Skip to main content

الجَمَـلُ والمَثَـلُ

By الأحد 25 ذو الحجة 1435هـ 19-10-2014ممحرم 21, 1441دراسات

لعل في العنوان بعض الغموض، وما هو إلا إشارة إلى ظاهرةٍ أسلوبيةٍ في الحديث النبوي، وهو ليس دراسة متكاملة .. لكنَّ في الذاكرة ثلاثة أحاديث صحيحة، يمكن أنْ يكون في مذاكرتها وإسقاطها على الواقع نفع وذكرى .. وقد اختار النبي عليه السلام وهو الذي تُنسب إليه الكمالات الثلاثة، كمال العلم، وكمال البلاغ، وكمال البيان، (الجملَ) وسيلةَ إيضاحٍ لإيصال حالٍ يجب أنْ يكون عليها كل مسلم، بيسر، بعيداً عن أدنى لبس، لمن يريد الله والدار الآخر، ويرجو الفوز والفلاح..! كيف لا وهو الذي قال عن نفسه: (أوتيت جوامع الكلم). والأحاديث الثلاثة: قال عليه الصلاة والسلام:

. (إنّ المُؤْمِنَ ليُنْضِي شَيْطانَهُ كَمَا يُنْضِي أحَدُكمْ بَعِيْرَهُ فِي السَّفَرِ).

. (إِنَّمَا النَّاسُ كَإبِلٍ مِائَةٍ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَة).

. (مَثَلُ الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ: كَمَثَلِ بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ؛ فَهُوَ يُنْزَعُ مِنْهَا بِذَنَبِه).


الحديث الأول:
عن أبي هريرة مرفوعاً: (إنّ المُؤْمِنَ ليُنْضِي شَيْطانَهُ كَمَا يُنْضِي أحَدُكمْ بَعِيْرَهُ فِي السَّفَرِ).

يقول ربنا تبارك وتعالى يحكي لعباده، محذراً، قصة المخلوق اللعين، الذي آلى على نفسه واختار لها، في هذا الوجود مهمة الإغواء والإضلال لبني آدم ليخرجهم من الجنة كما أخرج أبويهم، في آيات كثيرة، منها: قال تعالى:

. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

. (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).

. (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).

لكنّ عباد الله المؤمنين الذين أخذوا دينهم عن الله ورسوله، ولم يتخذوا دينهم لهواً ولعباً، عكسوا طبيعة المعركة مع الشيطان وقبيله، فبدل أنْ تكون إغراء وإغواء من الشيطان، كي يبقى الإنسان دائما في أثره، متبعاً ومطيعاً، يعمل ما يُزينه له. جعلوها فراراً منه اتقاء لشره، يتركونه هو وقبيله في لهاث وراءهم ولن يدركهم. وصار الشيطان بدل أنْ يكون متبوعاً يكسب الأنصار، يُطارد المؤنين وهم ينأنون عنه، يتعبونه ويبوء بالفشل الذريع كلما فاته اصطياد مؤمن..!

فحري بنا، نحن بني آدم، وقد ورثنا من أبينا آدم عليه السلام الضعف البشري الذي يتجلى في الوقوع في حبائل الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، التي هي نتاج وسوسته، أنْ لا ننسى أنّنا كما ورثنا عن أبينا الضعف البشري أمام إغواء الشيطان، فيجب أنْ نرث من أبوينا ما هو أقوم، وهو التوبة من بعد زلة القدم (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين)، وتأتي التوبة، بعد الذنب، ويمحو الله الخطيئة برحمته وفضلة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى).

ولتمام الفائدة من هذا الموضوع، واستكمالاً له من كل جوانبه، كان لزاماً أنْ يُختم بحديث شريف، وكلام لابن القيم، وهما لصيقان تماماً بلب الموضوع، ألا وهو دور الشيطان مع ابن آدم. وتجنباً للإطالة قمت باختصار بعض الفقر من كلام ابن القيم بما لا يخل بالمراد بيانه.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنّ الشّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإسْلامِ، فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وآبَاءِ آبَائِكَ؟ فعصاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: أَتُهاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَماءَكَ؟ وَإِنَما مَثَلُ المهَاجِرِ كالفَرَسِ فى الطول فَعَصَاهُ وَهاجَر، ثُمَّ قعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، وَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالمَال فقال: تقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ المَرْأَةُ وَيُقْسَمُ المَالُ؟ قَالَ: فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ). ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة.
ومن قُتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة. وإن غَرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقَصَته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة).

