Skip to main content

الرُّؤْيَةُ أَمِ الْحِسَابُ؟

By الأثنين 18 رمضان 1433هـ 6-8-2012ممحرم 21, 1441دراسات

اشتد الحوار واحتد، بل الجدل حول هذا الموضوع، في العقد الأخير، بين فئتين: فقهاء يتمسكون بالنصوص وبخاصة قوله صلى الله عليه وسلم: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ) وناهيكم بهذا الموقف قوة .. والفئة الثانية هم الفلكيون الذين يأوون إلى ركن الحساب القائم على دراسة حركات الأفلاك، وبمساعدة أحدث وأعجب المنجزات العلمية وتكنولوجيا العصر. وناهيكم بهذا العلم الحديث المتطور سعة ودقة..! حتى صار هذا الأمر عند كثيرين (إشكالية شرعية) تحتاج حسماً سريعاً من علماء الدين..!

وزاد الأمر ضغثا على إبالة، أنّ الفضائيات صارت تنشر المقابلات المطولة لكل طرف لإثبات موقفه، فكان أنْ دخل العوام طرفاً ثالثاً في الموضوع، وهو من أخطر الأطراف لأنّ طبيعة العوام أنْ يخطفوا رؤوس المسائل مما يرون ويسمعون، ثم ينسجون من فهمهم الخاطيء لها، وفضولهم ورغبتهم في تقحم ميادين ليست لهم، بل لا يجوز لهم ذلك شرعاً.

أحاديث وحوارات بل وخصومات تملأ المجالس في الشهر الكريم بدل التذاكر في ما ينفع ويُعين على الصيام والقيام وأداء الشهر الكريم حقه وفق الشرع الصحيح .. وماذا كانت النتيجة؟ صرت تسمع في مجالس الناس تشكيك بعضهم في صحة صيام بعضهم الآخر ودون مرجع يحسم الخلاف، فالناس زهدوا في التعامل مع المرجعيات يوم وجدوا أنّ بعضهم، أعني المرجعيات، يختلفون فيما بينهم كاختلاف العوام! وهذا المشهد يُعاودنا مع إطلالة شهر الصوم كل عام.

وسبب احتدام هذا الجدل في العقد الأخير، وجود تخصصات عالية لدى بعض الشباب في علم الفلك، وفي معظم البلاد الإسلامية، وانخراط أكثرهم في العمل الميداني، ومن الطبيعي، وبحكم انتمائهم الإسلامي، أنْ تحتل مسألة إثبات الشهور القمرية أولوية اهتماماتهم العلمية لارتباطها بعبادة الصوم العظيمة وشهر رمضان الكريم، علهم يوفقون في معالجة صحيحة لهذا الاختلاف في مواقيت الصوم بين البلدان الإسلامية.

وقبل التمادي في الموضوع أعترف أنّي لا أُريد أنْ أَدخُل وأُدخِل القراء الكرام إلى أعماق المسائل الفلكية التي لا أحسنها كأربابها المتخصصين، وكذلك معظم القراء .. ولو فعلت لكان تطفلا غير ممدوح على ميدانٍ لست من أهله، لا أرضاه لا لنفسي ولا للقراء الكرام، لكنّي لا أجد غضاضة أنْ أُقارب الموضوع بنظرة عامة، دون غوص، من خلال ما اتقن فهمه وأستطيع تبسيطه للناس، عوامهم ومثقفيهم. وأرى ذلك كافياً لوضع الناس في الجو الصحيح للخلاف والجدل القائم، يُبعد خطر الشك الذي اعترى شرائح من الناس أقل ما يوصف أنّه شك في الدين، أمام حقائق العلم الحديث! ولمن أراد استزادة في البحث فليلجأ إلى مظان كثيرة له.

أقول بفهمي: لم يكن من الصعب أنْ يتفق طرفا الخلاف على صيغة من التعاون تَصبغ أهل الدين بتقبل العلم الفلكي الصحيح، والاستفادة منه بما يوافق الشرع وعدم رده، وتَصبغ أهل العلم الفلكي باحترام النص الشرعي والحرص على تطبيقه، وأنّه فوق أي علم لأنّه وحي السماء، وهذا الموقف من الطرفين المتحاورين، لا أقول المختلفين، يُجنب الأمة منزلقاً خطيراً في عقيدتها. لكنّ الذي حدث وأسهم إسهاماً كبيراً في اتساع الهوة بين الفريقين، ونتج عنه تشويش الأمة بأسرها الآتي:

