Skip to main content

تَعْلِيقٌ حَوْلَ حَدِيثِ (أُمَّتِي كَالْمَطَرِ)

By الأحد 13 محرم 1440هـ 23-9-2018ممحرم 21, 1441دراسات

من أخٍ حبيبٍ حريصٍ دؤوبٍ، للمنهج وفيٌّ، وردني هذا السؤال، فأحببتُ تعميم نفعه، والله من وراء القصد.

الأخ الحبيب…رعاه الله، السلام عليك، والسلامة لك ولمن معك، وبعد:

فلقد أرسلتَ إلي في شأن حديث (مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ)، ومتابعةِ رجلٍ اسمه (خالد بن عمر الفقيه الغامدي) للشيخ الألباني رحمه الله، يُخطئ الشيخ في تصحيح الحديث، في بحث كتبه قبل خمسة عشر عاما تقريبا .. ولقد وضعت أمامي كلام الشيخ رحمه الله، في السلسلة الصحيحة، وكلام هذا المستدرك على الشيخ. وما هي إلا دقائق حتى وجدتُني أتمتم، عفويا، المثل العربي (شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُها مِنْ أَخْزَمِ).

وأول ما أقول، باديَ الرأي، إنّ متابعاتٍ للشيخ الألباني رحمه الله، تُخَطِّئُهُ وتُجَهِّلُهُ، قد كثُرت في سِنيِّ العقدين الأخيرين، وفيها بعض الأحيان، إن لم يكن في أكثرها، غمزٌ ولمزٌ، وقد يصل أحيانا إلى تطاول صريح، من أشخاصٍ أكتفي بالقول إنّهم في بداية الطريق، لكنّهم حسب مثل عربيٍ، كان الشيخ الألباني كثيراً ما يَتَمَثَّلُه: (تَّزَبَّبُوا قبْلَ أَنْ يَتَحَصْرَموا)، هذا مع تغليب حسن الظن .. ما أثار لغطاً والتباسا بين طلبة العلم، وجعل الناس يشتغلون في جدل لا طائل تحته.

وتأكد لي مع المتابعة الدقيقة لمجريات الأمور، أنّ الرد على كلِّ مُتكلمٍ، مضيعةٌ للوقت والجهد، وفتحُ باب ِمُماحَكاتٍ جانبية، لا تُثمر ولا تُغني ولا تنفع، لأنّ ما يطْلُع به علينا بعضهم، ليس في الأغلب لإحقاقِ حقٍ، ولا لتصحيحِ خطأٍ، ولا لتوضيحِ مبهمٍ، وليس عن ذوي أهْلِيَّة يَصُدُر! إنّما هي فرقعاتٌ لِلَفْتِ نظرٍ.

وتبيَّن لي بيقين، أنّ هناك أمراً مدبراً، وأنّ وراء الأكمةِ ما وراءها، للنيل من الشيخ، حتى بعد موته .. والذي أُصَرِّح به بمرارةٍ، أنّ ذلك الأمر يُدبَّرُ عند بعض أهل العلم والدعوة..! أما سبب ذلك، فمع أنّ لدي ما هو من الظنون الراجحة، لكنّي أؤثر عدم دخول ساحة الظنون، وأكِلُ أمرَ الخلقِ للخالق، وهو حسيبُ الجميعِ وحَسْبُهُم. لكنّني لا أرى حرجاً شرعياً ولا منطقياً، أن أفضي بما في نفسي، متراكماً منذ سنين، وأنا أرصُد ما يجري وما يُكتب وما يُقال، حتى لا يكون الأمر على الناس غُمَّةً، مستعيراً أبيات أبي الأسود الدؤلي:

حَسَدوا الفتى إذْ لمْ يَنالوا سَعيَهُ
كضَرائِرِ الحسناءِ قُلْنَ لوجهها
وكذاكَ مَنْ عَظُمَتْ عليهِ نِعمَةٌ

فالقومُ أعداءٌ لهُ وخُصومُ
حَسداً وبَغياً إنه لَدَميمُ
حُسَّادُهُ سَيفٌ عليهِ صَرُومُ

ولهذا كله، مالت النفس إلى تطوير الرد، إلى بحث إيضاحي، حول اختلاف العلماء، والمحدثين خاصة، ينتفع به كل أحد، وتكون فيه ذكرى لمن نزغته نوازعُ بشرية، فمال به الطريق، وضاق به العطن، وذلك نَقْلةٌ من (الشَّخْصَنَةِ، مع التحفظ على صحة الاشتقاق) إلى الجَمْهَرَة، وسيكون الكلام على شكل وقفات .. والله يهدي سواء السبيل.

الوقفة الأولى: ولا غِنىً عن مقدمة توضيحية، لن تطول إن شاء الله .. تُواجِهُ المسلمين في حياتهم الدينية مُشكلتان؛ الأولى اختلافُ العلماء، والثانية اختلافُ المحدثين. والمشكلتان متداخلتان.

أما المشكلة الأولى فتنطوي على عنصرين: الأول؛ الاختلاف في حكم مسألة ما، شرعياً، وحَلُّها تطبيقُ قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). وتفسير الآيتين معروف واضح. وأُرَكِّز على نقطتين أساسيتين في ذلك، من باب الذكرى. قوله تعالى في الأولى: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، وقوله في الثانية: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا). فمن يتلكَّأ في رد التنازع إلى الله ورسوله فليس مؤمناً، ومن يُعطي في دينِ الله
خيرةً، غيرَ التي قضى اللهُ ورسولهُ، فهو ضالٌ مضلٌ.

والعنصر الثاني من المشكلة الأولى، ولازلنا مع اختلاف الفقهاء، هو الاختلاف في فهم النصوص، وقد فُتح على المسلمين بابُ شرٍ عظيمٍ وهو باب التأويل. فلكلِّ مذهبٍ أصولُه، ولكل فرقةٍ طريقتُها، ولكل بَشرٍ هواه، وكلٌّ يفهم النص الشرعي على ما يناسبه..! وكانت النتيجة أن وقع المسلمون في فتنة التبديل، تبديل الدين، وما عاد الدينُ كلُهُ لله.

وما هو الحل الشرعي لهذه المشكلة؟

إنّه أن يكون فهم النصوص، والعمل بها منضبطاً بقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) فالآية غاية في الوضوح، يأمرنا الله فيها باتباع هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، واتباع سبيل المؤمنين، وهو هدي نبيهم الذي يتوارثون علمه، وتطبيقه، كابراً عن كابرٍ، وهو بين أيديهم في كتب السنة .. ومن رغب عن هذه الضوابط فقد توعده الله (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

ومن الضوابط الأخرى، التي تجري من وادٍ واحدٍ مع الآية الكريمة، منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، والتزام ما كان عليه أهل القرون الثلاثة، المشهود لها بالخيرية؛ ففي المتفق عليه عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسبِقُ شَهَادَة أحدِهمْ يَمِينه وَيَمِينه شَهَادَته). وتضاف إلى ما سبق، القاعدة المتفق عليها عند أهل الحق أنّ (الحق لا يتعدد).

فمما يجب أن يعتقده كل مسلم، أنّه لا يمكن أن يكون في الناس إلى قيام الساعة، فهمٌ لنصوص الوحيين يُقدَّم على فهم الصحابة، وأهل القرون الثلاثة، المشهود لها بالخيرية، فالعصمة فيما اجتمعوا عليه وليست عصمةَ أفراد.