ويقول ابن القيم رحمه الله في كلام نفيس نافع من كتاب (مدارج السالكين): (فالشيطان بالرصد للإنسان على طريق كل خير. فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ فِي عُقْبَةٍ مِنْ سَبْعِ عُقْبَاتٍ {الأشياء المتتابعة التي يعقب بعضها بعضا}، بَعْضُهَا أَصْعَبُ مِنْ بَعْضٍ، لَا يَنْزِلُ مِنْهُ مِنَ الْعُقْبَةِ الشَّاقَّةِ إِلَى مَا دُونَهَا إِلَّا إِذَا عَجَزَ عَنِ الظَّفَرِ بِهِ فِيهَا.

الْعُقْبَةُ الْأُولَى: عُقْبَةُ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَبِدِينِهِ وَلِقَائِهِ، وَبِصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَبِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَفِرَ بِهِ فِي هَذِهِ الْعُقْبَةِ بَرُدَتْ نَارُ عَدَاوَتِهِ وَاسْتَرَاحَ، فَإِنِ اقْتَحَمَ هَذِهِ الْعُقْبَةَ وَنَجَا مِنْهَا بِبَصِيرَةِ الْهِدَايَةِ، وَسَلِمَ مَعَهُ نُورُ الْإِيمَانِ طَلَبَهُ عَلَى.

الْعُقْبَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِيَ عُقْبَةُ الْبِدْعَةِ، إِمَّا بِاعْتِقَادِ خِلَافِ الْحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ، وَإِمَّا بِالتَّعَبُّدِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنَ الْأَوْضَاعِ وَالرُّسُومِ الْمُحْدَثَةِ في الدِّينِ، الَّتِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنْ قَطَعَ هَذِهِ الْعُقْبَةَ، وَخَلَصَ مِنْهَا بِنُورِ السُّنَّةِ، وَاعْتَصَمَ مِنْهَا بِحَقِيقَةِ الْمُتَابَعَةِ، وَمَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ الْأَخْيَارُ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَهَيْهَاتَ أَنْ تَسْمَحَ الْأَعْصَارُ الْمُتَأَخِّرَةُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ! فَإِنْ سَمَحَتْ بِهِ نَصَبَ لَهُ أَهْلُ الْبِدَعِ الْحَبَائِلَ، وَبَغَوْهُ الْغَوَائِلَ، وَقَالُوا: مُبْتَدِعٌ مُحْدِثٌ.

الْعُقْبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ عُقْبَةُ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ فِيهَا زَيَّنَهَا لَهُ، وَحَسَّنَهَا فِي عَيْنِهِ، وَسَوَّفَ بِهِ، وَفَتَحَ لَهُ بَابَ الْإِرْجَاءِ، لَا يَضُرُّ مَعَ التَّوْحِيدِ ذَنْبٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ حَسَنَةٌ، فَإِنْ قَطَعَ هَذِهِ الْعُقْبَةَ بِعِصْمَةٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ تُنْجِيهِ مِنْهَا، طَلَبَهُ عَلَى.

الْعُقْبَةِ الرَّابِعَةِ: هِيَ عُقْبَةُ الصَّغَائِرِ، فَكَالَ لَهُ مِنْهَا بِالْقُفْزَانِ {نوع من مكاييل الحبوب}، وَقَالَ: مَا عَلَيْكَ إِذَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ مَا غَشِيتَ مِنَ اللَّمَمِ، أَوَمَا عَلِمْتَ بِأَنَّهَا تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَبِالْحَسَنَاتِ، وَلَا يَزَالُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَهَا حَتَّى يُصِرَّ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ الْخَائِفُ الْوَجِلُ النَّادِمُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، ثُمَّ ضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِقَوْمٍ نَزَلُوا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَأَعْوَزَهُمُ الْحَطَبُ، فَجَعَلَ هَذَا يَجِيءُ بِعُودٍ، وَهَذَا بِعُودٍ، حَتَّى جَمَعُوا حَطَبًا كَثِيرًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، فَكَذَلِكَ فَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ تَجْتَمِعُ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ يَسْتَهِينُ بِشَأْنِهَا حَتَّى تُهْلِكَه.

