Skip to main content

المُهمّة الكُبْرى

By الأثنين 27 جمادى الأولى 1437هـ 7-3-2016ممحرم 21, 1441دراسات

ثلاثة أحاديث صحيحة خاطبنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل نحن لها واعون؟ وشرف عظيم، ومنزلة عالية بوأنا الرسول صلى الله عليه وسلم إياها فهل نحن لها راعون؟ ومهمة جليلة، ومسؤولية جسيمة ندبنا إليها نبينا، وسنسأل عنها، فهل نحن لها منجزون؟

كل أولئك من خطاب، وشرف ومنزلة، ومهمة ومسؤولية نتعرف عليها في مذاكرتنا معاً الأحاديث الثلاثة فلنستعد..!

الحديث الأول: عن أنس رضي الله عنه قال، قال صلى الله عليه وسلم: (وددت أنّي لقيت إخواني، فقال أصحابه: أوليس نحن إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني).

أمنية يتمناها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بحضور أصحابه فتثير هذه الأمنية حفائظهم وكأنّهم يجدون فيها ريح عتب أو استبطان عتاب، فيبادرون نبيهم على الفور بسؤال (أوليس نحن إخوانك؟) وكأنّهم فهموا أنّ مرتبة الأخوة تسبق مرتبة الصحبة وتعلوها. وكيف لا تحركهم مقولة نبيهم وهم الذين صنعهم على عينه، فشاركوه همّ الدعوة، وقاسموه تحمل أذى الطريق، وصعوبة مهمة البلاغ .. يؤيد هذا الحديث الآتي: عن أبي جمعة قال: (تَغَدَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَحَدٌ خَيْرٌ منَّا؟ أسلمْنا وَجَاهَدْنَا مَعَكَ. قَالَ: (نَعَمْ قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي)). فسكن النبي صلى الله عليه وسلم خواطرهم قائلاً: (أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني). مبينا بذلك أنّ الفرق بين الوصفين وكلاهما (الصحبة والأخوة) من صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عامل زمن أراده الله قدراً. فمن قدر له العيش زمن التنزيل كانت أشرف منزلة ينالها هي الصحبة يكتسبها بإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم ولقياه، ومن لم يُقدر له ذلك كان أعظم مرتبة ينالها أخوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تدرك بالإيمان والتصديق به صلى الله عليه وسلم، مع بقاء امتيازات الصحبة التي لا تكون إلا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لشرف اللقيا، ومنزلة السبق في الإسلام، ودور حراسة الدين وتثبيته في الأرض، وإخماد نار الفتنة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان من رحمة الله ونعمته على أهل الإسلام أنّ من فاته شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شرف لا يدانيه ولا يطاوله شرف إلى قيام الساعة، عوضه الله بفضله وكرمه شرفاً من نوع آخر يناله بإيمانه وتصديقه سماعاً دون رؤية، إنّه شرف أخوة النبي صلى الله عليه وسلم. وكيف يضيع الله ذلك لمن فعله وهو باب من أبواب الإيمان بالغيب (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ).

أيها القراء الكرام…

ألا نرفع رؤوسنا بأخوة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك التي أثارت غيرة أصحابه منا..؟

ألا نقر عين نبينا بأن نريه أنّ إخوانه امتداد لأصحابه في المهمات والواجبات، وفي حراسة الدين وقد تكالبت على أهله الأعداء..؟

ألا يعد كل منا جوابا لنبيه بلسان المقال والحال، يوم نلقاه ويسألنا هل كنّا أهلا لأخوته..؟

ألا ينبغي أن يرى فينا الناس من حولنا، ما لا يرونه في غيرنا، في أننا إخوان النبي، نحمل الراية من بعده كما فعل الأصحاب..؟


* الحديث الثاني:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي الخلق أعجب إيمانا؟) قالوا: الملائكة. قال: (الملائكة كيف لا يؤمنون؟!) قالوا: النبيون. قال: (النبيون يوحى إليهم فكيف لا يؤمنون؟!) قالوا: الصحابة. قال: (الصحابة مع الأنبياء فكيف لا يؤمنون؟! ولكن أعجب الناس إيمانا: قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتابا من الوحي، فيؤمنون به ويتبعونه، فهم أعجب الناس إيمانا – أو الخلق إيمانا)).

