إلا به. ولكنّ الوصول إلى هذا الماء لمن ابتغاه له سبل متعددة، والمنهاج أو المنهج هو أفضلها لأنّه أسلمها .. إذن، بدون المنهج لا يُمكن الوصول إلى الماء وهو الدين الحق. والمنهج الذي تلتزمه جماعة المسلمين الواحدة ليس من تأمل المفكرين والنظار، وليس من اجتهاد العلماء، إنّما هو مؤصل بالأدلة، وعلى رأسها حديث الصادق المصدوق عن الافتراق ولنقرأ الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:(افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال: الجماعة، وفي رواية: ما أنا عليه وأصحابي).

إنّ هذا الحديث رغم جُرأة بعض أهل العلم عليه في الطعن بصحته وتضعيف سنده، فله على ما أذكر ستة عشر رواية يُقوي بعضها بعضا. والذين ضعفوه ضعفوه بدعوى نكارة متنه أيضا، ولا يخلو ذلك من هوى يميل مع الفِرَق … وقراءة الحديث بتمعن يُستخلص منها الآتي:

1. حتمية الافتراق. 2. عدد الفرق. 3. العاصم من الافتراق .

وكيف لا يكون الافتراق حتمياً وقد أخبر عنه الذي لا ينطق عن الهوى..! بل بين عدد الفرق الناكبة عن المنهج، وهي اثنتان وسبعون فرقة. أما الناجية فواحدة. ومن قال غير ذلك فقد أعظم الفرية على الله ورسوله. ولم يؤمر المسلمون، في حديث الافتراق أن يمضوا أوقاتهم في تعداد الفرق، واستعراض أسمائها، ومعرفة الناجية من الهالكة. لكن الواجب الذي أُمروا به أن يضعوا أنفسهم في عداد الفرقة الناجية، باعتقاد ما يعتقد أهلها، والعمل بما يعملون، وهم رسول الله وأصحابه.

وفي حديث الافتراق الذي وصف الرسول عليه الصلاة والسلام الفرقة الناجية بوصف (ما أنا عليه وأصحابي)، لفتة ذات مدلول كبير، وهو أنّه صلى الله عليه وسلم لم يُعرف الفرقة الناجية باسمٍ سماها به، وإذا لبدأ الناس يتخاطفون هذا الاسم، وكل يدعيه لجماعته. أما حين عرفها النبي بوصف، فالوصف لا يقبل الإدعاء لأنّه عمل وتطبيق، وفي هذا فضحٌ للمدعين والأدعياء .. ويجب أن يُعلم أنّ الفرقة الناجية واحدة كما جاءعن المعصوم، ولا تقبل التعديل أو الاستنساخ أو التعددية..!

وماذا كان العاصم من الافتراق؟ إنّه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره للوجوب، بلزوم منهج (ما أنا عليه وأصحابي). وربط عليه السلام ذلك بالنجاة من النار يوم القيامة، وكلامه صلى الله عليه وسلم لا يقبل المناورة، والمداورة، والتأويل .. إذن جاء الأمر بالمنهج مع التحذير من الافتراق المفضي إلى النار، فليست الدعوة إلى المنهج من أجل صحة التدين بدعاً من القول، ولا إحداثاً في العمل، إنّما هو الدين الحق، والأدلة فوق أي رأي أو عقل أو اعتبار.

والمتهوكون يثيرون الاعتراضات في وجه دعوة الحق، تشكيكاً وتثبيطاً؛ مثل أن يقال: إنّ كلمة (المنهج) لم تكن تتردد في الأعصر الأولى، وهذا صحيح بادي الرأي، ولكن ما السبب؟ لأنّ مسلمي تلك الأعصر كانوا يؤمنون أنّ الاتباع هو المنهج، ولم يكن التفرق في الدين قد ظهر بعد..! ومن هنا نقول: إنّ التركيز على المنهج جاء بعد ما ألقى الافتراق بِجِرانه في أمة الإسلام.

ومن عظيم فوائد التزام المنهج، على الصعيد الفردي أنّه يُصلح تدين الإنسان، ويجعله يعبد الله بما شرع، فيكون عمله متقبلاً بإذن الله، وذلك طريق الفوز بالجنة بعد رحمة الله. وأما على صعيد الجماعة، فإنّ المنهج يُوحد مصدر التلقي عند الجميع، وهو المدخل الوحيد والصحيح لوحدة الأمة .. وكم من طرق جُربت لتوحيد المسلمين ولم تزدهم إلا فرقة، وبكل أسف فإنّ توحيد مصدر التلقي لم يناد به أحد، تأكيدًا للاختلاف، وتكريساً للفرقة، ورفضًا للإصلاح، لأنّه يتعارض مع الأهواء.

ننهي هذه الفقرة بكلام للشيخ الألباني، عندما سئل عن مفهوم التزام الجماعة، في شريط رقم (358) من (سلسلة الهدى والنور).