لقد حدث أكثر من مرة أن أُثْبِتت رؤية الهلال بالطريقة الشرعية في بلد إسلامي أو أكثر من بلد، وصام الناس ثم خرج بعد يوم أو يومين أهل الفلك والحساب في الفضائيات أو الصحف ليقولوا إنّه يستحيل أنْ تُرى ولادة هلال رمضان في البلدان المذكورة في اليوم الفلاني واللحظة الفلانية، لأنّ الحساب الفلكي يُثبت أنّ الهلال الوليد سيغرب قبل الشمس بوقت كذا وكذا فكيف يُمكن لمترائيه من البشر أنْ يروه مع غروب الشمس وقد غرب قبلها بوقت لا بأس به؟ ويُخرجون الخرائط والمجسمات للمشاهدين ومعظمهم لا يفهمها! وحصيلة كل ذلك بلا، مواربة دبلوماسية، أنّ الحساب الفلكي، صرح أم لم يصرح أصحابه، يُكذب الرؤية الشرعية ويُشكك المسلمين، أو لنقل بعضهم، في مصداقية مَن يرون الهلال، وبالتالي في صحة صومهم ماداموا يتّبعون الرؤية الشرعية، وأكثر البلدان الإسلامية على ذلك بل كلها.

ومعلوم أنّ الرؤية هي الوسيلة الشرعية الوحيدة المعتمدة منذ خمسة عشر قرناً .. ولسان حال أهل الفلك والحساب، إنْ لم يكن لسان مقالهم يقول: نحن أحق بها وأهلها، أعني إثبات ولادة الهلال. ولا أُريد لأحد أنْ يقول إنّي أتحدث عن حالة افتراضية، لأنّ المُهتم المتابع يعلم يقيناً أنّ هذا قد حدث مراراً وسيبقى يحدث.

وأُريد بكل جرأة وصراحة أنْ أُحذر كل الأطراف (النظيفة) من أمر خطير جداً وهو أنّه في الوقت الذي يدور فيه الجدال والسجال بين أهل النص وأهل الفلك، وما ينتج عنه من خلاف لا يُمكن الاستهانة بخطورته على دين الأمة، هناك من يتربصون بالإسلام وأهله الدوائر، يرصدون كل ما يجري بين الأطراف المسلمة المختلفة حول موضوع الأهلة، ليسقطوا على ذلك الخلاف من حقدهم، وحرصهم على إضعاف الدين وأهله! والأخطر من ذلك تشكيك المسلمين بثوابت دينهم .. إنّهم أعداء الإسلام في كل مكان، وبكل فصائلهم من أهل الحداثة والاستنارة والعلمانية والليبرالية، وكل من دار في فلك هذه الأفكار المارقة. يجدون فرصتهم المواتية في هذا الذي يجري، لينفذوا إلى بؤرة هذا الخلاف القائم بين بعض المسلمين، ويفعلوا فعلهم في التحريش والتشويش! فيُخاطبون المسلمين بكل مكر ودهاء، وكأنّهم من أهل الإسلام، الذين يدفعهم الحرص إلى أنْ يُدلوا بدلائهم المشحونة بالكذب والحقد .. يقولون ما معناه: هل نبقى في القرن الواحد والعشرين، زمن عصر الفضاء، وتطور الحواسيب، والتلسكوبات العملاقة وأشعة الليزر ووو، نُثبت صيامنا وقيامنا وحجنا بأساليب عصر الناقة والجمل، والخيمة والبداوة .. بالعين المجردة التي تُخطيء أكثر مما تصيب، وقد كفانا عصر العلم الحديث بكل منجزاته تلك المؤنة؟ ويُرددون ويُردد معهم العوام قصة لا أصل لها تتناقلها بعض الكتب، وهي أنّ جمعاً من الصحابة خرجوا يتراءون هلال رمضان، وفيهم أنس بن مالك رضي الله عنه وقد بلغ المائة، فصاح بهم لقد رأيت الهلال في حين لم يره الآخرون، وكان إلى جانبه قاض لاحظ شعرة بيضاء من حاجبه نزلت أمام عينه فظنها الهلال، فمسحها عن عينه ثم قال انظر يا أبا حمزة فنظر ثانية فقال لم أعد أراه .. ويسحب مرضى النفوس هذه القصة على كل مُتراءٍ للهلال في كل عصر تشكيكاً وتدليساً على الناس! فمتى كانت تلك الشرائح المتكلمة، غيورة على أمر الدين، وعلى صحة صيام المسلمين وقيامهم وحجهم؟ فليتركوا الشأن لأهله، وليريحوا أنفسهم مما لا يعنيهم، ويُريحوا الآخرين من حركاتهم المشبوهة. لكنّها محاولة ماكرة للنيل من الدين وأهله!

ولا يفوتني أنْ أؤكد بثقة واعتزاز وجود فلكيين من أهل الحساب مسلمين مؤمنين، غيورين على دينهم وعباداتهم وشرائعهم، ويريدون بكل صدق وأمانة أنْ يوظفوا علمهم للتعاون مع أهل العلم الشرعي لإيجاد حلول تضع الأمر في نصابه، وتقطع الطريق على أهل التشكيك المتربصين، وعلى مثل أولئك المعول، إنْ شاء الله.

وسبق هذا الخلاف خلاف قديم بين أهل العلم، عُبر عنه بالعنوان الآتي: إِذا رأى الهلالَ أهلُ بلد هل يلزم سائر البلاد الموافقة؟

اختلف العلماء في هذا الشأن على مذاهب ذكَرها مُلخصةً ابن حجر رحمه الله في الفتح، فقال: (أحدها: أنّه يعتبر لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا يلزمهم رؤية غيرهم.