ما أدري أأجعل حديثي عن هذا الأسلوب الرائع في عرض الفكرة، وبالأسلوب الاستنتاجي كما يقول أهل التربية، لتنصب كل مهارة الأسلوب تركيزاً، وتأكيداً وبياناً للفكرة المقصودة..؟ لكنّه يكفيني أن أُذكركم بوصف نبيكم نفسه (أعطيت فواتح الكلام وجوامعه وخواتمه).

وتعجب النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لمجرد إظهار العجب، وإنّما للفت نظر الناس إلى الأمر المتعجب منه، إما لاجتنابه أو لاتخاذه مثلاً يحتذى. والأمر نفسه كائن في ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم من عجب ربه تبارك وتعالى:

. (يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةٍ لِلْجَبَلِ يُؤَذِّنُ بِالصَّلَاةِ وَيُصَلِّي فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ يَخَافُ مِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ).

. (لقد عجب الله تعالى بصنيعك بضيفك).

. (إنّ الله ليعجب من العبد إذا قال: لا إله إلا أنت إنّي قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت قال: عبدي عرف أنّ له ربا يغفر ويعاقب).

والأحاديث المشابهة كثيرة.

يقارن نبيكم في هذا الحديث إيمانكم مع إيمان مخلوقات أخرى (الملائكة، الأنبياء، الصحابة) وقد ثبت بالنقل والعقل أفضليتها على بني آدم. ويبرر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ إيمان تلك المخلوقات ليس محل تعجب ودهشة، لسياق يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فيسكت عن الملائكة لوضوح أمرهم (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). وأما الرسل، فقط اطلعوا على حقائق في هذا الوجود لم يطلع عليها غيرهم، من طريق الوحي، فكيف لا يكونون مؤمنين..؟

وأما الصحابة، فأكبر معجزة تدعوهم إلى الإيمان رؤيتهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاينتهم أوصافه، وأخلاقه .. وكم من نص في السنة يصور لنا رؤيتهم له صلى الله عليه وسلم، وهو يعاني من شدة الوحي وجبينه يتفصد، وتنتابه البرحاء.

عن عائشة: (أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَنْفَصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ) قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتي الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَنْفَصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جبينه ليتفصَّد عرقاً).

وفي الصحيحين حديث زيد بن ثابت حين نزلت: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: (وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، وأنا أكتب، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي).

وعن عبد الله بن عمرو قال: (أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها).

وفي صحيح مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك، وتربّد وجهه). وفي رواية: (وغمض عينيه، وكنا نعرف ذلك منه).

فالعجب في أمر الأنبياء، والصحابة، وهم من بني البشر، أن لا يؤمنوا، وهم يشهدون ما يشهدون، وليس العجب أن يؤمنوا..! فممن يكون العجب إذن..؟

لا شك أنّ العجب بقي من شريحة واحدة من بني آدم وهم من آمنوا بالنبي ولم يروه. وإذا كان أهل تلك الشريحة كثيرين موزعين على قرون عديدة، وهم محل عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّي آذن لنفسي، ولست متجاوزاً أو مغامراً إن شاء الله، أن أقول: إنّ العجب الأكبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيكون منا نحن الغرباء، نحن الذين وصفنا صلى الله عليه وسلم بأنّنا: (ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير) وزاد فأخبرنا: (من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) … العجب الأكبر منا نحن أهل الغربة والفتنة، نشهد في كل يوم بل في كل ساعة، سماعاً، وقراءة، ورؤية، ألواناً وأشكالاً من التشكيك، والتحريف والتجديف والتأويل، والتبديل. كل ذلك في حرب معلنة وخفية على الإسلام، أبطالها، وبكل أسف، من أبناء الإسلام، في الظاهر .. حرب تهدف إلى تدمير الإسلام بأيدي أهله .. حرب تهدف إلى القضاء على الإسلام باسم الإسلام والغيرة عليه .. كل ذلك نحمله ونتحمله إضافة إلى إرث ثقيل ورثناه ممن سبقونا، دخيل على دين الإسلام لم نستطع بعد التحرر منه..! ونصمد، بعون الله، مع أنّنا لا نجد من البشر على الحق معوانا.

