Skip to main content

أَيْنَ يُصَوَّبُ السَّهْمُ الأَخِيرُ؟

By الثلاثاء 26 رجب 1437هـ 3-5-2016ممحرم 21, 1441دراسات

وأستأذن ابتداء في ملحوظتين:

1. في العنوان إيحاء أنّ الموضوع سياسي، لكنّي وبكل صراحة أقول، ليست متابعة السياسة عني ببعيد، لكنّها لا تشكل لي هماً ولا اهتماماً. ولم أفكر، ولا أفكر، ولن أفكر لحظة واحدة، أن أجعلها موضوعاً أحدث به الناس، وقد أبدلني الله هماً خيراً منها أحمله، وعلماً أشرف منها أنهله … وإذا صلح أمر الدين صلح أمر السياسة تبعاً له، وما قيمة الاشتغال بالفرع وإهمال الأصل (وهلْ يستقيمُ الظلُّ والعودُ أعوجُ)…؟ وأسأل الله لي ولكم الثبات.

2. إذا ذكرت في تضاعيف الحديث لفظ المعركة وكل ما يتصل بهذه اللفظة من مصطلحات (السهام، الكنانة، النزال، القتال، النصر، الهزيمة، الرمي، العدو…)، فإنّما أقصد معركة الإصلاح الديني، والمعركة الدعوية، والمعركة لتغيير الأنفس، والمعركة الكبرى لاسترجاع الأمة الغائبة. واستعمال كل ذلك يأتي على سبيل المجاز ليس إلا .. ولا أؤمن أبداً بكلام له ظاهر وباطن. وقد قيل: البيان يطرد الشيطان.

ولعل متسائلاً يتسائل: لِمَ الهروب من الحقيقة إلى المجاز؟ أجيب: ليس كما يُظن هروباً من التصريح بشيء، ولكنّه فن من فنون عرض الأفكار. وأجدني ثانية بحاجة إلى بيانٍ ثانٍ يطرد الشيطان، وإلى تصريح يوضح التلميح، إنّي لا أجد غضاضة في الحديث عن الجهاد والقتال في سبيل الله بضوابطه وشروطه،
وأن يكون في أوانه الصحيح، ليس مُستَعْجَلاً فيه، ولا مُتَقَاعَساً عنه. وأخطر ما يجب أن يخافه المسلم في الكلام عن الجهاد: الدماء .. وأنا واعٍ لكل ذلك تماماً، ولله الحمد والمنة، لكنّ الموضوع المتناول الآن، لا يمت إلى الجهاد القتالي بصلة، لأنّ أوانه لم يَحِنْ بعد، شرعياً. وأَوْضَحُ ما أستدل به لِما أقول اقتباسٌ من كلام ابن القيم الرائع، في استفتاح المجلد الثالث من كتابه الماتع (زاد المعاد) عن الجهاد، وما رأيت تأصيلاً كذاك التأصيل. يقول في بعض الفقرات:

(وَلَمَّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» كَانَ جِهَادُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ فِي الْخَارِجِ، وَأَصْلًا لَهُ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوَّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرَتْ بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللَّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ فِي الْخَارِجِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوُّهُ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلِّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجَاهِدْهُ وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللَّهِ، بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَى عَدُوِّهِ حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ).

وإلى الموضوع:

خلت القرون، وحال المسلمين في انحدار .. واستمرؤوا هذا الهبوط فأحلوا قومهم دار البوار. إلا بقيةً من أهل العزم والحزم، ساءهم ذاك الحال فشدوا الوثاق،
ونثروا كناناتهم وخاضوا النزال، فسهامٌ طاشتْ وأخرى أصابتْ، ولكن في موضعٍ غيرِ قَتَّالٍ..! وبقيت الحال هي الحال. لماذا، ثم لماذا، ثم لماذا؟

لقد كان أبرزَ الدوافعِ للحركة، نفوسٌ تَشدها العواطف أكثر من التأصيل، وتَغمُرُها نشوة المواقف فلا تعبأ بالتدقيق والتحليل، تتقن فن الهتاف وصنعة الحُداء، ولا تُحسن تشخيص الداء ومعرفة الدواء. فاتها أن تُحرر القصد قبل الحركة، وأن تطهر الصف قبل المعركة. فقاتل فيها رِبِّيُونَ كثير، لكنّهم لم يُرَبَّوا على منهج، ولم يجتمعوا على رؤية ورأي.

