Skip to main content

القَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

By الأحد 27 شعبان 1439هـ 13-5-2018ممحرم 21, 1441دراسات

* تعريف

في البداية أود تعريف هذا المصطلح بدقة وتبسيط لخطورته شرعياً ولعموم البلوى به، ولتكرره كثيراً أثناء عرض الموضوع، أقول: أي إنسان يقول أو يفعل أو يعتقد شيئا، على أنّه من دين الإسلام، وليس عنده على ذلك دليل من الوحيين، فهو من القائلين على الله بغير علم.

وتأكيداً لخطورة هذا الأمر من الناحية الشرعية، وتبياناً وتحذيراً من الوقوع في ذلك عند الاشتغال أو الحديث في الأمور الشرعية، أحب أن أسميه (بالمنطقة المحرمة).

* تمهيد

قليل مَن فكر في مقاربة هذا الموضوع، بل تجرأ على مقاربته .. ومن فعل فقد أعطى جزءا من الحقيقة وسكت عن الباقي .. وما هو السبب؟ إنّه المهابة والقدسية التي أعطيت لتراثنا الشرعي المكتوب في التفسير، والعقيدة، والفقه، والأصول. حتى أوشك أن يكون تعقبه محرما، ونقده مروقا، وذلك لخفاء الفرق بين التصويب والإلغاء عند كثير من المتعصبين للتراث. ولكون تلك العلوم تمتد من الوحيين، صارت لها في أعين الناس، وفيهم علماء، قدسية الوحيين ومهابتهما. وفاتت على الكثيرين حقيقة أنّ كل تلك العلوم هي تفاعل العقل البشري مع الوحيين، وتبقى نتاجا أرضيا، وبينها وبين الوحيين من القدسية ما بين السماء والأرض.

من هنا نجد من حاولوا مقاربة هذا الموضوع تكلموا في العموم محذرين ومخطئين دون أن يضربوا مثالاً واحداً للقول على الله بغير علم وهو في كتب التراث كثير، فكانت النتيجة أن لا يتنبه القاريء لتلك المخالفة العقدية العظيمة، التي ينبه على وزرها وخطورتها نظرياً، ويدرس في الكتب المعتمدة مئات النماذج لها دون إشارة بالنقد. فإذا اشتد عوده صار ما تربى عليه مسلمات لا تقبل المناقشة، ويصعب عندئذ بل يستحيل الإصلاح، والواقع خير شاهد.

لذلك فإنّي أصف هذه المحاولة مني بأنّها جريئة، وقد تكون غير مسبوقة في تسمية الأشياء بمسمياتها … ولا أعلم من نفسي دافعاً لمثل تلك المحاولات (الجريئة) إلا تأسيس منهج وتقويته وترسيخه وتأييده بالتطبيق، ورفض ما يخالفه لأنّ المنهج ليس علماً نظرياً وحسب. فأرجو أن لا يُخطأ فهم قصدي، فأنا ليس بيني وبين أحد من علماء المسلمين خصومة، ولا أود تعقبهم والتشهير بهم فقد أفضوا إلى ما قدموا، ولهم أياد بيضاء لا يستطيع مثلي ولا غيري جحدها … لكن حرمة الدين تُقدم على كل حرمة، ورد الخطأ على أهله يسبق كل اعتبار، والنصح للمسلمين واجب شرعي لا بد أن تبرأ منه الذمة. فإن رضي الله فليغضب من شاء، وعليه وحده التكلان.

القول على الله بغير علم ذنب عظيم، لكنّ الأعظم من ذلك أن نعلم أنّه ليس عند الجهال وعوام الناس بالقدر الذي هو عند العلماء وطلبة العلم. وقد تكون هذه المعلومة مذهلة لأول وهلة، وعندئذ يغدو (القول على الله بغير علم) ذنباً غير قاصر، أي يتعدى إلى الآخرين ضرراً وإثماً .. والخطورة في أمر (القول على الله بغير علم) أنّه يرتبط بالبحث والطرح العلمي فينظر إليه نظرة تقدير واحترام، ويكتسب حصانة تحميه من النقد.

ومن إشكاليات البحث فيه أنّه يتداخل، عند الكثيرين، مع الاجتهاد. والاجتهاد بضوابطه، حق لا يماري فيه ممار .. ومما ذكر يكاد هذا الذنب العظيم يكون أمراً خفياً، ولو تنبه بعض العالمين له ونبهوا عليه لم يسمع منهم. وخطير جدا أنّ أجيال الأمة ربيت ولا زالت تربى على هذا الإثم وهي تظنه خيرا. تفتح أعينها لتجده في أمهات الكتب، ولا أحد ينكر، ولا صوت يحذر، ولا قلم يسطر. فصار من الغرابة أن يثار هذا الموضوع، وقد سكت عنه الجموع والجموع.

وتظهر لدى مناقشة موضوع القول على الله بغير علم مشكلة أخرى وهي أنّ أغلب العلماء حصروا مدلوله، وبالتالي ضيقوا مساحة وجوده فصار الناس يدخلون تلك المنطقة المحرمة دون وعي أو شعور، وهي مشكلة كبيرة.

وقبل الدخول في صلب البحث أرى مناسباً إزالة الإشكاليات السابقة، وتحرير القول في مسألة (القول على الله بغير علم) ليتضح المصطلح وتُعرف حدوده.. لا يستعمل هذا المصطلح إلا في المسائل الدينية. أما المسائل غير الدينية فالمغامر فيها أشد ما يوصف به أنّه متجن على الحقيقة أو مخطيء أو جاهل، والخصومة في ذلك تبقى أرضية، وتقبل الحوار والتصفية. والسؤال لماذا المسائل الدينية فقط؟

والجواب: إنّ الدين أصله وحي منزل من فوق سبع سماوات، قرآنا كان أم سنة صحيحة، والخوض فيه بلا علم أو بصيرة تطاول من عقل بشري على ثوابت إلهية لا تقبل المناقشة، ولا تقبل التعامل معها إلا من خلال العلم بالوحي المنزل، واتباع النبي المرسل. وإن قال قائل أليس في الدين اجتهاد..؟ أوليس النبي صلى الله عليه وسلم هو القائل: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فلهُ أجرٌ واحدٌ)؟ نقول بلى، ونذكر بالقاعدة الهامة والشهيرة والمجمع عليها بين أئمة المسلمين (لا اجتهاد مع مورد النص). أما ما نحن في صدده، وهو (القول على الله بغير علم)، فهو التقديم بين يدي الله ورسوله في مسألة جاء فيها النص، أو أنّها من الغيب فتحصل معارضة النص بالاجتهاد ويكون التعامل مع الغيب بتدخل العقل. وهذان أوسع بابين للدخول إلى القول على الله بغير علم.

