Skip to main content

القُــدْسُ

By الأثنين 1 ربيع الثاني 1429هـ 7-4-2008ممحرم 21, 1441دراسات

أعترف أنّي كنت نهباً موزعاً بين الإقدام والإحجام بالنسبة لهذا الموضوع الجديد لأسباب:

1. إنّي أتعاطى مع الموضوع متجرداً من أية خلفية توالي جهة ما، ومتحرراً من أية قوة شد إلى اتجاه ما .. فأَعرض الموضوع من خلال التزام بالنصوص، وحرص على تأصيل خلفية عقدية شرعية له ليس إلا .. فأطرحه بشفافية، لا تتحرج من طرح شيء، ولا تسكت، مجاملة، عن شيء .. فهل تكون للسامع المنطلقات نفسها، والشفافية ذاتها، فيفهم الموضوع عني كما أردت له؟ إنّي لأرجو ذلك مخلصاً.

2. الموضوع ذو حساسية بالغة، وهو على ألسنة الناس بكل أطيافهم. بل إنّ جُرأة من لا يُحسن الخوض فيه أكبر من اندفاع من يحسن لأنّ كلام الأول يطير في الهواء وهو كما يُقال (كلام لا مسؤول) .. وتلعب بهذا الموضوع الخطير العواطف أكثر مما تضبطه العقول .. وتُسجل فيه المواقف دون الاهتمام بالأصول .. وكل ذلك يجعل الخوض فيه أقرب إلى المغامرة في مثل هذه الأوساط..!

3. تعودنا من هذا الواقع الذي يُروج للاختلاف ولا يستنكره، ويُشجع عليه ولا يضيقه، أنْ لا نطمح من وراء أي طرح أو دراسة أو مناقشة أنْ يـُحسم بها الخلاف .. بل أخفق المسلمون، حتى علماؤهم في حسم الخلاف في الدين، فمن باب أولى ألا يحسم في غيره .. فكلٌ فرح بما عنده، متمسك به، ومتعصب له. فما الغاية أو الفائدة من الطرح إذن؟ إنّه البيان والإيضاح والعرض ويُترك لكلٍ أنْ يحدد موقفه .. وبقاعدة دعوية أقول: الغاية (إبراء الذمة وإقامة الحجة)…

الموضوع الذي سأطرح هو موضوع الساعة، وما ينبغي لعاقل فضلاً عن مسلم أن يتجاهل الموضوعات الساخنة من حوله، أو أنْ ينأى بنفسه ودينه وفكره وقلمه عنها. وما هو هذا الموضوع الساخن اليوم؟ إنّه الأقصى .. وما أدراكم ما الأقصى؟ أو القدس، وما أدراكم ما القدس؟ أو قولوا فلسطين، وما أدراكم ما فلسطين؟

أما وقد غلب عندي الإقدام، فلاختيار هذا الموضوع أسباب:

1. حديثنا الأصلي عن الفتن واجتنابها، وهل من فتنة أكبر وأعظم من تسلط اليهود على المسلمين، والعبث بمقدساتهم، وسلب أراضيهم .. والعرب والمسلمون، كما وصفهم شوقي وهو يخاطب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم:

شعوبك في شرق البلاد وغربها
بأيمانهم نوران ذكر وسنة

كأصحاب كهف في عميق سبات
فما بالهم في حالك الظلمات

فالموضوع إذن متسق مع ما نحن فيه. وتكون الفتنة أكبر وأكبر يوم يخرج المسلمون في معالجة هذه القضية الكبرى خارج دائرة الأحكام الشرعية والرؤية الإسلامية المتميزة.

2. كلٌ يدلي بدلوه، وكل يقول نحن لها. فمنهم صادق، ومنهم من تحركه وتحرضه العواطف لا ينظر إلا بها، كلامه بلا فعل، وفعله بلا هدف. ومنهم ميال حيث تميل الريح، همّه أنْ يسجل موقفاً، يلقى استحسان من على شاكلته. ويبقى لأهل الإسلام، أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي)
موقف ثابت لا تُغيره الأيام، ولا رياح السياسة في أي اتجاه هبت. فلا بُد من بيانه ليتبين الرشد من الغي، ثم ليحفظ التاريخ لكل موقفه ويشهد على كل بما قال وفعل، والتاريخ شاهد مُحايد لا يُحابي ولا يُجامل .. والحكم في النهاية للأجيال القادمة.

والظن الغالب أنّه لو طرح أهل (الفرقة الناجية) رؤيتهم فلن يعمل بها، أو بالأحرى لن تلقى القبول .. ولا عجب فهم غرباء بأشخاصهم وأفكارهم بل بدينهم، ولأنّ طرحهم بالمقارنة مع ما هو على الساحة، يبدو كما يقال (تغريداً خارج السرب). وأتذكر كلمة لأحد الدعاة البارزين من الإخوة السعوديين ألقى محاضرة مع بدايات (كامب ديفيد) وإبان زخم الجدل حولها قال: (قد يقول قائل لي هل من أحد يصغي إليك أو يعجبه ما تقول من الفاعلين على الساحة؟ وهل طرحك سيغير شيئأ؟ أقول: لا.. ولكن لِيُعلَم أنّ للإسلام الذي أقصي عن الساحة السياسية زمنا طويلا، رأيا وحكما فيما يجري على الساحة السياسية، سيعرفه الناس فيما بعد، ولِتَعرِف الأمة يد الجزار الذي يقوم بذبحها الآن).

ثم أستعين بالله وأبدأ الموضوع، وسأجعل الكلام فيه مقدمة وستة محاور وخاتمة.

المـقدمـة:

ابتداء أنا لا أُفرق بين أنْ يكون كلامي تحت عنوان (مشكلة فلسطين) أو (القدس) أو (الأقصى) فهي برأيي عناوين مختلفة لموضوع واحد. وإنّ المشكلة التي أتكلم عنها الآن، كل له فيها رؤية، وعنده لها تحليل، من يحسن ومن لا يحسن، وكأنّها سلعة في سوق مزاد، وهذا واقع يفرض نفسه، ولا سبيل إلى تغييره في المنظور القريب، فيستوي في ظل هذه الفوضى الفكرية والسياسية الطرح الجاد من محسن مجيد يقدر المسؤولية ويحترم الكلمة والرأي، وآخر متكيء على أريكته امتهن صنعة المتاجرة بالكلام.