نخلص مما سبق إلى النتيجة الآتية، أنّ الخلاف الفقهي محسومٌ ومخصومٌ بالضوابط السابقة، ولا محلَّ لأقوالٍ مبتَدعة، من مثل (الاختلاف رحمة)، و(نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضُنا بعضاً في ما اختلفنا فيه)، وأمثال ذلك من أقوال باطلة، عَطَّلت العمل بنصوص الوحيين، وأفرزت على مر الزمن، مسألة خطيرة، وهي سَلبُ قُدسيةِ نصوصِ الوحيين، من نفوس الأجيال، التي عاشت حالةَ تركِ العملِ بالنصوص، لتقديم العقل، وآراء الرجال عليها.

ورحم الله الشاطبي، إمام الأندلس، لقد ترك لنا قاعدة تكتب بماء الذهب، في كلام طويل مؤصلٍ، في كتابه المشهور الموافقات، وأكتفي بذكر البداية دون متابعة التفصيل، تجنباً للإطالة، ناصحاً بالرجوع إلى الكتاب فالبحث نفيس: (الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها، وإن كثر الخلاف، كما أنّها في أصولها كذلك، ولا يصلح فيها غير ذلك).

وقبل ترك هذه الفقرة، وحتى لا يُستدرك علي، أقول: يُقبل الاختلاف بين أهل الفقه، في حالة واحدة، أن يكون الدليل في مسألة ما، صحيحاً
غيرَ
صريحٍ، ويعني ذلك أنّ المسألة، عندئذٍ تُحال إلى مسرح الاجتهاد، وتعددُ الاجتهادات مقبول، في حالة كهذه، وهي غياب النص القاطع، لأمر يشاؤه الله. وعندئذٍ فما اجتهاد بأولى من اجتهاد، ولكلٍ العملُ بما يراه الأصوب من وجهة نظره، ولا يَعِيبُ أحَدٌ على أحد.

الوقفة الثانية:
وهي مع
المشكلة الثانية، التي تواجه المسلمين، أعني اختلاف المحدثين وهي الأشد تعقيداً، وسيأتي التفصيل، إن شاء الله.

لا شك، أنّ المحدثين يتفقون إلى حد كبير جدا في تطبيق قواعد علم مصطلح الحديث، وهي أقرب إلى أن تكون متفقاً عليها، بين المحدثين، مثل تعريف الحديث الصحيح والحسن والضعيف، وغير ذلك. أما اختلافهم، فيكون في أدقِّ وأحرجِ وأعقدِ مرحلةٍ في عملية دراسة الأسانيد، وهي مبحث العلة .. وهنا قد يفترق المحدثون افتراقا لا لقاء فيه، لأنّ موضوع العلل أوسع من أن تضبطه قواعدُ متفقٌ عليها.

ولقد وجدت في ملفات قديمة عندي، نقولاً من بطون الكتب، تغطي مسألة اختلاف المحدثين في علل الحديث. وقد وجدتها تغني عن شرح طويل، من جهة، وهي لعلماء مرموقين في علم الحديث، من جهة أخرى.

. من كتاب علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح: (واكتشاف علة الحديث يحتاج إلى اطلاع واسع، وذاكرة طيبة، وفهم دقيق، لأنّ العلة نفسها سبب غامض يخفى حتى على المشتغلين بعلوم الحديث. قال ابن حجر: «وَهُوَ مِنْ أَغْمَضِ أَنواعِ عُلومِ الحَدِيثِ وَأَدَقِّهَا، وَلاَ يَقُومُ بِهِ إلاَّ مَنْ رَزَقَهُ اللهُ تَعَالَى فهْمًا ثاقِبًا، وَحِفْظًا وَاسِعًا، وَمَعْرِفةً تَامَّةً بِمَرَاتِبِ الرُّوَاةِ، وَمَلَكَةً قويَّةً بِالأَسَانِيدِ وَالمُتُونِ» ولقد يتمكن الخبير المتمرس بهذا الفن من معرفة إحدى العلل الغامضة بضرب من الإلهام يشرح اللهُ به صدره. ولا غرو، فالمعرفة بالحديث ليست تلقينًا، وإنما هو علم يُحْدِثُهُ اللهُ في القلب قال عبد الرحمن بن مهدي: «مَعْرِفَةُ الحَدِيثِ إِلْهَامٌ، فَلَوْ قُلْتَ لِلْعَالِمِ يُعَلِّلُ الحَدِيثَ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا؟، لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ». وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا: «إِنَّكَ تَقُولُ لِلشَّيْءِ: هَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ، فَعَمَّنْ تَقُولُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَتَيْتَ النَّاقِدَ فَأَرَيْتَهُ دَرَاهِمَكَ، فَقَالَ: هَذَا جِيدٌ، وَهَذَا بَهْرَجٌ أَكُنْتَ تَسْأَلُهُ [عَمَّنْ] ذَلِكَ، أَوْ تُسْلِمُ [الأَمْرَ إِلَيْهِ؟] قَالَ: لاَ، بَلْ [كُنْتُ] أُسْلِمُ الأَمْرَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَهَذَا كَذَلِكَ لِطُولِ المُجَالَسَةِ وَالمُنَاظَرَةِ [وَالْخُبْرِ بِهِ]». ولذلك قال الخطيب البغدادي: «يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ الذِي يَنْتَقِدُ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ فِيهَا الزَّيْفُ وَالبَهْرَجُ وَكَذَلِكَ الحَدِيثُ».

ودقة هذا الفن وصعوبته واعتماده على طول الممارسة، كانت سببًا في قلة التأليف فيه. وَأَجَلُّ كتاب في هذا الموضوع ” كتاب العلل” لعلي بن المديني شيخ البخاري. ويلي ذلك كتاب بالعنوان نفسه للخلال، وآخر لابن أبي حاتم).

. ومن كتاب الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، للمؤلف: محمد بن محمد أبو شُهبة: (وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفي في نقد الدنانير والدراهم قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي: {معرفة علل الحديث الهام، ولو قلت للعالم بعلل الحديث من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة، وكم من شخص لا يهتدي لذلك}.

وسئل أبو زرعة الرازي: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ فقال: {الحجة أن تسألني عن حديث له علة، فأذكر علته ثم تقصد ابن وارة -يعني محمد بن محمد بن وارة- فتسأله عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم -يعني الرازي- فيعلله، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافًا فاعلم أن كلًّا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم، ففعل الرجل ذلك، فاتفقت كلمتهم، فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام}).

ويتابع أبو شهبة قائلاً: (تعليق على كلمة ابن مهدي أنّ هذا العلم إلهام: قد يوهم ظاهر هذه الكلمة أنّ هذا العلم لا يحتاج إلى طول بحث ونظر، وموازنة بين الروايات وجمعها كي يصل الإمام المعلل إلى الحق والصواب.

وهذا الظاهر غير مراد قطعًا بعد ما ذكرنا من كلمة الإمام علي بن المديني، وبعد ما هو معلوم من أن العلماء الذين اشتغلوا بعلل الأحاديث لم يدعوا وسيلة من وسائل العلم بالأحاديث، والبحث عن حقائق أمورها إلا سلكوها، وذلك عن طريق جمع الروايات ونقدها على حسب قواعدهم الدقيقة، والموازنة بينها حتى وصلوا إلى الحق والصواب في هذا، والكتب التي ألفت في العلل أكبر شاهد على هذا، إن في هذه الكتب ما يدل دلالة ظاهرة على سعة علم هؤلاء العلماء بالروايات، وعلى دقة أنظارهم في النقد. والذي يظهر لي -والله أعلم- أنّ أي عالم متمرس في فن من الفنون، وطالت مصاحبته له، والوقوف على حقائقه ودقائقه تحصل له ملكة في هذا الفن قد تصل هذه الملكة المكتسبة بطول البحث والنظر والتأمل إلى أن تجعل صاحبها ملهماً في إدراك حقائق الأمور.