تبقى فيما يخص المصطلح المناقش إشكالية أخرى، أطرحها في السؤال الآتي: هل يستوي في وزر (القول على الله بغير علم) متعمد، وجاهل غير متعمد؟

الظاهر أنّهما يستويان لقوله تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فالمتعمد أمره واضح، أما الجاهل، فما من جاهل يجهل أنّه جاهل، وبالتالي فتقحمه ميادين ليست له ليقول ما لا يعلم على الله تُوقعه في الذنب. والمسألة شبيهة بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمتعمد باء بإثم الكذب أما الجاهل فليس له أن يروي عن رسول الله ما لا يعلم، وليس له من مكره على ذلك إلا تطاوله وتعالمه، وهما يستحقان الوزر، وإن كنّا لا نماري في تغاير الوزرين وزر المتعمد، ووزر الجاهل والله أعلم.

* أدلة التحريم

يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف:

(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).

والمتأمل في الآية يجد أنّها تشمل محرمات في دين الإسلام جرى تعدادها تصاعدياً، وأنّها انتهت بالقول على الله بغير علم وهو أعلاها، بدليل أنّ التي قبل ذلك هي الشرك فيكون القول على الله بغير علم فوق الشرك.

* الأمور التي يشملها القول على الله بغير علم

الأمر الأول: التفسير…

مع أنّ علم التفسير من أعظم العلوم الإسلامية وأجلها قدراً، فهو مفتاح لفهم كتاب الله ومعين على العمل به. وقد استمد هذا القدر والشرف من المفسر وهو كتاب الله تبارك وتعالى .. إلا أنّ علم التفسير لم ينضبط بضوابط، وبخاصة إذا ما قورن بعلم الحديث وكل العلوم المتصلة به عن طريق الإسناد وعلم الرجال .. كما أنّ تسلل الكثير من الإسرائيليات إلى كتب التفسير، جعلها مشحونة بأقوال لا يعرف لها في الإسلام أصلا .. ولا شك أنّ معظم أصحاب التفاسير المعتمدة، عند أهل السنة، ليسوا موضع تهمة إلا أنّهم غلب على معظمهم الجنوح إلى الموسوعية، في أن تحوي كتبهم كل قول بغض النظر عن موطن القوة أو الضعف فيه، وقد عسر عليهم أحياناً، أو لنقل فشلوا في التمحيص والترجيح فتركوا تلك التبعة على القاريء من بعدهم.

ولدى الحديث عن التفسير لا يستغنى عن الإلمام بعبارة الإمام أحمد رحمه الله التي يقول فيها: (ثلاث علوم لا إسناد لها وفي لفظ ليس لها أصل: التفسير والمغازي والملاحم) وقد فسر هذه العبارة أكثر من عالم، وإليكم ما قاله ابن تيمية في كتاب (منهاج السنة النبوية):

(وأما أحاديث سبب النزول فغالبها مرسل ليس بمسند، ولهذا قال الإمام احمد بن حنبل {ثلاث علوم لا إسناد لها وفي لفظ ليس لها اصل التفسير والمغازي والملاحم} ويعني أن أحاديثها مرسلة).

وفي التفاسير الكثير الكثير من الموضوعات والأحاديث المكذوبة، لأنّ القلة من المفسرين من جمعت له الإمامة في الحديث والتفسير. ولاعتقاد كان يسود بين العلماء في القديم وهو (من أسند فقد بريء من العهدة) لكنّ هذا القول وإن كان مقبولا بعض الشيء قديماً فهو خطر وخطأ في أهل زماننا لضعف العلم وقلة الاطلاع. وقد جاء في موسوعة الخطب والدروس:

(لقد كان لجهلة المتصوفة والقصاص الباع الطويل في وضع أحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم حسبة لله تعالى، ويقولون نحن لا نكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نكذب له.

ومن أمثلة من وضع الأحاديث حسبة لله تعالى ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي، أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين ذلك: عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة.

وروى ابن حبان في الضعفاء عن ابن مهدي قال: قلت لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث: من قرأ كذا فله كذا؟ قال: وضعتها أرغِّب الناس، وكان غلامًا جليلاً يتزهد ويهجر شهوات الدنيا وغلقت أسواق بغداد لموته ومع ذلك كان يضع الحديث. وقيل له عند موته: حسِّن ظنك؟ قال: كيف لا وقد وضعت في فضل علي سبعين حديثًا).

وتجنبا للإطالة هاكم بعضا من أمثلة القول على الله بغير علم في كتب التفسير:

1. الخوض في تفسير أو تأويل فواتح السور (ألم. ألمص. ألر. كهيعص. ص. ق. إلخ) وإنّ القاريء لكتب التفسير يجد من ذلك عجبا، فقلّ منهم من نجا من تسويد الصفحات في كلام لا طائل تحته. وللإنصاف أقول: إنّ بعضهم بعد أن يسود الصفحات الطوال، قد يشير إلى أنّ ذلك ليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الأصوب.

أقول: مع ذلك لا يقبل منه أن يتطفل على وقت القاريء وأن يحشو ذهنه بكم من المعلومات لا يصح ولا قيمة له. لكنّه كما ذكرت آنفا الميل إلى الموسوعية، وقلّ من نجا من استهوائها. ولولا خشية السآمة جراء الإطالة لنقلت لكم من تلك الصفحات نقولا، ولأريتكم من عجيب صنع القوم فصولا .. لكنّي لا أظن أحدا منكم سلم من قراءة تلك الأقوال. وأنقل لكم عن واحد من العلماء الذين سلكوا مسلك الصواب، وقالوا في المسألة كلاماً نموذجياً. يقول الشيخ ابن سعدي، في تفسير (ألم): (وأما الحروف المقطعة في أوائل السور، فالأسلم فيها، السكوت عن التعرض لمعناها [من غير مستند شرعي]، مع الجزم بأنّ الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها).

لكنّ الشيخ الشوكاني، رحمه الله، وكأنّه يرد على المفسرين ممن أطالوا في ذلك، ناقش المسألة وأصلها تأصيلاً شرعياً راقياً، واتقى الله في وقت القاريء وذهنه. وللأهمية أنقل لكم بعضا مما كتب في تفسير البقرة:

(إن قلت: هل ثبت عن رسول الله في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به؟ قلت: لا أعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم في شيء من معانيها، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها، فأخرج البخاري في تاريخه، والترمذي وصححه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف».

فإن قلت: هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعليّ.

فإن قلت: هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة؟ قال في تفسير شيء من هذه الفواتح قولاً صح إسناده إليه. قلت: لا لما قدمنا، إلا أن يعلم أنّه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم ها هنا مانع غير هذا المانع، وهو أنّه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذ عنه، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنّه لم يكن مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها.

والذي أراه لنفسي ولكل من أحبّ السلامة واقتدى بسلف الأمة ألا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عزّ وجل لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه).

2. تكلف تفسير بعض الوقائع، مما لا يقدم ولا يؤخر في أمر الدين. مثل: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى). أقوال المفسرين لم يكفهم البحث والخوض في اسم تلك المدينة ومكانها، بل تعدوا ذلك إلى الشخص.

يقول ابن كثير: (قالوا: هو حبيب، وكان يعمل الجرير -وهو الحبال- وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة، يتصدق بنصف كسبه، مستقيم النظرة).