وبعد هذا: ألا نستشعر أنّ عجب رسولنا من حالنا يرفعنا إلى مرتبة نقارب فيها منازل الأصحاب، بل والأنبياء، في التصديق والإيمان والعمل؟ ولا تستغربوا فالدليل قول الله تبارك وتعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) استحقاق المنزلة الواحدة يكون لتشابه مواقف أصحابها.

ألا نفهم من إنزال النبي صلى الله عليه وسلم لنا هذه المنزلة بتعجبه، أنّها عطاء كبير. وأنّنا سنطالب أن نقدم من العمل ما يوازي هذا العطاء..؟

ألا ينبغي أن نمعن النظر في آخر عبارة في الحديث: (فيجدون كتابا من الوحي، فيؤمنون به ويتبعونه) لنعلم أنّنا نستحق منزلة تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيماننا، بأمرين متلازمين الإيمان والعمل، ويختصران في مصطلح الاتباع، وليس بالإيمان وحده (وهي موضة العصر، لا سيما بين المثقفين).

ألا يجدر بنا أن نوقن بأنّ شهادة رسول الله لنا بأنّنا أعجب الخلق إيمانا، ليست وساماً يعلق على الصدر، أو شارة نتميز بها بين الخلق، أو أسماء تسطر في لوحات الشرف، وشهادات التقدير. إنّما هي أن نري الله من أنفسنا ما يرضيه عنا، ومن أعمالنا ما يتناسب مع تلك الشهادة.

ألا نوظف هذا العجب وهذا الرفع لنكون عند حسن ظن نبينا بنا، فنكون أعجب الناس اتباعاً له وتطبيقا لسنته..؟


الحديث الثالث: عن معاذ بن جبل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن خرج معه يوصيه ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقال: (إنّ أهل بيتي هؤلاء يرون أنّهم أولى الناس بي، وليس كذلك، إنّ أوليائي منكم المتقون من كانوا وحيث كانوا، اللهم إنّي لا أحل لهم فساد ما أصلحت، وايم الله لتكفأن أمتي عن دينها كما تكفؤ الإناء في البطحاء).

وأقصد من سرد هذا الحديث الشطر الثاني منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ أوليائي منكم المتقون من كانوا وحيث كانوا اللهم إنّي لا أحل لهم فساد ما أصلحت، وايم الله لتكفأن أمتي عن دينها كما تكفؤ الإناء في البطحاء). لمناسبته لموضوعنا العام. لكنّني أرى فيه معاني أخرى لا ينبغي تفويت الإفادة منها، ما دام الحديث بين أيدينا. ولتكن لنا إذن أربع وقفات مع الحديث:

الوقفة الأولى: كيف ينبغي أن تكون العلاقة بين القائد أو المعلم أو المربي، مع من هو تحت يده؟ هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم، يخرج مشيعاً لمن أرسله داعياً إلى الله، بهدوء ودون ضجيج، وبلا موكب رسمي واحتفال عام. يتبسط معه ويوجهه، ويعطيه كل مؤكدات الثقة به، لتنعكس عنده ثقة بنفسه، ووفاء لمن أرسله، وإخلاصاً لما أرسله به. لم يودعه على باب البيت، ولم ينب أحداً، مع علو المقام وكثرة الأعباء، في توديعه. إنّه وداع هادف مثمر، وليس وداعاً استعراضياً بروتوكولياً. إنّها الخطوات الأخيرة، قبل المضي في المهمة الخطيرة مع الرأس، مع الأصل، مع الإمام، مع القائد، مع الرسول. لماذا..؟ اختصر معاذ رضي الله عنه تلك الواقعة وتلك المعاني بكلمة (يوصيه) وهل وصايا النبي صلى الله عليه وسلم إلا دينا يلقى المسلم الله عليه..؟

نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يرسل رسوله بمهمة خطيرة، هي فرع من المهمة الكبرى التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الدعوة إلى الله وإلى الإسلام، تستحق أن يكون آخر كلام يسمعه الرسول كلام من أرسله، وآخر وجه وطلعة يجتليها الرسول وجه وطلعة من اختصه بشرف المهمة، وآخر يد يشد عليها مودعاً يد من أولاه الثقة وحمله الأمانة. لتبقى نبرات الصوت وإشراقة الوجه والشد على اليد عدة السفر، وزاد الداعية، ومستَلْهَم المهمة، لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهل يستشرف المسلمون اليوم هذه الأسوة..؟