ومع هذا الواقع غير المريح لا يستطيع أحد أنْ يحجر على أحد، ولا أنْ يُقصي أحد أحداً، ولا أنْ يٌخطيء أحد أحداً .. فنحن في مرحلة إعجاب كل ذي رأي برأيه، ومرحلة التحالفات والتنافرات والتجاذبات، مع غياب الثوابت. فالساحة مفتوحة للجميع والكل يقول إنّا منتظرون.

والمسلم يعتقد بأنّ العاقبة للتقوى ولقوله تعالى (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)، وقد اختصر العامة المسألة بقولهم (لا يصّح إلا الصحيح). ولا شك أنّ المسلمين، أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، فصيل موجود على الساحة، وبغض النظر هل يُسمع صوتهم أم لا فهم مأمورون أنْ يُحرروا الكلام في المشكلة شرعياً، وأنْ يتحرروا من منطق العواطف والمجاملات وتسجيل المواقف، الذي ابتلي به الآخرون. وألا ينزلوا بهذه القضية الكبرى إلى سوق المتاجرة والمزايدة السياسية. بل إنّ من واجبهم أنْ يُظهروا تميز الإسلام في هذا الشأن الخطير في حياة الأمة بل وفي كل شأن.

وإنّي لأعترف أنّ بعض من تحدثوا، ويتحدثون بالإسلام، لمعالجة مشكلات ونوازل المسلمين أخفقوا، أيما إخفـاق، لسبب أساسي وهـو فقدان (التميز) .. وما أسهل وأدق أن نقول: إنّ (فقدان التميز يعني فقدان المصداقية).

ويُخطيء من يظن أنّ الكلام غير المسموع لا ينبغي قوله. فمن المنظور الإسلامي فإنّ أحدنا في ظرف مُعين يضطر أنْ يُحاور نفسه، ويُحدثها لتكوين قناعة شرعية في مشكلة ما، لأنّه سيُسأل يوم القيامة فيم كنت (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ). وليفترض المرء أنّه ميت في لحظته، فلا بُد من أنْ يلقى الله تبارك وتعالى بتصور صحيح، لِما يجري حوله وبتحكيم للنظرة الشرعية فيه، ولو لم يتح له دخول حيز العمل، وساحة التطبيق. وما أعجبها من عبارة تلك التي يقولها مالك بن دينار للمسلمين: (إنّ صدور المؤمنين تغلي بأعمال البر، وإنّ صدور الفجار تغلي بأعمال الفجور، والله تعالى يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله).

فوضوح الحلول لدى أصحاب المنهج، ولو كانت حبيسة صدورهم، لأنّها مهمشة عند الناس ضروري لكي يلقوا عليها ربهم، ويتواصوا بها مع مَن هُم معهم على المنهج. وإنّ الحلول الإسلامية، وإنْ أُقصيت أو همشت ولم يأبه لها في الدنيا، لكنّها في الآخرة عمل صالح يأجر الله بها أصحابها والمؤمنين بها .. ولعل حديثي الآن محاولة للإطلال على المشكلة الفلسطينية بنظرة إسلامية متميزة عن كل طرح آخر، وليس تميزها، بسبب كاتبها، إنّما هو بسبب المنهج الذي تُعالج من خلاله. وإلى المحاور.

لكنّني وقبل أي كلام في صلب الموضوع لا بد لي من البدء (بلازمتي) و اللازمة، كما في المعجم الوسيط: (عَادَةٌ فعليةٌ أَو قوليةٌ تلْزم الْمَرْء فيأتيها دون إِرَادَة مِنْهُ وَلَا شُعُور).
فموضوع غثائية الأمة وغيابها، هو عندي هذه (اللازمة)، والهمّ الذي لا يماثله ولا يوازيه همّ..! فأراني لا أترك مكتوبا أو مقولا عني يخلو من تلك (اللازمة) والحديث عن ذلك الهم، وبدأت أفسر بواسطته كوارث ونكسات حلت في الماضي .. ولا زلت أعتقد أنّ معالجة غياب الأمة المسلمة، أو غثائيتها، هو المقدمة الأولى لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، أو غير ذلك من جوانب إصلاحية، في واقع المسلمين .. وأكثرت من القول: إنّ كل عمل أو جهد إصلاحي لواقع المسلمين، في غياب الأمة المسلمة، لا يعدو (إطفاء الحرائق) هنا وهناك، نتائجه محدودة، ونفعه العام ضئيل .. كما أنّ قيام الدولة المسلمة، في غياب الأمة، ضرب من المستحيل، أو أحلام اليقظة .. والمسلمون بلا كيان الأمة يعيشون، ولكن لا كما يريد لهم ربهم من الاستخلاف في الأرض وعمارتها، إنّما يكون عيشهم وفق أهوائهم، وما يختاره لهم عدوهم .. ومهما اجتهدوا في إعداد القوة فلن تنفعهم ماداموا ليسوا أهلاً لأن يدافع الله عنهم، ماداموا متفرقين خارج حصن الأمة، مفارقين كيانها، الذي هو مصدر كل خير للمسلمين، وهو ما تعبدهم الله به في قوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).

المحور الأول: إنّ مشكلة فلسطين قضية إسلامية، وكل محاولة لسلبها هذا الوصف، هو المقدمة لإضاعتها .. ويوم نقول إنّها إسلامية فمعالجتها تكون من خلال المسؤولية الإسلامية الشرعية، وبالثوابت الدينية، وعلى كواهل الناس المسلمين المؤمنين المطبقين لأحكام الإسلام في كل شأن. أما يوم يُسحب منها ذاك التوصيف وتدخل حلبات السياسة ومناوراتها، والتوازنات الدولية وحساباتها .. فيحسن أنْ نقول للقضية قولة الشاعر:

فَرَجي الخير وانتظري إيابي

إذا ما القارظ العنزي آبا

وها هي مشكلة فلسطين ما زالت تنقل من محفل سياسي دولي إلى آخر، ومن مؤتمر إلى مؤتمر، ومن طاولة إلى أخرى منذ ستين سنة فماذا كانت النتيجة؟ وكم يعجب الإنسان حين يسمع أنّ طرح المشكلة إسلامياً يُفقدها تأييد كثير من الأطراف في العالم، وإنّ أهل السياسة يُريدون إخراجها من المحلية إلى العالمية (التدويل) والأعجب من هذا القول أنّ أول من ينخدع به المسلمون.