فمن الأطباء مثلا من حصل لهم بعد طول الممارسة لعلم الطب، ومقابلة المرضى والتعرف على أدوائهم وأمراضهم وعللهم ملكة بحيث يدرك بمجرد رؤية المريض أنه مريض بكذا، وإن لم يستعمل التفسرة التي تعينه على إدراك حقيقة مرض المريض.

كذلك الكثرة الكاثرة من أئمة الحديث ولا سيما في العصور الأولى حصلت لهم بطول الممارسة والملازمة للحديث وعلومه ملكة بها يدركون الحديث المعلول من غير المعلول بحيث لا يحتاجون إلى طول بحث ونظر، وإنما تنطلق ألسنتهم بالحقيقة بحيث يخيل إلى السامع أنّ هذا العلم إلهام كما قال الرجل الذي ذكرنا قصته مع أبي زرعة الرازي.

إنّ الواحد منا نحن معاشر المشتغلين بعلم الحديث والسنن على فرق ما بيننا وبين هؤلاء الأئمة قد تحصل له هذه الملكة بحيث يميز ما بين ما هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ليس من كلامه، ولو لم يكن عنده علم خاص في ذلك، وأيضا فالعالم العامل بعلمه هو أحق من يلهمه الله الحق والصواب والله أعلم).

إذن لا يُتصوَّرُ أن تتحد العلة التي يُعَلُّ بها حديثٌ ما، بين العلماء الدارسين، وهو ليس بمستحيل فقد يتفقون، ولكن ذلك ليس ضربة لازب. وفي الوقت نفسه، فهو أمر طبيعي أقره العلماء، لمسوِّغاته. فالعلة أمرٌ خفيٌ، لا تثمر المناقشة فيه، حتى بين العلماء. ولا يُتصَوَّرُ اتفاق العلماء على الحكم على حديثٍ ما ماداموا مختلفين في علته، التي قد لا تكون محل اتفاق بينهم.

وعلينا أن لا ننسى سبباً رئيساً لذلك، وهو أنّ البحث في علل الحديث، أكثر الاعتماد فيه على علم الرجال، واختلاف المحدثين فيه، معروف وطبيعي. لكنّ علماء الحديث يتفقون على الأحاديث ذات العلل الظاهرة، أو السالمة من العلل.

الوقفة الثالثة: ومن الأسباب التي تدعو إلى اختلاف المحدثين، أن لا يكون بين العلماء اتفاق على بعض الأصول في دراسة الأسانيد. من ذلك على سبيل المثال أنّ بعض العلماء يشترط في الراوييَيْن اللذين ينقل أحدهما عن الآخر المعاصرة واللقاء، وهو ما اشترطه البخاري رحمه الله، أما مسلم فيشترط المعاصرة ولا يشترط اللقاء .. وأكثر المحدثين على طريقة مسلم رحمه الله.

ولا يَظُنَّنَّ أحدٌ أنّ الاختلاف بين البخاري ومسلم، وهما شيخا الحديث، حول نقطة اشتراط اللقاء والمعاصرة، أنّه بيْنَ خطأ وصواب بين الشيخين، حاشا، إنّما هو زيادة في الاطمئنان
والتوثيق من قبل البخاري. وهو عند الإمام مسلم عدم تفريط في الدقة والتوثيق، ولاشك، وعدم تساهلٍ
في الضبط .. ولكنَّ ذلك الرأي، كان مبنيا على منطقٍ مقبول ومعقول، وهو أنّ شرط المعاصرة، مع إمكانية اللقاء، أصل في توثيق الرواية، وإلا كيف يَنقل راوٍ عن آخر وكل منهما عاش في قرن أو حقبة مختلفة..؟! أما اشتراط اللقاء فليس ضروريا، مادام الراوي صادقاً في نقله للمادة المروية، ولا بد أن يعتبر صادقا أيضا في دعوى ملاقاة من روى عنه. وقد احتاط علماء الحديث للاكتفاء بشرط المعاصرة، دون اللقاء، فضبطوه ببحث التدليس والعنعنة.

ونوظف حقيقة أنّ اختلاف الشيخين حول شرط المعاصرة واللقاء، لم يكن له أي أثر سلبي في أصالة وصحة ما جاء عنهما، لتكون شاهدا على أنّ اختلاف المحدثين أمرٌ مبررٌ. فلا زال أهل الحديث يقولون: إنّ الصحيحين يعتبران أصح كتابين بعد كتاب الله، في الأرض. ونقيس معظم اختلافات المحدثين على هذا الخلاف، وأنّه لا يفسد لعلم الحديث قضية، مادام الاختلاف، وهو اجتهاديٌ، سالماً من الوهم أو الخطأ، فلنَتَدَبَّرْ. وقد تلقت الأمة الكتابين بالقبول، لتَحَقُّقِ السلامةِ، وانتفاءِ التفريط.

ومن الاختلاف بين المحدثين، أن يُقدم المحدث الجرح على التعديل
مطلقا، بينما يقول آخرون: إنّ الجرح لا يقدم على التعديل إلا إذا كان الجرحُ مُفسَّرا مُبيَّنا. والتدقيق في المسألة، يزودنا بمعلومة هامة؛ كيف أنّ علماء الحديث استنبطوا أكثر قواعد هذا العلم الشريف، عن طريق النظر العقلي ومقايسة الأمور. فلنبحث في مسألة التعامل مع الجرح والتعديل، لتتضح لنا الأمور.

يقول علماء الحديث: إنّ التعديل أصلٌ لأنّ الأصل في المسلم العدالة. ولذلك فإنّ التعديل يُقبل مبهماً، أي دون تفسير، لأنّه أصل لا يحتاج إلى توضيح. أما الجرح فأمرٌ طاريءٌ خلاف الأصل، فلا يثبت إلا ببينة. لذلك فإنّ الجرح المبهم لا يغلب التعديل (رغم أن التعديل مبهم)، أما إن كان الجرح مُبيَّناً مُفسَّراً فإنّه يغلب التعديل .. وفي الموضوع تفصيلات دقيقة، لكنّ الذي يعنينا الخطوط العامة في الموضوع.

وأذكر بالمناسبة أنّني سمعت، ذات مرة، من الشيخ الألباني مباشرة، كلاما يُمثل فيه للجرح المبهم، فقال لقد جرح أحد العلماء راوياً لأنّه مُر ببابه فسمع صوت الطنبور يخرج من البيت. يقول الشيخ الألباني هذا غير كافٍ لجرح الراوي، لاحتمال أن يكون الراوي بعيدا عن بيته وجاء أحد السفهاء من أقاربه على البيت وضرب بالطنبور.