(الأخ السّائل: يقول هناك عدّة أحاديث نبوية فيها الأمر بالتزام الجماعة فما هو فهم هذه الأحاديث في ضوء الواقع؟

الشيخ: الجواب في الحديث المعروف في السنّن وهو قوله عليه الصّلاة والسّلام (تفرقّت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرّقت النّصارى على اثنتين و سبعين فرقة وستفترق أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ واحدة قالوا من هي يا رسول الله؟ قال هي الجماعة) هذا هو الجواب لكن هذا الجواب يرد عليه سؤال فلا بدّ من تفصيل الجواب إذا فهمنا الجماعة المقصودة بهذا الحديث هو جواب السّؤال المطروح آنفا لقد جاء تفسير هذا الجواب الّذي هو الجماعة في رواية أخرى وهي قوله عليه السّلام (هي الّتي تكون على ما أنا عليه وأصحابي) فإذن انظر أيّها المسلم الضّائع في خضمّ هذه الجماعات القائمة اليوم في المسلمين في كلّ بلد فضلا عن العالم الإسلامي كلّه انظر فمن كان على الكتاب والسّنّة والسّنّة الصّحيحة عقيدة وعملا عبادة وسلوكا فيجب عليك أن تكون مع هذه
الجماعة ليس سواها إطلاقا وهذا من معاني قوله تعالى في القرآن الكريم (وكونوا مع الصّادقين) ولا يجوز لأيّ شابّ مسلم أن يتحزّب أو أن يتكتّل أو أن يبايع جماعة من هذه الجماعات القائمة على وجه الأرض لأنّ البيعة في الإسلام لا تكون إلاّ لرجل هو الوحيد الّذي يبايع وهو الوحيد الّذي يدير شؤون الإسلام والمسلمين ويحكمهم بكتاب الله وحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومع الأسف الشّديد هذا الشخص لا وجود له اليوم ولذلك فلا وجود لشخص يبايع اليوم، لأنّ البيعة إنّما تكون لخليفة المسلمين ولكن (وكونوا مع الصّادقين). هنا جماعة وهناك جماعة وهناك جماعة، في هذا البلد وفي البلد المجاورة وفي البلدة البعيدة عنك جماعات تحسبهم على الكتاب والسّنّة وأعمالهم على الكتاب والسّنّة وأخلاقهم كذلك فهؤلاء يجب أن تكون معهم لأنّهم هم الجماعة وهم المقصودون أخيرا بقوله عليه الصّلاة والسّلام في الحديث الصّحيح بل المتواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خالفهم حتّى تقوم السّاعة) أو (حتّى يأتي أمر الله) إذن عليك بالجماعة الّتي هي على الكتاب والسّنّة وإيّاك أن تشذّ عنها كما جاء في الحديث الصّحيح (فإنّما يأكل الذّئب من الغنم القاصية) ولا ينبغي أن يكون الشّعب المسلم مغفّلا ، بأن يعيش مع جماعة دهرا طويلا ثمّ لا يزداد علما ولا يزداد فقها ولا يزداد عبادة ولا إحسان سلوك ، فمعناه أنّه يعيش في خسران مبين . لهذا على المسلم أن يختار من صدق هذا المعنى الّذي سمعتموه في حديث الفرقة النّاجية أن يكون مع الجماعة بالمفهوم المفسّر في الرّواية الأخرى والّتي تكون على ما كان عليه الرّسول وأصحابه ولا يخفى على أيّ إنسان أنّ هذه الجماعة لا يمكن أن يكونوا كذلك إلاّ بالعلم والعلم هو الكتاب والسّنّة فمن كان لا علم عنده بالسّنّة فلا علم عنده بالكتاب لأنّ القرآن والسّنّة توأمان لا يجوز التّفريق بينهما كما جاء في الحديث الصّحيح (تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما أن تمسّكتم بهما كتاب الله وسنّتي ولن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض)
). إنتهى كلام الشيخ

وأريد أن أؤكد على فكرة قالها الشيخ رحمه الله في آخر كلامه القيم، وهي أنّ الانتماء لجماعة (ما أنا عليه وأصحابييُحَمِّل المنتمي مسؤولية كبيرة، وهي الاجتهاد في طلب علم الكتاب والسنة، لأنّ هذا الأمر هو من أبرز خصائص ومقومات ولوازم هذه الجماعة المباركة.

الرابعة: وفي آخر الحديث المشهور عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وهو من المتفق عليه، وهو حوار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حول ما سيواجه المسلمين من أحوال، وهو استشراف لأمور من الغيب بيّنها النبي عليه السلام تحذيرا للمسلمين حتى لا يكون أمرهم عليهم غمة. أجل في آخر الحديث كلام عن الجماعة لا يسع المسلمين الجهل به. لكنّي لأهمية ما في الحديث من علم أثبته كاملا، ثم أشرح الفقرة الأخيرة، المتعلقة بالجماعة.

يقول حذيفة رضي الله عنه: (كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: (نَعَمْ). قُلْتُ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ). قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ). قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: (نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا). قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: (هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا). قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ). قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)).
متفق

عليه


وأريد التأكيد على الجملة الآتية في الحديث التي استنبط البخاري رحمه الله الترجمة منها إذ يقول في ترجمته للحديث:
(باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة) .. والحديث يتحدث عن غياب الجماعة والإمام: ((تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ). قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)) وهذا الذي يؤكد واقعية دين الإسلام في أنّ الإمام قد يغيب، وأنّ الجماعة في ظهورها قد تختفي، لغياب ما يسمى اليوم الدولة، أي الدولة التي يُحكَّم فيها الإسلام الحق، لكن الإسلام يبقى في النفوس، نفوس المؤمنين بكل تفاصيله وأحكامه ويعيشه الناس أفرادا في تلك الأحوال الشاذة، ويحاسبون عن تطبيقه.