لا أُريد أنْ أطيل الرد على هذا وتفنيده شرعياً ومنطقياً بل أكتفي بضرب مثلين: أقول أولاً لكل المسلمين، إنظروا إلى الخصم الألد إسرائيل أليست دولة تقوم على العقيدة برغم كل ما فيها من الأطياف السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وقد التقت جميعها على العقيدة ولم تتخل عنها القوى الفاعلة في العالم .. تأملوا مليا هذه القصة، إنّ مناحم بيغن يوم أراد حضور جنازة السادات، وكانت يوم سبت. ومن تقاليد اليهود الدينية أنّهم لا يركبون يوم السبت لا الدواب ولا السيارات، وقد أُحرج الأمن المصري لتأمين حمايته فسار على قدميه من مكان نُزله إلى مكان الجنازة، وكانت المسافة حوالي ثلاثة كيلو مترات. وتصوروا كم كلفت حماية حياة زعيم إسرائيلي مُجرم في قلب القاهرة، وبظروف غير عادية، الأمن المصري. ورغم كل ذلك لم يتخل بيغن عن تقليده الديني.

وأقول ثانياً لكل المسلمين أنّني حضرت في السعودية محاضرة قيمة لأحد الدعاة البارزين، حول الصراع بين المسلمين وإسرائيل، أذكر أنّه رفع في وسط المحاضرة إلى الجمهور كتاباً مترجماً إلى العربية، وأوصى بقراءته بشدة وعنوانه (الخلفية التوراتية للسياسة الأمريكية) وقد قرأته وقتها ويجد الإنسان فيه عجباً!

انظروا كيف يلتقي اليهود والصليبيون في النهاية ليكونوا معاً على الإسلام والمسلمين. ولا تنسوا أنّ الفاتيكان برّأ في يوم من الأيام اليهود من دم المسيح مُخالفاً ما زعموه في كتبهم المقدسة، وللغاية نفسها. والمسلمون لا زالوا كل يوم يتفرقون، وفيما بينهم يقتتلون .. وأعجب من تفرق المسلمين تفرق أهل فلسطين وهم جميعاً تحت النار.

ومن الأخطاء الفادحة التي وقع بها المسلمون، أنّهم نسوا ما جاء في كتاب ربهم، وسنة نبيهم، إرضاء لأهل السياسة، فالله في كتابه أكد على عداوة يهود للإسلام وأهله، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم في سنته. ويأبى بعض المسلمين بعد انزلاقنا في منزلقات السياسة إلا أنْ يقولوا: نحن في عداوة مع الإسرائيلين وليس مع اليهود، ليُخرجوا المسألة من إطارها الديني العقدي إلى إطارها الإقليمي وما أفدح خسارتهم! وهذا ما يُريده أعداؤهم. وأختم فأقول للمسلمين: لم ترضون الدنية في دينكم والله أراد لكم العزة؟

المحور الثاني: عندما نُؤكد ونُصر على أنّ فلسطين قضية إسلامية، فإنّ ذلك يعني بالضرورة الشرعية أنْ لا تكون المعالجة، وطريق الحل إلا إسلامياً! وهل يفتقر المسلمون إلى هذا العلم وتلك الخبرة؟ إنّهم أهل ذلك بتميز، ويكفي كل مسلم أنْ يدرس غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وما جاء عن ذلك في الكتاب والسنة ليكون عنده خير الزاد للتعامل مع أعداء الله. إنّ جهاد الأعداء في دين الإسلام يقوم على أصلين الاعداد والاستعداد، وقليل من يدرك الفرق بينهما.

أما الإعداد فهو ما جاء في كتاب الله، في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).

ومع تفسير الآية وقفات:

1. الإعداد المطلوب باختصار هو آلة الحرب وعدتها، وجاء في الحديث الصحيح: (أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْىُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْىُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْىُ). ولا يخفى أنّ العنصر الرئيسي في كل حرب هو ما يرمى به الأعداء لإيقاع الخسائر البشرية والمادية بهم. ولإنزال الرهبة والخوف بين صفوفهم.

2. إنّ من أعظم ما جاء في هذه الآية عدم إعنات المخاطبين بها، وهو تقييد الإعداد بالاستطاعة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ). ولو كلف المسلمون الإعداد لما هو كاف لكسب المعركة لمَا استطاعوه، لأنّ الذي يحسم المعركة ليس الإعداد بل ما هو أهم منه وسيأتي ذكره. وليعلم كشاهد لما نقول أنّ كل المعارك المظفرة التي خاضها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا فيها الأقل عدداً وعدة .. وقد تكون غاية الإعداد صريحة في الآية وهي (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) فالإعداد يكفّ طمع الأعداء فيهم حين يرون أو يسمعون بالإعداد .. لكنّ الحسم الحقيقي للمعركة هو من عند الله وحده.

3. انظروا إلى هذا المعنى المستخلص من قوله تعالى (عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) إنّه التوحيد الخالص وربط المعركة بالله، وعلى كل مقاتل أنْ يحس بأنّه يُقاتل العدو لأنّه عدو لله، فيُخرج المعنى التوحيدي في الآية المعاني الهابطة للعداوات الأرضية من أجل الخلاف على الأرض، على الثروات وعلى أشياء كثيرة من جنس الطين. ويُعلق ابن عاشور بتعليق جميل على الآية فيقول: (فَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ تَوْحِيدِهِ وَهُمْ أَعْدَاءُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ صَارَحُوهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْلِيَاءُ دِينِ اللَّهِ وَالْقَائِمُونَ بِهِ)

4. إنّ الأمر بالإعداد إذا وضع إلى جانب الحقيقة الأبدية (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) لا بُد عندئذ من فهمه على أنّه تعويد وتدريب للمسلمين على ترك التواكل وعلى ضرورة اتخاذ الأسباب مع اليقين أنّها ليست هي التي تضمن النتائج أو تأتي بها، وبعبارة أخرى ليست قوة الإعداد هي التي تأتي بالنصر (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي ضعفاء في كل شيء تحتاجه الحرب إلا العقيدة. وهذه التربية التوحيدية العالية هي الأصل في صراع المسلمين مع أعدائهم في كل زمان ومكان، إنْ كانوا صادقين. ومن يقول إنّ المسلمين إنْ لم يصلوا في التسليح إلى ما يوازن ما عند أعدائهم، فهم مقصرون غير جادين، مخطيء بل جاهل بالتوحيد لأنّ الله قيد التسليح بالاستطاعة لا بمماثلة الأعداء، ولم يجعل الإعداد طريقاً للنصر إنْ تعذر.

5. إنّ المثل الواضح في تعامل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الإعداد، ونبيهم بين ظهرانيهم، يتجلى في أعلى صوره في حفر الخندق يوم غزوة الأحزاب. ولم يكن من عادة العرب التخندق في الحرب، إنّما الذي أشار به على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي رضي الله عنه، فهو عادة فارسية. ومعلوم كم كابد المسلمون في حفره ويد نبيهم تساعدهم، ولما أبدوا من الصدق مع الله، وعدم التردد في طاعة نبيهم، في حفر الخندق، وما أشقها من مهمة، امتحنهم الله بها ثم كافأهم بأن كفاهم القتال، ولنصغ إلى الصورة القرآنية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا).