الوقفة الرابعة: ولعل مما يلقي ضوءاً على ما نحن في صدده، أن أسرد باختصار وقائع مناقشة لي مع بعض الإخوة في الرياض، حول كلامٍ نُشِر من جهات علمية، أنّ أحكام الشيخ الألباني على الأحاديث لا يُطمأن لسلامتها، لأنّه يخالف قواعد المتقدمين من المحدثين، ويأخذ بآراء المتأخرين من علماء الحديث. ولقد طار بهذا الكلام، وبخاصة لوجود أسماءٍ لامعةٍ من ورائه، الجهالُ، والبسطاءُ، وأصحابُ الهوى. فقلت للإخوة هذا صحيح، ولكن هل تعلمون من هم المتأخرون الذين يأخذ الألباني باجتهاداتهم في علم الحديث؟ وكان ظن أكثرهم أنّهم معاصرون! وفوجئوا حين قلت لهم إنَّ على رأسهم، أميرَ المؤمنين في الحديث ابن حجر العسقلاني! ومنهم النووي وابن تيمية وابن كثير، وغيرهم. وبيَّنْتُ أنَّ أهل هذا التقسيم، يأخذون باجتهاداتِ بعض المتقدمين من المحدثين، الذين يرون أن كل من سبق الدارقطني هم من المتقدين، من مثل شعبة والقطان وابن مهدي، وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي، ويعتبر البيهقي خاتمة المتقدمين. ومن جاء بعد الدارقطني فهو من المتأخرين، من أمثال النووي وابن
تيمية وابن كثير والذهبي والحافظ ابن حجر وابن الصلاح، وابن الحاجب، وابن عبد الهادي، وضياء الدين المقدسي والمنذري، والمزي، وغيرهم.

وشرحت لهم أنّه لمّا كان علم الحديث ومصطلحه علماً عقلياً استنتاجياً اجتهادياً، وليس نصِّياً، كالمسائل الفقهية، فإنّه تطوَّر مع مرور
الزمن، على يد أساطين في هذا العلم، وكان التطور بلا شك نحو الأفضل، لأنّه يعتمد تجاربَ أكثرَ، وممارساتٍ أطولَ، ونظراتٍ
أعمقَ.

ولعل المتقدمين من العلماء، سواء منهم الفقهاء والمحدثون، يميلون إلى مقولة (ما ترك المتقدم شيئا للمتأخر) وهي مقولة لا يُسلَّم لها، لأنّها تفترض عصمةً لبعض بني البشر، وفي دين الإسلام لا عصمةَ بعد الرُّسُل. فإنّ المتأخر تكون بين يديه، وتحت ناظريه كلُّ التجارب السابقة ما يثري حصيلته العلمية، ويعطيه خياراتٍ أكثرَ عند الاجتهاد. لذلك نرى لبعض المتأخرين عبارة يردون بها على عبارة المتقدمين وهي: (كم ترك الأول للآخر!).

ودعوى الاختلاف بين المتقدمين والمتأخرين من المحدثين قد رُوِّج لها، ولازال في الزمن المعاصر، ولم تكن ذات موضوع في ما مضى. والحقُّ أنَّ الاختلاف بين كل متقدم ومتأخر هو أمر طبيعي في كل علم وفن، فذلك من طبائع الأشياء. فالتطور العلمي والعقلي والفكري لا يتوقف برهة واحدة، لأنّ العلم لا يقبل الجمود. ولا يستطيع كلُّ صاحبِ نظرٍ ثاقبٍ، أن يتجاهل وجود هوىً من وراء إثارة موضوع الاختلاف بين المتقدمين والمتأخرين من المحدثين، وهي حلقة ضمن مسلسل التآمر على الحديث وأهله، والكاسبُ الوحيد من ذلك الزَّعم المدرسة العقلية، التي تَهُبُّ رياحها، اليوم، والتي يُرادُ التمكينُ لها عن طريق زعزعة الثقة بنصوص السنة، الوحي الثاني. علم دعاة هذا الزَّعْم أم لم يعلموا.

ومن لازال في مرية من صوابية هذا الذي نقول، فليُفَسِّر تسليط الأضواء، وتوجيه الأنظار وتسويق الفجار، من أمثال شحرور والرفاعي وإبراهيم والكيالي، وتسخير بعض الفضائيات لعرض باطلهم، إلى أن وصل الأمر إلى أن تُبثَّ لهم برامج يومية طيلة شهر رمضان الماضي. والذي لا ينبغي مداراته، أنّه لا يراد الخير من وراء هذا التشويش. ورحم الله الشيخ الألباني فقد قال في مقابلة معه حول مسألة اختلاف المتقدمين والمتأخرين من أهل الحديث: (إنّها من أبطل ما يُسمع في هذا الزمان).

ومما قال في تلك المقابلة تفريغاً من الشريط: (أقول: إنّ القائل بهذا إنما هو من هؤلاء الشباب الناشئين الذين عَرفوا شيئًا من علم الحديث ومن مصطلح علماء الحديث نظريًّا، ولم يطبقوه عمليًّا. فإن كانوا يذكرون برهانًا فنريد أن نسمعه. والحقيقة أنهم لا يذكرون حُججًا واضحة، إنما أكثر زعمهم، أو أكثر حُجةٍ عندهم أنهم يقولون: منهجنا قام على استقراء علم الأولين وكلامهم، أو المتقدمين، هذه هي حجتهم. وهي لا تخرج عن كونها دعوى،

والدعاوي ما لم تقيموا عليها بيناتٍ أبناؤها أدعياءُ

ولو قدِّر لي اللقاء به – لكنت أسأله: مذهب المتقدمين حدَّدْتَّه بآخرهم، الدارقطني، أما من جاء بعد الدارقطني فلا يؤبه لرأيه واجتهاده وتصحيحه وتضعيفه؟ وسأقول له: ما قبل الدارقطني، هل اتفقوا على كل شيء أم اختلفوا؟ أظن أنه إذا كان على علمٍ، وله من هذا العلم – الذي هو علم نظري وليس بعملي – فسيكون جوابه: إنهم قد اختلفوا، طيب، فحينما يختلفون في مسألة ما . ولنضرب على ذلك مثلاً: الخلاف بين الإمامين الكبيرين البخاري من جهة ومسلم من جهة، وهؤلاء طبعًا في قائمة القدامى الذين يحتج برأيهم وباجتهادهم. فما موقف هذا الرجل الذي يدعي هذه الدعوى، التي لم يُسبق إليها . وأسأله ماذا يفعل بين هذين الرأيين؟

وحينئذٍ، فما فائدة هذا التقسيم المبتدع بين مذهب المتقدمين ومذهب المتأخرين، ما دام يوجد في المتقدمين اختلاف وجهة نظر؟ وما الحُكْمُ الفصل في الموضوع حينذاك، أليس الرجوع إلى الدليل الذي يقتنع به الإنسان؟ ولابد أنه سيقول: لابد من تحكيم الدليل في ترجيح أحد القولين على الآخر.