وليس غياب الإمام أو الجماعة، أو (الدولة) من حياة المسلمين، عُذرا لترك العمل بالإسلام .. كذلك فلا ينبغي لغياب الجماعة والإمام من حياة المسلمين أن يُسْقَط في أيدي المسلمين، وأن تطيش سهامهم، وهذا ما نلحظه جليا في حياتنا المعاصرة، فإنّ المسلمين لا ينبغي أن يفاجؤوا بواقع قد أخبروا عنه بنص .. وفيه أيضاً رد على بعض الطوائف الذين زعموا أنّ الإسلام يغيب لغياب الإمام والجماعة، وأنّ بعض تكاليفه تسقط. بعبارة أخرى عصرية نقول إذا غابت دولة الإسلام، وهذا ممكن كما جاء في حديث حذيفة، فالإسلام باق في النفوس، والتكليف به لا يتغير، والدعوة إليه ماضية، لأنّ المنهج باقٍ، والإلتفاف حوله يكون استعدادا لإعادة الجماعة والإمام .. ولا ينكر أنّ بعض الأمور الشرعية، قد يعطلها غياب الجماعة والإمام، مثل إقامة الحدود، وعقد راية الجهاد، فذلك من خصائص الإمام وحده، وإن غاب غابت معه، ولا يقوم أحد مقام الإمام في ذلك، وهذا ما يسمى بالمصطلح السياسي الحديث (الفراغ السياسي).

ولا يفوتني أن أذكر وأؤكد حقيقة، لا تقبل مِراءً، وهي أنّ وجود الجماعة والإمام مرتبط بالأمة، وجوداً وعدماً، حضوراً وغياباً، قوة وضعفاً .. والجهل بهذه الحقيقة سرُّ كلِّ إخفاقٍ للمسلمين، وسبب تعثرهم للخروج من وهدتهم السحيقة .. فإن غابت الأمة والجماعة والإمام، وجب على المسلمين العمل الدؤوب لإعادة ذلك، ولا فلاح للبدء بغيره على سلم الإصلاح.

كذلك فإنّ في الحديث ملمحاً رائعاً ومهماً، وهو أنّ الواجب مع وجود الجماعة العمل والدأب والحركة لمصلحة الدين، وأما إذا غابت الجماعة يصبح الواجب اجتناب كل الفرق التي على الساحة، و(الجماعات) التي لا تتمتع بوصف جماعة الإسلام الواحدة (الأم) (ما أنا عليه وأصحابي)، (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا). ووجوب عدم موالاتها ومؤازرتها، والبحث عن الصيغة الفردية لنصرة الإسلام، والتي تهدف إلى إظهار وجود الجماعة من جديد .. ولا شك أنّ تلك المرحلة، أعني غياب الجماعة والإمام، تكون عصيبة على كل مسلم يدركها لأنّها ستحمل الأفراد مسؤوليات وتبعات أعظم .. وهذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ).

الخامسة:
أما وقد استخلصنا من السطور الماضية أنّ أمر المنهج ضروري للتدين، وأنّ المسلم لا يستطيع أن يدين الله بالدين الحق إلا من خلال منهج (ما أنا عليه وأصحابي) لأنّ ذلك اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لمن يريد أن ينجو من شر الافتراق الذي أصاب الأمة، ويكون من الفرقة الناجية التي تزحزح عن النار بإذن الله .. ولعلنا لوضع الأمر في نصابه لمن قد تُلبَّس عليه الأمور، من قبل أهل الفرق، نقول بكل ثقة (لا سلامة لمن لا منهج له)، وهو ليس استنباطاً أو اجتهاداً بشرياً إنّما هو قول من لا ينطق عن الهوى (كلها في النار إلا واحدة)، ومن هي تلك الواحدة، نجيب بكلام النبي عليه الصلاة والسلام بالحرف (ما أنا عليه وأصحابي).

ولا بد من البيان حتى لا يُضَلل المسلمون بما يقوله أهل الفرق، أو المتزلفون لهم، الذين أعَلُّوا حديث الافتراق بهذه العبارة النبوية
(كلها في النار إلا واحدة)، وعارضوها بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا: الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ)

رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ .. وخلصوا إلى القول بشذوذ متن الحديث بل نكارته، ثم أجهزوا على سنده ليخرجوه من دائرة الآستدلال. كل ذلك من أجل الدفاع عن الفرق التي حكم النبي عليه الصلاة والسلام ببطلانها .. وأصحاب هذا التوجه يعلمون قبل غيرهم أنّه لا تعارض بين قولي النبي عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة)، و (أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا: الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ). ويكون ذلك من وجهين:

الأول: إنّ فهم حديث أبي موسى على أنّه لا يُعذَّب أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بالنار، فهم خاطيء لأنّ أحاديث الشفاعة تنص على إخراج أناس من أمة محمد من النار بالشفاعة، وأنّ بعضهم يدخلون النار للتطهير .. ومن هنا أوتي أصحاب هذا الفهم .. وقد جاء في (موسوعة الشيخ الألباني في العقيدة): (قال الإمام مبينًا خطأ من ضعف حديث «أمتي أمة مرحومة» بدعوى أنّه مخالف لأحاديث خروج ناس من أمته صلى الله عليه وآله وسلم من النار بالشفاعة. والحقيقة أنّه لا تعارض عند التأمل والابتعاد عن التظاهر بالتحقيق المزيف كما هو الواقع في هذا الحديث الصحيح، فإنّه ليس المراد به كل فرد من أفراد الأمة، وإنّما من كان منهم قد صارت ذنوبه مُكفَّرة بما أصابه من البلايا في حياته؛ كما قال البيهقي في “شعب الإيمان” (1/ 342): “وحديث الشفاعة يكون فيمن لم تَصِر ذنوبه مُكفَّرة في حياته”.