وجاء في الكشاف: ({رَجُلٌ يسعى} هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. وقيل: كان في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرةَ، فقالوا: أو أنت تخالف ديننا، فوثبوا عليه فقتلوه. وقيل: توطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره. وقيل: رجموه وهو يقول: اللهمّ اهد قومي؛ وقبره في سوق أنطاكية. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سُبّاق الأمم ثلاثة: لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب ياس، ومؤمن آل فرعون).

هكذا ذكره الزمخشري دون أي تخريج أو إسناد، ونقله عنه القرطبي في تفسيره، وقال بعده: (ذكره الزمخشري مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وعند القرطبي: (هو حبيب بن مري وكان نجارا. وقيل: إسكافا. وقيل: قصارا. وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: هو حبيب ابن إسرائيل النجار وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما. ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. قال وهب: وكان حبيب مجذوما، ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة).

أقول: ما من مؤمن إلا ويؤمن أنّ الله ورسوله لم يحجبا عنا علماً نافعاً أبداً، وبالتالي فإنّ الجهل بما لم يأت عن الله هو عين العلم، لأنّه وقوف حيث أراد لنا الله ورسوله أن نقف، ومن تعدى ذلك كان مخالفاً لقوله تعالى في الإسراء (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا). وإنّ ربنا قص علينا ما فيه نفعنا وصلاحنا، فكل زيادة بعد ذلك لا نفع لها، ولو كان في الزيادة نفع لكان النبي صلى الله عليه وسلم، أولى بذلك.

وقد خفي على المفسرين رحمهم الله أنّ الله تبارك وتعالى يريد لكل قصة قصها علينا أن تكون في عمومها درساً للبشر إلى قيام الساعة، لذلك فإنّ تجريدها من الأسماء مقصود لذاته لإبعادها من دائرة الخصوصية. وتعجبني كلمة تتناولها بعض الكتب منسوبة لابن عباس رضي الله عنهما تخدم هذا المغزى وهي: (أبهموا ما أبهم القرآن) أي اسكتوا عما سكت الله عنه وابتغوا النفع فيما حدثكم به، ولا تشتتوا أذهانكم بتحري وبحث فضول القول.

3. حادثة تمس في تفسيرها المعتمد على الإسرائيليات نبياً من أنبياء الله، ومع ذلك نجدها في أكثر كتب التفسير. آيات من سورة (ص):

(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ).

هاكم نماذج من التفسير:

الدر المنثور: (وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب} قال: إنّ داود عليه السلام قال: يا رب قد أعطيت إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، من الذكر ما لو وددت أنّك أعطيتني مثله. قال: الله عز وجل «إنّي ابتليتهم بما لم ابتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم» قال: نعم. قال له: فاعمل حتى أرى بلاءك. فكان ما شاء الله أن يكون، وطال ذلك عليه، فكاد أن ينساه، فبينما هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة، فأراد أن يأخذها، فطارت على كوة المحراب، فذهب ليأخذها، فطارت فاطلع من الكوة، فرأى امرأة تغتسل، فنزل من المحراب فذهب ليأخذها، فأرسل إليها، فجاءته فسألها عن زوجها، وعن شأنها، فأخبرته أنّ زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السرية أن يؤمره على السرايا ليهلك زوجها، ففعل فكان يصاب أصحابه وينجو، وربما نصروا. وإنّ الله عز وجل لما رأى الذي وقع فيه داود عليه السلام أراد أن ينفذ أمره، فبينما داود عليه السلام ذات يوم في محرابه، إذ تسور عليه الملكان من قبل وجهه، فلما رآهما وهو يقرأ، فزع وسكت وقال: لقد استضعفت في ملكي، حتى أنّ الناس يتسوّرون على محرابي فقالا له {لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض} ولم يكن لنا بد من أن نأتيك، فاسمع منا فقال أحدهما {إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها} يريد أن يتم مائة، ويتركني ليس لي شيء {وعزني في الخطاب} قال: إن دعوت ودعا كان أكثر مني، وإن بطشت وبطش كان أشد مني. فذلك قوله {وعزني في الخطاب} قال له داود عليه السلام: أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} إلى قوله {وقليل ما هم} ونسي نفسه صلى الله عليه وسلم، فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال، فتبسم أحدهما إلى الآخر، فراه داود عليه السلام، فظن إنّما فتن {فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب} أربعين ليلة حتى نبتت الخضرة من دموع عينيه، ثم شدد الله ملكه).

وما أدري ماذا أقول حينما يقرأ الإنسان في كتب تفسير القرآن الكريم، كلاما أجهد كاتبه نفسه لجعله كلاماً مثيراً، ولو أُخفي عن الإنسان موضعه لظنه في كتاب مصنوع للإثارة الجنسية..!

وجاء فيه أيضاً: (فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه حسنها وخلقها، فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضاً بها اعجاباً. وكان قد بعث زوجها على بعض بعوثه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا. مكان إذا سار إليه قتل ولم يرجع، ففعل، فاصيب، فخطبها داود عليه السلام، فتزوجها).

ولنترك المشهد الجنسي لنرى حبكة القصة في نهايتها، إذ يقول: (فخر ساجداً لله عز وجل أربعين يوماً، وأربعين ليلة، وكانت خطيئته مكتوبة في يده، ينظر إليها لكي لا يغفل حتى نبت البقل حوله من دموعه، ما غطى رأسه، فنودي أجائع فتطعم، أم عار فتكسى، أم مظلوم فتنصر، قال: فنحب نحبة هاج ما يليه من البقل حين لم يذكر ذنبه، فعند ذلك غفر له، فإذا كان يوم القيامة قال له ربه: «كن أمامي فيقول أي رب ذنبي ذنبي. فيقول الله: كن خلفي فيقول له: خذ بقدمي فيأخذ بقدمه»).

وفي رواية في التفسير نفسه: (قال: رب كيف تغفر لي وأنت حكم عدل لا تظلم أحداً؟ قال «إنّي أقضيك له، ثم استوهبه دمك، ثم أثيبه من الجنة حتى يرضى» قال: الآن طابت نفسي، وعلمت أن قد غفرت لي. قال الله تعالى {فغفرنا له ذلك وإنّ له عندنا لَزُلْفى وحسن مآب}).

ولنقلب الصفحة لنقرأ الذين يخافون من القول على الله بغير علم. ويطهرون كتب تفسير الكتاب الكريم مما صنعته عقول أحبار اليهود نيلاً من أنبياء الله، واستخفافا بأمر الله.

جاء في تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشيخ الشنقيطي رحمه الله:
(واعلم أنّ ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة، مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معوّل عليه، وما جاء منه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء).

ولنقرأ هذا الكلام المفعم بالتأصيل في تفسير ابن كثير: (قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنّه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس -ويزيد وإن كان من الصالحين- لكنّه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإنّ القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا).

وفي معاني القرآن للنحاس كلام يحسن سماعه: (قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود صلى الله عليه وسلم وأوريا وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها).