أما عن أسلوب العمل، فحماسٌ واندفاعٌ وتخبطٌ، وتجميعٌ للناس على أملِ النتائج، وليس على منهجِ عملٍ، وخارطةِ طريق. ومع تمييزي الشديد في التفريق بين المؤمن والمنافق والكافر من كل الوجوه، وأنّهم لا يستوون مثلا، لكنّني أستعير وصفاً قرآنياً لأهل الكفر والنفاق، أراه بطوائف من المؤمنين حقيقاً لصيقاً، إنّه قوله تعالى: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى). لقد كان فيهم المتردية والنطيحة والمنخنقة والموقوذة، وكل أولئك كانت ثغرات تُخلخل الصف، وفُرجاً يتسلل منها العدو.

وغاب عن الجميع سؤال ينبغي أن يُبدأ بطرحه قبل كل شيء، وأن تُستحضر الإجابة الصحيحة عنه، مُقَدَّمَةً على كل أمر: هل يُنزل الله نصره وتوفيقه على التراب والحجر والشجر، أم على طائفة مرضية عنده من بني البشر،
تصدر عن منهج، وتوظف النتائج وتستثمرها لمراحل من العمل تليها..؟ وأُذَكِّر أنّي لا زلت مع المجاز، في كل حديثٍ عن (معركة)…

وبعد إفاقةٍ من خيبة النتائج، وقرح المعاناة، وسوء المنقلب .. وبعد مراجعة الحساب، عقب تعدد التجارب البائسة، والمحاولات اليائسة، نتبين أنّه لم يبق في الجعبة إلا سهم واحد، إما أن يصيب فيحيا به ومعه الأمل، وإما أن يطيش كسابقاته ويموت من بعده الأمل .. والله غالب على أمره … فَإِلَى أَيْنَ يُصَوَّبُ السَّهْمُ الأَخِيرُ؟

جهود كثيرة، شاقة ومضنية، بذلت على طريق الإصلاح، استوعبت كل الفلسفات والنظريات الأرضية، واستخدمت كل عصارات العقول، ولم تفلح لأنّها لم تحكم المنهج الرباني، والأسلوب القرآني، وهدي النبي العدناني، في التصدي والمعالجة .. ومع أنّها إسلامية الهدف والمضمون، لكنّ حظها من ذلك في العمل لم يتعد الشعارات، والكتابات، والأدبيات التي تهيج النفوس، وتستنفر الجهود، وتعبيء المشاعر. مع حشد كبير من النصوص سرداً دون تطبيق، والتغني بأمجاد من سبق، فوقعت في ممارسات خطيرة جداً أبعدت النتائج، بل ألغتها، وأجهضت العمل، وزادت في المشكلة عقدة بل عقداً .. ما هي تلك الممارسات؟

. لقد تهيبت إظهار الحقيقة تجنباً لاتهام الأكثرين ولومهم، وهذا جهل ووهم.

. وأعرضت عن إتهام الخطأ وأصحابه حتى لا تخسر الأنصار. وهذا مجاملة على حساب الحق.

. وادعت الحرص على وحدة المسلمين، فابتغتها في التجميع لا في الجماعة. وهذا خداع وسراب.