قلت: فالحديث إذن من باب إطلاق الكل وإرادة البعض؛ أطلق “الأمة” وأراد بعضها؛ وهم الذين كفرت ذنوبهم بالبلايا ونحوها مما ذكر في الحديث، وما أكثر المكفرات في الأحاديث الصحيحة والحمد لله. وفي ذلك ألف الحافظ ابن حجر كتابه المعروف في المكفرات).

وجاء أيضاً: (باب معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل». قال الإمام: أعلم أنّ المقصود بـ”الأمة” هنا غالبها؛ للقطع بأنّه لا بد من دخول بعضهم النار للتطهير).

والثاني: أنّ قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة) هو من باب الوعيد، ومعلوم لدى أهل العلم أنّ الوعيد من الله هو للإنذار والتخويف، وليس بالضرورة أن ينفذ، فقد يتوب العبد من الذنب الذي تُوُعِّد عليه فلا يعذب. فمن تاب من أهل الفرق، وعاد إلى الأمر الأول، وانضوى تحت جماعة المسلمين ذات منهج (ما أنا عليه وأصحابي) لم يعد متوعدا بالنار.

وكما قلت سابقاً، فإنّ هذه الحقائق لا تغيب عن بال من ضعفوا الحديث، ولكنّه الهوى أعاذنا الله منه.

ومن نافلة القول أن لا يفهمنَّ أحد أنّ أهل المنهج لا يُخطئون. إنّهم بشر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ). لكن الخطأ لا يكون في أصول الاعتقاد، بل في مخالفة المأمور به والمنهي عنه في فترات ضعف أو جهل، وباب التوبة مفتوح .. أما في غياب المنهج فالتجاوزات أكبر، وأسوأ عاقبة، وتصل إلى حد الابتداع في الدين، حتى في العقيدة. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ الله احتجر التوبة على كل صاحب بدعة) .. والصواب خارج المنهج غير مقبول لأنّه يفتقد النية، وتجيء به الصدفة، كالساعة المعطلة تصدق مرتين في كل أربع وعشرين ساعة. وما أروع من شبه صاحب المنهج ببائع ميزانه دقيق، فيكون الأغلب مما يزنه صحيحا، وقد يقع خطأ لعارض ودون قصد. ومن لا منهج له كبائعٍ ميزانه غير مضبوط، وقد يتعمد ذلك، فأغلب ما يزنه غير صحيح، وقد يأتي بعض الموزون صحيحا لعارض ودون قصد من صاحب الميزان .. فلنتدبر.

فليُبادر كل مسلم إلى التعرف على منهج الفرقة الناجية، وتقويم تدينه به، والتزامه في كل شأن، وإنّ صور البعض ذاك الأمر بأنّه صعب بل مستحيل، تخذيلا وتشكيكا. فهو رأي مغرض، والحق يسير على من يسره الله له .. والله الموفق.

السادسة: إنّ بروز جماعة لها منهج مؤصل مدلل، يرجع في اختياره للأمة، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، تتحرك به وسط خضم تيارات (إسلامية .. كما تدعي على الأقل) متصارعة، ووجهات متضاربة، ومناهج متباينة كلها تبتعد عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي) إن لم نقل تحاربه وتتهمه وتسفهه، وعلى الأقل تنافسه .. كل ذلك يفرز إعاقات جديدة، وعداوات أكيدة تعيق الحركة والتقدم إلى الهدف .. وهل من هدف لجماعة المسلمين أعظم وأكرم وأسمى وأرجى عند الله من الدعوة إليه على بصيرة لنصرته في كل حين (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) و (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

إذن، لا بد من عملية بحث دقيقة، عن الذات الجماعية، تؤكد الانتماء، وتقوي الثقة، وتذلل الصعاب، وتنير الطريق، وترفع من قدرة التحمل، وامتصاص الصدمات، واستيعاب الواقع غير المريح، وتهيء الجماعة لأمر عظيم، فهي جماعة المسلمين الأم والوحيدة، وهي الوجه الوحيد المقبول للإسلام عند الله، وبصلاحها يصلح أمر دين الأمة وبها يزدهر الإسلام ويحقق دوره على صعيد الإنسانية .. وليس غيرها المؤهل والمرشح لنشر الإسلام الحق بين الناس والدعوة إلى تحكيمه في كل شؤون الحياة. لأنّها ما دامت على منهج (ما أنا عليه وأصحابي) فلها من ضمانات الفلاح والنصر ما كان لهم.

وسأناقش في السطور القادمة مسائل أجعلها بمثابة محطات على طريق عمل الجماعة، تُرَشِّد و تُبَصِّر وتُحذِّر .. محطات تعين بإذن الله على اجتياز مرحلة البحث عن الذات في طورها الثاني الجماعي بنجاح.

أولاً:
ي
جب على الجماعة التي التفت حول منهج (ما أنا عليه وأصحابي) وعلى كل منتمٍ لها بحق، أن تحرص على التمكين لوجودها، وتسعى لتأمين وجودها .. ولا شك أنّ هذا الأمر بيد الله تبارك وتعالى، ولكن هناك ضوابط وسلوكيات تساعد على ذلك .. فإنّ دعوة الإسلام دعوة إنسانية معلنة، لا تقبل أن تتحول إلى دعوة سرية وعمل تحت الأرض. إنّ ذلك مقتل لها في إعطاء الفرص للغير بأن يوجهوا أي اتهام لها مهما كان باطلا .. والمثل يقول (اليد البيضاء لا تخشى).

