Skip to main content

الهِدَايَةُ

By الأثنين 1 شعبان 1434هـ 10-6-2013ممحرم 21, 1441دراسات

موضوع (الهداية) من أكثر موضوعات العقيدة خطورة وخفاء وتعقيداً. أما الخطورة فلأّنه إن لم يُفهم على وجهه الصحيح كان المسلم في حيرة من دينه، ومن هذه الحيرة نشأ في القديم سؤال: (هل الإنسان مسير أم مخير..؟)، ولا زال هذا السؤال بلا جواب حتى الآن عند كثير من المسلمين، بل إنّ كثيرين جنحوا إلى عدم الخوض في ذلك لاعتقادهم (أنّه سؤال ليس له جواب).

ولا بُد من الاعتراف أنّ عدم تناول موضوع الهداية تناولاً صحيحاً يشي بالجبرية، وهو ما يرفضه دين الإسلام تماماً.

وأما الخفاء فلأنّ كثيراً من أدلته، من الكتاب والسنة، تبدو لأول وهلة أنّها من المتشابه الذي لا يعرف مدلوله على وجه اليقين، وهذا غموض في العقيدة يأباه الدين الحق.

وأما التعقيد، فلكثرة النصوص، والحاجة إلى إيضاح معانيها بحمل المتشابه على المحكم، والتأليف بينها وإزالة ما قد يعلق في بعضها من التباس، وذلك فوق مقدور الكثيرين.

فلا بُد إذن من تجلية..!

وأحب هنا أن أُذكر بعبارة أرددها دائماً مع مناقشة موضوعات عقدية حساسة، كالذي بين أيدينا وهي: (أنّنا لو استوعبنا صفة عدل الله حق استيعابها، وآمنا بها بيقين لأغنتنا، وأغنت غيرنا، حتى من الأقدمين، عن كل خوض في تلك الموضوعات الحساسة، والتي مهما كان البحث فيها دقيقاً وعميقاً، إلا أنّه لا يوصل إلى القناعات التامة التي نصل إليها من خلال صفة {عدل الرحمن}).

ومن أجل أن يسير الموضوع بتسلسل منطقي يُعين على الفهم السريع والعميق، جمعت معظم آيات الهداية التي قد تشكل، وجعلتها مقدمة للبحث، ولا ضير من أن نعدها من المتشابه مؤقتاً، لتصير بعد الشرح من المحكم.

ولما كانت كل الأدلة في بحث الهداية تستند في تحريرها وتقريرها إلى مسألة المحكم والمتشابه في النصوص الشرعية، رأيت أن أوجز موضوع المحكم والمتشابه الذي هو مفتاح فهم الموضوع مساندة للبحث.

المحكم والمتشابه…

هذان المصطلحان جاءا في كتاب الله تبارك وتعالى، في مجموعة آيات هن:

. (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

. (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ). (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً).

. (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

وفسر العلماء هذين المصطلحين القرآنيين بالآتي:

أ. المعنى اللغوي: (المحكم) من حيث اللغة، مأخوذ من حَكَمْتُ الدابة وأحكمتها، بمعنى أحكمت وثاقها، ومنعتها من التفلُّت والهرب. وإحكام الكلام: إتقانه وتمييز الصدق فيه من الكذب.

و(المتشابه) لغة، مأخوذ من الشبه والتشابه، تقول: فلان يشبه فلانًا، أي: يماثله، وله من الصفات ما للآخر. وعلى هذا، فتشابه الكلام تماثله وتناسبه، بحيث يصدِّق بعضه بعضًا.

ب. المعنى الاصطلاحي: أما (المحكم) اصطلاحًا، فقد اختلفت أنظار أهل العلم في تعريفه، فقال بعضهم: هو ما عُرِفَ المراد منه. وقال آخرون: هو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً. وعرَّفه قوم: بأنّه ما استقلَّ بنفسه، ولم يحتج إلى بيان من غيره. ويمكن إرجاع هذه التعريفات إلى معنى واحد، هو معنى البيان والوضوح، وهي مقبولة وسائغة جميعا.

وأما (المتشابه) اصطلاحًا، فعرفه بعضهم بأنّه: ما استأثر الله بعلمه. وعرفه آخرون بأنّه: ما احتمل أكثر من وجه، وقال قوم: ما احتاج إلى بيان، بردِّه إلى غيره، وكل هذه التعاريف سائغة ولها توجيهها.