وثانيها: أنّه لا يلزم أهل بلد رؤية غيرهم؛ إِلا أن يثبت ذلك عند الإِمام الأعظم، فيلزم الناس كلهم، لأنَّ البلاد في حقِّه كالبلد الواحد.

وثالثها: أنَّها إِنْ تقاربت البلاد؛ كان الحُكم واحدا، وإِنْ تباعدت فوجهان؛ لا يجب عند الأكثر).

وسبب هذا الخلاف بين العلماء قديما وجود نصين صحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّىَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ).

ومثله في المعنى حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما: (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ).

فمن العلماء من فهم من هذين الحديثين ربط الصوم بالرؤية دون تفصيلات أخرى كاختلاف البلدان والمطالع، وأنّ رؤية بعض المسلمين توجب الصوم على الجميع. وبالمقابل حديث آخر، وهو المشهور بحديث كريب:

(أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتُهِلَّ عَلَىَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلاَلَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِى آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلاَلَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلاَلَ؟ فَقُلْتُ رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ أَنْتَ رَأَيْتَهُ فَقُلْتُ نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ. فَقَالَ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلاَ نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاَثِينَ أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ أَوَلاَ تَكْتَفِى بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ فَقَالَ لاَ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ).

فاتخذ علماء آخرون من حديث كريب حجتهم في أنّ لأهل كل بلد أو إقليم رؤيتهم المستقلة، دون أنْ تُلزمهم رؤية غيرهم. وقد اختُلف في تأويل حديث كريب، وتبقى حجيته لدى من احتج به كما ذكرنا آنفاً.

ويتفرع عن المسألة السابقة مسألة أخرى ناقشها العلماء في القديم، وهي محل أخذ ورد حديثاً. وهي: هل يصوم أو يُفطر مَنْ رأى الهلال وحده؟

واختلف العلماء كعادتهم في هذا، فمنهم من رأى إِيجاب الصوم والفطر لمن انفرد برؤية الهلال، استناداً إِلى الحديث المتقدّم: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ).

ومنهم من رأى أنّه لا يصوم ولا يُفطر إلاَّ مع الناس، استناداً لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة في الترمذي وغيره بروايات متقاربة: (الصوم يومَ تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون). ويحسن تعزيز الحديث بأثر عن عائشة رضي الله عنها يُبين فهمها وفقهها للحديث: (وعن مسروق قال: دخلت على عائشة يوم عرفة، فقالت: اسقوا مسروقاً سويقاً، وأكثروا حلواه. قال: فقلت: إِنِّي لم يمنعني أن أصوم اليوم إلاَّ أنّي خفْتُ أن يكون يوم النحر، فقالت عائشة: النحر يوم ينحر الناس، والفطر يوم يفطر الناس).

وقال الترمذي عقب ذكره الحديث الأول: (وفسّر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إِنّما معنى هذا، الصوم والفطر مع الجماعة وعِظَم الناس).

وذكَر ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن: (قيل: فيه الردُّ على من يقول: إِنَّ مَنْ عرف طلوع القمر بتقدير حساب المنازل، جاز له أن يصوم ويفطر، دون مَنْ لم يعلم).

وقال أبو الحسن السندي في حاشيته على ابن ماجه، بعد أن ذكَر حديث أبي هريرة عند الترمذي: (والظاهر أنّه معناه أنَّ هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل، وليس لهم التفرُّد فيها، بل الأمر فيها إِلى الإمام والجماعة، ويجب على الآحاد اتباعهم للإِمام والجماعة).

و بناء على الأقوال المتقدمة وغيرها، فإنّ من رأى الهلال يقيناً فرداً كان أو جماعة ولم يعتمد إمام بلدهم رؤيتهم لم يجز لهم أنْ ينفردوا عن الناس بالصوم أو الفطر.

يقول الشيخ الألباني رحمه الله في الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة: (وهذا المعنى هو المتبادر من الحديث، ويؤيده احتجاج عائشة به على مسروق، حين امتنع من صيام يوم عرفة، خشية أن يكون يوم النحر، فبيّنت له أنّه لا عبرة برأيه، وأنّ عليه اتباع الجماعة؟ فقالت: {النحر يوم ينحر الناس، والفطر يوم يفطر الناس}.

وهذا هو اللائق بالشريعة السمحة، التي من غاياتها تجميع الناس وتوحيد صفوفهم، وإبعادهم عن كل ما يفرّق جمْعهم من الآراء الفردية،
فلا تعتبر الشريعة رأي الفرد، ولو كان صواباً من وِجهة نظره، في عبادة جماعية، كالصوم والتَّعييد وصلاة الجماعة
).