ثانياً:
إن
ّ جماعة المسلمين الأم (ما أنا عليه وأصحابي) يجب أن تصون نفسها وأن تقاوم نفسها من أن تنزلق في عمل طائش أكبر من إمكانياتها، وأهم من ذلك أنّه ليس من تكليف الله لها، ورحم الله عمر بن عبد العزيز يقول: (من دعا إلى الله على غير بصيرة كان إفساده أكثر من إصلاحه). وقد يتسلل إليها هذا الأمر الخطير من أناس في الساحة، يصفقون له، وهم العاطفيون السطحيون، فتجد الجماعة نفسها منساقة لإرضاء الجماهير اللامسؤولة، ويستهوي ذاك الانحراف بعض السطحيين المستعجلين والمتعجلين للنتائج قبل أوانها. وإن فعلت فهي تنهي نفسها ومهمتها الكبرى بيدها.

إنّ استبطاء النتائج أخطر ما يصيب العاملين للإسلام. وليعلم كل مسلم، أنّ النتائج بيد الله وحده، وماعلينا إلا الانضباط بالمنهج، والإخلاص فيه، وتحرير العمل به من كل دخيل، وتلك هي مسؤولياتنا أمام الله .. ومتى صارت النتائج تشغل عن ضبط العمل استعجالاً ، فقد يقع المحذور (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) وما أكثر الأدلة في الكتاب والسنة على هذه الفكرة .. وأخطر ما يواجه العمل الإسلامي أن يصبح هاجس النتائج عبئا على المنهج أو تشكيكا بسلامته وصلاحيته، والواقع يشهد لحدوث هذا.

ثالثاً: المعرفة الدقيقة والواعية والمؤصلة بحدود تكليف الله للجماعة وطبيعة التكليف. فأهم واجبات الجماعة تغيير واقع المسلمين إلى الأفضل.. فما السبيل إلى ذلك؟

هو طريق واحد لا ثاني له..! تحقيق دستور التغيير في كتاب الله، وينحصر في آيتين وما يدور في معناهما: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وقوله: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) .. أما أساليب التغيير الأخرى السياسية والتفجيرية والغوغائية التي آمن بها البعض والتي تزج الأمة فيما لا يحمد عقباه، فليست من الإسلام في شيء.

إنّ مهمة جماعة الإسلام الأم أن تسلك طريق الدعوة المؤثرة لتغير الأنفس وتشكلها وفق (ما أنا عليه وأصحابي)، وأن تربي المسلمين على أنّ المسؤول الأول الملوم عن أي تعثر هو الأنفس قبل توزيع الاتهامات يمينا وشمالا، هروبا من مرارة الحقيقة، ومواجهتها بجرأة شرعية وأدبية .. وما غزوة أحد ومجرياتها وتعقيب القرآن عليها ببعيد. فإن تغيرت النفوس، وصارت لوامة غيّر الله لها ما لا تقدر على تغييره، ولا سبيل غير ذلك..! ولا يعرف التاريخ الإسلامي تجربة التغيير بالقوة والقتل، إنّما هو تغيير الأسباب التي أدت إلى واقع يحتاج إلى التغيير، أما التغيير بالقوة مع بقاء الأسباب قائمة فلا يورث إلا خسارا، فتناً ومقاتل كبيرة .. وما أروع كلمة الحسن البصري التي تسقط منهج التغيير على واقعة تاريخية معينة تصدر من تابعي استوعب الإسلام، وحرص على واقع الأمة من الانحراف بسبب الفكر المستعجل العاطفي المنحرف .. لما سئل الحسن البصري رحمه الله عن الخروج عن الحجاج وكان يكرهه قال: (إعلم عافاك الله أنّ جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف، وإنّما تُتقى وتُستَدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب، إنّ نقم الله متى لقيت بالسيف كانت هي أقطع). ويقول: (إنّكم من أنفسكم أوتيتُم إنّما نخاف إِن عُزلَ الحجاجُ أو مات أن تليكم القردة والخنازير). من كتيب آداب الحسن البصري لابن الجوزي.

رابعاً: يجب أن لا يغيب عن ذهن كل من التفوا حول منهج (ما أنا عليه وأصحابي) أنّهم أقوياء وضعفاء في آن معا. هذا ليس لغزا محيرا، إنّما هو حقيقة يجب فهمها واستيعابها، لتقي أهل (ما أنا عليه وأصحابي) من تعثرات وانتكاسات وعقد وارتكاسات .. أضيف على العبارة السابقة وصفين يوضحانها، فأقول: إنّ أهل (ما أنا عليه وأصحابي) أقوياء شرعياً، ضعفاء جماهيرياً .. فبعد هذا الإيضاح بأي الوصفين نعتد؟

نعتد ونفرح بهما معا، فأما القوة الشرعية للجماعة، فلأنّ دعوتها مرتكزة مؤصلة على الوحيين نصا وروحا، وإن كان عددها قليلا .. فهل لأحد من أهل الأرض أن ينازعها موقع القوة والقبول عند الله..؟ وأما الضعف الجماهيري، والمقصود به قلة العدد والأنصار، فهو في حقيقته قوة تضاف إلى القوة الأولى، لأنّ القلة هنا قلة فرضها التميز والتمحيص، فالصف المتميز والممَحَّص هو القوي ولو قل عديده. أما جماهيرية القطيع فهي الغثاء كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف .. ولا ننسى أنّ وصف القلة هو الملازم لأهل الحق، فالقوة في الإسلام قوة نوع وليست قوة كم.