الْعُقْبَةُ الْخَامِسَةُ: وَهِيَ عُقْبَةُ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهَا، فَشَغَلَهُ بِهَا عَنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَعَنْ الِاجْتِهَادِ فِي التَّزَوُّدِ لِمَعَادِهِ، ثُمَّ طَمَّعَ فِيهِ أَنْ يَسْتَدْرِجَهُ مِنْهَا إِلَى تَرْكِ السُّنَنِ، ثُمَّ مِنْ تَرْكِ السُّنَنِ إِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِنْ نَجَا مِنْ هَذِهِ الْعُقْبَةِ، طَلَبَهُ الْعَدُوُّ عَلَى.

الْعُقْبَةِ السَّادِسَةِ: وَهِيَ عُقْبَةُ الْأَعْمَالِ الْمَرْجُوحَةِ الْمَفْضُولَةِ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَأَمَرَهُ بِهَا، وَحَسَّنَهَا فِي عَيْنِهِ، وَزَيَّنَهَا لَهُ، وَأَرَاهُ مَا فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ وَالرِّبْحِ، لِيَشْغَلَهُ بِهَا عَمَّا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَأَعْظَمُ كَسْبًا وَرِبْحًا، لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنْ تَخْسِيرِهِ أَصْلَ الثَّوَابِ، طَمِعَ فِي تَخْسِيرِهِ كَمَالَهُ وَفَضْلَهُ، وَدَرَجَاتِهِ الْعَالِيَةَ، فَشَغَلَهُ بِالْمَفْضُولِ عَنِ الْفَاضِلِ، وَبِالْمَرْجُوحِ عَنِ الرَّاجِحِ، وَبِالْمَحْبُوبِ لِلَّهِ عَنِ الْأَحَبِّ إِلَيْهِ، وَبِالْمَرْضِيِّ عَنِ الْأَرْضَى لَهُ.

الْعُقْبَةِ السَّابعَةِ: فَإِذَا نَجَا مِنْهَا لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ عُقْبَةٌ يَطْلُبُهُ الْعَدُوُّ عَلَيْهَا سِوَى وَاحِدَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَوْ نَجَا مِنْهَا أَحَدٌ لَنَجَا مِنْهَا رُسُلُ اللَّهِ وَأَنْبِيَاؤُهُ، وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَهِيَ عُقْبَةُ تَسْلِيطِ جُنْدِهِ عَلَيْهِ) ا.هـــ

الحديث الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّمَا النَّاسُ كَإبِلٍ مِائَةٍ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَة).