بقي أنْ يُقال في أمر الإعداد أنّه يقبل اختزال الزمن وضغط الوقت أو ما يُقال إحراق المراحل، فهو يقبل المناورة مع الواقع والتكيف مع الوقت. وكثيراً ما نسمع أنّ دولة ما أقامت مع دولة أخرى جسراً جوياً لإمدادها باحتياجات المعركة. وبعبارة أخرى فإنّ أمر الإعداد يقبل تدارك التقصير إن حصل.

وأما عن الاستعداد فهو أمر خطير وعظيم للغاية،
وبعيد كل البعد عن الإعداد المادي الذي ذكر آنفاً. ومعنى الاستعداد بأبسط عبارة:أن تكون نفوس المقاتلين، ومن وراءهم من وراء خطوط القتال مؤهلة لاستقبال نصر الله تبارك وتعالى. إنّ الله عز وجل لا ينزل نصره على الحجر والشجر وعلى الآكام والآطام، وإنّما يُنزله على أنفس استحقته فكوفئت به، لتستثمره في زيادة القرب من الله حمداً وشكراً، وللتهيأة لانتصار قادم.

وكما ذكرنا أنّ الإعداد ليس هو الذي يأتي بالنصر فكذلك فإنّ ميدان القتال ليس وحده الذي يأتي بالنصر .. اقرؤوا هذا الحديث العجيب في صحيح البخاري (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ) .. ومن فقه الإمام البخاري أنّه ذكر الحديث في (كتاب الجهاد) تحت
(باب مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِى الْحَرْبِ). وجاء الحديث عند النسائي في (كتاب الجهاد) (باب الاستنصار بالضعيف) بلفظ آخر وهو صحيح: (إنّما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).

والشيء الخطير في أمر الاستعداد، أنّه في حقيقته عمل تربوي. والوقت في العمل التربي عنصر هام، ولا يقبل الاختزال والاختصار، أو كما أسميته قبلاً (إحراق المراحل) إنّه تربية أجيال، إنّه تغيير النفوس، إنّه عملية بناء، تصل بالمسلمين إلى الشعور بأنّهم بتوحيدهم وبثوابت دينهم وبقربهم من الله فوق كل عدو، وفوق كل واقع .. ولا يتغير ذلك إلا إنْ غيروا كما حصل في أحد وحنين .. وإنّ التقصير في الاستعداد والتفريط فيه لا يمكن أنْ يُعوض ويستدرك بسرعة .. فالأنفس، أنفس الأجيال التي شردت طويلا عن المنهج، تحتاج للعودة إليه إلى ما يعادل وقت الشرود والغيبة من الوقت. إنّ هذا الكلام المقتضب عن الاستعداد يشكل مدخلاً منطقياً يسلمنا للمحور الثالث.

المـحور الثـالث: إنّ في القرآن الكريم آيتين أحب أنْ أسميهما قانون التغيير. أبدأ بالأولى وهي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
وتأتي آيتان أخريان تؤيد المعنى نفسه وتزيده عموماً:

(ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ).

ولأهمية الآية الأولى التي أسميتها قانون التغيير في القرآن، أحب تفسيرها بعبارة موجزة موحية فأقول: (إنّ الله تبارك وتعالى كلفنا بهذه الآية الفاذة بما نطيق وهو تغيير أنفسنا، وتكفل لنا بما لا نطيق وهم الأعداء من حولنا).

واسقاطاً لهذه القاعدة على الواقع المعاصر أقول: إنّ الله أمرنا بأمر كلنا نطيقه وهو أنْ نُغير أنفسنا على وفق ما جاء في الوحيين، وعلى منهج (ما أنا عليه وأصحابي) فإن استجبنا وغيرنا .. فأمريكا وإسرائيل وكل أهل الأرض المعادون لنا سيكفيناهم الله وهو أهل ذلك والقادر عليه. وإنْ أبينا تغيير أنفسنا استجابة لأمر الله، ولم نعد أهلا لاستقبال نصر الله، فلن ينجز لنا ربنا وعده في التغير لصالحنا ولو امتلكنا أفتك سلاح في العصر الحديث .. إنّ الله بالغ أمره وليس في الكون كله راد لأمره ومشيئته وقضائه .. فهل يماري أحد في هذه الحقائق؟

ولا أحب أنْ أفوت فرصة أنْ أقرأ عليكم لسيد قطب كلاماً جميلاً في هذه الآية:

(إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم…

فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم. فإنّه لا يغير نعمة أو بؤسا، ولا يغير عزاً أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة. إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم. وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون. ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لاحقاً له في الزمان بالقياس إليهم.

وإنّها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة، فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر، وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم.

والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل. وهو يحمل كذلك إلى جانب التبعة دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه).

أما الآية الثانية في قانون التغيير فهي قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وكما فعلت في الآية الأولى من إعطاء تفسير مبسط واضح مختصر، أفعل في الثانية فأقول: ولا بّد أنْ أُشير أنّ الآية نزلت في حال المسلمين في غزوة أحد. أقول: قد أوجب الله تبارك وتعالى في هذه الأية تحديد المسؤولية وعدم تضييعها بتراشق التهم، وتمييع القضية. فكل مصيبة تصيب المسلمين في هذه الحياة الدنيا، صغيرة كانت أم كبيرة يجب أنْ يكون المتهم الأول والمسبب الأول عندهم (أنفسهم)، وتحمل المسؤولية جماعي وإنْ كان المخطئون أفراداً وهذه قمة التربية .. فالجماعة مسؤولة عن تربية الأفراد وخطؤهم جزء من مسؤوليتها، ولأنّ تقصير البعض يُشير إلى ضعف في التواصي بالحق والتواصي بالصبر في المجموعة. والإجراء الفوري الرادع يكون عقوبة للمقصر وتذكرة وتثبيتا لصاحب الموقف الصحيح، كما حمل الله تبارك وتعالى عاقلة الرجل بعض مسؤولية خطأه .. والأنفس أولى بالحساب من أي جهة أخرى ولعل هذا الأسلوب هو الذي يصل بكل مسلم إلى مرحلة النفس اللوامة، التي أقسم الله بها كما أقسم بيوم القيامة وأعظم بتلك من منزلة. هذا كلام الله وليس كلامي. وإسقاطاً على الواقع المعاصر كما فعلت في الأولى أقول: إذا وصل المسلمون إلى قناعة تامة في أنّ فشلهم وهزائمهم في ما يخص القضية الفلسطينية هي من عند أنفسهم يكونون قد وضعوا أنفسهم على الطريق الصحيح للحل.