وبناءً على التعريف اللغوي لكلٍ من (المحكم) و(المتشابه) يتضح أنّه لا تضاد بين (المحكم) و (المتشابه) من جهة المعنى اللغوي، ومن ذلك يكون القرآن كله محكم، بمعنى أنّه متقن غاية الإتقان، وهو في الوقت نفسه متماثل ومتشابه في كل صفات الثناء، ويصدِّق بعضه بعضًا. مستحضرين مع ذلك الآيتين الكريمتين:

(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) و(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً).

أما إذا جئنا إلى المعنى الاصطلاحي، فهنا تتشعب الآراء، وتفترق المذاهب. ولا بد من الجزم في فهم ما جاء في كتاب الله من أنّ فيه آيات محكمات، وفيه آيات متشابهات. فلا بد من تطويع الأفهام لهذه الحقيقة القرآنية، والخروج بفهم تتآلف فيه المعاني ولا تتعارض. ولا بد من التفصيل.

ولا يفوتني قبل الدخول في التفصيل أن أنبه إلى أنّ أكثر المخالفين لكتاب الله والمكذبين به يسترون تكذيبهم للنصوص بدعوى أنّ ما يخالفونه منها هو من المتشابه المنهي عن إتباعه، وهذا أسلوب خبيث من الدس والتكذيب. والأمر الآخر الذي لا يقل خطورة وخبثاً عن سابقه مقولة المتهربين من الإيمان بآيات الأسماء والصفات على ظاهرها كما فعل السلف الصالح، بأنّها أي آيات الأسماء والصفات من المتشابه الواجب تأويله وترك ظاهره.

إذن استُغل أمر المحكم والمتشابه في كتاب الله في جعله مدخلا للانحراف والتكذيب ومن ثم التأويل المذموم .. وصدق الله فقد فضح أولئك، وعرى نواياهم في قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ). وها هي أم المؤمنين عائشة تحذر من أولئك المرجفين وتنعتهم النعت الذي نعتهم به الله: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذرهم).

وأول من استغل موضوع التشابه في النصوص، لغايات تخالف عقيدة الإسلام الصحيحة أهل الكتابين. فقد جاء في الفتاوي لابن تيمية: (وروى أنّ من النصارى الذين وفدوا على النبى فى وفد نجران من تأول إنّا ونحن على أنّ الآلهة ثلاثة لأنّ هذا ضمير جمع وهذا تأويل فى الايمان بالله فأولئك تأولوا فى اليوم الآخر وهؤلاء تأولوا فى الله ومعلوم أنّ إنّا ونحن من المتشابه فإنّه يراد بها الواحد الذى معه غيره من جنسه ويراد بها الواحد الذى معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه ويراد بها الواحد المعظم نفسه).

ويتابع رحمه الله فيقول: (والذين فى قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذى لا اشتباه فيه مثل وإلهكم إله واحد إنّنى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه).

ومن هنا وجب البحث والتمحيص لوضع الأمر في نصابه. وانطلاقا من المعنى الاصطلاحي، مرة أخرى، فالمحكم غير المتشابه ولا بد من البحث. وزيادة في إيضاح معنى المتشابه، وهو أكثر إشكالاً في البحث نورد الحديث الآتي، وهو في الصحيحين: (الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ).

وبالعودة إلى فتح الباري لابن حجر نجده أورد ألفاظا عدة جاءت بها روايات صحيحة للحديث (مُشَبَّهَات) (مُشْتَبِهَات) و(مُتَشَابِهَات) ويستقر معنى تلك الألفاظ كلها على ما جاء في الحديث أنّها (لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ): (أَيْ: لَا يَعْلَمون حُكْمهَا).

وتأتي رواية التِّرْمِذِيّ بِلَفْظِ: (لَا يَدْرِي كَثِير مِنْ النَّاس أَمِنَ الْحَلَال هِيَ أَمْ مِنْ الْحَرَام) لتلقي ضوءا أكثر على المعنى.

وتستوقفنا لفظة (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) في الحديث فنستفيد منها أنّ التشابه في المعنى يكون عند ناس دون ناس، وقد يكون أهل التشابه هم الأكثر، وبمعنى آخر أنّ التشابه يختلف باختلاف الناس فهو ليس عاماً في حق الجميع .. ومفهوم قَوله (كَثِيرٌ) أنّ معرفة حكمها ممكن لكن للقلِيل من الناس وهم المجتهدون .. فهكذا والله أعلم تكون ألفاظ التشابه في القرآن والحديث تعني شيئاً واحداً وهو باختصار خفاء المعنى والمدلول، وقد يتشابه في النص معنيان فأكثر.