لقد شاء الله تعالى أن يكون قدرنا العيش في زمن عمّ فيه الجهل وطم، وأعني الجهل بالدين وأحكامه. ولا بد لصحة الفهم من أن نميز بين جهل بالدين، مع رغبة فيه، وحرص عليه، فهو جهل بعلم الدين وأصوله الصحيحة .. ولعلي لا أتجاوز إذا وصفته (بدين العوام) مع وجود لحى وعمائم تعمل وتدأب .. وجهل مشتق من الجاهلية الأولى التي سبقت الإسلام فهو رفض للدين وحرب عليه وعلى أهله .. والحمد لله أنّ النوع الثاني لا يعلنها حربا سافرة معلنة، لكنّها حرب موجودة وباردة، بالمصطلح السياسي.

وما أظنكم تخالفونني أنّ النوع الأول من الجهل هو أزمة الملتفين حول منهج (ما أنا عليه وأصحابي) مع الناس من حولهم، ولا يتردد هؤلاء الناس من أن يعلنوها حربا سافرة لأنّهم يرون ذلك واجبا دينيا، لحماية الدين من (مندسين)، والواقع يشهد، تنقلب المعايير فيصبح المصلح (مندسا) وما قصة ابن تيمية رحمه الله مع علماء زمانه بخافية. فهم الذين أودعوه السجن بحجة أنّه يريد (تغيير الدين)، وما زال محارَبا قرونا حتى يومنا الحاضر.

وحينما يخيم الجهل (من النوع الأول) على النحو الذي نرى في واقعنا ويظهر جليا تطاول الجاهل على العالم .. ولمَ يكون ذلك؟ لأنّ الجاهل بغوغائيته ولجاجته يثير معه العوام والجهال، فيغيب صوت الحق بين أصواتهم، ولمثل هذه المواقف قال صلى الله عليه وسلم (إياكم وهيشات الأسواق) .. وحينما يسود أسلوب هيشات الأسواق تكون للواقع إفرازات خطيرة أنبأنا بها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: (إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سُنُونَ خَدَّاعَاتٌ يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ).

واسترواحا إلى ساحة الأدب، أقول إنّ مجتمعا تكون فيه الغلبة للجهل وأهله، ويتطاول فيه الأدنى على الأعلى، وتتضاءل فيه المثل بل تغيب، يكون مشكلة كبيرة عند العقلاء، بل عذابا دائما لهم حتى يتمنى بعضهم الموت .. نقلت لنا كتب الأدب خبرا عن ذلك، مثل أبيات المعري:

فلو بان عنقي ما تأسف منكبي
إذا وصف الطّائي بالبخل مادرٌ
وقال السُّهى للشمس أنت ضئيلةٌ
وطاولتِ الأرض السَّماء سفاهةً
فيا موت زُر إنّ الحياة ذميمةٌ

ولو مات زندي ما بكته الأنامل
وعيّر قساً بالفهاهة باقلُ
وقال الدُّجى للصُّبح نورك حائل
وفاخرت الشُّهبَ الحصى والجنادل
ويا نفس جدّي إنّ دهرك هازل

ولكنّ أهل الإسلام الحق لا يقولون يا موت زر … وإنّما يتنادون للتشمير عن ساعد الإصلاح والتغيير.

ولكي يطمئن قلب المؤمن، وترتاح نفسه أنّه على الحق، لا ينظر في زمن السنين الخداعات موقعه عند الناس .. إنّما الأصل أن يعرف الإنسان موقعه عند ربه من خلال عرض اعتقاده ومساره وعمله على نصوص الوحيين وحركته على طريق الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم .. فيا معشر من اخترتم لتدينكم منهج (ما أنا عليه وأصحابي) أنتم وحدكم
الأقوياء في هذا الوجود، إنّكم أقوياء بربكم، وبربط تدينكم بالوحيين وباتباع نبيكم .. ولا توحشنكم نظرة الناس لكم وتقويمهم إياكم، فبمقياس الأرض ينظرون، وعلى الله يتألون.

وليُعلم أنّ من سنن الله في الخلق أنّ الإصلاح ودعوة الخير والنور تأتي على أيدي فئات قليلة مستضعفة امتحن صبرها، ومحصت مواقفها في فترات الضعف، فثبتت وصمدت فرشحت للأمر العظيم .. ولا أجد ما يعبر عن المعنى والحال الذي أريد غير فواتح سورة القصص: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ). فلنكن دائماً على ذكر لهذه الآية.

خامساً: إنّ الصبغة التي تَصْبِغُ، والصفة التي تلازم أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) في هذا الزمان، هي الغربة .. وهل تلك الغربة صفة مدح أم ذم؟ الجواب في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس) وفي رواية أخرى: (طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).