الوقفة الثانية: توسيع مفهوم أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما معنى أولياء؟

إنّ في القرآن والسنة مفردات متكررة (ولي، أولياء، ولاية، تولى، يتولى) كلها من مصدر الولاية، وأبسط معانيها القرب والحب والطاعة والرعاية. وإنّ في الحديث الذي بين أيدينا رفضاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطعاً لكل محاولة أو فهم لتضييق دائرة أولياء رسول الله، وتخصيصها واحتكارها في فئة ما، على أساس من نسب أو عرق أو لون أو أرض أو أو.

ولم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الحصر والتضييق من خاصته وأولى الناس به وهم آل بيته، ليكون الأبعدون أولى وأولى (إنّ أهل بيتي هؤلاء يرون أنّهم أولى الناس بي وليس كذلك).

ثم يضع صلى الله عليه وسلم القاعدة العظيمة التي تحدد أولياءه بوضوح ما بعده وضوح، وبيان لا يرقى إليه بيان: (إنّ أوليائي منكم المتقون من كانوا وحيث كانوا).

إنّ لأولياء نبي هذه الأمة وصفاً واحداً، هو التقوى، وليس للتقوى جنس أو لون أو نسب (من كانوا). وليس لها أرض (وحيث كانوا). وأي ترك لهذا الحكم، وكل تجاهل لهذا البيان، مخالفة للنبي وعصيان، وتفريق وتشتيت لصف المؤمنين، وفتح لباب الجاهلية وما والاها، الذي أغلقه نبي الأمة ببعثته، وحذر أمته من دعوى الجاهلية فقال: (مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ؟ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ). واقرؤوا إنّ شئتم قول الله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ).

ولقد جاء في الحديث المتفق عليه ما يؤيد ما نحن بصدده. يقول صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ إِنَّ آلَ أَبِى فُلاَنٍ لَيْسُوا لِى بِأَوْلِيَاءَ، إِنَّمَا وَلِيِّىَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ).

ويقول النووي رحمه الله في تعليقه على الحديث: (إنّما هو قوله صلى الله عليه وسلم: إنّما وليي الله وصالح المؤمنين، ومعناه إنّما وليي من كان صالحاً وإن بعد نسبه مني، وليس وليي من كان غير صالح وإن كان نسبه قريباً).

وكل الذي قيل مُوَافِقٌ لقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ).

ورحم الله من قال:

أهل النبي هُم أبناء ملته
لو لم يكن آله إلا قرابته

من الأعاجم والسودان والعرب
صلى المصلي على الباغي أبي لهب

الوقفة الثالثة: هل ولاية النبي مرتبة اجتماعية، أو منصب سياسي، أو لقب فخامة وسيادة؟ هل هي شرف يدعى، ومنزلة ترتقى؟ وهل تسويقها في الحفلات والمهرجانات. هل هي طيالس ترتدى وشارات تعلق؟

إنّها والله مسؤولية تقصم الظهر، وتستهلك الوقت والعمر، وتضع المسلم حيث يشاء أن يضع نفسه، في الطاعة والعمل والبذل، أو في المعصية والخذلان والتقاعس. إنّها التكليف، إنّها امتحان الصدق والولاء، إنّها برهان على كل ادعاء.

إنّها المفصل الذي يفصل بين ولي ودعي، بين متكلم متشدق، وعامل مطبق، إنّ الموالاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراكزها حلقات العلم، وميادينها مجالس الدعوة. قفوا، بارك الله فيكم، ملياً مع قول نبيكم (اللهم إنّي لا أحل لهم فساد ما أصلحت).

واعلموا أي مهمة ندبكم إليها نبيكم، وأي مسؤولية تلك التي حملكموها. وانظروا هل أنتم أهل لذلك..؟ وهل ستُرُون ربكم ونبيكم من أنفسكم ما يبرؤ ذممكم..؟

ما هذه المهمة … وما تلك المسؤولية؟

يقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال: إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).