فإذا افترضنا أن الخطيب البغدادي، الذي يعتبر من المتأخرين ، خالف الدارقطني الذي يعتبر من المتقدمين، فهل يكفي أن نقول هذا متقدم فقوله أرجح من هذا لأنه متأخر؟! هذا لا يوجد له وجه في العلم إطلاقًا، لمجرد كون هذا متقدم وهذا متأخر، والرسول عليه السلام يقول في الحديث الصحيح كما تعلمون جميعًا: {فرب مبلَّغٍ أوعى له من سامع}، فالمبلَّغ، بلا شك في هذا الحديث متأخِّر، والثاني هو الصحابي المتقدم، فرب مبلغٍ أوعى له من سامع، فربَّ رأي من مثل الخطيب يكون أرجح في النقد العلمي من رأي الدارقطني، فإذن باختصار أقول: إن هذا البحث لوضوح بطلانه، ولأن فيه إهدارًا لجهود العلماء، كالحافظ ابن حجر العسقلاني، الذي لُقِّب بحق بأمير المؤمنين في الحديث، وكم ترك الأول للآخر، فكيف هذا التصنيف .. أن المتقدم يؤخذ رأيه دون نظر إلى حجته وبرهانه، ويقدَّم على قول المتأخر، ولو كان الدليل قائمًا على صحة رأيه؟! لنفترض أن الدارقطني علل حديثًا رواه بإسناد فيه رجل قال بعض المتقدمين فيه ” مجهول “، فهو بناءً على هذا القول صار الحديث عنده ضعيفًا، لكن هناك رواية عن بعض الأئمة المتقدمين في توثيق هذا الرجل المجهول، أخذ به المتأخِّر، وليكن هو الخطيب البغدادي، أو من جاء بعده، ومِن آخرهم أمير المؤمنين كما قلنا الحافظ ابن حجر العسقلاني، تبنَّى رأي من وثَّق هذا المجهول عند الدارقطني، وبناء على ذلك صحح الحديث، ماذا يكون موقف هذا الرجل المدعي لهذه الدعوى التي هي من أبطل ما يُسْمع في هذا الزمان؟!).

ونؤكد ما قلناه أنّ قواعد هذا العلم قضايا اجتهادية تعتمد النظر العقلي. وإذا اختلف المتقدمون من المحدثين في ما بينهم، على قضايا اجتهادية، وكانوا في عصر واحد، فمن الطبيعي أن يكون اختلافٌ بين اجتهادات المتقدمين والمتأخرين وهي ولا شك، لتطوير هذا العلم الشريف والوصول به إلى الأفضل .. وأؤكد مرات أنّ الاختلاف بين المتقدمين أنفسهم من المحدثين، وكذلك بين المتقدمين والمتأخرين، لم يكن انتهاكاً لقواعدَ شرعيةٍ منصوصٍ عليها، إنّما هو على اجتهادات عقلية، ووجهات نظر أفرزتها الممارسات الطويلة، والنظرات العميقة، وكلها لخدمة هذا العلم الشريف والارتقاء به.

الوقفة الخامسة: أبدأ هذه الوقفة بعبارة لإمام في الحديث هو الإمام علي بن المديني، يوجه نصيحته إلى علماء الحديث، يقول: (الحديث إذا لم تُجمع طُرقه لم يتبين خطؤه).

وتنطوي هذه العبارة على معنى أكبر مما توحيه القراءة العجلى، إنّما هو الإشارة إلى ما ينتظر المحدث من مهام، من أجل خدمة هذا العلم، علم الحديث، من طول الثواء، وشدة العناء، والتحلي بالصبر والتصبر، ودقة النظر وحسن التدبر. ومن هنا نستنتج أنّ الرجل، لكي يصبح من أهل الحديث الذين يتقنون صنعة دراسة الأسانيد، ومعرفة العلل، وبالتالي الحكم على الأحاديث، يحتاج أن يثني ركبتيه مع الكتب، يجمع الروايات ويقارنها، ويبحث في كتب الرجال ليعرفها، ويحصي آراء من سبقه ويقايسها. وإدراك هذا الأمر مُتَعَلَّقُهُ طول الزمن .. أما أن يُمنح طالبُ علمٍ شهادة الدكتوراه في الحديث، وهو يافع، فإنّه درس، بلا شك، قواعد ذلك العلم نظرياً، ولم يَخُضْ بعدُ غمار الجانب التطبيقي له، فلا يكون مؤهلا لدراسة الأسانيد، وإعطاء الحكم على درجة الأحاديث، ولا يخفى أنّ لكل علمٍ وفنٍ جانباً نظرياً يُتَعلَّم على مقاعد الدراسة، وآخرَ عملياً يُكتسب مع سِنِيِّ الممارسة، وتلك مهارة لا يمكن اختزالها، ولا تجاوزها، ولا القفز من فوقها، باختصار عنصر الزمن
الرئيس والهام فيها .. فمن أتقن علم مصطلح الحديث غاية الاتقان، لا يُعَدُّ مؤهلاً لدراسة الأسانيد، لأنّه لم يَمْخُر بعدُ عُبابَ بحرٍ لا ساحل له، وهو علم الرجال! وما أشبَهَهُ بمخالطة الرجال، حقيقة، للتعرف إلى طبائعهم وأخلاقهم، وكم يحتاج ذلك من الوقت والجهد!

ولا زلنا حتى اللحظة، لم ندخل في بحث العلة، وما أدراكم ما العلة..؟! ومن أجل ربط السياق بالسباق، أود تذكير القارئ بما جاء في الوقفة الثانية قبلا، وما نُقل عن عبد الرحمن بن مهدي، من قوله: (مَعْرِفَةُ الحَدِيثِ إِلْهَامٌ)، ومن ذا الذي يُفصح لسانه عن سر من أسرار تلك الصنعة المباركة، إلا من شابَ قرناه، في زمن أمضاه، يجمع الروايات، ويَنقُد الرواة، يقطع المراحل ليتَحَمَّل (من مصطلح تحمل الرواية)، ويمضي الليالي يُمحِّصُ
ويتأمل .. وإدراك تلك الغايات، وإتقان تلك المهارات، ليس أمَدُهُ نظامَ الدراسة في معهدٍ أو كلية، إنّما وحدةُ قياسِه عمرٌ يقضيه المحدث، ولمَّا يَقْضِ لُبانَتَهُ..!

وما زلنا نتحدث عن العلاقة والتلازم بين طول الزمن، وسعة الاطلاع. وهما بعد توفيق الله، ثم العلم والتأصيل، من أهم عناصر تشكيل شخصية المحدث الفذ، ولهما؛ أعني الزمن وسعة الاطلاع، تعطى أكبر الدرجات، إذا كنا نريد تقريب الفكرة، بطريقة التقويم بالدرجات وهو الأسلوب العصري .. وأكاد أجزم أنّه لم يلمع نجمٌ بين المحدثين لو فاته العنصران المتلازمان: الزمن وسعة الاطلاع .. وتحضرني الآن كلمات كان يَرُدُّ بها الشيخ الألباني رحمه الله على من ينتقده في التصحيح والتضعيف. كان يقول: (إنّي أتيحت لي فرصة الاطلاع على مخطوطات حديثية، في المكتبة الظاهرية بدمشق، لم تَرَ النور بعدُ، حتى الآن).

ولا ينقضي عجبي، وعجب من اطلع على ترجمة الألباني لنفسه، من كلام يقوله، إنّه كان يَطَّلِع على بعض تلك المخطوطات، التي كانت مخزنة على أرفف عليا، وهو يقف الساعات على السُّلَّمِ، لأنّ إدارة المكتبة لا تسمح بنقلها، لأنّ الزمن فعل فعله فيها، فلا تتحمل النقل.

أتيت بهذه المعلومة عن شيخنا الألباني، لتكون ردا على المتعجلين في تخطئة الكبار. وبخاصة من حديثي العهد في علم الحديث، وهذا تقرير حال، وليس وصف ذم أو نقد أو انتقاص، وأقول لهم قولوا واكتبوا ما تشاؤون، ولكن لا تستعجلوا إصدار الأحكام، فالهوينى الهوينى .. ورحم الله الشيخ الألباني حينما كان يصف بعض الناشئين المتعجلين بقوله: (تَزَبَّبَ قبل أن يَتَحَصْرَم)، وهو مثل عربي معروف.