فهل تحصد نتائجُ، إن غابت المقدمات…؟

فكيف تكون الكرة الأخيرة إذن .. وإلى من يصوب السهم الأخير..؟ ولِمَ نعتبره السهم الأوحد والأخير؟

هذا افتراض لأنّ كل ما جرى في السابق كان تكراراً للخطأ نفسه، في أصل المشكلة، مع تغييرات على السطح ليست أساسية. ولم يعد واقع المسلمين يتحمل تكرار التجارب المتعثرة، وقد سبقهم الزمن أشواطاً بعيدة. المسلمون اليوم بحاجة إلى قفزةٍ نوعيةٍ في كل شيء، وتجديدٍ في أسس العمل، المؤصل على منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، ولا بد أن يتمَّ التحرك وقد تميز العدو من الصديق، وغاب الارتجال بكل أشكاله، وأُلْجِمَتِ العواطفُ بلجام الواقعية والمرجعية. وكان الوصف بالأخير، تأكيداً للتميزِ عن كل ما سبق، وتفاؤلاً بالنجاح، فلن يكون تكرار.

آن لكل مسلم أن يعلم أنّ نفوسنا التي بين جوانحنا هي أعدى أعدائنا، وأنّ معركتنا الأساسية مع أنفسنا ابتداء وليس مع غيرنا، وأنّ العدو داخلي من بني جلدتنا، ومهما اشتد الكيدُ من حولنا، وعظم المكرُ ضدنا، فإصلاح الأنفس هو المخلص والمخرج، لأنّ في صلاح الأنفس تحصيناً لها ضد أي انحراف، وتهيئةً لها لحمل أكبر المهمات، ومواجهةِ أعتى التحديات، فقد شاء الله تبارك في عليائه أن يكون عِـزُّ هذا الدين على أيدي رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، مع استغنائه عن الخلق. لتتحقق عمارة الأرض بالإنسان، ويتحققَ معنى الاستخلاف. وحينئذ يظهر دور الأمة الحاضرة في تحصين المسلمين، ودحر الطامعين، وقمع المرجفين، فالكلمة واحدة، والصف مرصوص، والهدف موحد، فيُكفى المسلمون بأمتهم الواحدة الحاضرة كل شيء، لأنّ يد الله فوق أيديهم، ورميه يسبق رميهم، وبالتالي فهو صيانة للأمة عما يحيك لها أعداؤها .. وهم بالرعب منصورون، لا يخافون..! والسبيل إلى تلك الحال تطبيق الأوامر في الحال، وترك كل قيل وقال، لنعي عن ربنا ونبينا المقال: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا). (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

(ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا).

(يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ، تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلين).

فما أزرى بالأمة إلا غياب العدول أو ندرتهم..! وإذا زكت الأنفس وازَّيَّنت بتعلم الوحيين، وشرفت بالعمل بهما وحملهما للغير، كان ذلك نافياً عن الأمة كل انحراف وضلال. بل تصبح النتائج لكل تحرك، تأتي من الله، وفق سننه
الثابتة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).

كل ما تقدم يصل بنا إلى القول إنّ المعركة داخلية، المعركة ضد فتنة التبديل التي نزلت بساحة المسلمين، ففَتَنَتْهُمْ في دينهم. والتي يُعمِّق وجودها، ويُكثر أنصارها، بين أبناء المسلمين مرور الزمن، وغياب العمل المضاد المؤصل والجاد .. إنّها بكل تأكيد المعركة الفاصلة التي لا تقبل التأخير، والتي ينبغي أن تتقدم غيرها، والتي تحتاج إلى استنفار كل الجهود من أجلها .. وهي الخطوة الأولى، والأهم على طريق إصلاح الدين والأنفس. إنّها بكلمات أخر، معركة استحضارِ الأمة الغائبة، أو نفخِ الروح الوثابة في الأمةالغثائية .. ومَنْ العدو إذن؟

إنّه كل من يريد أن يبدل دين الأمة، وعليه يجب أن تكون الكرة الأخيرة، على الذين يدسون السم في الدسم، ويرفعون شعارات الإصلاح، وهم يهدفون إلى الإفساد .. على الذين يحملون على الإسلام باسم الدفاع عنه والغيرة عليه .. على سدنة فتنة التبديل، الذين يعيشون بيننا، ويشهدون موائدنا، بل وصلواتنا، لكنّهم خارج سربهم يغردون، ولغير الوحيين يصغون، وبفتنة التبديل مسكونون .. إلى كل أولئك يجب أن يصوب السهم الأخير قبل فوات الأوان…