وماذا يقال عن الغربة؟

1. إنّ غربة المسلم في زمن الغربة وسام شرف يعلقه له رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره .. فالغربة إن استحكمت بالمسلم كانت شهادة له أنّه على الحق، من نبيه صلى الله عليه وسلم. فلو لم يكن مستقيما لما كان غريبا في زمن الاعوجاج .. ولو لم يكن أمينا لما كان غريبا في زمن الخيانة .. ولو لم يكن على الكتاب والسنة
وفق فهم السلف لم يكن غريبا في زمن فتنة التأويل والتحريف والتبديل .. ولو لم يكن متبعا لنبيه لما كان غريبا في زمن
الابتداع .. ولو لم يكن يريد الله والدار الآخرة لما كان غريبا في زمن حب الدنيا والتهالك عليها وتعبيد الأنفس لها.

إذن كل المجاملات والمهادنات والمداهنات وما يسميه العوام (تمسيح الجوخ) تسقطها الغربة التي اختارها الله ورسوله لأهل دينه الحق وأصحاب المنهج .. فالغربة تثبيت بالقول الثابت في الدنيا والآخرة. تعطي الانشراح والتفاؤل وتبشر بالقبول وبالجنة.

2. ما دامت الغربة بين الناس، عند فساد الناس، قدرَ الصالحين والمصلحين، فيجب أن لا تُقْعِدَ ولا تُعَقِّد .. فلا يجوز بل لا يجب أن تُقعد صاحبها عن العمل الدعوي، بالمنطق العامي المُؤْثِر للراحة والدَّعَة (فالج لا تعالج) .. بل يجب أن تكون حافزاً ودافعاً. فأمر طبيعي ونتيجة حتمية، ليقينه أنّه على الحق، أن يكون اندفاعه لتبليغ هذا الحق، زمن انتفاش الباطل، قويا دائبا لا يفتر .. وأما أنّها يجب أن لا تُعَقِّد بسبب شعوره بالهوة والجفوة بينه وبين الناس، وأنّه مهمش معزول عندهم، فلأنّه على ثقة أنّه على الحق، وأنّ الذي ابتعد وصنع الجفوة هو الطرف الآخر..؟ وردم الهوة لا يكون إلا بعودة أهل الباطل إلى الحق، فلا بد من محاولات إعانتهم على ذلك، وكسب الأجر عند الله، استجابوا أم لم يستجيبوا.

3. إنّ الغريب الواثق من أنّ غربته حق، وأنّها إيجابية يحرص أن يكون رفيقا ورحيما وحكيما في التعامل مع من حوله فيقدم نفسه إليهم في أحسن صورة، وأفضل سلوك ليعلموا أنّ الخصومة معهم ليست شخصية وإنّما هي مبدئية .. وأهل الحق يُثبتون للآخرين مهما كانوا بعيدين أنّهم بمجرد تغيير مواقعهم وانخراطهم تحت راية الحق يصبحون تماما كأهله الأولين دون تمييز .. وتروي لنا السير قصصا كثيرة ورائعة عن الانتقال من العداوة إلى الولاء ومن الكره إلى الحب لتغير الدين .. واسمعوا عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: (رأيتني وما من الناس أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أحب إلي أن أستمكن منه فأقتله .. فقد رأيتني وما من الناس أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أجل في عيني منه ولو سئلت أنعته ما أطقت ولم أطق أن أملأ عيني منه اجلالا له).

سادساً: ولا بد من الرفق، فأهل الخير وأهل الدعوة وأهل الحق هم الأساة لكل من هو على الطرف الآخر، ولا بد للآسي من أن يكون رفيقا.

ولا يفكرون لحظة باقتراب من الطرف الآخر، لا مناورة، ولا مجاملة، ولا مداهنة، مستمسكين بقول ربهم: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) .. لكن هذا الواقع القاسي القائم أفرز طبقة من الدعاة وشريحة من العلماء ادّعوا الوسطية، والتيسير، والتخفيف والعقلانية والعصرانية، إلى غير ذلك من ألفاظ الزيف والكذب. وأيقنوا أنّه لن يناسب الواقع المعاصر، والوضع الراهن بين المستمسكين بالإسلام والحائدين أو الزائغين عنه إلا تلك الأساليب، وأنّ سلوك هذا السبيل واجب شرعي وضروري لخدمة الإسلام..!

ونقول لهؤلاء: أأنتم أعلم أم الله، أأنتم أحكم أم الله، أأنتم أغير على الإسلام أم الله..؟ اتركوا الإسلام كما أنزله ربه، ودعا إليه نبيه، وإن سلم من فلسفتكم وطرحكم وتنظيركم فهو بألف خير .. وأقول للغرباء الذين يلمزهم أهل الوسطية، وينتقدهم أهل التيسير والتخفيف، ويسخر منهم أهل المداهنة فينعتونهم بالمتشددين تارة، وبالنصيين أخرى، وبالذين يعيشون خارج عصرهم .. أقول إصبروا وصابروا فقد شاء الله أن تكون مناورة الملتزمين بالإسلام بين المتفلتين منه محدودة، وعلى قدر ما تأتي به النصوص دون تدخل العقل المتطاول على النص .. وليس هذا عيباً في الإسلام وأهله، فالملتزم بالوحيين المنزلين من فوق سبع سماوات مقيد في حركته ومساره ومناورته بما جاء من عند الله، وليس كالمتفلت من كل قيد إلا من هواه، ومسايرة العصر والواقع اللذين أُخذ بزخرفهما واستحوذا عليه، ولا يستويان مثلا.