وللشيخ ابن سعدي رحمه الله تعليق على قصة داود عليه السلام، وهي رد على الذين اختلقوا لداود ذاك الذنب ونسجوا عليه تلك القصة ناسين أنّهم يتعاملون مع نبي. والشيخ رحمه الله إنّما يصدر عن القاعدة التي ذكرتها لكم عن ابن عباس (أبهموا ما أبهم القرآن). يقول رحمه الله تفسير السعدي: (وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام، لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنّما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنّه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها).

4. أن يأتي المفسر بتفسير من خلال قصة لا زمام لها ولا خطام، لمسألة عقدية مهمة وهي موضوع التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد موته. الآية قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا).

يورد القرطبي مما يورد في تفسير الآية، القصة الآتية: (روى أبو صادق عن علي قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه، فقال: قلت يارسول الله فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم) الآية، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي. فنودي من القبر أنّه قد غفر لك).

قصة كهذه تتعلق بأمر من أمور العقيدة، يضعها القرطبي في تفسيره بسند لا يقبله الأطفال، ومعلوم وزن تفسير القرطبي عند الناس. يتمسك الجهال من الناس اليوم، والمتبعون للبدع وأهلها بقصة القرطبي ويرفعونها في وجه كل مصلح دال على الخير مسفهين ومخطئين. كيف يرضى القرطبي رحمه الله أن يُضمن تفسيره قصة هي دون شك من القول على الله بغير علم، وهل كان يدري أنّها في يوم من الأيام ستكون دليلاً لانحراف عقدي..؟

بعد هذا التطواف على كتب التفسير، لا أحب أن أنهي الكلام عن التفسير قبل تعريج على أصول التفسير التي اتفق عليها علماء الأمة، تعميما للنفع، وليتأكد من خلال ذلك، أنّ الحالات التي ذكرناها مخالفة لتلك الأصول.

لخص العلماء مسألة تفسير الكتاب الكريم كالآتي:

1. تفسير القرآن بالقرآن. وهو أعلاها منزلة، فما أُجمل في مكان فإنّه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر.

2. تفسير القرآن بالسنة. فإنّها شارحة للقرآن، وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: (كل ما حكم به رسول الله صلي الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن) قال الله تعالي: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

3. تفسير القرآن بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم. فإنّهم أدرى بذلك لما شاهدوه وسمعوه وعقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، مثل عبد الله بن مسعود وغيره.

عن مسروق: قال عبد الله- يعني ابن مسعود-: (والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته).

4. تفسيره بأقوال التابعين. إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنّه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال: (عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأساله عنها). وعن قتادة قال مجاهد: (ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا). لهذا كان سفيان الثوري يقول: (إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به).

ومن التابعين: سعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب. وإجماع التابعين على التفسير حجة وتفرقهم يوجب البحث.

5. تفسير القرآن بالرأي. وهو تفسير القرآن الكريم بالاجتهاد بعد معرفة المفسر باللغة العربية ووقوفه على أسباب النزول ودرايته بالناسخ والمنسوخ والعام والخاص وغير ذلك من علوم القرآن إلى جانب رجوعه إلى التفسير بالمأثور الذي يعد المرجع الأساسي للمفسر. ولكن لا ينبغي لأحد أن يفسر برأيه ما لم يكن متأكداً مما عنده، وأن يكون تفسيره لغير الغيبيات لأنّ الغيبيات لا تنفع فيها اللغة والعقل، إنّما العمدة فيها النقل. وعلى الإنسان أن يتحاشى الجراءة على كتاب الله. ومن العلماء من ألغى تفسير القرآن بالرأي وعده حراما متأثرا بالحديثين: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار). (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ).

ومع تأكيدنا على ضعف الحديثين، فإنّه لا يمكن الاستغناء عن التفسير بالرأي إذا لم تتوفر الأنواع السابقة لأنّ الرسول قال في دعائه لابن عباس (اللَّهُمَّ فقِّهه فِي الدين، وعلِّمه التأويل). فلو كان التأويل مقصورا على السماع والنقل للفظ التنزيل لما كان هناك فائدة لتخصيصه، فدل على أنّ التأويل خلاف النقل، وإذن فهو التفسير بالاجتهاد والرأي.

والمجتهد مأجور وإن أخطأ ما دام أنّه قد استفرغ وسعه ولم يهمل الوسائل الواجبة في الاجتهاد وكان غرضه الوصول إلى الحق والصواب. إلا أنّ المسلم يجب أن يسعى للابتعاد عن هذا الموطن ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مؤتسيا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (أيُ أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب الله بما لا أعلم).

. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر: ({وفاكهة وأبا} فقال هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب. ثم رجع إلى نفسه. فقال: إنّ هذا لهو التكلف يا عمر).

. وقال ابن أبي مليكة: (سئل ابن عباس رضي الله عنه عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول).

. قال الوليد بن مسلم: (جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية من القرآن. فقال: أُحرّجُ عليك إن كنت مسلماً إلا ما قمتَ عنّي).

. وعن سعيد بن المسيب: (أنّه كان إذا سُئل عن تفسير آية من القرآن، قال: إنَّا لا نقول في القرآن شيئاً).

. وسأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: (لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء. يعني عكرمة).

. وقال يزيد بن أبي يزيد: (كنَّا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت، كأن لم يسمع).

. وعن عبيد الله بن عمر قال: (لقد أدركت فقهاء المدينة وإنّهم ليعظّمون القول في التفسير منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب ونافع).

.وقال هشام بن عروة: (ما سمعت أبي تأوّل آية من كتاب الله قط).

. وعن محمد بن سيرين قال: (سألت عبيدة -يعني السلماني- عن آية من القرآن فقال ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أُنزل القرآن فاتق الله وعليك بالسداد).

. وعن عبد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال: (إذا حدثت عن الله حديثاً فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده).

. وعن مغيرة عن إبراهيم قال: (كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه).

. وقال الشعبي: (والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله عز وجل).
تلك هي أحوال السلف في تعظيمهم لكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وخوفهم من التفسير، ورهبته في قلوبهم، أما الذين لم تُعمر قلوبهم وتتحقق نفوسهم من هذه المعاني فنجد عندهم الجرأة القبيحة على كتاب الله، والقول في القرآن بالرأي الصادر عن الجهل أو الهوى أو عنهما معا. وكان المخرج عندهم عدم التقحم والتنطع وإيثار السلامة. أما إن كان في إقدامهم مصلحة للمسلمين فالأسوة بأبي بكر رضي الله عنه، (سئل عن الكلالة في آية النساء فقال أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان).


الأمر الثاني: الفقه…

ومن المواطن التي هي مزلة قدم تصل بالمرء إلى (القول على الله بغير علم) الأحكام الفقهية يوم لا يلتزم مصدروها الالتصاق بالأدلة الصحيحة. بل يصدرون فيها عما ينافس الوحيين ويخالفهما … ولذلك أسباب أبرزها:

1. المذهبية المتعصبة التي تحاول أنْ تدور بالحكم لموافقة المذهب المتعصب له، ولو بتعسف واضح. ويمكن أن ينضوي تحت العنوان نفسه شيوع التقليد في الأمة، حتى صار مذهباً ومنهجاً، وهو في أبسط مفهوم له الاستسلام لمن سبق دون تمحيص صحته، وتقديم أقوال الرجال وآراءهم واجتهاداتهم على الحق الذي جاء به الوحي.