وأخشى أن تكون عبارة فتنة التبديل جديدة على أسماع بعض الناس. وبالتالي فلا وضوح لمفهومها، ولا بد من إيضاح المراد بفتنة التبديل ليكون الكلام مجدياً، والمعالجة ناجعة. المقصود تبديل دين الأمة، وقد يرى بعضنا بعاطفته، أو ببعده عن الساحة الدعوية أنّ التسمية أكبر من الحقيقة، وأنّ التشخيص مبالغ فيه. ولا عجب، فقد يقول بهذا القول دعاة عاملون في الساحة، وأشياخ غارقون في تجمعاتهم المشيخية والعمل لها، وآخرون ينتظمون في تجمع حزبي إسلامي، ورؤى كل أولئك تحددها مناظير واقعهم الخاص المنغمسين فيه. وليست الرؤية الواسعة والمفتوحة التي تستشرف مستقبل الأمة.

وللاختصار، أقتبس أسطراً من كتاب أراه فريداً في تشخيص الواقع الإسلامي، تمهيداً لمعالجته، اسمه (الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية) للدكتور عابد السفياني، وأنصح بقراءته. يقول في مقدمة الكتاب: (… ولم يكتفوا بذلك، بل عادوا على “الوحي” الرباني يحاولون تبديله حتى لا يجد المصلحون مرجعا يصححون عليه الفساد الذي طرأ على البشرية. ولقد امتنع عليهم تبديل “الكتاب” و”السنة” وهما الحق الذي أنزله الله على نبينا محمد، وأرسله به إلى الناس كافة إلى يوم القيامة، ذلك بأنّه وحي تكفل الله بحفظه، نعمة منه وفضلا كما قال تعالى: {إنّا نخن نرلنا الذكر وإنّا له لحفظون} فلجأ هذا الفريق إلى حيلة أخرى، فأخذ في تبديل المعاني الشرعية فجعل السنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا، والتوحيد تخلفا وخروجا إلى الانحراف، والشرك تقدما وتوحيدا، والفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة وهكذا. والكتاب والسنة بين يدي المسلمين يقرأون نصوصهما على غير مراد الله لا ينجو منهم من هذه الفتنة إلا من رحم ربك، وصُدِّرَ هذا الفهم إلى الأمم الأخرى، وتواصى على نشره أعداء البشرية سواء في داخل الأمة أوخارجها، فترى أئمة الغزو الفكري في العالم يقرأون الكتاب والسنة، ويدرسونهما ويُحرفون معانيهما ويسعون في فتنة التبديل. وينشرون دراساتهم وكتبهم لتحقيق هذه الغاية) ا.هــ

ثم تأتي المصيبة الكبرى التي حذرنا ربنا من الوقوع بها في كلمتين، في سورة التوبة: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ). ولو تدبرنا هذه العبارة الربانية، لفهمنا عن ربنا أنّ الخطورة ليست أن يندس في اجتماع المؤمنين منافقون، ومرجفون، ومبدلون، ومُخَذِّلون، لكنّ الخطورة كل الخطورة، أن يكون في الصف المؤمن سماعون لكل أولئك … ولو انتقلنا إلى التدقيق اللغوي، في لفظة (سَمَّاعُونَ)، فوزنها الصرفي هو (مبالغة اسم الفاعل) (سامعسمَّاع)، ويمكن أن تفهم أنها إشارة إلى كثرة السامعين، أو إلى شدة الاستماع، بمعنى الاهتمام إلى حد التأثر، بل والتبني لما يسمع من الباطل. وقد يكون إلى الأمرين معاً .. وعند الكثيرين، وهذا بلاء عام، وسذاجة وسطحية، أنّ دين الإسلام أقوى من أن تناله يد التحريف ومكائد التبديل..! بل إنّ البعض لا زال يقول بلسان حاله أو مقاله (إنّ للدين رباً يحميه، فلمَ الخوف والقلق..؟) ثم يأخذ بتلك المقولة، إجازةً من العمل والبذل، وينام منتظرا ظهور المهدي أو نزول المسيح عليه السلام..!