الحياة مدرسة غنية، وغنية جداً، بتجارب الناس. وصاحب التجربة الأغنى، يتواضع الناس على وصفه بأنّه (حكيم)، يراجعه الناس باستمرار لينتفعوا بخبرته. وربنا العليم الحكيم يوصينا بقوله (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)، أنْ لا نضيع الحق والحقيقة والوقت، في التعامل مع الجهال، أو غير الجادين، أو غير الخبراء، في كل أمر نحتاج فيه إلى المعلومة الصحيحة، والموقف المناسب، والسلوك الأمثل .. وقد طرح ابن عاشور رحمه الله كلاماً طيباً حول تفسير الآية المذكورة في التحرير والتنوير تنفع مذاكرته: (… وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: يُنَبِّئُكَ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ سَمَاعُ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ أُرْسِلَتْ مُرْسَلَ الْأَمْثَالِ فَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ مَضْمُونِهَا بِمُخَاطَبٍ مُعَيَّنٍ). ويضيف قائلاً: (وَلَعَلَّ التَّرْكِيبَ: وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ يُنَبِّئُكَ بِهَذَا الْخَبَرِ يُمَاثِلُ هَذَا الْخَبِيرَ الَّذِي أَنْبَأَكَ بِهِ، فَإِذَا أَرْدَفَ مُخْبِرٌ خَبَرَهُ بِهَذَا الْمَثَلِ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْمُخْبِرِ بِالْخَبَرِ الْمَخْصُوصِ يُرِيدُ بِخَبِيرٍ نَفْسَهُ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ مَعْنَى هَذَا الْمَثَلِ وَبَيْنَ تَمَثُّلِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. فَالْمَعْنَى: وَلَا يُنَبِّئُكَ بِهَذَا الْخَبَرِ مِثْلِي لِأَنِّي خَبِرْتُهُ، فَهَذَا تَأْوِيلُ هَذَا التَّرْكِيب وَقد أغفل المفسّرون بَيَان هَذَا التَّرْكِيبِ).

وحينما تكون بين أيدينا معلومة أتتنا من الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، فالواجب أنْ نعض عليها بالنواجذ، وأنْ نعقد عليها الخناصر، فليس من ورائها قول يقال، ولا رأي إليه يصار .. ويرى المراقب الفطن الناس في هذه الحياة طرائق قددا في فهمهم للحياة وتعاملهم معها.. ومع هذا التنوع، فإنّ المسلم لا يُترك في المسائل الكبرى ليقوده عقله وهواه، فقد حدد له ربه المسار العام في هذه الحياة الدنيا، على أنّه لا بُد أنْ يكون الهدف الأعظم الآخرة (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا). وإذن لا ينبغي لمسلمٍ طائعٍ لربه أنْ يجعل لنفسه هماً أكبر من همّ الآخرة، ولا أنْ يشغلها بعمل من أعمال الدنيا لا يُبَلِّغه حسن ثواب الآخرة .. وهذا الفهم الذي يجمع بين بساطة إدراكه وعظيم نتائجه، يفرز الناس إلى فريقين: حاملِ همّ، وخَلِّيٍ منه. وتُقَعَّد على ذلك قاعدة: أنّ أقدار الناس على قدر الهموم العامة التي يحملونها، والمسؤوليات الطوعية التي يتحملونها. ومن حمل همّ الآخرة، عمل لها وسعى لها سعيها، فانقادت إليه الدنيا قبل أنْ يشغل قلبه بها، وقد أخبرنا بهذا الصادق المصدوق في الحديث الصحيح: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له).

وفي الحياة مشكلات كثيرة، خاصة وعامة، لا بد للإنسان أنْ يحملها بحكم انتمائه لأسرة، أو لبلد أو لمجتمع أو لوطن أو لأمة، ولا تتعارض مع الهم الأكبر، همّ الآخرة، وهمّ الإسلام، بل يؤجر الإنسان على كل بذلٍ في ذلك التوجه، ما دام العمل لا يخرج عن السياق الإسلامي، وما يرضي الله تبارك وتعالى. وأستدل على ذلك رغم وضوحه بالحديث الصحيح: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعررف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة). وكأنّي برسول الله صلى الله عليه وسلم عبر بالأدنى من الواجبات العامة ليكون الأعلى منها من باب أولى. ومثل ذلك كثير في الدين.

واليوم، المسلمون في مأزق كبير، والشر من حولهم مستطير، لكن الذين يُرجون للتصدي والتغيير، ومن يحملون الهمّ أقل من القليل! فما الحيلة؟ وكيف الخروج؟ ومن الرواد؟

إنّ الحديث الذي بين أيدينا، يكفينا الحيرة واليأس وإطالة الوقوف..! فالناس هم الناس منذ أنْ وصفهم الصادق المصدوق إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها. والله عوض المسلمين عن الكم بالكيف، والكثرة لن تغني حشداً لم يتمَيَّزوا بما يُرضي الله، فإنَّ حَشْد الأنصار، بلا تَمَيُّزٍ، يُحسنه كل أحد، فما أخفض سقف معاييره! لكن من يخرج لله، وبأمر الله، ويسير في درب الله له معايير الأولياء المتقين، المنصورين ماداموا من المخلصين .. ولنقرأ بشرى ربنا: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