وأثار تلك المشكلة ابن تيمية رحمه الله في فتاويه بالسؤال التالي: (إِذا رأى هلال الصوم وحده، أو هلال الفطر وحده، فهل عليه أن يصوم برؤية نفسه، أو يفطر برؤية نفسه أم لا يصوم ولا يفطر إِلا مع النّاس؟).

وذكر الأقوال المختلفة وهي ثلاثة أقوال، ثم أكد ما وافق الحديث وهو قوله:
(والثالث: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال، لقول النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صومكم يوم تصومون، وفِطركم يوم تُفطرون، وأضحاكم يوم تُضْحون}).

ونعود مرة أخرى إلى الشيخ الألباني رحمه الله فقد وُفق في إسقاط للحديث، بل للموضوع برمته، على الواقع المعاصر بعد أنْ صار مشكلة في كثير من بلدان المسلمين. يقول الشيخ في تمام المِنّة:

(وإلى أنْ تجتمع الدول الإِسلامية على ذلك، فإِنّي أرى على شَعْب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه، فيصوم بعضهم معها، وبعضهم مع غيرها، تقدّمت في صيامها أو تأخّرت، لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشَّعب الواحد، كما وقع في بعض الدول العربية، منذ بضع سنين. والله المستعان) ا.هــــ

وهو كلام نفيس يجمع بين التأصيل النصي، وتحقيق أصل شرعي عظيم وهو وحدة المسلمين في عباداتهم.

وبعد استعراضي رؤوس المسائل في هذا الموضوع الخطير والحساس، لا أزعم أني أُريد طرح حل أو معالجة لما ذكر، فلست مؤهلاً لذلك، لكن الذي عندي (معالم على الطريق) أو روائز سأسردها على شكل نقاط تُزيل حاجز الجهل بين الموضوع وأكثر المسلمين، والإنسان عدو لما يجهل، فيُلمون إلمامة بسيطة بأبجديات الموضوع، وبما يجري من حولهم، يعصمون بذلك أنفسهم من أنْ يُضللهم أي قول أو قائل .. وهذه هي الروائز:

أ. على أهل الفلك والحساب، وعلى كل متعاطٍ مع الموضوع المطروح أنْ يعلم عِلم اليقين أنّ تمسك علماء الدين بمسألة الرؤية البصرية ليس تعنتاً، أو تمسكاً بالقديم، أو ارتداداً إلى الخلف في عصر العلم والتكنولوجيا .. إنّما هو التمسك بالوحي المنزل من فوق سبع سماوات.

ومن الخطير جداً أنْ يقول قائل لكل عصر أدواته وأساليبه، ولقد كانت الرؤية زمن الرسول وأصحابه، وفي قرون تلت الطريقة الوحيدة المتاحة، واليوم تغير العصر وتطورت الوسائل، فلم التمسك بالقديم؟

خطورة هذا الكلام أنّ لازمه أنّ التشريع الإسلامي مرحلي يُناسب العصر الذي ظهر فيه، وأنّ تغيرّه ليناسب كل عصر أمر حتمي، والأخطر لازم آخر للكلام السابق وهو أنّ التشريع مصدره رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لواقع عصره، وليس من الله تبارك وتعالى الذي يعلم ما هو كائن إلى يوم القيامة .. ومن ذلك نوضح لكل أحد الحقيقة الشرعية التي لا تقبل النقاش والحوار وتدخل العقل البشري، ولو عززته المنجزات العلمية جمعاء، إنّما هي جملة واحدة وهي: الجزم، وبيقين، بثبات وشمول الأحكام الشرعية إلى يوم القيامة .. وأنّها أقوى وأثبت من كل ما تُفرزه عقول أهل الأرض، لأنّها دين .. والرؤية للهلال لم يُعمل بها زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها الوحيدة المتاحة آنذاك، ولكن لأنّها الموحى بها من فوق سبع سماوات، ومن وراء ذلك حِكَم قد يُدركها العقل البشري القاصر، وقد لا يُدركها.

ووقفت على كلام عجيب في قوته وجرأته وتأصيله لابن تيمية، لكنّه لن يُعجب العصريين الذين دهشتهم منجزات العصر العلمية، فأسدلت على أبصارهم غشاوة، وران على عقولم شك فنسوا قدسية الوحي وحقائقه! يقول في مجموع الفتاوى: (فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ الْمُتَلَقَّاةُ بِالْقَبُولِ {يشير إلى أحاديث رؤية الهلال} دَلَّتْ عَلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ} هُوَ خَبَرٌ تَضَمَّنَ نَهْيًا. فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي اتَّبَعَتْهُ هِيَ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ أُمِّيَّةٌ لَا تَكْتُبُ وَلَا تَحْسُب. فَمَنْ كَتَبَ أَوْ حَسَبَ).