وليعلم كل من هذا حاله، أنّ مؤامرة التبديل قديمة، وليست من مستجدات العصر، وأنّ جرثومة نشأتها كانت حيث وجد التعارض والتناقض بين واقع الناس، وأهوائهم، وانحرافاتهم الفكرية والعقدية من جهة، ونصوص الوحيين من جهة ثانية. ولم يجدوا أمامهم إلا مخرجين من المشكلة … إما أن يعلنوا انسلاخهم من الإسلام، مسايرة للواقع الذي يحكمه الهوى، وإما أن يسيروا في طريق التبديل، تبديل الدين، تلفيقاً وتزويراً ونفاقاً، موافقة لما يريدون، وإيهاماً لأنفسهم وخداعاً للآخرين أنهم لا زالوا على الإسلام، ولكن بفلسفة مغايرة، ومفاهيم جديدة فاختاروا الثاني .. (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ)، يقنعون الجهال، ومرضى القلوب … ولا يخدعون إلا أنفسهم.

وتذكروا ونحن نتحدث عن التبديل، لتعلموا خطورته وتحذير القرآن الكريم منه، قول الله عز وجل: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). من قضى دفاعاً عن الإسلام، ومن سلم حتى تحين ساعته، كلا الفريقيين، ثابت على الدين الحق، الذي لم تعبث به يد التبديل الآثمة. فالله تبارك وتعالى، أثنى على من قضى من المؤمنين، ومن سلم وينتظر دوره، بكلمة واحدة جامعة (ومَا بَدَّلُوا)، وأعقبها بالثانية توكيداً، وهي المفعول المطلق (تَبْدِيلًا).

وما ميزان كشف تبديل الدين، الذي يجب أن يبقى حاضراً ودقيقاً بيد المؤمنين على مر العصور، ولا يتغير بتغير الزمن والبشر، إلى قيام الساعة؟ إنّه: (ما أنا عليه وأصحابي).

وفي خضم الحديث عن فتنة التبديل، يجب أن لا تضيع حقيقة خطيرة، وأساسية، في المعالجة، وهي أن نسأل: من الذين يقومون بالتبديل؟ هل هم متسللون من الأعداء إلى صفوف المؤمنين؟

لا والله إنّهم من جلدتنا، بل وفي نخبنا..! واستمعوا إلى حذيفة بن اليمان، يتحدث عن فتنة التبديل بعبارات موحية، وأسلوب تمثيلي، ليتلقى السامع المعلومة بتركيز أكثر، وتفكير أعمق، وحذر أشد، وواقعية أقرب:

عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (أنّه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً، قال: والذي نفسي بيده، لتظهرن البدع حتى لا يُرى من الحق إلا قدر ما ترون ما بين هذين الحجرين من النور. والله، لتفشونّ البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة).

ولننظر إلى هذا الرصد المبكر لظاهرة التبديل في الدين من قبل الصحابة والتابعين، وقد سَمَّوها تلوناً:

(دخل أبو مسعود على حذيفة فقال: اعهد إليّ، فقال له: ألم يأتك اليقين؟! قال: بلى وعزّة ربي، قال: فاعلم أنّ الضلالة حقَّ الضلالة أن تعرف ما كنت تُنكر، وأن تنكر ما كنت تعرفُ، وإياك والتلوُّنَ، فإن دين الله واحد).

وها هو تأكيد آخر للفكرة نفسها من أحد التابعين: عن إبراهيم النخعي قال: (كانوا يكرهون التلون في الدين).