ولنرجع إلى الحديث موضوع البحث، وللحديث إسقاطات كثيرة على واقع الناس من المسلمين. ولاتساع الموضوع أحدد نفسي بالجانب الدعوي وهو الأخطر والأشرف في حياة الناس. وكثير من حالات التعثر في مسار الدعوة إلى الله مرده إلى جهلٍ بطبائع الناس، مما يسبب للدعاة الإحباط والتراجع، وحتى التخلي أحياناً. وأُريد ابتداء أنْ أُقَرِّب معنى الحديث فأقول: تصور أخي خيبة أمل صاحب إبلٍ مائةٍ، يطعمها ويسقيها، ويقوم بكل شؤونها، ولما أراد سفراً، طلب من غلمانه تجهيز بعضها، فجاءه الجواب أنْ ليس فيها جملٌ واحدٌ يصلح للسفر!

أخي الداعية، وايم الله، لا أحصي انتفاعي، على طريق الدعوة، بحديث رسول الله المذكور، الذي يعرفنا فيه بما لا نعرف عن حقيقة الناس، وما هم عليه، فنُكْفى من الهم والغم الكثير..! وكم كانت النفس تذهب حسراتٍ على من نكبَ عن الطريق، أو ارتد إلى الوراء، أو قعد عن المواصلة، أو استهوته الكثرة فآثر جُموعَها التائهة عن غربته الراشدة .. كم حزنَّا لأحوال، وكم صُدمنا بمواقف وأقوال، وكم تركنا المهمة الأساسية لنسترضي، متقاعساً، أو ننتحل الأعذار لمتخلف، أو نوجد حلاً لمنقلب على عقبيه، أو، أو .. مُحَمِّلين النفس مسؤولية كل من سقط على الطريق..! وكل ذلك عوائق على الطريق.

ولما عرفنا الحديث، وفهمنا عن نبينا مراده، وطبيعة من نتعامل معهم من الناس، بتقرير من لا ينطق عن الهوى، هدأت النفس، ونعم البال وانتظم المسير، وصار التفاؤل من منارات الطريق .. ولم يعد سلوك الناس ومزاجيتهم معكرة للصفو، معيقة للسير. وما عدنا نحمل عن الناس، ما هم أولى بحمله من مسؤولية التذبذب في المواقف، أو التخلف عن الركب.

ولعل نسبة (الصفر بالمائة) محبطة ومحزنة ومشوشة..! ولكن يبدو الواقع طبيعياً مادام تحركنا لا بد أنْ يكون أدواته من النخب القائدة الرائدة .. وقد قيل: (ولا بد دون الشهد من إبر النحل). وربنا بقدرته وتقديره وتدبيره، قد يجعل دور المائة المتقاعسين في واحد متألق مخلص رباني، ليميز الخبيث من الطيب، ويبلوَ الناس، ويُمَحِّص الجماعة.

واستكمالاً لهذا البيان على طريق الدعوة إلى الله، فمن الضروري أنْ يعلم الدعاة أنّ من أهم المهمات على الطريق والتي لها الترتيب الأول، أن يدرس الداعية حال المدعوين من حوله، وهل هم تربة خصبة منبتة، كما يفعل المزارع الخِرِّيت مع الأرض قبل الحرث والبذر. والمبالغة في حسن الظن والتفاؤل لا محل له هنا! فالوقت أثمن وأقصر من أنْ يُضَيَّع بالتجارب، والواجب أكبر وأسمى من أنْ يَعْبث به غيرُ الجادِّين، والله أمر العاملين (بسارعوا) و (سابقوا)، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون..!