ولقد حدد الله لأهل أُحد موطن الخطأ والخلل، حتى لا يتهرب من المسؤولية أحد (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ).

(مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ) مفاجأة أدهشت كل أحد، ومكاشفة أخافت كل أحد، فليس بين الله وأحد من خلقه نسب للمحاباة والمجاملة. عبّر عن هذه المعاني وذاك الموقف ابن مسعود رضي الله عنه، وهو أعجب تعليق سمعته عن الآية المذكورة يقول رضي الله عنه: (ما كنتُ أرى أنّ أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت فينا ما نزل يوم أحد {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}).
وفي رواية عنه رضي الله عنه:
(فلو حَلَفت يومئذ رجوت أن أبَر: أنّه ليس أحد منا يريد الدنيا، حتى أنزل الله عز وجل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}).

مَن المعاتبون في هذه الآيات؟ إنّهم أفضل البشر بعد الأنبياء والرسل، إنّهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسم، فهل حاباهم ربهم وجاملهم لخطأ اجتهادي تأويلي، لا تعمّد فيه ولا قصد.

مرة أخرى وإسقاطاً على الواقع المعاصر أقول: هل في المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم أعز على الله من أصحابه، وإن كان الله لم يجاملهم في خطأهم، وعاقب المجموعة لأجلهم، وفضح نوايا المخالفين. بل إنّ الأذى في تلك المعركة نال النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المخالفة فكسرت رباعيته، وأدمي وجهه، وسقط في الحفرة، كل ذلك من شؤم المعصية وإمعاناً في تلقين الدرس، ومبالغة وتأكيداً للاعتبار بالواقعة .. فهل نحن اليوم، أهل فلسطين، والعرب والمسلمين من ورائهم أصلح حالاً، وأزكى نفوساً، وأصح ديناً من صحابة رسول الله المعايشين لأنفاسه، وهل نحن بمنجى ومنأى عن عقوبة الله، كما عوقبوا يوم أحد، ونحن نرتكب المخالفات الواضحة الفاضحة الصارخة للدين بتعمد وتصميم وبخاصة، في محاولاتنا لمعالجة قضية فلسطين، وننتظر النصر بعد ذلك؟

فعلى كل مسلم وعى سنن الله وفهم شرطي الله على عباده أنْ يقول أمام كل نازلة أنا وبيتي جزء من المشكلة، وسبب من أسبابها. فليتدارك كل نفسه وأهله. وحين يصير هذا المنهج عاماً عند كل المسلمين يأتينا النصر تلو النصر، وترتفع المعاناة.

مرة أخرى أحب أن أسمعكم تعليق سيد قطب على الآية: (أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر. وأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلى الله عليه وسلم وأنفسكم هي التي خالجتها الأطماع والهواجس. وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله وخطته للمعركة. فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم بانطباق سنة الله عليكم حين عرّضتم أنفسكم لها. فالإنسان حين يعرّض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه مسلماً كان أو مشركاً ولا تنخرق محاباة له فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداء).

المحور الـرابع: التوحيد خير عدة في المعركة .. ومَن عنده اطلاع في الأمور العسكرية يعلم أنّ كل الجيوش في العالم فيها إدارات تسمى بالتوجيه المعنوي، وأخرى خاصة بالحرب النفسية، وإنّ مهمة تلك الإدارات في الجيوش أنْ تصل بالمقاتل إلى أحسن وضع من الاندفاع والحماس والتضحية ..إلخ، ولا أبالغ أبداً، إنْ شاء الله، أنّ ما تصل إليه تلك الإدارات هو قليل قليل مما يحدثه التوحيد في نفوس المقاتلين المسلمين، وقد تفلح تلك الإدارات وقد لا تفلح.

ما معنى التوحيد؟ أنّك أيها المقاتل المسلم تقاتل في سبيل الله، وليس من أجل جهة أرضية قد تحبها أو تكرهها أو لا يصل حبك لها إلى حد أنْ تزهق روحك من أجلها. وأنّك أيّها المقاتل المسلم لك جزاء واحد هو رضى الله والجنة. إنّ انتصارك أيها المقاتل المسلم مرتبط بإيمانك، وتصديقك بوعد الله، واستقامتك على طريقه. وليس بأية جهة أو اعتبار أرضي.

فقولوا لي بربكم، المقاتل الذي عنده هذه الذخيرة الإيمانية الروحية المعنوية ماذا يخشى؟ إنّ التوحيد هو الذي صنع أولئك الرجال ومن تلك النماذج: (عن عمرو قال سمعت جابرا يقول: قال رجل يوم أحد أرأيت إن قتلت في سبيل الله فأين أنا؟ قال في الجنة فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل).

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إِنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ تُغسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ) فقالت: خرج وهو جنب لما سمع الهائعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَذَاكَ قد غسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ)).

ومن أعظم ما يُرسخه التوحيد في نفس المسلم فيما يخص الجهاد، حصر النصر بالله تبارك وتعالى:
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ).

ولنقرأ الآيات في سورة آل عمران: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

وَعْد من الله تبارك وتعالى لنبيه ومن معه من المقاتلين المؤمنين بإمدادهم بثلاثة آلاف من الملائكة تقاتل معهم لأنّهم يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا. وزاد الوعد الإلهي الذي لا يخلف، العدد إلى خمسة آلاف من الملائكة جزاء على التقوى والصبر والثبات في القتال .. لكن تحرير وتجريد التوحيد يبلغ أوجه في قول ربنا تبارك وتعالى وانتبهوا: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ومفتاح فهم الآية هو مرجع ضمير الهاء في فعل (جَعَلَهُ) وهو ولا شك عائد إلى إمداد الله المؤمنين بالملائكة لتقاتل معهم وتثبت أقدامهم. هنا تتجلى قمة تعليم الله عباده المؤمنين التوحيد، في قوله إنّ النصر الذي وُعدتم به ليس من شأن أحد من المخلوقين، إنّما هو للخالق وحده يهبه من يشاء. حتى الملائكة المرسلون من الله إلى الأرض والذين هم من جند الله ليسوا هم الذين يأتون بالنصر، لكن إرسالهم كان تسلية وتطمينا لقلوب المؤمنين. وتنتهي الآية بالحصر القاطع (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) هو العزيز في قوته ومنعته وسلطانه، وهو الحكيم في معرفة من يستحق نصره ممن لا يستحقه.