إنّ نبيكم بُعث والأرض تعج بالفساد والشرك والإلحاد، وجاهد في الله حق جهاده مع من اختارهم الله لصحبته، وحمل دعوته معه ومن بعده، وما قبض الله نبيه، إلا بعد أن أصلح الله به البلاد والعباد، وأرسى قواعد الرسالة الخاتمة في الأرض، وترك فيها من المؤمنين حراساً وأوصياء، يحملون راية الإصلاح من بعد نبيهم.

ولمّا تحدث النبي عن أوليائه، ووصفهم وسماهم، عرفهم مهمتهم: (اللهم إنّي لا أحل لهم فساد ما أصلحت). واليوم يوشك أن تعود الأرض كما كانت، تعج بمن يمقتهم الله، في جاهليات أعادوها، وإفساد في الأرض بعد إصلاحها، ومن غير أولياء الله، وأولياء رسوله، يتصدون للمهمة الكبرىن التي لا يحل لهم التهاون والتقاعس والتراخي والتخلي عنهان كما جاء في الحديثن وسيسألهم ربهم وسيعاتبهم نبيهم عن كل تفريط.

فأين أنتم يا أولياء النبين قولوا لنبيكم لبيك وسعديكن وليراكم في ميادين العمل، ودروب الإصلاحن وليس في مزادات الكلام والادعاءات.

الوقفةالرابعة: أيذها الإخوةن يقول الله تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىوَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

فما أُنزل هذا الدين إلا ليظهر ويسود. وما أرسل هذا الرسول إلا ليطاع بإذن الله. واعلموا أنّ الله قادر على نصر دينه، مستغنيًا عن كل المخلوقات وما يقدمونه. ولكنّ الله أراد تكليف الناس بنصرة دينه، لتكون فرصة جزاء لمن أحسن وأدى ما أمر به .. ونكالاً وعذاباً لمن أعرض ونأى بجانبه.

ولقد أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم، في آخر جملة من الحديث الذي بين أيدينا، أنّ هذا الدين إن لم يتعهد بالمتابعة والحراسة، يضعف وقد يزول. ولكن لن يزول من الأرض كلها، فالله غالب على أمره. ولكن يزول من عند أقوام لم يكونوا أهلاً لنصرته والقيام به. ليُحول إلى غيرهم ممن يزكون به نفسا، ويرفعون به رأسا.

وتدبروا الصورة التي عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الفكرة من خلالها: (وايم الله لتكفأن أمتي عن دينها كما يُكفؤُ الإناء في البطحاء). إنّ الصورة تشير إلى سرعة التفلت من الدين، وإلى سهولة التخلي عنه، كإناء مليء أريق في الأرض.

ولم يكون ذلك … ومتى يكون؟

1. عندما يغيب العلم (علم الوحيين) الذي هو أساس الدين، فيصدر التدين عن العقل أو العاطفة أو الهوى أو التقليد.

2. عندما يغفل المسلمون عن المرتبة التي وضعهم الله فيها (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) فينظرون إلى أعلى حيث يرون غيرهم، فيكونون بالضرورة في هبوط، وقد تبادلوا المواقع مع أعدائهم، تخاذلاً وتفريطاً. وعندئذ تتداعى عليهم الأمم، لأنّهم صاروا في حالة الغثائية.

3. حينما يفلح أعداء الدين، لضعف في المسلمين، في فتنتهم، وتلك محاولات بدأت والرسول حي ولا زالت، وحذر الله منها بقوله مخاطباً رسوله (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) ومن يثبت يزيده الله ثباتا (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً). ومن يهن ويداهن فستجتاحه الفتنة.

وقد فتن المسلمون اليوم عما أوحي إلى نبيهم بجاهلٍ يؤول، وغالٍ يحرف، ومبطلٍ ينتحل. وافترى المسلمون على الله غير الوحي، يوم تعددت مذاهبهم، وتنوعت مشاربهم، وسرى فيهم التشبه بالكفر وأهله، حتى داخل بيوتهم. وصاروا يسمون الأشياء بغير أسمائها الحقيقية، تلبيسا وتدليسا (العصرانية. التجديد. العقلانية. الواقعية. المصلحة) فماذا ينتظرون إلا أن يكفؤوا عن دينهم…؟ والله من وراء القصد