وألخص مسألة المحكم والمتشابه وكيف ينبغي التعامل معها بالنقاط الآتية:

1. في القرآن آيات محكمات وأخر متشابهات. ولا بد من الإيمان بالنوعين وأنّهما من عند الله. وهذا دأب المؤمنين كما وصفهم ربهم: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).

2. لا بد لأيّ نص متشابه من آخر مُحكم يحمل عليه في المعنى، فيتحول النص المتشابه إلى نص محكم واضح المعنى والدلالة .. لأنّ مصدرهما واحد وهو الله فلا يمكن التناقض والاحتمال. وقد قال بعض العلماء: (لو أنّ عندنا ألف نص متشابه وواحدا محكما لحمل الألف في المعنى على الواحد، لأنّ كلام الله يفسر ويوضح بعضه بعضا).

3. لو عنّ لأحد أن يسأل: لم أراد الله أن يكون في القرآن متشابه ولم لم يحكم كل آياته..؟ لأجبنا على الفور هو (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) و (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ). ثم نجيب بجواب آخر مستنتج من كلام الله، وهو أنّ ذلك من أجل التمحيص وفضح المنافقين والذين في قلوبهم زيغ (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ).

بقي في موضوع المحكم والمتشابه إشكال نختم به، ثم ندخل في الموضوع الأساسي وهو الهداية .. هذا الإشكال تثيره عند بعض طلبة العلم الآية الكريمة: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ومن هذا الإشكال اختلافهم حول مكان الوقف فيها، وهو اختلاف قديم، فإن كان الوقف على لفظ الجلالة كان المعنى أنّه لا يعلم تفسير المتشابه إلا الله. وعند من لا يجيزون هذا الوقف بل يجيزونه بعد (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) يكون المعنى أنّ الله والراسخون في العلم يعلمون تفسيرالمتشابه .. ولإزالة الإشكال نقول:

كلا الوقفين صحيح ولكن مع ملاحظة تغيير معنى لفظة (تَأْوِيلِهِ) مع كل اختيار. فعند الوقف على لفظ الجلالة يكون معنى (التأويل) المآل أو ما يؤول إليه كلام الآيات والمقصود بذلك حقائق الغيب ومشاهد اليوم الآخر والجنة والنار وما فيهما، إلى غير ذلك من الأمور التي تتجلى يوم القيامة على حقائقها عيانا بعد أن كانت للمؤمنين في الدنيا غيوبا آمنوا وصدقوا بها، أما الله فيعلم حقائقها قبل وقوعها .. وعلى ذلك أدلة منها: (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا). وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).

أما على الوقف الثاني (فالتأويل) بمعنى التفسير لمعاني القرآن، وهو الذي يعلمه الله، منزل القرآن، ويعلمه من أنزل عليهم القرآن ليتدبروه ويعملوا به .. وهناك أدلة تؤيد هذا المذهب منها ما ذكره ابن تيمية: (قول ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم، الذين يعلمون تأويله. ولقد صدق رضي الله عنه، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) رواه أحمد. قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقفه عند كل آية، وأسأله عنها. وقد تواترت النقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية إنّها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله).

وتابع ابن تيمية القول: (ولم يقل الله تبارك وتعالى فى المتشابه لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله وإنّما قال وما يعلم تأويله الا الله وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين فى هذا الموضع فإنّ الله أخبر أنّه لا يعلم تأويله إلا هو ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره بل قال كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات وما لا يعقل له معنى لا يتدبر).

(وجاء عن الإمام النووي أنّه صحح هذا القول، مستدلاً على صحته، بأنّه يبعد أن يخاطب سبحانه عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته).

والآن إلى موضوعنا الأساسي (الهداية) .. وأقدم كما أسلفت بمجموعة من الآيات حول الموضوع:

. (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

. (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا).

. (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

. (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

. (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).

. (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ).

. (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ).