إنّ النصر مسحوب من سلطان أي جهة أرضية مهما كانت. وهو محصور وموقوف ومقصور على ذاته العلية تبارك وتعالى.

بهذا الفهم، وهذا الإيمان، وهذا التسليم تدار معارك الإسلام مع أعدائه. ويوم يصبح المقاتلون وقادة المقاتلين يستجدون النصرة من أهل الأرض بل من أعداء الله! فهل ينصرون؟ لا وألف لا. ولماذا؟ لأنّهم أخلوا بالتوحيد وهو أصل الإيمان، ووقعوا بالشرك، فمن أين يأتي النصر؟ فالتوحيد التوحيد يأهل الإسلام .. والتوحيد التوحيد يا أهل فلسطين، والتوحيد التوحيد يا مقاتلي فلسطين!

وفي السنة حديث لا أحب أنْ يفوتني ذكره لما فيه من مناسبة قوية لهذه الفقرة. إنّ المعركة يوم تكون إسلامية قائمة على التوحيد يستنفر الله لها جنده في الأرض والسماء، فيتفاعلون معها أيما تفاعل .. يقول جبريل عليه السلام لنبينا صلوات الله وسلامه عليه: (قال لي جبريل لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون مخافة أن دركه الرحمة).

وأختم هذا المحور بقولي إذا كان المولى عز وجل يستنفر لمعركة الحق بين المؤمنين وأعداء الله كل جنده في الكون، فالله هو الله، وهو لا زال القاهر فوق عباده والقادر على أن يبعث الملائكة والريح وكل جنده لنصرة عباده اليوم، ويبقى شرط واحد أنْ يكون عباد اليوم ومقاتلو اليوم في توحيدهم وإيمانهم واستقامتهم كعباد الأمس.

المحور الخامس: كثيراً ما واجهني، وأنا أحاول أنْ أطرح هذه الأفكار وأنعش القلوب والعقول بها، الموقف الآتي: وهو تصور أنّ هذا الطرح نظري لا يُناسب الواقع، وأنْ أمده طويل فماذا يفعل بنا الأعداء ونحن ننتظر؟

وكان ردي بعبارة يُكررها من يتعاملون مع التاريخ فيقولون: (التاريخ يعيد نفسه) وهي عبارة غربية مرت معي في أكثر من كتاب. لكنّ بعض المهتمين بالتاريخ لا يوافقون على العبارة، ويقولون التاريخ لا يُكرر نفسه، وإنّما تتشابه حوادثه لأنّ أبطالها من البشر، وبين بني البشر قواسم مشتركة كثيرة ولو اختلفت الأعصار والأمصار، كحب الحرية مثلاً .. ولكنّ بعض الكتاب الإسلاميين يرفضون العبارة بالتفسيرات السابقة، ويقولون إنّ التاريخ لا يُعيد نفسه، ولكنّ سنن الله في الخلق واحدة وثابتة وهي التي يتحرك البشر من خلالها.

أقول لأصحاب الموقف الذي ذكرت، احتكموا إلى سنن الله، واحتكموا إلى التاريخ وهو تسجيل لحركة تلك السنن على الأرض.

إنّ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأرض فلسطين ارتهنت بيد الصليبين قرناً كاملاً، وفي بعض الروايات تصل المدة إلى قرنين. فكيف تمت المعالجة. إنّ كل من تناول دراسة حال أمة الإسلام أثناء فترة الاحتلال الصليبي للأرض الإسلامية، يُؤكد أنّ الحال كان شبيهاً جداً بحالها اليوم دويلات في الشام متناحرة متنافرة، تزيد عن خمس عشرة دولة، وكيد صليبي كبار منتش بالانتصار، يعيث في المنطقة فساداً وهو لا يرى من جانب المسلمين حركة أو استنكاراً، وفي الوضع الإقليمي بالتعبير المعاصر قوى تريد الإبقاء على ذاك الواقع وتستفيد منه. وبالنتيجة حصار وتآمر على أهل السنة في المنطقة. إلى هذه النقطة لا يرى المتحمسون لفلسطين جديداً ملفتاً للنظر. لكنّ الجديد والمفرح أنْ نستكمل الصورة مع دارسيها لنرى كيف كانت المعالجة التي أوصلت إلى التحرير.

كل المصادر تجمع وتؤكد أنّ صلاح الدين رحمه الله ومن قبله نور الدين رحمه الله،
ومن معهم
اهتموا بإصلاح الأوضاع العامة الدينية والسياسية والمعاشية قبل زج الأمة في المعارك، بتعبير آخر كان لهم في معالجة المشكلة مشروع إسلامي إصلاحي متكامل، ساروا به نحو النصر، مرحلة بعد مرحلة، دون القفز على المراحل، ولا أُريد الإسهاب بل أنصح كل أحد يحمل هذا الهمّ أنْ يقرأ عن تاريخ نور الدين وصلاح الدين، وهما بطلا تحرير القدس والأقصى وفلسطين وعن الطريق الذي سلكاه حتى أحرزا النصر المؤزر بعد قرن من الهوان أصاب المسلمين .. ومن أجمل وأنفع ما قرأت، لمؤرخ شاب ليبي معاصر هو الدكتور علي محمد الصلابي، في كتاب له عنوانه: (صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس). يقول جزاه الله خيراً:

(إلا أنّ تحرير بيت المقدس والقضاء على الصليبيين في معركة حطين لم يتم إلا بعد القضاء على الدولة الفاطمية سياسياً وعسكرياً، وقد سبقها الانتصارات العقائدية والفكرية والثقافية والتاريخية والحضارية للمذهب السني. إنّ الذين استطاعوا تحرير بيت المقدس وانتزاع المدن والقلاع والحصون من الصليبيين هم الذين تميزوا بمشروعهم الإسلامي الصحيح وعرفوا خطر المشاريع الباطنية الدخيلة فتصدوا لها بكل حزم وعزم. إنّ أية أمة تريد أن تنهض من كبوتها لا بد أن تحرك ذاكرتها التاريخية لتستخلص منها الدروس والعبر والسنن في حاضرها وتستشرف مستقبلها).

ويُضيف في الكتاب نفسه: (إنّ من الدروس المهمة من هذا الكتاب معرفة المشاريع المتصارعة في عهد صلاح الدين، فقد كانت ثلاثة تتطاحن على قدم وساق، وهي المشروع الصليبي والذي تتزعمه الكنيسة من عهد أوربان الثاني، والمشروع الشيعي الرافضي بقيادة الدولة الفاطمية بمصر، والمشروع الإسلامي الصحيح وحامل لوائه بعد نور الدين صلاح الدين، فكانت المحاور التي سار عليها أهل السنة دولة وشعباً).