ولا يفوتني بعد هذا الكلام الذي قلت آنفا، أن أقول وأؤكد، بكل ثقة وشفافية، أنّنا، وأقصد بـ(نا) أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي )، أنّنا لا نُثبت لأحد من بني البشر العصمة إلا للرسل، حتى أصحابُ نبينا صلى الله عليه وسلم، لا نُثبت لهم العصمة، مع أنّنا نثبت لهم العدالة، التي أثبتها لهم الله ورسوله، والتي لم تكن لغيرهم من الخلق. والشيخ الألباني بشر يخطيء ويصيب ويكفي أنّه يخطيء نفسه، ويُوَهِّمُ نفسه بنفسه في كتبه، ويعرف ذلك كل من أنصف الشيخ من نفسه، أما المتحاملون، وأما الحاقدون، وأما الحاسدون، فالله حسيب الجميع.

الوقفة السادسة: أريد استكمالاً للفائدة أن أكرس هذه الوقفة للإجابة عن سؤال، حري بكل طالب علم شرعي أن يكون على علم وذكر له. والسؤال ذو شقين: هل الاختلاف بين الفقهاء عرض صحي أم مرضي في الحياة الدينية؟ وكذلك السؤال نفسه يُكرَّر عن اختلاف المحدثين.

أقول وبالله التوفيق: إنّ اختلاف الفقهاء مع وجود النص الصحيح الصريح
عرضٌ مَرَضِيٌ، لأنّه يضيع الدين بالابتعاد بأحكامه عن النصوص، وهي أصول الدين، التي يجب الالتصاق بها، بتقديم العقل أو أقوال الرجال عليها. ولأنّه يُفرق المسلمين إذ يُخرجهم بالاختلاف عن منطوق قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، وهل حبل الله إلا الوحي الذي أنزله على نبيه قرآنا وسنة؟

وتواجهنا هنا مسألة التوسع في مفهوم الاختلاف، حتى صار عند بعضهم رحمة، ووضعت الأحاديث لتسويغه (اختلاف أمتي رحمة). ونؤكد أنَّ اختلاف الفقهاء لاجتهادهم مع وجود النص الصحيح الصريح، مرفوض، ويعتبر عرضا مَرَضِيّاً ينبغي أن لا يكون. وقد يقول قائل: هل يقول أحد بالاجتهاد مع وجودالنص؟ والقاعدة متفقٌ عليها بين العلماء أن (لا اجتهاد في مورد النص)؟ أقول هناك من يخالف، لتسويغ الاختلاف المشؤوم، وتسويق أصحاب الفرق التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم، من أن تظهر بين المسلمين، وقد قال عن الفرق : (كلها في النار إلا واحدة). وأنقل بالحرف كلاما للشيخ القرضاوي يقول فيه: (فوجود النص لا يمنع الاجتهاد كما يتوهم واهم، بل تسعة أعشار النصوص أو أكثر قابل للاجتهاد وتعدد وجهات النظر، حتى القرآن الكريم ذاته يحتمل تعدد الأفهام في الاستنباط منه، ولو أخذت آية مثل (آية الطهارة) في سورة المائدة، وقرأت ما نقل في استنباط الأحكام منها، لرأيت بوضوح صدق ما أقول..).
ولا عجب فالرجل المذكور عقد فصلاً في أحد كتبه تحت عنوان (الاختلاف رحمة)..!.

أما إن غاب من الساحة النص الصحيح الصريح، فالمسألة تُرد إلى مسارح الاجتهاد، لأهل الاجتهاد، وليس لأدعيائه، وحينئذٍ تُطبَّق القاعدة (ما اجتهاد بأولى من اجتهاد)، وكل يختار الاجتهاد الذي يراه الأصوب، ولا يعيبُ أحدٌ على أحد، وهذه حالة الاختلاف المأذون به الذي عُبِّر عنه بقول أحد السلف:

وليس كلُّ خلافٍ جاءَ مُعتبراً إلا خلافاً له حظٌ من النَّظَرِ

وهذه هي الحالة التي يكون فيها الاختلاف عرضاً صِحِّيّاً.

والذي نؤكده بإصرار؛ أنّه لا يُقبل اجتهاد الفقهاء والاختلاف، إلا في حالة غياب النص القاطع للنزاع. وبعبارة أخرى فالاختلاف الفقهي يحكمه ويضبطه النص. وغني عن البيان، أنّه إذا ذكرت كلمة (النص)، في مثل هذه الأبحاث الشرعية؛ فهو الآية أو الحديث الصحيح.

أما اختلاف المحدثين، إن سلم من دواعي الهوى أو الخطأ، فهو مقبول، وعَرَضٌ صحيٌّ، ونعيد للأذهان ما قيل سابقا، من فرق أساسي بين اختلاف الفقهاء واختلاف المحدثين.

فالاختلاف بين المحدثين، شأنٌ مختلفٌ، لأنّ الصنعة الحديثية، وبخاصة ما يتصل بالرجال والعلل،
فللاجتهاد فيها دورٌ كبير. وحتى قواعد علم المصطلح المتفق، على معظمها بين العلماء، فهي في الأساس مبنية على البحث والنظر العقلي والاستنتاج. وتبقى الضوابط الأساسية، في العملية كلها، القواعد الشرعيه العامة، كالتقوى، العدل، الصدق، النصح.. وغير ذلك .. وإذن فلا بد من الاختلاف، مادامت اختلافات المحدثين في الأساس اجتهاديةً في ما ليس له قواعد إلا نظرَ المشتغلِ في المسألة، ويغدو الاختلاف عندها عرضاً صحياً.

ولا يُنكر وجود نقاط توافق بين المحدثين، كالاتفاق على تعريف الصحيح والحسن والضعيف وغيرها من قواعد علم المصطلح. لكن مساحات اختلاف المحدثين واسعة، لاسيما في مسائل الحكم على الرجال، في ما يخص الجرح والتعديل، فلطالما نقرأ عدّله فلان وجرحه فلان، ووثقه فلان وضعفه فلان. وما ذكرناه أوجها للاختلاف، فهو للتمثيل وليس للحصر، وصولاً إلى النتيجة؛ أنَّ اختلاف المحدثين أمر طبيعي، وهو عرض صحي.

ولن أتمادى في الحديث عن اختلاف المحدثين، قبل أن أطمئن كل المسلمين، بذِكْرِ إيجابية عظيمة عند المحدثين، وهمُّهم ضبطُ الوحي الثاني، وهو سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ببيان صحيحها من سقيمها. فماهي تلك الإيجابية؟

إنّ، من توفيق الله تبارك وتعالى، أنّ من أيسر المهام اتفاق المحدثين على الأحاديث الصحيحة لذاتها، وهي ما يحويه صحيحا الإمام البخاري والإمام مسلم، وهما الكتابان العظيمان اللذان تلقتهما الأمة بالقبول، حتى قيل إنّهما أصح كتابين بعد كتاب الله، تبارك وتعالى، وأطبق علماء الأمة على أنّ جل ما فيهما صحيح، والحمد لله على منته وفضله.

