Skip to main content

دِفَاعٌ عَنِ الأَلبَانِي

By الأحد 11 جمادى الأولى 1439هـ 28-1-2018ممحرم 21, 1441دراسات

مضى الألباني رحمه الله، وخلّف لأجيال المسلمين من بعده تراثا، نسأل الله أن يجعله في موازينه يوم لا ينفع مال ولا بنون .. وقد أمضى ثلاثة أرباع قرن من عمره يخدم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الوحي الثاني، يوم وجدها في غربة، لأنّ المسلمين وأكثر مشائخهم الذين اجتاحتهم دعوات الفرق الناكبة عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي) يعيشون غرباء عن السنة الصحيحة، وقد حلت البدع، وأقوال الرجال مكانها، في مناهجهم. فألزم الشيخ نفسه في بداياته المبكرة ببرنامج لتحركه أسماه (تقريب السنة بين يدي الأمة)، وجاهد النفس والوقت والناس حق الجهاد لِما ووجِهَ به من تربُّصٍ ومحاربة، شأنه شأن المصلحين قبله.

وما سيرته وحياته رحمه الله، إلا تكرارٌ لسيرة ابن تيمية من قبله، رحمهما الله وأثابهما وكل من تبعهما على المنهج الحق، ودعا بما دعوا به مما يرضي الله، ويوافق هدي النبي عليه السلام .. ومات رحمه الله وما حاد عن برنامجه الذي ألزم به نفسه، وما تخلى عنه ليشتغل بسواه، فوفقه الله وأنجز فيه إنجازا كبيرا، وقد قال أحد العلماء: (وقدَّم مكتبة للإسلام تعجز الدول ومؤسساتها عن تقديم هذا القدر، وكل من يكتب في الحديث الآن عالة على هذا الرجل).

ويقول المثل العربي (لا يسلم المرء من ضد ولو عاش في رأس جبل). وها هي، في الآونة الأخيرة، تتوالى الكتابات في وسائل التواصل الاجتماعي، تنال من الشيخ الألباني رحمه الله. ولدى قراءتها تفاجئك ركاكة الأسلوب، وجهلٌ مطبقٌ في علم الحديث ومصطلحه. ما يخرج تسويد تلك الصفحات عن كونها نقداً علمياً رصيناً، إلى محض أهواء وأحقاد وافتراءات. وكأنّ ذلك يصدر عن قوم اجتمعوا له وتواصوا به، ولاحول ولا قوة إلا بالله.

ولقد شهد للشيخ الألباني، من معاصريه الكبراءُ؛ من مثل الشيخ ابن باز رحمه الله، فقال عنه: (ما رأيتُ تحت أديم السماء عالماً بالحديث في العصر الحديث مثل العلاَّمة محمد ناصر الدّين الألباني). وحين سُئل الشيخ ابن باز عن حديث رسول الله: (إنَّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمَّة على رأس كلّ مائة سنة مَن يُجدّد لها دينها). مَن هو مُجدّدُ هذا القرن؟ فقال رحمه الله: (الشيخ محمد ناصر الدين الألباني هو مُجدّدُ هذا العصر في ظنّي والله أعلم).

وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز رحمه الله جوابا عن سؤال عن أشخاص يتكلمون في أحد العلماء العاملين لنصرة هذا الدين، ألا وهو: محمد ناصر الدين الألباني، ويتهمونه بأنّه إنسان لا عِلم له، ظهر لكي يحدث البلبلة في أوساط الناس، ويقولون: إنّ الناس تموت في سوريا وفي أفغانستان وهو لا يزال يهتم بالصحيح والضعيف. فما كلمتكم عن هذا الأستاذ؟ فأجابت اللجنة بما يلي:

(الرجل معروف لدينا بالعلم والفضل وتعظيم السنة وخدمتها، وتأييد مذهب أهل السنة والجماعة في التحذير من التعصب والتقليد الأعمى، وكُتبه مفيدة، ولكنّه كغيره من العلماء ليس بمعصوم؛ يخطئ ويصيب، ونرجو له في إصابته أجرين وفي خطئه أجر الاجتهاد، كما ثبت عن النبي أنّه قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم واجتهد فأخطأ فله أجر واحد). ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم وإياه للثبات على الحق والعافية من مضلات الفتن).

أما الشيخ العثيمين رحمه الله فقد قال عن الشيخ الألباني: (الرجل طويل الباع، واسع الاطلاع، قوي الإقناع، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك سوى قول الله ورسوله، ونسأل الله تعالى أن يكثر من أمثاله في الأمة الإسلامية).