وللإيضاح أعلق فأقول: المقصود الكتاب والحساب فيما يخص إثبات الأهلة وليس مطلقاً. وسيأتي لابن تيمية بعد كلام يوضح هذا: (لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. بَلْ يَكُونُ قَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ، فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ مَا لَيْسَ مِنْ دِينِهَا وَالْخُرُوجُ عَنْهَا مُحَرَّمٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَيَكُونُ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ الْمَذْكُورَانِ مُحَرَّمَيْنِ مَنْهِيًّا عَنْهُمَا. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ} أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْمُسْلِمِ فَمَنْ خَرَجَ عَنْهَا خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَمَنْ خَرَجَ عَنْ بَعْضِهَا خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ}).

فترك الوحي لعقول البشر ذنب وإثم عظيم، فليكن البحث إذن في صيغة تعاون وتشاور بين ما هو شرعي وما هو علمي، مع الاعتراف بأنّ الأصل الالتزام بالوحي، ولا حيدة عن ذلك.

وأود بالمناسبة التنبيه إلى مسألة لاحظتها لدى متابعة بعض الحوارات، كأنّ بعض أهل العلم والحساب، وكأنّ بعض أهل الشرع مقتنعون أنّ التمسك بالرؤية الشرعية للهلال لا يُجيز استعمال التلسكوب الفلكي لذلك، وهذا خطأ وهل من يقرأ القرآن بالنظارة الطبية قرأه بغير عينيه؟ وما أظن أنّ هناك أدنى غضاضة شرعية في أنْ تستعين العين بعدسة التلسكوب المكبرة زيادة في الوضوح وتبقى الرؤية شرعية صحيحة.

ب. لا تُوجد مشكلة تواجهنا في حياتنا الدينية، إطلاقاً، إلا وضَع لها الشرع الحنيف حلاً. والقاعدة القرآنية (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) يجب أنْ تُستحضر عند كل تكليف شرعي. لكنّ الجهل بحقائق إسلامنا هو الذي يجعلنا يُسقط في أيدينا، ونقع في الحرج والعنت، وتطيش سهامنا .. أبدأ بمثال بسيط وأعتذر لأنّه مثال صارخ، لو أنّ مسجداً كبيراً اندس فيه رجل لا يحسن الطهارة، ولا تستقيم له عقيدة ولبّس على الناس، يُريد، بزعمه، إفساد عبادتهم، وصلى بهم وسحرهم بحفظه وتجويده .. فما حُكم صلاتهم؟ صلاتهم صحيحة، ولا يجب عليهم إعادتها، ولو علموا حقيقة أمره فيما بعد، ماداموا لم يُنكروا شيئا أثناء الصلاة! ولذلك أدلة أبرزها قوله صلى الله عليه وسلم: (يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ). والحديث الآخر: (الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مؤتمن، اللَّهُم أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ).

فالله لا يُحملنا تبعة ما ليس من كسبنا وما لا علم لن به .. ولنقس على هذا من صوم الناس وتعمد الخطأ، ظناً منه أنّه يُريد أنْ يُفسد عليهم عبادتهم. فنصوم، ونرد كيده إلى نحره، ويبوء بالإثم وحده، ولا يهتز فينا عرق .. مادام ضمن الفارق المقبول شرعاً بمعنى ألا يُصومهم بعد شعبان بخمسة أيام مثلاً فهذا لا شك مرفوض، أما أنْ تصوم بعض الدول اليوم، ويُصومهم (الأفاك) بزعمهم غداً فهذا ضمن الجائز شرعا! فلِم الصخب والنصب والقلق والحزن ومخالفة الحكم الشرعي وتفريق الناس في عبادتهم (وأن نقيم الدنيا ولا نقعدها)؟ أليست المحكمة الشرعية التي نرفض مُتابعتها في الصوم هي التي توثق النكاح والطلاق والنفقات وتَبت في الديات وغير ذلك من أمور شرعية خطيرة فلم نُوافقها؟

ج. حقيقة شرعية هامة يجهلها كثير من الناس وهي أنّنا متعبدون في أمر الأهلة بالرؤية البصرية وليس بالحقيقة الفلكية! بدليل أنّه لو غُمت الرؤية بغبار أو غيم أو غير ذلك، فأكمل المسلمون عدة الشهر السابق، أليس من المحتمل جداً أنْ يكون اليوم الأول من رمضان، بعد أنْ غمت الرؤية، هو اليوم الثاني فلكياً لأنّ الهلال وُلد ولم تمكن رؤيته؟ وهنا تبدو مشكلة أهل الحساب لأنّهم يريدون المسلمين أنْ يتعبدوا لله بالحقيقة الفلكية التي لا يُتقنها إلا النخبة، فهي تكليف بما لا يُطاق، فضلاً عن مخالفتها للشرع .. فأمة الإسلام أمة أمية كما وصفها نبيها .. ولقد فهم المسلمون على مرّ العصور أنّ تحري الهلال واجب شرعي كفائي لمن يُحسنه وأنّ فاعله مأجور، فكان سلف الأمة يتنادون لذلك ويتسابقون، وسيبقى الأمر كذلك إلى قيام الساعة ولا مشكلة! ولا يلغي كلامي هذا ما سبق لي قوله من وجوب تعاون أهل النص وأهل الحساب للوصول إلى صيغة مشتركة توافق الشرع.