أقول فلسطين لا تُحرر بالعمل العسكري فقط إنًما بمشروع إسلامي متكامل يعالج أوضاع المنطقة كلها. وبالحسابات الأرضية يبدو هذا المشروع ضربا من الخيال، ودون تحقيقه خرط القتاد .. وبالفعل ليس عند الأرض وأهل الأرض إلا هذا الجواب .. أما عندما يشرأب المسلمون برؤوسهم وأنظارهم إلى رب السماء ويستدعون إلى ذواكرهم جهاد نبيهم مع سلف هذه الأمة يرون النصر قريب كإطلالة فجر .. لكن بعد ثورة على الأنفس يعلنها كل على نفسه. فلكل من يرى أنّ المشروع الإسلامي من أجل فلسطين لا يناسب الواقع القائم الآن أقول: إنّه مشروع إسلامي، وهو لمن يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبمحمد نبياً. أما الذين على الساحة فللقومي وجهته، وللعلماني وجهته، ولليساري وجهته .. وإنّا معهم منتظرون .. وأهل الإسلام ليسوا في عجلة من أمرهم وثقتهم بالنصر لا يزعزعها خوف ولا إرجاف .. وكما حُرر الأقصى بالرؤية الإسلامية المؤصلة، والمشروع الإسلامي الإصلاحي المتكامل، وليس العسكري وحده، كما تشهد تجربة صلاح الدين رحمه الله، سيحرر ثانية .. والعبرة أنّ النصر بشروطه آت بيقين وليس مُهماً كيف ومتى، بعد أنْ تطبق سنن الله ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

أما الضجيج، وأما العواطف والكلام المعد للتصدير، وأما المزايدات والمناقصات، وأما المؤتمرات والتحالفات والتراشقات، فجعجعة بلا طحن لا يراد بها وجه الله. ولن يغتر بها مؤمن عاقل.

المحور السـادس: وهذا المحور مجموعة أوراق متناثرة في الموضوع لم تجد لها مكانا في المحاور السابقة:

أولاً: حينما يتم التأكيد والإلحاح على أنّ فلسطين قضية إسلامية فذلك يعني أول ما يعني اعتمادها بعد نصر الله وتوفيقه، على القدرات الذاتية لأهلها وللمسلمين من حولهم، وبكلمات أخر فهي لا تقبل للخروج من محنتها مالاً حراماً يدفع، ولا نفساً غير مؤمنة تقاتل .. وحتى لا أطيل الكلام إليكم هذين النموذجين:

فيما يخص المال ذكرت المصادر التي أرخت لأيام نور الدين أنّه اضطر إلى مال لتجهيز الجيش ففرض على الناس ما يسمى بالضريبة، وبعد حين جاءه بعض العلماء وقالوا له إنّ ذلك لا يحل لك، ومن حقك كإمام أنْ تختار الأغنياء فتفرض عليهم ما تريد. فنظر في الأمر ثم ألغى ما فرضه. فجاءه قادة الجند فقالوا كأنّك أيها الأمير قد تخليت عن الجهاد. قال لِم؟ قالوا ألغيت مصدر تمويل الجيش. فقال كلمة القائد الفقيه المؤمن: لا أريد جهاداً بما حرمه الله.

أما ما يخص قتال غير المسلمين فجاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث في ذلك منها قوله لرجل يريد أنْ يقاتل معه (أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ) وهو في البخاري.

عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ خَرَجَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى خَلَّفَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَى كَتِيبَةً حَسْنَاءَ، فَقَالَ: (مَنْ هَؤُلاءِ؟) قَالُوا: بَنِي قَيْنُقَاعٍ وَهُمْ رَهْطُ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ، وَهُوَ رَهْطُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ ، فَقَالَ: (أَسْلَمُوا؟) قَالُوا: لا قَالَ: (قُولُوا لَهُمُ ارْجِعُوا، فَإِنَّا لا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ)).

عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: (تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟). قَالَ: لاَ. قَالَ: (فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ). قَالَ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّجَرَةُ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ لاَ قَالَ (فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ) قَالَتْ فَرَجَعَ ثُمَّ أَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: (تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟). قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (فَانْطَلِقْ)).

ثانياً: المقاومة وما المقاومة، والكلام فيها كمن يسير بين الأشواك فلا يسلم من وخزات، بل كمن يسير في حقل ألغام لا يدري متى يعصف به. مرد ذلك وللأسف إلى غلبة العاطفة وبالتالي المواقف اللامسؤولة. أنا لست ضد المقاومة، وهي فن من فنون القتال ولا شك، ولهذا الفن أصوله وتكتيكاته ومناسباته. أما أنْ يُصبح شعاراً فقط، أو ثقافة كما هو مطروح الآن فهذا ما أعترض عليه.

وحينما نؤكد على إسلامية قضية فلسطين، فأين نجد كلمة المقاومة في القاموس العسكري الإسلامي. ولِم نترك المصطلح القرآني والسني (الجهاد) إلى غيره من المصطلحات المحدثة الفضفاضة؟ إنّ المقاومة بمفهومها الحاضر تعني تعويم العمل المسلح ضد العدو وفوضويته. فكل يقاوم كيف يشاء، ومتى شاء. وكل عشرة يجتمعون ليشكلوا فصيلاً مقاوماً وحده .. ولمّا بالغنا في المقاومة وثقافة المقاومة صار يكتنفها نوع من القدسية فلا أحد يستطيع الكلام ولا النقد، والمقاوم صار إنساناً لا يُسأل عما يفعل، وهو سيد كل موقف! .. ولا يجد المرء ما يقـول إلا البيت التالي:

أوردها سعد وهو مشتمل

ما هكذا يا سعد تورد الإبل

ثالثاً: يوم ابتعد الناس عن إسلامية القضية الفلسطينية، وغلوا بالتالي في شأن المقاومة، وصار الحكم عند المسلمين في قضاياهم الإسلامية الكبرى بالمستورد من فيتنام وكوبا والكاميكاز (الريح الإلهية) في اليابان، صرنا نرى أشكالاً من المقاومة لا يُقرها دين الإسلام، وهي (العمليات الانتحارية). وجرى التضخيم الإعلامي لها، وانقسم أهل العلم بين راض بها مسايرة، ومدافع عنها ومنافح بحجج ضعيفة، وقائل للحق لم يُسمع منه. وصار الذي يفتي في المجالس عوام الناس وحجتهم علو الصوت وانتفاخ الأوداج، واتهام المُحاور. ولكي نخرج بفائدة، فالمسألة خطيرة جداً، فإلى نقاش شرعي هاديء للعمليات الانتحارية التي حرص البعض على تسميتها بالاستشهادية تيمناً:

الأمر الأول أنّه جرى خلط كبير بين صورتين قتاليتين الأولى: الانغماس في العدو، وهو تعبير عن مقاتل يتحمس ويأخذ سلاحه ويهاجم قوة كبيرة للعدو، واحتمال النجاة ضعيف، فيُقتل، ولم يقل أحد من العلماء لا في القديم ولا في الحديث أنّها حرام، بل هي عند بعضهم بطولة.