2. تدخل العقل ليكون الحكم الفقهي معقولاً، وبخاصة لدى المتأثرين بالمدرسة العقلية. وهي لا شك قديمة قدم المعتزلة، وإن كانت تطل على المسلمين اليوم بوجه بل وجوه جديدة. وأصل الانحراف هنا أن يجعل العقل حكماً على النقل ومقدماً عليه.

3. سبب قد يكون خافياً على كثيرين. ولكن مَن تعمق في دراسة الفقه يرصد أنّ الفقهاء، وفي وقت مبكر، مالوا إلى تضييق دائرة الواجب وتوسيع دائرة المندوب، وكذلك تضييق دائرة الحرام وتوسيع دائرة المكروه، ودعواهم في ذلك التيسير على الناس .. وقد تابع اللاحق السابق على هذا المنهج حتى صار يرى صبغة عامة في كثير من كتب الفقه.

فبسبب من الدوافع والعوامل السابقة السابقة تولد الابتعاد عن الأدلة النقلية بل مخالفتها وإهدارها وإعمال الرأي والعقل مكانها في الأحكام، وذلك اقتراب خطير باتجاه (المنطقة المحرمة: القول على الله بغير علم) .. وسأختار أمثلة ولن تكون بالضرورة لكل بند ذكر، حرصا على الوقت، والغاية التمثيل وليس التصحيح:

1. ترك الحديث الصحيح الصريح القاضي بالوضوء من لحم الإبل والذي يرويه جابر بن سمرة وهو في صحيح مسلم: عن جابر بن سمرة: (أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: (إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْتَ فَلاَ تَوَضَّأْ). قَالَ أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قَالَ: (نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ)).

ولم يأخذ بهذا النص إلا الحنابلة، فما السر في ترك المذاهب الثلاثة الأخرى له..؟ لا أجد من جواب، ولا أريد التطاول على أحد، إلا تحكيم العقل وموافقة أصول المذهب، وأحيانا توخي اليسر بزعمهم. وسأضرب مثلا بالشافعية: بعد أن يضيف النووي رحمه الله في شرح مسلم إلى حديث جابر المذكور حديث البراء: عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ: (سُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوُضُوء مِنْ لُحُوم الْإِبِل فَأَمَرَ بِهِ). يعقب بالآتي:

(قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى، وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ: صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا حَدِيثَانِ: حَدِيث جَابِر، وَحَدِيث الْبَرَاء، وَهَذَا الْمَذْهَب أَقْوَى دَلِيلًا وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُور عَلَى خِلَافه…).

وفي المجموع: (واحتج القائلون بوجوب الوضوء بأكل لحم الجزور بحديث جابر بن سمرة أنّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم: قال (ان شئت فتوضأ وان شئت فلا تتوضأ قال أتوضأ من لحوم الابل قال نعم فتوضأ من لحوم الابل) رواه مسلم من طرق وعن البراء سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الابل (فأمر به) قال أحمد بن حنبل واسحق بن راهويه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديثان حديث جابر والبراء وقال إمام الأئمة محمد بن اسحاق بن خزيمة لم نر خلافا بين علماء الحديث في صحة هذا الحديث وانتصر البيهقي لهذا المذهب فقال بعد أن ذكر ما ذكرناه وأما ما روى عن على وابن عباس رضي الله عنهم (الوضوء مما خرج وليس مما دخل) فمرادهما ترك الوضوء مما مست النار .. واحتج أصحابنا بأشياء ضعيفة في مقابلة هذين الحديثين فتركتها لضعفها والمعتمد للمذهب حديث جابر المذكور كان آخر الأمرين يقصد {كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار} وأجاب الأصحاب عن حديث جابر بن سمرة والبراء بجوابين أحدهما أن النسخ بحديث جابر كان آخر الامرين والثاني حمل الوضوء على غسل اليد والمضمضة قالوا وخصت الابل بذلك لزيادة سهوكة لحمها .. وهذان الجوابان اللذان أجاب بهما أصحابنا ضعيفان أما حمل الوضوء على اللغوى فضعيف لأن الحمل على الوضوء الشرعي مقدم على اللغوى كما هو معروف في كتب الاصول وأما النسخ فضعيف أو باطل لأن حديث ترك الوضوء ممامست النار عام وحديث من لحم الإبل خاص والخاص يقدم على العام سواء وقع قبله أو بعده وأقرب ما يستروح إليه قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة والله أعلم).

وأحب أن أوضح مقصود النووي رحمه الله من عبارة: (وأقرب ما يستروح إليه قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة…) أنّه ترك الأدلة إلى ما ذهب إليه الصحابة، وقد ذكر في بداية مناقشة الموضوع العبارة الآتية (وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب أحدها: لا يجب الوضوء بأكل شيء سواء ما مسته النار ولحم الإبل وغير ذلك، وبه قال جمهور العلماء وهو محكى عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي طلحة وأبي الدرداء وابن عباس وعامر بن ربيعة وأبي أمامة رضي الله عنهم وبه قال جمهور التابعين ومالك وأبو حنيفة…).

وائذنوا لي بالتعليق التالي: هل فات الإمام النوي، وهو من هو في إمامته في الفقه والحديث قول إمامه ومن سمي المذهب باسمه أعني الإمام الشافعي رحمه الله: (أجمع العلماء على أنّ من استبانت له سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد)..؟

ومن عجيب قول النووي في: (وفي لحم الجزور بفتح الجيم وهو لحم الابل قولان الجديد المشهور لا ينتقض وهو الصحيح عند الاصحاب، والقديم أنّه ينتقض وهو ضعيف عند الأصحاب ولكنّه هو القوى أو الصحيح من حيث الدليل وهو الذى أعتقد رجحانه).

ومن الأعجب أن ينقل النووي قولا لأحد العلماء، سماه ابن القاص، هو عندي غاية في البطلان: (ولأنّه إذا لم ينتقض الوضوء بأكل لحم الخنزير وهو حرام فلأن لم ينتقض بغيره أولى).

2. محاولة الفقيه المناورة على الحكم المستنبط من الدليل بدعوى التيسير وإليكم نموذجان:
أ. محاولة استنباط علة عقلية للحكم، ومعروف في الأصول أنّ الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، ولكن أي علة هذه التي تدور مع الحكم؟ إنّها العلة التي يبينها الشرع وليست التي يستنبطها العقل والتي تصل بدورانها إلى إلغاء الحكم.

حرّم الله أكل لحم الخنزير دون ذكر العلة ليكون ذلك تعبداً محضاً. لكنّ بعض الكتب ذكرت عللا يمكن أن تختفي بمعالجات علمية فنلغي حكم الله بعقولنا.