ومما يؤكد لكل عاقل، أنّ هذا الحديث ليس مثبطاً أو محبطاً، كما قد يتبادر، بادي الرأي، أنْ يُعلم أنّ العمل لتحقيق الأهداف الكبرى، في أي اتجاه لا يستوعب الحشد الكبير من الناس، في طليعته، إنّما يكون، بطبائع الأشياء، بعد تقدير الله، مقصوراً على النُخب، في العلم والفهم والعزم والحزم .. والأكثرون من الناس يكونون نافعين يؤدون أدواراً جيدة ماداموا منقادين بالنخب، موجهين بالمنهج، وبهذا لا يُقصى من الواجب ولا يستثنى إلا القليل، ممن اختاروا ذلك، أو ممن ليست لهم الآهلية، مع ضرورة الدقة في فرز الأدوار.

وأتردد كثيراً أنْ أختم الحديث بعبارة فيها من القسوة بقدر ما فيها من الواقعية والمصداقية، ويقطع ترددي أنّ النصح واجب شرعي، وأمهد للقول بشطر لشوقي رحمه الله (وأخفُّ من بعض الدواء الداءُ).
أقول معتذراً: إنّ لدى المسلمين، اليوم أزماتٍ ثلاث: غياب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) … خلل في فرز الأدوار … إنَّ نُخَبُهم هزيلة..! وإلى الله المشتكى.

الحديث الثالث: عنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَثَلُ الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ: كَمَثَلِ بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ، فَهُوَ يُنْزَعُ مِنْهَا بِذَنَبِهِ).

مرض العصر ولا أنفي وجوده، بنسبٍ أقل من أنْ يصبح ظاهرة في سالف الأعصر، هو المجاملة .. وليس ما يعنيني المجاملة الاجتماعية والسلوكية بين الناس، فإنّي لا أعدها مرضاً وإنْ خالفتهم وخالفوني، فالناس وما يهْوَوْن .. لكنّها المجاملة على حساب الحق والدين، وهي إحْدى الكُبَر، وبلاؤنا فيها في العصر الحديث، لم نُسبق إليه في كل الأعصار الإسلامية. وهذا المرض لا اعتبار عنده لأجناس الناس واختلاف ألسنتهم وألوانهم، ولا لطبقاتهم، ومستوياتهم..! إنّه يُصيب منهم صاحب المصلحة والهوى، من يميل حيث مالت الريح، والإمعة من الناس من لا رأي له ولا موقف .. وما أكثرهم اليوم! ولن يصيب ذا الدين، من يرجو الله والدار الآخرة، فالدين عصمة .. ولنقرأ قول ربنا: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، وقول نبينا: (صِل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك).

في المجاملة ضياع للحق بين الناس، لأنّ ضياع الحق بين مجموعة، وقد يكونون من النخب، يتعدى إلى دوائر أكبر، فيكون عامل إضلال لشرائح كبيرة، لم تكن جنايتهم إلا أنْ شدهم لمعان وبريق أسماء، حسبوهم هداة فقلدوهم، على غير ما بصيرة .. وهذه الحالة هي الأخطر بين أعراض المجاملة في حياتنا. ولم تكن فتنة من بدأت من عندهم هذه الفتنة، إلا أنّهم حسبوا المجاملة على حساب الحق، والسكوت عن رفض الباطل، هو من المداراة التي تخدم دين الإسلام والدعوة إليه، وتُقرب الناس منه، وتحبب دعاته إليهم، وهذا وهم كبير. وصار لزاماً علي الآن، أنْ أُبين الفرق الكبير بين لفظتين تتداخلان في المعنى وتختلطان في التطبيق، عند أكثر الناس، وهما المداراة والمجاملة.

أما المداراة فهي بتعريف بعض العلماء: (أنْ تدفع شيئاً من الدنيا أو تبذل شيئاً من الدنيا من أجل أن يبقى لك الدين). نقول لتقريب معنى الفكرة إنّ أي ليونة يبديها المسلم مع المخالف لرده إلى الحق، أو لترغيب غير المسلم بالإسلام، في حدود الضوابط الشرعية، هي مما يريده الإسلام من أهل الإسلام، فالإسلام الصحيح يرفض المرونة خارج الإطار الشرعي، ويرفض المجاملة، ويرفض النفاق.