وتكفي كل مسلم في حركته في تلك المجتمعات الشاردة عن الحق وعن الله، تلك المناورة التي حباه الله إياها، وإن كانت ضيقة وما ضيقها إلا حكمة من خالقها، وليس يحتاج مناورة واسعة تصنعها عقول المتخاذلين والمتشككين الذين يرون المعركة مع من حولهم أرضية وحسب .. واقرؤوا في وجه كل من يعيب عليكم التزامكم وعدم حيدتكم ومحدودية مناورتكم آيات سورة الإسراء: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا).

سابعاً: إعلموا يا أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي) أنّكم غرض وهدف لكل من استهدف الإسلام .. وأنّكم يُكادُ لكم من كل من يريد الكيد للإسلام، وهذا شأن كل أنصار الحق قبلكم .. لا أقول ذلك للتصبير وإنّما أقوله من أجل أن تنتبهوا لسلوككم ومواقفكم وأفعالكم وأقوالكم، فالكل متربص بكم، فلا تعطوا الفرصة لأحد .. وكثيرون يخلطون بين المنهج وأسلوب عرضه أو تبليغه، وكثير من المخالفين لدعوة الحق يتخذون خطأ الأسلوب، أحيانا، حجة لرفض مادة المنهج، لأنّ عداءهم أصلا للمنهج، ولكن لا يستطيعون التصريح بذلك، لقوة الحق ووضوحه، فيبحثون عن الأعذار الواهية .. فلنقطع طرق الاحتجاج الكاذب على أمثال هؤلاء .. وفات هؤلاء أنّ حجة البلاغ قامت عليهم سواء كان الأسلوب حكيما أم غير ذلك .. فمهمتنا نحن أصحاب المنهج الحق منهج (ما أنا عليه وأصحابي) مع الناس مهمتان إيصال الحق إليهم، وإعانتهم على أنفسهم في تقبله .. ولا تظنوا أنّ هذا العداء أمر طاريء إنّما هو ملازم لأهل الحق منذ بداية الخليقة، ومنذ قضى الله تبارك وتعالى بمشيئته قيام الصراع بين الحق والباطل، وهو صراع لا ينتهي إلى قيام الساعة .. ويبقى تأكيدنا على قوله تعالى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

وفي تسجيل سجل للشيخ الألباني رحمه الله على فراش المرض، قبل وفاته بشهرين، لما زاره مجموعة من محبيه، إثر تحسن في حالته الصحية يقول: (علينا أن نترفق في دعوتنا للمخالفين لها، وأن تكون مع قوله تعالى إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة .. وأحق من نستعمل هذه الحكمة معه هو من كان أشد خصومة لنا في مبدئنا وفي عقيدتنا حتى لا نجمع بين ثقل دعوة الحق التي امتن الله بها علينا وبين ثقل أسلوب الدعوة .. أرجو كل إخواننا أن يتأدبوا بتلك الآداب الإسلامية، وأن يبتغوا وجه الله لايريدون جزاء ولا شكورا).

ثامناً: إنّ لدى أمة الإسلام تراثاً علمياً كبيراً وغنياً، لكنّه كسائر كل عمل بشري يعتريه النقص والخطأ. ولما كنا متعبدين لله بالوحيين لقوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) وقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)
فلا بد أن نعلم أنّ التراث العلمي الديني نتاج عقلي بشري مرتكز على فهم الوحيين، والأفهام تختلف، لذلك لا يجوز أبدا أن يكون البديل عن الوحيين، فالبوصلة جهاز يهديك إلى القبلة لكنّها ليست القبلة .. والتراث يُحترم لكنّه غير معصوم، والتراث نافع لكنّه ليس مقدسا، فلا تبرأ الذمة بالعمل به قبل عرضه على الوحيين وموافقتهما .. وليس هذا بالأمر السهل على أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) لاسيما في زمن السنوات الخداعات .. فما إن تواجه الناس بنص لتخرجهم من التقليد، إلى العمل بالوحيين، حتى يثيروا في وجهك ألف اسم واسم من أصحاب أقوالٍ مخالفة، وقد تكون لامعة، يراهم الناس لجهلهم، قامات أكبر من الوحيين.

ومن أولى واجباتنا المعاصرة أن نعيد لنصوص الوحيين قدسيتها التي فقدتها يوم عُطل العمل بها، وقُدمت عليها أقوال الرجال .. والعلماء في القديم والحديث يحملون كفلا من هذه الجناية .. ونحن مضطرون أن نقول للناس من حولنا، يوم فقدت نصوص الوحيين قدسيتها، إنّ نصاً واحداً من الوحيين أعظم، وأكبر، وأصدق، وأقدس من الكون بكل ما فيه .. فمن راعته هذه العبارة لأنّها أسقطت معاييره التي اعتادها، فليلقَ الله برفضها، أما نحن أهل (ما أنا عليه وأصحابي) فنسأل الله أن يثبتنا حتى نلقاه بها وعليها.

خواطر وأفكار، طرح وعرض، نظر واجتهاد … كلها مني ترجو وأرجو لها الصواب والقبول .. لكنّها لا تدعي ولا أدعي لها العصمة .. فإن وفقت فتلك نيتي وأمنيتي، ولله الحمد والمنة، ومنه أطلب الأجر .. وإن كانت الأخرى، فقد أكون مخطئا، لكنّي أعوذ بالله أن أكون خاطئًا .. وأستغفر الله من كل خطأ أو خطل، والحق أحق أن يُتبع .. ولئن فاتني في بعض ما قلت الأجران، فلي الواحد، إن شاء الله، لنيتي وحسن قصدي .. والحمد لله رب العالمين