ب. حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليق صور ذوات الأرواح بكل أنواعها وأشكالها وكذلك التصوير باليد. ونرى في بعض كتب الفقه التفريق بين الصورة الكاملة والنصفية والصدرية وأباحوا تعليق الأخيرتين بعقولهم. وجاء الفقهاء المعاصرون ليقولوا إنّ علة تحريم الرسم باليد وتعليق الصور كون الناس زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثي عهد بالكفر أما اليوم فلا حرج. فمن أين لهم ذلك..؟ وهل هو إلا القول على الله بغير علم..؟ وها هم الرسامون، وها هي الصور تملأ كل مكان أما حكم الله فقد انتهى بحكم العقل والهوى.

وأذكركم بالقصة التي تذكر في بعض الكتب وعلى ألسنة المشايخ فيما يخص الوضوء من لحم الإبل فإليكموها مأخوذة من السلسلة الضعيفة عند مناقشة حديث: (قوموا كلكم فتوضأوا) وهو حديث باطل. يقول الشيخ رحمه الله في كلامه عنه عن مجاهد قال: (وجد النبي صلى الله عليه وسلم ريحا، فقال: ليقم صاحب الريح فليتوضأ، فإنّ الله لا يستحيي من الحق، فقال العباس: يا رسول الله أفلا نقوم كلنا فنتوضأ؟ فقال: فذكره. قلت: وهذا سند ضعيف، مسلسل بالعلل).

ويضيف الشيخ: (ويشبه هذا الحديث ما يتداوله كثير من العامة، وبعض أشباههم من الخاصة، زعموا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ذات يوم، فخرج من أحدهم ريح، فاستحيا أن يقوم من بين الناس، وكان قد أكل لحم جزور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سترا عليه: )من أكل لحم جزور فليتوضأ(. فقام جماعة كانوا أكلوا من لحمه فتوضأوا!

وهذه القصة مع أنّه لا أصل لها في شيء من كتب السنة ولا في غيرها من كتب الفقه والتفسير فيما علمت، فإنّ أثرها سيىء جدا في الذين يروونها، فإنّها تصرفهم عن العمل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لكل من أكل من لحم الإبل أن يتوضأ(.

وشبيه بتلك المناورات مناورة الأحناف على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الداخل يوم الجمعة بأداء ركعتي التحية وفيه قصة دخول سليك الغطفاني. جاء في المبسوط: (وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ سُلَيْكٍ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ وُجُوبِ الِاسْتِمَاعِ وَنُزُولِ قَوْلِهِ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} وَقِيلَ لِمَا دَخَلَ وَعَلَيْهِ هَيْئَةٌ رَثَّةٌ تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُطْبَةَ لِأَجْلِهِ وَانْتَظَرَهُ حَتَّى قَامَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالْمُرَادُ أَنْ يَرَى النَّاسُ سُوءَ حَالِهِ فَيُوَاسُوهُ بِشَيْءٍ وَفِي زَمَانِنَا الْخَطِيبُ لَا يَتْرُكُ الْخُطْبَةَ لِأَجْلِ الدَّاخِلِ).
لم ذلك إلا لموافقة أصول المذهب ولو بمخالفة رسول الله..؟ ولكن قبح الله التأويل يجعل الحق باطلا والباطل حقا .. فاعتبروا ياأولي الألباب.

ومن نماذج القول على الله بغير علم في الفقه، ما جاء في المفطرات. ومعلوم أنّ عبادة الصوم التي تقوم بيقين وهو النص الصحيح الصريح من الوحيين لا يبطلها إلا يقين مثله أي نص صحيح صريح. من تلك القاعدة كانت المفطرات في القرآن والسنة خمسا:

1.الأكل والشرب عمدا. 2. تعمد القيء.

3. الجماع. 4. الحيض والنفاس.

فما لها تصبح عند بعض المذاهب رابية عن السبعين..؟ وإقرؤوا ما جاء في موسوعة (الفقه الإسلامي وأدلته) للشيخ الدكتور وهبة الزحيلي تحت عنوان المفطرات: (اختلف الفقهاء في هذا المبحث من ناحيتي الشكل (الصياغة) والموضوع، اختلافاً يقتضي بياناً مستقلاً في كل مذهب على حدة.

الحنفية: ما يفسد الصوم نوعان: نوع يوجب القضاء فقط، ونوع يوجب القضاء والكفارة.
أولاً: ما يفسد الصوم ويوجب القضاء فقط دون الكفارة: وهو سبعة وخمسون شيئاً تقريباً. ثانياً: ما يفسد الصوم ويوجب القضاء والكفارة معاً: وهو اثنان وعشرون شيئاً تقريباً
).

والمجموع حسب إحصاء الشيخ، تسعة وسبعون مفطرا، فمن أين أتى بدليل لكل مفطر..؟ اسمحوا لي أن أقول إنّ أربعة منها صواب والباقي قول على الله بغير علم. ولو جئتكم بالتفصيل لرأيتم العجب العجاب.


الأمر الثالث: الفتوى…

ومن أوسع ميادين القول على الله بغير علم، إنْ صحت العبارة، الفتوى لا سيما في زماننا، وهو زمن قلّ فيه العلم، ورقّ فيه الدين، وغلب فيه الهوى، وكثر المفتون وهل يوصل كل أولئك إلا إلى القول على الله بغير علم..؟ ومما زاد الأمر ضغثا على إبالة هذه الفضائيات ولا سيما من أسمت نفسها بالإسلامية. ولنضف إلى ما مرّ ضغط الواقع، ومحاولات الناس البحث باستمرار عن الفتاوى التي تمكنهم من أن يعيشوا الواقع المنحرف كما يعيشه أهله الذين صدروه إلينا، ولكن بغطاء شرعي .. حدثوا عن الربا ولا حرج وعن البنوك الإسلامية، والبيوع المحرمة، وحجاب المرأة وووو.

أما العبادات، وهي التي أسماها الأصوليون (لا معقولة المعنى) أي لا تقبل تدخل العقل والقياس وإنّما التوقيف على النص، تغيرت بالفتاوى الضالة المضلة فلم تعد تمت إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم بسبب.

وفتاوى الفضائيات عبر الهاتف تلزم المفتي بالجواب عن كل سؤال ولو كان يجهله، لأنّه يطل على الملايين، ويريد بناء رصيده الشعبي. رحمك الله تعالى يا مالك يا إمام دار الهجرة: (جاء رجل يسأله عن مسألة فقال: لا أدري قال له السائل: إنّها خفيفة ويسيرة وسهلة، فغضب الإمام مالك وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله عز وجل: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)).
وجاءه آخر: (فسأله عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع منها، وقال في الباقي: لا أدري، فقال الرجل: أنا جئتك من كذا وكذا على راحلتي وتقول: لا أدري؟ قال له الإمام: اركب راحلتك، وارجع إلى البلد الذي جئت منه، وقل: سألت مالكاً فقال: لا أدري..!).