والضابط الآخر أنْ يكون الدافع لذلك تحقيق غاية شرعية بوسيلة شرعية، فذلك مما يُريده الإسلام، بل يأمر به .. وفي المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: (ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ) فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَتى عهدتني فحاشاً؟ إِنّ شَرّ النَّاس مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ) وَفِي رِوَايَةٍ: (اتِّقَاءَ فُحْشِه)).

قال ابن حجر في الفتح: (وهذا الحديث أصل في المداراة). ومن أمثلة المدارة المطلوبة في القرآن الكريم: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، ومن المخاطب؟ لا يخفى أنّه فرعون! وفي الأثر الذي أورده البخاري عن أبي الدرداء: (إنّا لنبتسم في وجوه أقوام، وإنّ قلوبنا لتلعنهم).

وبعدَ عرضِ ما يتعلق بالمداراة، نأتي إلى ما هو على الطرف المقابل لها (المجاملة أو المداهنة). وأفضل ما نبدأ به كلام للقرطبي في ذلك: (والفرق بين المداراة والمداهنة: أنّ المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معاً، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا).

وبإيضاح أكثر، فالمجاملة والمداهنة قد تصل إلى حد بذل بعض الدين ثمناً للدنيا!. وقد جرب الكفار أسلوب المداهنة مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُبلغ أمر ربه للناس فخاطبه ربه محذراً: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)، والمقصود بالمداهنة لين المعاملة بكل أشكاله، فيكون المعنى الذي أشارت إليه الآية في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الكفار يتمنون لو يبدي لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليناً أو معاملة حسنة، ويعدونها اعترافاً بهم وبما هم عليه، فيبدون له بالمقابل مثل ذلك أو أكثر، وهذا الأسلوب يعتبر بالنظرية السياسية حكمة تنطوي على مناورة .. لكن حينما ترتفع القضية بين طرفين إلى أنْ تكون ديناً وعقيدة يسقط هذا الأسلوب، ليحل محله الثبات والحزم والحسم .. وقد كان ذلك واقع الحال بين النبي عليه السلام وأهل الكفر، وسيبقى منهجاً باقياً في أمته إلى يوم الدين، والكفار في مكة وغيرها كانوا يطمعون من النبي وممن معه بأدنى تنازل ويعتبرونه نصراً، لأنّ العقائد والمباديء كلٌ لا يتبعض، والتفريط ببعض تفريط بالكل، وقد جاءت هذه الحقيقة صريحة في كتاب الله (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ). وهذا الدرس الذي غاب ولا زال عن المسلمين،
وهم في ما لا يحسدون عليه من كيد أعدائهم، لكن كيدهم بأنفسهم أشد عليهم، وتفريطهم في الثوابت وهو من (المجاملة) أذهب لريحهم.

فالدين لا يقبل أنْ يلتقي فيه الكفر مع الإيمان، ولا يلتقي فيه الحق مع الباطل، ولا المجاملة مع الحزم والثبات .. ويخطيء من يظن أنّ المجاملة على حساب الحق، والتي هي في حقيقتها تنازلات، يخطيء حين يرى أنّها توحد وتقرب وتقوي .. والحق، وما أفرزته التجارب الطويلة أنّ المجاملة على حساب المنهج الحق تُفرق ولا تجمع، فلا بد من الثبات، ولا بد من التَمَيُّز، ولا بد من المفاصلة وهذا هو الإسلام. ها هو أسامة حِبُ وابنُ حِبِ رسول الله يأتي النبي صلى الله عليه وسلم شافعاً في حد سيقام، فيكون من رسول الله عليه الصلاة والسلام موقف الثبات والصدع بالحق ورفض المداهنة، ليكون كل ذلك تعليماً للأمة: (أَتَشْفَعُ فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ).

حدث أكثر من مرة أنّ بعض الأئمة يتذكر وهو في الصلاة أنّه على غير طهارة، ويتحرج من الخروج من الصلاة حياءً من الناس، أو جهلاً بالحكم الشرعي في معالجة مثل ذلك الموقف، ويحتج بأنّه لم يخن الناس لأنّ صلاتهم صحيحة، والمشكلة انحصرت في شخصه. وهذا من المجاملات الخائبة مضافاً إليها الجهل.