ولا تنكر الإيجابيات الأخرى في ما يتعلق بكتب الحديث الأخرى التي تحوي كَمّاً ليس بالقليل من الأحاديث الصحيحة، كمسند الإمام أحمد والموطأ لمالك، وأصحاب كتب السنن الأربعة؛ الترمذي، أبو داود، النسائي وابن ماجة. وقد ضمت أيضا كَمّاً مما لم يصح على شرط أصحابها، وبقيت تنتظر جهد المحدثين. ولا ننسى جهد الشيخ الألباني في كتب السنن الأربعة. وكذلك السلسلتان، وإرواء الغليل، والترغيب والترهيب. على أنّ المضيق الصعب، الذي يفترق عنده المحدثون؛ هو الحديثُ الحسنُ بنوعيه، الحسن لذاته والحسن لغيره، والأخير هو الأشكل. وقد قال الذهبي: (لا تطمع بأنّ للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها فإنا على إياس من ذلك، فكم من حديث تردد فيه الحفاظ هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح – بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد، فيوماً يصفه بالصحة ويوماً يصفه بالحسن ولربما استضعفه) .

ويقول الشيخ الألباني حول الحديث الحسن: (إنّه مما ينبغي ذكره بهذه المناسبة أن الحديث الحسن لغيره وكذا الحسن لذاته، من أدق علوم الحديث، وأصعبها، فلا يتمكن من التوفيق بينها أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى، إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده، ومعرفة قوية بعلم الجرح والتعديل، ومارس ذلك عملياً مدة طويلة من الزمن، مستفيداً من كتب التخريجات، ونقد الأئمة النقاد، وعارفاً بالمتشددين منهم والمتساهلين، ومن هم وسط بينهم، حتى لا يقع في الإفراط والتفريط، وهذا أمر صعب قل من يصبر له، وينال ثمرته).

ويقول الصنعاني: (التصحيح والتضعيف من المسائل الاجتهادية النظرية).

ومن أبرز الاختلافات بين المحدثين، ما يكون في موضوع جهالة الرواة والاختلاف في قبول رواية المجهولين.

يقول الذهبي: (وأما المجهولون من الرواة فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتُمل حديثه، ويُتلقى بحسن الظن إذا سلم من مخالفته الأصول، وركاكة الالفاظ.

وإن كان الرجل منهم من صغار التابعين فيُتأنى في رواية خبره، ويُختلف ذلك باختلاف جهالة الراوي عنه، وتحريه، وعدم ذلك.

وإن كان المجهول من أتباع التابعين فمن بعدهم فهو أضعف لخبره سيما إذا انفرد به. قلت: وهذا هو مذهب الكثير من المحدثين).

وقال ابن حجر: (لا يضعف بالجهالة من روى عنه البخاري).

وعليه فليس كل إسناد يقال في أحد رواته مجهول، هو إسناد ضعيف. ولا كل راوٍ يوصف بالجهالة، يعد ضعيف الحديث مطلقا، فضلاً عن عدم قبول حديثه. وجل من انتقد الشيخ الألباني في حكمه على الأحاديث الحسنة، كان لعدم اطلاع المنتقدين على روايات أخرى، غطت جهالة بعض الرواة، وعددت طرق ورود بعض الأحاديث، فحكم الشيخ عليها بالحسن. وهو بحث دقيق ومتشعب عند المحدثين، كما ظهر من النقول المذكورة آنفا.

الوقفة السابعة: أود تكريس الوقفة الخاتمة لمناقشة مسألة كثيرة الأهمية لطلاب العلم، تتلخص في السؤال: (كيف نتعامل مع خلاف العلماء؟). ولعل هذه الخاتمة تكون بوجه ما، ملخصا لكثير مما سبق.

أقول في البداية الاختلاف في القول أو الرأي أو العمل ليس مقصورا على علماء الدين، فقهاءً كانوا أم محدثين. فأهل الطب يختلفون، وأهل الهندسة يختلفون، وأصحاب المهن والحرف كذلك، وما من اختلاف في أي علم أو فن إلا له ما يسوغه، إذا استبعدنا قضايا الأهواء والمماحكات، لأنّه يستند إلى معطيات موضوعية تخالف تلك التي لدى الآخر.

وقد تكلمنا في المقدمة عن اختلاف الفقهاء وكيفية التعامل معه، بتفصيل وتأصيل. وأود الآن، أن أضع خطوات للتعامل مع الخلاف العلمي الشرعي، بشكل عام:

1. البداية أن ينطلق المسلم من قول ربنا تبارك وتعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). فالله يُعلمنا أنّ الأمة تنقسم إلى فريقين: فريقٍ (لا يعلمون)، وفريقٍ هم (أهل الذكر)، وقد أوجب الله على الفريق الأول أن يسألوا أهل الفريق الثاني، عما يجهلون من أمر دينهم. وفي الوقت نفسه أوجب على الفريق الثاني (أهل الذكر) أن يبذلوا وقتهم وعلمهم وأنفسهم لصالح العلم والتعليم، ولعلَّ الأَدَقَّ أن أقول: لصالح التصفية والتربية.

2. إنّ الآية أمرت بسؤال (أهل الذكر)، وليس أهل العلم. والفارق كبير جدا. فمن معاني الذكر في كتاب الله، الوحي الذي يشمل القرآن والسنة الصحيحة. وهذان هما أصل دين الإسلام. وإذا سُئلنا ما معنى أهل العلم؟ فتعني كل صاحب علم؛ فعالمُ نحوٍ، وعالمُ فضاءٍ، وعالم فيزياءٍ .. وقد يكون عالما محسوبا في علمه على علماء الدين، لكن لا ينفع سؤاله! وكيف ذلك؟ لو كان المسؤول عالما متخصصا في أحد المذاهب الإسلامية، ولا يفتي إلا به، فهل ينفع سؤاله؟ أو متخصصا في التصوف، أو في عقيدة الأشاعرة وغير ذلك .. فليس هؤلاء الذين أُمر الذين لا يعلمون بسؤالهم، إنّما هم أهل الذكر، أهل الوحيين حصراً. ومن عجبٍ أنّ أكثر العلماء، في الماضي، وأهل الحاضر تبعٌ لهم، لم يجزموا أنّ كلمة (الذِّكْرَ) التي جاءت في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) تعني الوحي المنزل بشقيه؛ الكتابِ و السنةِ. وهي مسألة ليست بالبسيطة، لأنّ أعداء الدين، استغلوا غياب تلك الحقيقة المركزية، من كلام العلماء، الذين كانوا يؤكدون أنّ الحفظ في الآية يشمل القرآن الكريم وحده. فوظف المغرضون تلك (الغفلة)، محتجين بمن سبقهم، ليؤكدوا أنّ السنة ليست محفوظة، وهي بالتالي، ليست وحياً منزلاً! وليس منهج القرآنيين الباطل بخافٍ، وناهيكم، بخطورة هذا الانحراف، وما يتداعى عنه.

وما أروع ذلك الكلام المؤصل والرصين الذي تكرر في أكثر من موقع ومناسبة، في فتاوى الشيخ ابن تيمية رحمه الله يقول في (الجزء العاشر، الصفحة 451): ({وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ اللَّذَانِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ(ويضيف كاتب السطور آية أخرى على ما جاء به ابن تيمية { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ})، وَذلك هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، قُيِّضَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَصَارَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ بِحَسَبِ مَا تَابَعَهُ. وَإِنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلرَّحْمَنِ تَارَةً وَلِلشَّيْطَانِ أُخْرَى كَانَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَوِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الرَّحْمَنَ، وَكَانَ فِيهِ مِنْ عَدَاوَةِ اللَّهِ وَالنِّفَاقِ، بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الشَّيْطَانَ. كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ {الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ ” قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ. وَقَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ – و ” الْأَغْلَفُ ” الَّذِي يُلَفُّ عَلَيْهِ غِلَافٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ} – وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ. وَقَلْبٌ فِيهِ مَادَّتَانِ: مَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلْإِيمَانِ وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلنِّفَاقِ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ}. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا فِي “مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد” مَرْفُوعًا
). انتهى النقل عن ابن تيمية. وقد قال الشيخ الألباني عن كلام حذيفة رضي الله عنه: (هو صحيح موقوفا وضعيف مرفوعا).
ولنا أن نقول إنّ له حكم الرفع، لما فيه من غيب، ومسائلَ لا تقبل القول بالرأي.