وكأن أهل الحساب يرون أنّ المسلمين لو صاموا بعد ولادة الهلال بيوم، لِتَعذُّر رؤيته يوم ولادته، لكان صيامهم خطأ من الناحية الفلكية، ومُخالفة من الناحية الشرعية .. وهذا فهمهم، لكنّه في الحقيقة، صحيح شرعاً لمطابقته أمر العمل بالرؤية، وهو، ولا شك، طاعة لله ورسوله ولو خالف الحقيقة الفلكية.

وخير من عالج هذه القضية الشرعية الهامة وجلّاها ابن تيمية عليه رحمة الله ورضوانه، يقول في الفتاوى الكبرى:

(وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْهِلَالِ وَالشَّهْرِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وَالْهِلَالُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَهَلُّ بِهِ: أَيْ يُعْلَنُ بِهِ، وَيُجْهَرُ بِهِ فَإِذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ وَيَسْتَهِلُّوا لَمْ يَكُنْ هِلَالًا. وَكَذَا الشَّهْرُ مَأْخُوذٌ مِنْ الشُّهْرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ الشَّهْرُ قَدْ دَخَلَ، وَإِنَّمَا يَغْلَطُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ إذَا طَلَعَ فِي السَّمَاءِ كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَوَّلُ الشَّهْرِ. سَوَاءٌ ظَهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ وَاسْتَهَلُّوا بِهِ أَوْ لَا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ: بَلْ ظُهُورُهُ لِلنَّاسِ وَاسْتِهْلَالُهُمْ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ: وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ}. أَيْ: هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَعْلَمُونَ أَنَّهُ وَقْتُ الصَّوْمِ، وَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى. فَإِذَا لَمْ تَعْلَمُوهُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ).

وزيادة في إيضاح كلام ابن تيمية أُريد تبيان المعنى اللغوي الحقيقيي لكلمة (الإهلال)، جاء في لسان العرب:
(واستهلَّ الصبيُّ بالبُكاء رفع صوتَه وصاح عند الوِلادة وكل شيء ارتفع صوتُه فقد استهلَّ والإِهْلالُ بالحج رفعُ الصوت بالتَّلْبية وكلُّ متكلم رفع صوته أَو خفضه فقد أَهَلَّ).

وفي الحديث عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ قَالَ: (كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلاَ نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). وَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ)
أي يرفع صوته بهن.

د. حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من المتفق عليه يجب أن تكون لنا معه وقفة تأمل جادة، إذ لا يسع مسلماً الجهل به وبمعناه الصحيح .. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَنَا أمة أُميَّة لَا تكْتب وَلَا تحسب الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا). وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ. ثُمَّ قَالَ: (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا). يَعْنِي تَمَامَ الثَّلَاثِينَ يَعْنِي مَرَّةً تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَمرَّة ثَلَاثِينَ).

وقد تباينت فهوم أهل العلم للحديث، فمن متعجل رأى في الحديث تكريساً للأمية في أمة الإسلام، فردّ الحديث ولم يتهيب سنده ومن أخرجه! وآخرون فهموا فهوماً مختلفة لم تصب. وكان لابن تيمية رحمه الله قصب السبق في فهمه ووضع ذاك النص الهام في موضعه الصحيح. وقبل أنْ أورد كلماته رحمه الله، أرى من المناسب أنْ أُوصل ما فهمت من كلامه بلغة مبسطة تمهيداً لإيراد النقول عنه. يفهم رحمه الله أنّ هذه الأمية المذكورة في الحديث ليست أمية انتقاص إنّما هي أمية تشريف للأمة لاستغنائها بما شرع الله لها في دينها عن أي شيء من صنع عقول أهل الأرض، حتى لا يتحكم أحد في تطبيق المسلمين دينهم وإقامة شعائرهم .. فلنفرض إنساناً يعيش وحده في صحراء وليس معه تقويم ولا ساعة ولا بوصلة ولا شيء من الأدوات التي هي من صنع الإنسان، فنجده يعرف مواقيت الصلاة وبدايات الشهور القمرية من أجل الصوم والحج .. فكل الشعائر مرتبطة بظواهر كونية كالشروق والغروب وظهور الهلال وغير ذلك. وهذه أمية التشريف، أي نستغني، ولو لجهلنا، عن منجزات العصر ولا نتأثر أبداً في أداء شعائرنا.