وليس من حقٍ أعظمَ من حقوق الوالدين في الإسلام بعد حق الله على المسلم. وإن كان من مخلوق في الوجود أحق بالمجاملة وأكثر، فهُما .. وتُعلمنا تعاليم الإسلام أنْ لا سبيل للمجاملة حتى مع هذا الحق العظيم (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). فلا طاعة لهما تتجاوز مرضاة الله تبارك وتعالى.

ويعلمنا ربنا تبارك وتعالى المفاصلة وهي ضد المجاملة في آية جامعة في سورة التوبة: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

ويأمرنا ربنا جل وعلا في آيات في سورة الممتحنة أنْ نأتسي بإبراهيم عليه السلام، وأنْ نتعلم منه ومن قومه المؤمنين المفاصلة والمنابذة في الدين والمنهج، وهو ما أضاعه كثير من المسلمين، اليوم، حين اتخذوا المجاملة دَيْدَناً وديناً (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ).

وأخطر شيء يُزيِّن المجاملة في أعين بعض المسلمين اليوم، وفيهم نخب ودعاة، ما وقر في قلوبهم من شرعية الاختلاف، وأنّه أصل في الدين، بل أبعد بعضهم النجعة، وفيهم علماء في القديم والحديث، فقالوا شططاً: الاختلاف رحمة، ونسبوه زورا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منه وبراء. وكأنّي بقائلهم يقول: كيف لا نجامل بعضنا، ونوحد صفنا، ونبني وحدتنا الضائعة بهدية الله إلينا وهي رحمة الاختلاف .. بل كانت حفاوة الآخر بالاختلاف والمجاملة التي يسوغها الاختلاف، فقَعَّد قاعدة (خشبية وليست ذهبية) كما وصفها شيخنا العثيمين رحمه الله، (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا في مااختلفنا فيه)، ولا أبالغ إذا قلت إنّ بعض الناس اتخذوها قرآناً.

بقي عليك أخي المسلم أنْ تقرأ الحديث بإمعان، وتستفيد من المثل النبوي لتعميق الفهم، توطئة للتطبيق الكامل لفحواه .. وأُسهم معك في هذا ببعض جمل .. فمن جامل قومه على حساب الحق، ولم يأمرهم وينههم، كما أمره الله ورسوله، يبتغي التحبب إليهم، وجعل مجاملته لهم ولو على حساب الحق وسيلةَ مصالِحِهِ الأرضية عندهم .. فكان أول استحقاق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى الناس عنه، ومن التمس رضى النَّاسِ بِسَخَطِ
اللَّهِ سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عليه الناس)، وأما في الدنيا فقد ضرب له النبي عليه الصلاة والسلام أوضح وأقرب مثل ليفهمه قارئء وغير قارئء، إنّه جمل سقط في بئر، ولم يملك له الناس وفيهم صاحب مصلحة في بقائه، وصاحب انتفاع كبير بوجوده ومشفقون عليه لهذا المصير، ولكنّهم جميعاً لا يملكون، حتى لو اجتهدوا، إلا أنْ يجتمعوا ويتناوبوا في سحبه بذنبه فما يزداد من ذلك إلا ألماً، ويستحيل خروجه إلى أنْ يلفظ أنفاسه .. ولم ينفعه في محنته مُحب ولا مُبغض، بل كان تخلي المبغض أهون عليه من حَدَب المحب .. فما هذا المصير..؟ إنّه حال رجل اتبع هواه، فصرفه عن العلم الصحيح والموقف السليم، وصده عن أنْ يكون ناصحاً وآمراً ناهياً، ثم هوى به في النار..! ولم يجد المعين ممن كان يرجوه منهم، وقد قدم لهم الثمن (مجاملة على حساب الحق والدين) وهيهات .. فهل وعينا المثل النبوي..؟ والحمدلله رب العالمين…