إنّ الإفتاء في الدين أمر عظيم، ومسؤوليته عند الله جسيمة ولقد تنبه إلى خطورة الفتوى علماء كبار من سلف الأمة منهم الإمام القرافي وهو من فقهاء المالكية وأصولييهم يقول عن المفتي: (بأنّه ترجمانٌ عن الله تعالى، فإنّه مترجم للنص الشرعي…).

وقد كان الإمام ابن القيم رحمه الله أكثر تسديداً منه حينما وسم كتابه الشهير بـ (إعلام الموقعين عن رب العالمين) فاعتبر أنّ المفتي أو المتكلم في مسائل الشرع كأنّه موقع عن الله تعالى، فهو بمثابة الوزير الذي يجعله الحاكم أو الملك يوقع عنه بعض الرقاع، والأوراق. فالمفتي موقع عن رب العالمين، ومخبرٌ عما يعتقد في الظاهر أنّه حكم الله ورسوله في مسألة معينة، أو في موضوع، أو نازلة ألمت بالناس.

وبالمناسبة أحب أن أبين هنا أنّ الحديث الذي يتداوله الناس بل العلماء منهم وهو: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار) هو حديث ضعيف، ولا نقول بالمفهوم المخالف إنّ من عمل أهل الجنة الجرأة على الفتيا وتقحم ميادينها.

وإنّ سلف الأمة رحمهم الله ألزمتهم خشية الله والحذر من القول على الله بغير علم أن ينأوا عن ميادين الفتيا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وما دام من حولهم من يكفيهم ذلك، وهم يرونها أمانة ومسؤولية لا وجاهة ونجومية. ولنقرأ صورا من مواقفهم:

في باب: من هاب الفتيا، تجد الدارمي قد نقل في ذلك نصوصاً كثيرة أذكر منها نصين:
الأول: (عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من التابعين الثقات المعروفين، أنّه سُئل فقال: لقد أدركت بهذا المسجد عشرين ومائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم رجل يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا).

مائة وعشرون من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كبارهم، وممن طالت أعمارهم فحصلوا علماً كثيراً غزيراً، ومع ذلك كانوا يتدافعون الفتيا وكل واحد يتمنى أن أخاه يكفيه الفتيا، ويكفيه الحديث.

النص الثاني: الذي نقله الإمام الدارمي هو: (أنّ الشعبي رحمه الله سئل كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم عن فتيا أو مسألة؟ قال: على الخبير سقطت أو وقعت -أنا خبير بهذا- كان السائل يسأل أحدهم في المجلس فيقول لصاحبه: أفته أفته، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول، كأنّ السائل يأتي في حلقة كبيرة كل واحد منهم يحيله إلى الآخر حتى يعود إلى أول شخص سأله، وغالباً ما يكون هذا المتصدر للحلقة، وما كان ذلك إلا لعلمهم بخطورة القول على الله تعالى بغير علم، وأنّ ذلك أعظم الذنوب على الإطلاق).

ليس هذا التحذير والتخويف والاستدلال بفعل السلف ليس دعوة إلى ترك مسؤولية الفتوى، فإنّ الناس لا تصلح أحوالهم دون فتاوى العلماء التي تضبط حياتهم الشرعية لا سيما مع مستجدات النوازل، وتبصرهم بالحلال والحرام. لكنّها دعوة إلى أن يتقي الناس الله في أنفسهم ودينهم، وأن يعرف كل حده فيقف عنده.

إنّ الفتيا الشرعية والكلام في الدين وأحكامه ليس كلأ مباحاً لكل أحد، كما هو الواقع مع انتشار الفضائيات. إنّ الأمة بأمسّ الحاجة إلى العلماء الربانيين الموقعين عن الله ليقوموا بما حباهم الله من علم ثنوا له ركبهم، وفهم شحذوا له هممهم، فما ينطقون إلا بما جاء به الدليل من الوحيين، لا يحرفهم هوى، ولا يُسيرهم ضغط واقع، ولا تستدرجهم محاباة أحد.


الأمر الرابع: قضايا العقيدة…

ما أكثر القول على الله بغير علم في كتب ألفت ودرست ووضعت في متناول الناس وسميت مراجع في العقيدة، ولا سيما في موضوعات التوحيد التي تتناول أسماء الله وصفاته، ولا أود التوسع في البحث ومناقشة مفردات المسائل، فالوقت لا يسعف. لكنّي أتناول المسألة بأسلوب آخر.

أقول: إنّ علماء أهل السنة والجماعة الربانيين عبوا من الوحيين مسائل العقيدة وتضلعوا منها وبها، فقعدوا القاعدة الآتية: (نثبت لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله- تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}).

ثم أثني فأقول إنّ كل من حاد عن هذه القاعدة، ولو حيدة بسيطة، دخل في المنطقة المحرمة (القول على الله بغير علم) والمسألة برهانها في كلمات ولا تقبل الإطالة واللف والدوران كما فعل أهل علم الكلام. نقول هل في الخلق من هو أعلم بالله تعالى من علمه تبارك وتعالى بنفسه..؟ وهل فيهم من هو أعلم بالله من علم نبيه صلى الله عليه وسلم به..؟ وما يسع مسلماً عاقلاً متحرراً من الهوى الفتان إلا أن يقول لا .. وبضميمة قوله تعالى (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) نقول بكل ثقة وطمأنينة ويقين أنّ كل من تكلم في الأسماء والصفات خارج إطار وحدود القاعدة المذكورة فهو قائل على الله بغير علم، ولو احتج بألف تنزيه وتنزيه.

ويقال أيضاَ للمبتدعة في التوحيد والأسماء والصفات والذين تكلموا فيها على طريقة أهل الكلام، هل تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بها..؟ فإن قالوا نعم، قلنا قولوا بقولهم ولا تزيدوا عليه. وإن قالوا لا لم يتكلموا، قلنا يسعكم السكوت كما سكتوا، وإلا فاختاروا لأنفسكم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون.


* الأمر الخامس: الابتداع…

حتى لا يطول بنا الكلام في الربط بين الابتداع و(القول على الله بغير علم) فلنبدأ بتعريف البدعة كما عرفها شيخ الأصوليين الإمام الشاطبي، رحمه الله في كتابه المشهور (الاعتصام). يقول رحمه الله: (البدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه).

ولنقف عند قوله (طريقة في الدين مخترعة) فلا يختلف أهل الفهم والعقل أنّ هذه العبارة تنفي عن البدعة أي أصل شرعي، وبالتالي أي صلة بالوحيين. فما هي إذن إلا أن تكون (قولا على الله بغير علم). ثم لننظر إلى قوله في التعريف (تضاهي الشرعية) أي الطريقة الشرعية، وما المقصود بالمضاهاة إلا منافسة الطريقة الشرعية، لإزاحتها وأخذ مكانها.

وقد كثرت أقوال السلف في هذا المعنى، أكتفي منها بقول التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي (ما ابتدع قوم بدعة في دينهم، إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها عليهم إلى يوم القيامة).

ولا ينبغي أن يكون حديث عن الابتداع دون استحضار قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهْوَ رَدٌّ). وروايته الأخرى: (مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ).