والخلاصة التي نخرج بها من هذه الوقفة، والتي استشهدنا لها، بالنقل من الفتاوى لابن تيمية، أنّ كلمة (الذِّكْرَ) لها عدة معانٍ، وأبرزها وهو ما نريد تأكيده، أنّها تعني (الوحي المنزل)، على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويتضمن القرآن والسنة.

3. إذا اختلف أهل الذكر في فتاواهم، وهذا ممكن في ما يُسَوَّغُ فيه الاختلاف، فما العمل؟ إذا كان السائل ممن له اطلاع على الأدلة ويُحسن النظر فيها، اختار صاحب الدليل الذي يراه الأقوى، والأقرب للأدلة الصحيحة، وبالتالي للصواب. وإن لم يكن بذاك، قدم من العلماء من له سمعة وشهرة أكثر عند الناس. وله أن يستفتي قلبه للحديث (استفت قلبك {نفسك} وإن أفتاك المفتون)، وفي رواية: (…وإن أفتاك الناس وأفتوك). مع شرط أساسي أن يكون القلب المستفتى مؤمناً خالياً من الهوى.

4. أما الاختلاف بين المحدثين، فالتعامل معه أدق وأصعب. وقَلَّ من الناس من يستطيع ذلك، أو يُحسنه.

ولا بد هنا من تفويض الأمر إلى أهل الشأن، لأنّ الأمر هنا، كما أسلفنا أعقد وأصعب من سابقه وهو اختلاف الفقهاء. وله من النكت الخفية في أصوله، ما يخفى على من لم يمض شطر عمره بل جله في هذا العلم الشريف .. ويقول الشيخ الألباني رحمه الله، في شريط له: (وهنا نصل إلى نتيجة، ّ كون حديثٍ ما ضعيفاً بسبب أنّ إسنادُه ضعيفٌ، أو حسناً أو صحيحاً، عند البعض، بسبب أنّهم تتبعوا طرقه، فهذه قضية نسبية، ولذلك فلا ينبغي لطالب العلم أن يشكل عليه، أمرُ اختلاف المحدثين القدامى، فضلا عن المشتغلين بالحديث اليوم، وأن هذا يحسن وهذا يضعف، لأن هذه القضية لها أسبابٌ توجب الاختلاف، أكثر من الأسباب التي توجب الاختلاف بين الفقهاء في الأحكام الشرعية. لأنّ الحكم الواحد، قد يكون مرجعه إلى نصٍ واحدٍ من الكتاب أو السنة، ومع ذلك تختلف الآراء والاجتهادات.

أما الاختلاف في تصحيح الحديث أو تضعيفه، فهو أشكل بكثير من الاختلاف الفقهي، لأنّ مرجعه إلى ما ذكرت آنفا، إلى أنّ بعضهم وقف في نقده للحديث على إسناد واحد فضعف الحديث. والآخر وقف لهذا الحديث على أسانيد أخرى فحكم بمجموعها على تحسين الحديث.

وقد قلت لكم، بالأمس القريب، على ما أظن، إنّ علماء الحديث قد نصوا في المصطلح، أنّ طالب العلم إذا رأى حديثا بإسناد ضعيف، فلا يصح له أن يقول هذا حديث ضعيف، وإنّما يعبر عن واقعه بأنّ يقول إسناده ضعيف. وهذا من دقتهم في نقدهم وفي اختلافهم، لأنّ ثمةَ فرقاً واضحاً جداً بين أن يقول القائل هذا حديث ضعيف، لأنّه يعطي حكمه حول الحديث، وبين أن يقول إسناده ضعيف لأنّه يقتصر في حكمه على الإسناد. وهذا الحكم لا ينافي قول من قد يقول حديثٌ إسنادُه حسنٌ أو إسناده صحيحٌ، لأنّه لا يعني الإسنادَ الذي ضعفه الأول. والأولى والأحرى إذا قال هذا حديثٌ حسنٌ أو حديثٌ صحيحٌ، فلا ينافي قول من قال إسناده ضعيفٌ، لأنّه يعني إنّه حسنٌ أو صحيحٌ بمجموع طرقه).

ولعلي قصدت أن تكون الخاتمة كلاماً لمحدث العصر، بشهادة العدول الثقات من العلماء المعاصرين له. وقد أبطل بكلامه المؤصل، عبَثَ العابثين، وتَطاول المُتطاولين، وتَخبُّط الجاهلين، وتشويش المشوشين..!

إنّ هذا العلم الشريف، علم الحديث، لا يقبل مبتدئاً يغريه الظهور فينشُر..! ولا متحاملاً يدفعه الغيظ فيَفْجُر..! ولا مُشَوِّشاً غايته التضليل فيَمْكُر..! هو تنافسٌ لخدمة الوحي، ونَصَبٌ لإحقاق الحق..! أهله العاملون العالمون المخلصون الناصحون، وحسبهم من قال فيهم:

يا سادة عندهم للمصطفى نسب
أهل الحديث هم أهل الرسول فإن

رفقا بمن عندهم للمصطفى حسب
لم يصحبوا نفسَه أنفاسه صحبوا

وما زال علماء المسلمين، وعلماء الحديث فيهم، يَعرفون لكلٍ قَدْرَه، ويُنْزلون الناس منازلهم، ولا يُسَوّون السَّنام مع الغارب، فيميزون بذلك الخبيث من الطيب .. وتسلمُ الساحة لأهل العلم والحق، وتستبينُ سبيلُ الأدعياء والمرجفين.

وفي النفسِ حاجةٌ تغلبني نفسي على البوح بها، لتكون نصحاً وتحذيراً لمن يَعِي، وسُخْريةً وزجراً لمن لا يَرْعَوي. والله يشهد أنّي لا أميل إلى الخصومة، والملاحاة، والنيل من عِرْض مسلم، ما كان يَلزَمُ الجادَّةَ ويَجُّبً الغيبةَ عن نفسه. أما من وضع نفسه موضع تهمة، فتَعالمَ وتَطاولَ وأساء، فقد أمْكَنَ من نفسِه، وسوَّغ ردَّ لَبْسِه، ولمثل هؤلاء، أستعيرُ أبياتاً للأديب مصطفى صادق الرافعي، وجهها لطه حسين، حين نشر الأخيرُ كتابه {في الأدب الجاهلي}، وقد أبعد فيه النجعة فقال: إنّ الشعر الجاهلي منحول..! فوجه له الرافعي، في بعض الصحف، هذه الأبيات، وهي في كتابه {تحت راية القرآن}، يقول:

إسْفِنْجَةٌ جاءتْ لِشُرْبِ البَحْرِ
و[الشيخُ طَهَ] في انتِقادِ الشِّعرِ

وشَمْعَةٌ ضاءتْ لِشمْسِ الظُّهرِ
ثلاثــةٌ مُضْحِــكَةٌ لَعَـــمْـــــري..!

والحمد لله رب العالمين…