نماذج من الآيات التي وردت في كتاب الله عن الهداية، ونجد للوهلة الأولى أنّها تعطي انطباعاً جبرياً أي أنّ الإنسان مسير وليس مخيراً، كما سبق أن ذكرت، والمؤمن الحق لا يمكن ولا ينبغي أن يتطرق إلى ذهنه هذا السؤال لأنّ الإيمان الحق بعدل الله تبارك وتعالى يرده، ويجعله غير ذي موضوع عند أهل الإيمان. ولو طرحوا على أنفسهم هذا السؤال البسيط: أيأمرنا الله بالمعصية ويجبرنا عليها ثم يعاقبنا على ذلك..؟ لردوا على أنفسهم فوراً حاشا أن ينسجم هذا مع عدل الرحمن تبارك وتعالى..! ومع هذا الوضوح فقد تاه في هذا الأمر من تاه من أهل الأهواء ممن حادوا عن سواء السبيل.

ولا يمكن لأمر الهداية أن يستقر على وجهه الصحيح بقناعة ويقين مع زوال كل لبس أو شك ما لم يعرف كل مسلم وكل قاريء لنصوص الكتاب أنّ كلمة الهداية (أو ما في معناها من المترادفات) لها أربعة مدلولات، وإذا اختار المرء المدلول الصحيح لكلمة الهداية في كل آية، انضبط الفهم واستقام المعنى، وزال كل إشكال .. وإلى التفصيل والتمثيل.

النوع الأول: الهداية الغريزية

وتسمى الهداية الكونية وهي هداية المخلوق إلى ما فيه بقاء حياته وحُسْنِ معاشه، والدليل على هذه المرتبة قوله على لسان فرعون مخاطباً موسى: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) يعني هَدَاهُ إلى ما فيه مصلحته. فالله هَدَى الرضيع كيف يلتقم الثدي ويحتاج إليه، وهَدَى الطائر إلى الطيران بمجرد خروجه من البيضة، وهدى صغير البط بعد خروجه من البيضة بقليل إلى السباحة في الماء، وهدى كل زوجين من المخلوقات فطرياً إلى الاقتراب والاقتران ليستمر النوع.

وقد حدثنا الله عن هذه الهداية في قوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وكذلك قوله تعالى (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى).


النوع الثاني: الهداية بمعنى الدلالة والإرشاد

دلالة وإرشاد تأتي من آخر لتعليم العبد ما يجهل من أجل قيام مصالحه في دنياه وفي آخرته أو فيهما معاً، وهذه الهداية بهذا المعنى، هي الأكثر في القرآن، وتأتي هذه الهداية من الله تبارك وتعالى، ومن الرسل والأنبياء الذين يبلغون رسالات الله، ثم من العلماء والدعاة الذين يرثون مهمة الأنبياء في التبليغ عن الله. وهي التي جاءت في مثل قوله تعالى: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) يعني دالْ يدلّهم على الطريق الصحيح. ومثل قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) وكقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). وكقوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ). وقوله: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ للمتقين). ومثل ذلك: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).

وكثير من أمثال هذه الآيات وإن كان بعضها لا يحمل لفظ الهداية ولكن يحمل معناها. وتكون هذه الهداية للبشر جميعاً دون استثناء، لهدايتهم إلى طريق الله ولقيام الحجة عليهم أمام الله، وينقسم الناس بعدها إلى ضال رغب عنها ولم يعبأ بها فاستحق الضلال، ومهتد استجاب لها واهتدى بها. وتتضح الفكرة تمام الوضوح بقراءة قوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).

وهذه الهداية الشرعية هي أهم شيء في حياة البشر المكلفين الذين سيمثلون بين يدي خالقهم ليسألهم وسيسألهم عما علمهم في هذا النوع من الهداية. وهذا النوع من الهداية مع أنّه تحت مشيئة الله وإرادته، وكل ما في الوجود تحت مشيئته وإرادته، إلا أنّ الله تبارك تعالى أثبت للعبد في ذلك مشيئة مستقلة عن أي ضغط أو إكراه لأنّها منطقة اختيار .. وبالتالي ففيها وعنها الحساب، فلا بد من أن يتحملها العبد نفسه، فأثبت الله للعبد المشيئة (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). وكما جاء في سورة الكهف: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).

إذن مشيئة العبد هي الفاعلة في هذا النوع، لأنّه سيسأل عن اختياره والله تبارك وتعالى لا تتدخل مشيئته هنا بمشيئة العبد بها لا عجزا بل عدلا.