وإن كان في كتاب الله تبارك وتعالى آية هي أصل ينزل عليه أمر الابتداع، فهي قوله تعالى الشورى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله). فكل بدعة في الإسلام هي شرع لم يأذن به الله، فمن أذن به إذن غير العقل والهوى، وهل ذاك إلا (القول على الله بغير علم)..؟

وإذا علمنا مقدار انتشار البدع في حياتنا الدينية وعند العلماء وطلبة العلم خاصة، أدركنا كم تقول الأمة على الله بغير علم صباح مساء..؟ وإذا كنا نريد الإصلاح، فأول ما ينبغي فعله هو هجر المجاملة للبدع وأهلها، والاستعاضة عن المجاملة بالبيان والتعليم، وأن ننظر لمشكلة الابتداع التي هي (قول على الله بغير علم) بامتياز، نظرة جدية وشرعية.

وما أجمل هذين البيتين:

يا طالب العلم صارم كل بطال
ولا تميلن يا هذا إلى بدع

وكل غاو إلى الأهواء ميال
قد ضل أصحابها بالقيل والقال

وإنّ المجاملة، والوسطية التي يدعيها بعض الناس صيانة لوحدة المسلمين كما، يزعمون، معول يهدم دين الأمة. وكل من مارس هذا (التمييع) عليه كفل من جريمة إضاعة الحق. (قيل للإمام الأوزاعي إمام أهل الشام: إنّ رجلا يقول: أنا أجالس أهل السنة، وأجالس أهل البدع..! فقال الأوزاعي: هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل).


* الأمر السادس: الموقف من السنة…

ولعل هذا البند هو الأخطر فيما ذكر من بنود، لأنّه بإيجاز ودقة (إقصاء للوحي الثاني) عن الحياة الدينية للأمة. وله وجهان: الأول إنزال السنة عن موقعها الصحيح في أنّها صنو القرآن من حيث قوة الاحتجاج، وجعل التعاطي معها لمجرد الاستئناس. وهذا من بدع وافتراءات وتلبيس القرآنيين، وهؤلاء وإن كان ظهورهم ليس واضحاً بين المسلمين، وأقول بين دعاة المسلمين إلا أنّ ذلك لا ينفي وجودهم، فهم أدركوا أنّ دعواهم لا تلقى القبول فستروا أنفسهم وعمدوا إلى الأساليب الملتوية التي تحقق الهدف نفسه، وهو إقصاء السنة .. وتترسوا وراء حقيقة أنّ السنة فيها الصحيح وغير الصحيح والموضوع فأباحوا لأنفسهم التعامل معها تعاملاً انتقائياً يحتجون بما يعجبهم رغم ضعفه بل ووضعه، ويردون ما لا يعجبهم ولو كان في أعلى درجات الصحة، ولا تعجبوا فمن رموزهم الغزالي والقرضاوي والترابي وووو.

والوجه الثاني لإقصاء السنة قد لا يُتهم أصحابه بسوء النية، ولكنّهم قصروا في دراسة السنة ومعرفة صحيحها من سقيمها فكانوا أداة لنشر الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين المسلمين، وناهيك به أعظم باب شر فتح على دين الأمة، وأوسع مدخل للقول على الله بغير علم. ولا بد من التأكيد أنّ بين هذا البند وسابقه علاقة قوية فعدم تمحيص السنة هو سبب رئيس في انتشار البدع وهذا من المسلمات، وفي معالجته الصحيحة معالجة لموضوع الابتداع.

وأحب إيضاح حكم تطرقت إليه أول الحديث، وهو أنّ المتعمد للكذب على رسول الله، وعدم المتثبت في الرواية عنه صلى الله عليه وسلم سواء في الإثم والوزر. وأمر المتعمد واضح أما غير المتثبت فلِم يروي حديثاً ليس متأكدا من صحة نسبته لرسول صلى الله عليه وسلم..؟

واقرؤوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَدَّثَ عَنِّى بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ). وفي رواية: (يَرَى). كما أنّ القائل على نبي الأمة بغير علم هو قائل على الله بغير علم ولا فرق. فكلاهما افترى على الوحي.


* الخاتمة

إنّ موضوع القول على الله بغير علم تكتب فيه المجلدات، وتنفق في الحديث عنه الساعات، ويبقى فيه مع الحرص ثغرات. وها نحن تعرفنا على جوانب ومواطن لهذا الإثم الكبير كانت خافية، وسكت عنها كثيرون فسلم بصحتها الناس .. فوجب أيها القراء العمل لإخراج هذا الموضوع العقدي الخطير من دائرة الظل، وسحبه من الحديث النظري إلى التطبيق العملى. وهو كما مر في آية الأعراف أعلى المحرمات رتبة، وأخطرها عاقبة، ولا ينبغي أن يتقدمه أي اعتبار.

وبعد أن علمنا وقامت علينا الحجة، يجب أن نربي أنفسنا، ونربي الناس أنّ دين الإسلام له مرجعيته الثابتة الخالدة، وهي ليست مرجعية أرضية يتصدرها الرجال والعمائم إنّما هي سماوية. هي مرجعية الوحيين .. ومن اعتمد مرجعية غير الوحيين فقد خطا في المنطقة المحرمة، منطقة القول على الله بغير علم، واحتمل إثماً وبهتاناً كبيراً .. وإذا كان للرجال في المرجعية دور فهي لأولئك الذين يدورون في فلك الوحيين، ويعبون منهما العلم ويتضلعون، وهم الذين أسماهم الله (أهل الذكر) في قوله تبارك وتعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وأهل الذكر هم أهل الوحي. وفرق كبير بين أهل الذكر وأهل العلم.

ولا يفوتني أن أُذكر بمشكلة تكلمنا فيها كثيراً، وهي فقدان نصوص الوحيين قدسيتها عند المسلمين، وعند العلماء وطلبة العلم بالذات. ومشكلة اليوم القول على الله بغير علم هي توأم المشكلة المذكورة تتحدان في الخطورة على الدين، في استحقاق الوزر الكبير عند الله. وحيث تجد إحداهما تجد الأخرى .. وليُعلم أيها الإخوة أنّ معاول هدم الإسلام كثيرة وقوية وفاعلة بيد أعدائه، لكن عوامل الهدم بيد أبنائه صارت اليوم أفعل .. ونخشى أن نكون ممن يستحق وصف قوله تعالى (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ).

فالمهمة صعبة، والمسؤولية جسيمة، والحساب عسير والناقد بصير. وختاماً أعتذر إليكم عن طرح قد يرى جريئاً وقاسياً، لكنّني، وأنا استشعر واقع المسلمين الشرعي المريض، وما فيه من بعد عن الوحيين، أراه واجباً مُلحاً سنسأل عنه من الله جميعا، ولا تبرأ الذمة بتركه ولا بمجاملة الواقع والساكتين والتاركين له. ولقد طرحته بين أيديكم، وأنا على ثقة أنّكم ستستشعرون ما استشعرت فنلتقي في ميدان إصلاح الدين داعين (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِى دِينِىَ الَّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي) … والحمد لله أولا وآخرا