وهل انتشار البدع بين المسلمين، ومزاحمتها ومنافستها السنن، إلا لون من ألوان التلون في الدين..؟ وهل هو إلا شكل من أشكال تبديل الدين الذي أنزله الله، وبلغه محمدُ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم..؟ وما الذي جعل الصحابة يحذرون ويتقون فتنة التبديل، قبل أن تقع، ولم تكن واضحة الظهور في زمانهم، إلا لالتصاقهم بالوحيين، وحرصهم على الاتباع..؟ وبالمقابل، ما الذي أزرى بالمسلمين اليوم إلا البعد عن الوحيين، وترك الاتباع إلى الابتداع..؟

وأخشى لانغماسنا في انحرافات الواقع، وطغيان الفهم الأعوج، وفقدان الميزان الدقيق، الذي أورثنا التسرع في الردود الباردة الباهتة التي اعتدناها أو عُوِّدْناها دفاعا عن الباطل، أن ينبري أحد ليقول: لقد أبعدت النجعة وبالغت يا أبا عبد الله (حذيفة)..! بدل أن يقول صدقت والله، ونحن الذين بدلنا من بعدكم، ونحن الذين غيرنا بدل أن نتبعكم .. وما أظن أنّ أحداً يخالفني في أنّ أثر حذيفة له حكم المرفوع، وفق قواعد علم الحديث.

وما دام الحديث عن المعركة وعن أسلوب التصدي، فمن البدهي أن يعرف السلاح الذي بيد الخصم..! إنّ فتنة التبديل، وأعني مرة أخرى، تبديل الدين، اعتمدت منذ النشأة الأولى منهج التأويل، واتخذوه مطيتهم إلى التبديل. وما أدراكم ما التأويل؟ ستعرفونه بعد هذا الحشد من أوزان التفعيل: التأويل يعني التبديل، والتضليل، والتجهيل، والتخذيل، والتذليل، ووووو.

وإني لأُعَّرف التأويل فأقول: التأويل هو العبث بدلالات النصوص.

وأعيد إلى الأذهان كلاماً، يُبين خطورة التأويل في حياة المسلمين، ويبين للذي لا يزال يظن بالتأويل وأهله خيراً، ويتهم المدافعين عن دين الله بذم التأويل والتصدي له، أنّهم مبالغون يصنعون شيئاً من لا شيء، أو يجعلون من الحبة قبة، ويبين أنّ التأويل في الدين شر وبلاء، يصير به الدين غير الدين المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأنّه – أي التأويل – ينزع عن الدين الثوب السماوي، ليُكسى ثوباً طينياً من صنع أهل الأرض..! ما هو هذا الكلام؟ إنّه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث خاصف النعل:

عن أبي سعيد الخدري، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ القُرآن كَمَا قاتلتُ عَلَى تنزِيلِه) قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا هو يارسول اللَّهِ؟ قَالَ: (لَا) قَالَ عُمَرُ: أَنَا هُوَ يارسول اللَّهِ؟ قَالَ: (لَا وَلَكِنْ خَاصِفُ النَّعْلِ) قَالَ: وَكَانَ أَعْطَى عَلِياً نَعْلَهُ يَخْصِفهُ).

لقد خاض النبي صلى الله عليه وسلم كل معاركه مع من يكذبون بالقرآن، ويجحدون أنّه منزل من عند الله، ولقد أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه ترك لنا معارك مفتوحة إلى قيام الساعة، مع أقوام يظهرون الإيمان بالقرآن ويعظمونه ويقدسونه، لكنّهم يعبثون بدلالته عن طريق التأويل. ولقد خاض أولى تلك المعارك، كما أخبر الصادق المصدوق، علي رضي الله عنه مع الخوارج، وهم أول من فتح باب التأويل والتبديل وخاض فيه، راغبين عن فهم السلف للوحيين … واستخلص أحد العلماء من الحديث السابق، حديث خاصف النعل، قاعدة: (الكفر في القرآن كفران؛ كفر في تنزيله، وكفر في تأويله).