والصورة الثانية: أنْ يُفجر المقاتل نفسه عن طريق ما يسمى بالحزام الناسف، بغض النظر عن السبب، وهي ولا شك من منظور شرعي حرام. والفرق بين الصورتين أنّ الأول قتل بفعل العدو، والثاني بفعل نفسه، بيده، والحكم الفقهي أنّه منتحر.

والمناقشة: أنّ قتل الإنسان نفسه مُصنّف إسلامياً في خانة الحرام بل أشد الحرام. وحتى يأتي أحد، ولو كان فقيهاً، لينقله إلى خانة الحلال بل الشهادة يحتاج إلى دليل بقوة الأول. فما هي الأدلة التي جاؤوا بها؟

ثلاثة أدلة لا رابع لها. الأول: قول بعض الفقهاء أنّ العدو لو تترس في مكان ببعض الأسرى المسلمين جاز نسفهم ولو قتل المسلمون. والثاني: قصة البراء بن مالك في معركة الحديقة، فقد طلب من أصحابه أنْ يحملوه في ترس ويرفعوه على الرماح ليقذفوا به من فوق السور ليفتح لهم باب السور ففعلوا ولمّا دخلوا وجدوه قتل عشرة ثم قتل (والقصة غير محققة عند المحدثين). الثالث: قصة الغلام في أصحاب الأخدود الذي قال للملك إنْ أردت قتلي فخذ سهماً من كنانتك، وقل بسم الله رب الغلام فقتله.

حتى لا نُطيل الجدل تأملوا القصص الثلاث وأجيبوا عن هذا السؤال بدقة: مَن مِن الثلاثة باشر قتل نفسه بيده؟ لا أحد .. فأين دليل الحِل؟

إنّ الأمة مسؤولة عن هؤلاء الشباب، وعلماء الأمة بالخصوص. وعن إزهاق أرواحهم بهذا الأسلوب، وسيسأل عند الله كل من يستطيع أن يمنع ولا يفعل. ومع قناعتي التامة بحرمة العمليات الانتحارية التي يقتل المقاتل نفسه بيده دون أي شك، لكنّني أقول بملء فمي أنّ الذي يموت بهذا الأسلوب وهو على الإسلام والتوحيد لا يجوز أنْ نقول إنّه في النار بل نرجو له المغفرة بل والشهادة والقبول، وإثمه على من أفتاه.

وأختم بقصة لا أستطيع نسيانها، وهي تلك المرأة في عمر العشرين التي قامت بعملية انتحارية وخلفت وراءها رضيعة عمرها سنة، ولا أنسى ثناء الخطباء عليها يوم الجمعة، وقول أحدهم وقد حضرته: على كل مسلم أنْ ينحني إجلالاً لهذه التضحية وأنْ تكون مثلاً لشبابنا وشاباتنا .. أقول: إنّي لأطأطيء رأسي خزياً أنْ يكون في المسلمين من يفرح لهذه المأساة، ويُجيز ارتكاب هذا الحرام! ألم يقرؤوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: عن عائشة أنّها قالت: (يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: (نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ)).

أليس في الأمة، بل في المقاومة رجل رشيد يُفهم تلك الأم أنّ النساء لا جهاد عليهن، وأنّ إضاعتك رضيعتك إثم كبير لقوله صلى الله عليه وسلم:
(كفى المرء إثما أن يضيع من يعول). فإذا كان الكل يصفق، والعالم على المنبر يهلل ويثني ويعجب ويدعو إلى المزيد، فمتى نفهم الإسلام ونقدمه على العواطف، ومتى تحرر فلسطين؟

الخاتـــمة:

فلسطين أرض إسلامية والأقصى، وما حوله أرض قد بارك الله فيها وهي من مقدسات الإسلام .. ولقد سمعت في الآونة الأخيرة كثيراً من النصوص الشرعية، وبخاصة الأحاديث النبوية حشدت لبيان فضل بيت المقدس لكن حديثاً واحداً لم أسمعه، وهو من أقوى الأدلة على فضل وشرف تلك البقعة وقيمتها الدينية:

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهما أفضل: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مسجد بيت المقدس؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعا، أو قال: خير من الدنيا وما فيها)). والشطن: هو الحبل.

في الحديث تصحيح لما شاع بين الناس من أنّ الصلاة في الأقصى تعدل خمسمائة صلاة فيما سواه، وفي رواية ألف، وكل ذلك روايات لا تصح، والصحيح ما جاء في هذا الحديث، وهو صحيح أنّها تعدل مئتين وخمسين صلاة فيما سواه من المساجد.

أما الفضل الكبير الآخر، والله أعلم بتفاصيله، هو أنْ يكون للرجل قطعة أرض بطول رسن فرسه يرى منها بيت المقدس أحب إليه من الدنيا وما عليها .. فما ذاك الفضل وما تلك المزية الله أعلم. وماذا نقول وجيران الأقصى من المسلمين يجلون عنه اليوم! أنا لا أقول السبب هو طغيان اليهود، وهو حقيقة لا تقبل الجدال .. لكنّي أقول: غثائية المسلمين التي جعلتهم يهونون على الناس، فتتخطفهم الناس بعد أن هانوا على الله، هي السبب في ما يجري.

أخيراً … ليقل من شاء ما شاء في فلسطين .. وليفعل من شاء ما شاء في فلسطين. أما المسلمون فليرجعوا إلى تميزهم الذي أضاعوه، فهم في الأصل أمة ليست كسائر الأمم ميزها الله بمنهج يضبط حركتها على الأرض، منزل من فوق سبع سماوات. وليس على الأرض أمة لها ذلك. فما استمسكت به فلن تضل ولن تخزى، وإن اتخذته ظهرياً وعملت بما توحيه عقول المخلوقين فهي كسائر الأمم ولا كرامة … والحمد لله رب العالمين