النوع الثالث: هداية التوفيق

وهي أخصُّ من التي قبلها، وهذه خاصة بالله وحده تحكمها مشيئته وحدها، فمن استجاب للهداية السابقة وانتفع بها أعانه الله عليها، ووفقه فيها، ويسر له سبلها. وأما من أعرض ونأى بجانبه، فهل نتوقع أن يهديه الله وهو لا يريد، وأن يعينه وهو غير مبادر، وأن يوفقه وهو غير مكترث .. يكله إذن إلى نفسه، وإلى حولِه وطوله ويدعه لحساباته واختيراته، والآخرة هي الموعد.

وإذا كنا أسمينا هذا النوع من الهداية توفيقاً، فإنّ من حجب عنه التوفيق نسميه إضلالا. فالرسل هُدَاة بمعنى أنّهم يَدُلُّونَ ويُرْشِدُون، ولا يضمنون النتائج، ولا يسألون عنها (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ). (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).

لكن هداية التوفيق هذه من الله وحده (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) هذا حصر للتوفيق من الله بالله وحده دون تدخل من سواه، لهذا نفاها ربنا عن نبيه بقوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فنَفَى عنه الهداية في هذه الحالة وجعلها لله مع إثباتها لنبيه في قوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).

فالنبي يَهْدِي ولا يَهْدِي .. يَهْدِي بمعنى أنّه يَدُلُّ ويُرْشِدْ ويُعَلِّمْ إلى آخر هذه المعاني، ولا يَهْدِي بمعنى هداية التوفيق فلا يُوَفِّقْ بل الذي يُوَفِّقْ ويُعِين العبد ويَصْرِفْ عنه السوء، ويُعِينُهُ على الطاعة ويصرف عنه الشياطين حتى يهتدي بمعنى حتى يستقيم على أمر الله هو الله تبارك وتعالى.

ولا بد من التأكيد أنّ كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، فمن قدّر الله له الهداية، ومن قدر له الشقاء فهو بقدر، ولكن ما هو السبب لتقدير الله الشقاء على العبد؟ إنّه هو العبد نفسه، لقول الله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) وقوله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

وفي كتاب الله تبارك وتعالى آيتان محكمتان هما قمة البيان للفكرة التي نحن بصددها، وهما الأصل الذي يفهم بواسطته كل النصوص المتشابهة في موضوع الهداية، وهما:

.(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). يهديهم هداية التوفيق لأنّهم قبلوا هداية الإرشاد، وعملوا بها.

. (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). يحجب عنهم هداية التوفيق لأنّهم رفضوا هداية الإرشاد .. أليس هذا هو العدل..؟ بلى.

وليس بعد كتاب الله ما يفسر كتاب الله. وألخص أمر الهداية الشرعية بالآتي:

هداية دلالة وإرشاد تأتي للعبد وهي للناس كافة، فإما أن يستجيب العبد لها ويبادر إلى الانتفاع بها فيحظى عندئذ بهداية التوفيق من الله في المعونة والتيسير والتثبيت. وإما أن يعرض العبد عما جاءه من هداية الدلالة والإرشاد ويتبع شيطانه وهواه فيكله الله إلى ما اختار، ويعاقبه على الإدبار، حتى يورده النار.

وهناك قاعدة تعين على تمييز أنواع الهداية التي تشتبه على الناس، فنقول حيثما أسند فعل الهداية أو الإضلال إلى الله وحده فهو من النوع الثالث هداية التوفيق، وإن حجب التوفيق عن العبد فهو الإضلال.

النوع الرابع: الهداية التي جاءت في سورة محمد وهي هداية أهل النار للنار وهداية أهل الجنة للجنة

هداية أهل الجنة للجنة في قوله: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ)، هذه الهداية وقَعَتْ بعد القتل، وهل بعد القتل من هداية..؟ وإلى أيّ شيء تكون..؟

هداية إلى الجنة، لهذا قال بعدها: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ). وقال تعالى عن أهل الجنة: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ). قال العلماء: يهديهم يعني إلى صراط وإلى طريق الجنة، وإلى السلوك في الجنة ليكون نعيمهم على أكمل وجه وأتم حال.

أما هداية أهل النار إلى النار فكقوله في سورة الصافات: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُون). لأنّه ليس لهم من طريق إلا طريقها، ولا من مصير إلا التلظي فيها، وإن استجاروا فيستجيرون بالنار من النار.

ولنعد الآن، على ضوء ما سبق، فلنُعد قراءة الآيات التي تتناول أمر الهداية، ولنفهمها فهماً جديداً، لنجد أنّ كل إشكال قد زال، وأنّ المسالة في غاية الوضوح، وأنّ كل متشابه صار محكماً … والحمد لله رب العالمين.