وكم جر التأويل على هذه الأمة من ويلات..؟ وهل أفسد على الناس دينهم، وأخرجهم من دائرة الاتباع التي هي أصل الدين وروحه، إلا التأويل..؟ وهل خرج الخوارج، ورفض الروافض، واعتزل المعتزلة، وضلت كل الفرق التي خالفت الوحيين إلا بالتأويل..؟

ولا أعلم أحداً من علماء هذه الأمة وعى خطورة التأويل (مطية التبديل)، وأطال الكلام فيه مفنداً ومحذراً، كابن القيم رحمه الله، فأصيخوا سمعكم لما يقول في كتابه (الصواعق المرسلة). وهذه بعض نقول منه:

(إذا تأمل المتأمل فساد العالم وما وقع فيه من التفرق والاختلاف، وما دفع إليه أهل الإسلام، وجده ناشئا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدين وفروعه فإنّها أوجبت ما أوجبت من التباين والتحارب وتفرق الكلمة وتشتت الأهواء وتصدع الشمل وانقطاع الحبل وفساد ذات البين، حتى صار يكفر، ويلعن بعضهم بعضا. وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأموالهم).

ثم يقول: (فلا تطمع أهل الملة اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية ونحوهم أن يدخلوا أصول مللهم في الإسلام. ولا يدعوا مسلما إليهم، ولا يدخلوه إليهم، من بابه أبدا، بخلاف فرقة التأويل فإنّهم يدعون المسلم من باب القرآن والسنة وتعظيمهما وأنّ لنصوصهما تأويلا لا يوجد إلا عند خواص أهل العلم والتحقيق وأنّ العامة في عمى عنه. فضرر هذه الفرقة على الإسلام وأهله أعظم من ضرر أعدائه المنابذين له. ومثلهم ومثل أولئك، كمثل قوم في حصن حاربهم عدو لهم فلم يطمع في فتح حصنهم ، والدخول عليهم فعمد جماعة من أهل الحصن ففتحوه له وسلطوه على الدخول إليه فكان
مصاب أهل الحصن من قبلهم…
).

رحمك الله يا ابن القيم .. أعطيتنا الجواب الشافي، الذي قد نختلف فيه، وأنت حيادي بعيد عنا، لكنّك تقرأ المستقبل البعيد، ليس بعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولكن بشفافيةٍ وفراسةٍ أورثك إياها العيش مع الوحيين، والنظر بنورهما، والتجرد من الأهواء. لقد قالها رحمه الله: (… فعمد جماعة من أهل الحصن، ففتحوه له، وسلطوه على الدخول إليه، فكان مصاب أهل الحصن من قبلهم…).

أجل أصيبت أمة الإسلام بفعل أبنائها، الذين صَدَّقُوا أنّ الاختلاف رحمة، فأداروا ظهورهم لوصية نبيهم التي تعصم من الاختلاف الوبيل، ألا وهي التربية على منهج (ما أنا عليه وأصحابي). والأمة كلها تحمل مسؤولية النتائج القاتلة، وهي غياب الأمة أو غثائيتها، لأنّه لم يُؤْخَذ على أيدي الناكبين عن صراط الله، منهج الوحيين، لِوَأْد الانحراف في مهده حيث بدأ، والجناية تُعَصَّبُ برؤوس النخب، قبل غيرهم حيث رضُوا وسكتوا…!

بعد الذي قرأتم وسمعتم، عرفتم إلى أين يجب أن يصوب السهم الأخير ..
ومن هو العدو الداخلي .. ولعل تساؤلا يمكن أن يثور في الأذهان، كيف يخلو المقال من ذكر العدو الخارجي، والتصدي له، وهو الأهم والأخطر؟ فأرجعكم إلى الاقتباس الأول عن ابن القيم ففيه الجواب: (فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوَّلًا، لِتَفْعَلَ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَتَتْرُكَ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَيُحَارِبُهَا فِي اللَّهِ .. لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ فِي الْخَارِجِ). والله أعلم، والحمد لله رب العالمين