يقول ابن تيمية في الفتاوي: (فَأُمَّتُنَا لَيْسَتْ مِثْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ لَا يَحْفَظُونَ كُتُبَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ بَلْ لَوْ عَدِمَتْ الْمَصَاحِفُ كُلُّهَا كَانَ الْقُرْآنُ مَحْفُوظًا فِي قُلُوبِ الْأُمَّةِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالْمُسْلِمُونَ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ. كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَحْسِبُ وَلَا نَكْتُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا}. فَلَمْ يَقُلْ إنَّا لَا نَقْرَأُ كِتَابًا وَلَا نَحْفَظُ بَلْ قَالَ: لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ فَدِينُنَا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُكْتَبَ وَيُحْسَبَ كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَوَاقِيتَ صَوْمِهِمْ وَفِطْرِهِمْ بِكِتَابِ وَحِسَابٍ وَدِينُهُمْ مُعَلَّقٌ بِالْكُتُبِ لَوْ عَدِمَتْ لَمْ يَعْرِفُوا دِينَهُمْ).

ويقول في موضع آخر من الفتاوي: (فإنّ الأمية صفة نقص، ليست صفة كمال، فصاحبها بأن يكون معذورًا أولى من أن يكون ممدوحًا.

قيل: لا يجوز هذا، لأنّ الأمة التي بعثه الله إليها، فيهم من يقرأ ويكتب كثيرًا، كما كان في أصحابه وفيهم من يحسب، وقد بعث صلى الله عليه وسلم بالفرائض التي فيها من الحساب ما فيها، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه لما قدم عامله على الصدقة ابن اللُتْبِية حاسبه. وكان له كُتَّاب عدة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى وزيد ومعاوية يكتبون الوحي، ويكتبون العهود، ويكتبون كتبه إلى الناس، إلى من بعثه الله إليه من ملوك الأرض، ورؤوس الطوائف، وإلى عماله وولاته وسعاته وغير ذلك. وقد قال الله تعالى في كتابه: {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}).

ويُتابع رحمه الله الحديث عن أُميّة الأمة التي جاء بها الحديث المتفق عليه، مُبيناً أنّها أمية الاستغناء، ويسوق الأدلة على أنّ تلك الأمة التي وصفت بالأمية علمت العلوم النافعة. فيقول: (فالأمة التي بعث فيها وزالت عنهم الأمية المذمومة الناقصة، وهي عدم العلم بالكتاب المنزل، إلى أن علموا الكتاب والحكمة وأورثوا الكتاب، كما قال فيهم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، فكانوا أميين من كل وجه، فلما علَّمهم الكتاب والحكمة قال فيهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}. وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ علينَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ}، واستجيب فيهم دعوة الخليل حيث قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}).

هذه الأمية بالمفهوم الذي جُلِّي قبلا ستبقى تلازم أمة الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لأنّها أمية تشريف واستغناء..

ه. إنّ إثبات الصوم والفطر يتطلب شيئين أساسيين: راءٍ يتراءى
الهلال، وجهة شرعية رسمية تعتمد رؤيته وتأمر الناس بالصوم أو الفطر. ولا يجوز للناس أنْ يصوموا أو يفطروا بمجرد سماعهم من الرائي أنّه رأى. نتعلم هذا مما كان يجري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر قال: (تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ).
ومن هنا فالفوضى التي انتشرت مؤخراً في بعض ال
بلدان الإسلامية، وسوريا تخصيصاً، كل يصوم كما يشاء، ومتى شاء بتأويلات وتحليلات، ليس من الدين في شيء.

و. الفتيا والأحكام الشرعية يجب ألا تخضع إلا لسلطان نصوص الوحيين، وفهم العلماء لها، وبخاصة أهل القرون الثلاثة .. أما أنْ تكون كأسعار السلع في الأسواق تخضع لمئة اعتبار واعتبار، فهذا أقل ما يوصف به أنّه مُناف لقوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ففي ذلك امتهان للدين، وتضييع للتقوى. ومن أسوأ تلك الصور إخضاعها لتقلبات السياسة. وسيكون للفكرة بقية من حديث.

وبعد أن استعرضنا الخلافات التي حدثت في القديم ولا زالت حول مسألة ثبوت الصوم، بقي الحديث عن الخلاف الأسوأ، والمشكلة الأكبر! إنّه خلاف لا يتعدى عمره نصف قرن تقريباً وأعزوه إلى سبب (سياديني) وهي كلمة نحتها من لفظتي (سياسي وديني) وهو جديد لجدة سببه، في حياة الأمة الإسلامية!

وآخر مشهد له كان مع إطلالة شهر الصوم لهذا العام. إنّه، كما تُوحي اللفظة المنحوتة، خلط بين السياسة والدين، ولا أظلم العوام، فليسوا وحدهم الذين وقعوا في هذا الخلط، بل نُقل عن مشائخ معروفين أفتوا بذلك في بعض البلدان. والمعادلة تشكلت من عدم نضج في الفهم الشرعي، احتوته عاطفة سياسية قوية منحازة .. ثم وضع الأمر بين أيدي العوام ونسجوا عليه ما نسجوا .. وأذكر أنّي ناقشت الكثيرين منذ أكثر من ثلاثين سنة في هذه المسالة، منهم طلبة علم ومنهم دون ذلك. وألخص المناقشات بالآتي:

نفي الدين عن حاكم، أي حاكم، وبطانته، في أي بلد لا يعني نفي الدين عن البلد بأسره ولا عن مؤسسات ودوائر ولو كانت تعمل في ظل النظام. وأي بلد يبقى دار إسلام (بتعبير الفقهاء) ما دام يُؤذّن فيه للصلوات الخمس، وتقام تلك الصلوات في المساجد، وتقام الجمع، ويعرف الناس المعروف ويأتمرون به، والمنكر ويتناهون عنه، إلى غير ذلك من شرائع الدين، ولو امتلأ البلد على الطرف الآخر بالفساد .. ولا يغير تلك الصفة وجود حاكم ظالم متسلط لا دين له. ولنضرب مثلا بالمحاكم الشرعية التي لا زالت تقوم بمهامها الشرعية، ومنها إثبات رؤية الهلال، في بلاد إسلامية يجاهر حكامها بالعلمانية، ولهم ممارسات في محاربة الدين وأهله .. إذن، فأي بلد إسلامي تدعو فيه المحكمة الشرعية الناس إلى ترائي الهلال ثم تحدد موعد الصوم أو الفطر ضمن الفوارق المسموح بها شرعاً وهو يوم واحد، لا يجوز أنْ تُعطى فيه الفرصة للمتنطعين، والانتهازيين، في ذاك البلد إلى تشكيك الناس وتفريقهم في عبادة الصوم، وأمرهم بالصوم مع بلدان أخرى تخالف بلدهم، محتجين بكلام حُرر قبلاً وهو أنّ الهلال لو رُؤي في قطر إسلامي واحد كانت الرؤية للجميع. وبيّنا أنّ ذلك صواب حينما تكون الأقطار تحت حاكم واحد … وقد سبق الكلام بما يكفي.

وقصدت بالانتهازيين أُناساً لا يَمُتُّون إلى التقوى، والغيرة على الدين بصلة، لهم اتجاهات سياسية لا يستطيعون المجاهرة بها فيؤزون المسلمين إلى مواقف مربكة ليستفيدوا منها وليست لصالح الإسلام والمسلمين…!

ولا يجوز أنْ تُستغل العبادات وسيلة للتعبير عن موقف سياسي بشكل غير مباشر، وقد يفعله أو يروج لذلك من لا يصوم! فلمَ هذه السذاجة من بعض المسلمين؟ وقلت لمن جادلني وأكثر جدالي حول صوم السوريين الجمعة هذا العام، وهو حديث عهد بزواج كيف رضيت تصديق المحكمة الشرعية لزواجك وترفض رأيها في إثبات الصوم؟ وهل المجلس الوطني سلطة شرعية، وهل المشايخ الذين شكلوا تجمعهم الآن، وادكروا بعد أمة، وأمروا الناس بالصوم الجمعة، ماذا كان موقفهم في رمضانات سابقة؟ وكانوا يرون شرعية الحاكم وشرعية من سبقه لعقود عدة .. ويطلع علينا شيخ تألق اسمه على أنه ثوري وهو (أ، س) وأُعرض عن الاسم الصريح حتى لا تكون غيبة، فيقول: (كان شيخنا فلان ونحن صغار يأمرنا أن نصوم مع مكة والمدينة وفق المذهب الحنفي)..!

أقول وبملء فمي، مع الاعتذار مِنْ مَنْ صام الجمعة، ودعا إلى ذلك، إنّ ذلك محاولة لإثبات الولاء الثوري، وليس الانضباط الفقهي..! وأؤكد أنّي لست ضد الولاء للثورة ولكن ليس بهذا الأسلوب. ولقد سبق أن كتبت السطور التالية، وأعيدها لمناسبتها للموضوع المعالج:

خلط السياسة بالدين بغير اقتدار وتبصر، يفضي إلى الفساد، كخلط الخل بالعسل وفق ما جاء في الحديث: (وإنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل).

ولا أُريد لأحد أنْ يستنتج أنّي أُريد أداء مقولة أنور السادات (لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة) بعبارة مغايرة .. فعبارة السادات وغيره باطلة فالإسلام لا ينفك عن السياسة، ولكنّها السياسة الشرعية التي تصنعها نصوص الوحيين .. فالكلام في السياسة اليوم كلأ مباح لكل من أراد الكلام، لأنّ السياسة لا تعرف القواعد ولا الضوابط ولا الأصول، إنّما هي الأهواء والمصالح بل واللعب على الحبال، حتى عند الدول الكبرى، وموقف العالم من الثورة السورية أكبر شاهد على ما أقول. في حين أنّ الكلام في الدين، والفتوى تحديداً، تأصيل واتباع وخشية لله قبل كل شيء.

فليعرف كُل قدر نفسه، وليتكلم فيما يُحسنه، ولنعط القوس باريها في كل أمر، حتى لا يجد أحدنا نفسه في المضائق الخطرة، كالقول على الله بغير علم، أو تضليل الناس وتشويشهم، في خوض مع الخائضين، وقد عافاه الله من هذا التنطع … والله الموفق