وقال أيضا: (فضيلة محدث الشام الشيخ الفاضل: محمد بن ناصر الدين الألباني، فالذي عرفته عن الشيخ من خلال اجتماعي به، وهو قليل، أنّه حريص جدا على العمل بالسنة، ومحاربة البدعة سواء كانت في العقيدة أم في العمل. أما من خلال قراءتي لمؤلفاته فقد عرفت عنه ذلك، وأنّه ذو علم جمّ في الحديث رواية ودراية، وأنّ الله تعالى قد نفع فيما كتبه كثيرا من الناس من حيث العلم ومن حيث المنهاج والاتجاه إلى علم الحديث، وهو ثمرة كبيرة للمسلمين، ولله الحمد).

وقال في موضع آخر: (الألباني رجل من أهل السنة رحمه الله مدافع عنها، إمام في الحديث، لا نعلم أن أحدا يباريه في عصرنا).

وقال أحد العلماء الذي يعرف الألباني عن قرب: (…وظلم هذا الرجل وما عرف حقه العرب، رجلٌ ينقله الله من قلب أوروبا ويحطه في المكتبة الظاهرية، أحسن مكتبة في الشرق، ويعكف فيها ستين سنة ويقدِّم هذه الجهود العظيمة، فماذا لقي منَّا؟).

والأستاذ الدكتور أمين المصري رحمه الله رئيس قسم الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية سابقًا، كان من أقرب الناس إلى الشيخ الألباني وأعرفهم به. وقد قال: (مِن نكد الدنيا أن يُختار أمثالنا من حملة الدكتوراة لتدريس مادة الحديث في الجامعة، وهناك من هو أولى بذلك منا مما لا نصلح أن نكون من تلامذته في هذا العلم، لكنّها النُّظم والتقاليد).

وبعد كلمات الأكابر تلك، هل يُنظر إلى الأصاغر و(الزعانف)، الذين يصدرون في ما يقولون إما عن الجهل والهوى والتقليد، وإما عن الحقد والحسد والتفنيد .. فمن يصغي لأولئك أو يلقي لهم بالا..؟ ولله در الشاعر العباسي ابن المعتز القائل:

إصبر على حسد الحسود
فالنار تأكل بعضها

فإن صبرك قاتله
إن لم تجد ما تأكله

وإلى الكلام العلمي:

ولا أريد أن أطيل الكلام، بل سأحدد نفسي بالموضوعات التي تلقي إضاءات على المسائل التي خاض فيها أعداء الحق، أعداء الألباني بغير هدى ولا كتاب مبين، فضللوا الناس. فكتابتي ليست ردا على من لا يستحق الرد، وإنّما لوضع الأمر العلمي في نصابه، وانتصارا للحق، وقمعا للباطل وأهله، ممن لا يزالون يندسون بين الصفوف، ينفثون الكذب والبهتان، ويستغرب كل مسلم، لمصلحة من يعمل هؤلاء..؟!

وإذن لا بد أن يكون هناك دخول في بعض موضوعات هذا العلم الذي تواضع عليه علماء كبار، حتى استوى على سوقه، وصار في تراث المسلمين مفخرةً شهد بها ولها حتى الأعداء، إنّه علم الحديث، وتوأمُه علم الرجال .. ليصير الناس على بينة، ولا يكون الأمر غمة، فيحصحص الحق، ويُكبَت أهل الحقد، فينقلبوا خائبين .. وفي الموضوع مسائل:

أولاً: هل يُضعِّف الألباني بعض أحاديث الصحيحين؟

نعم، وكثير من أشرطة الشيخ الألباني رحمه الله،
يُطرح فيها عليه هذا السؤال ويجيب بنعم، ثم يوضح ذلك. وتجنبا للإطالة سأحاول أن اختصر وجهة نظر الشيخ والتي تكررت في أكثر من شريط .

وأول ما يبدأ به، في كل مرة، قوله أنّه ليس أول من يفعل هذا بل سبقه في القديم محدثون وعلماء كبار، ولم يُنكر عليهم أحد، بالرغم من هيبة الصحيحين. ومنهم: الدارقطني، ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والإمام ابن حجر العسقلانى صاحب كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري .. ويبين الشيخ أنّ البخاري ومسلم، على جلال قدريهما، وتلقي الأمة لصحيحيهما بالقبول، فإنّهما في نظر كل علماء المسلمين والمحدثين لا يعدوان أن يكونا بشرا، وليسا معصومين، وقد توبعا من عدة علماء في مسائل معدودة، لم يحالفهم فيها الصواب. وحينما يرد عليهما العلماء، يردون بثوابت الدين، وقواعد علم الحديث، التي هي أكبر من الأشخاص. ولنمثل لذلك:

في صحيح البخاري، وكذلك صحيح مسلم، حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: (تزوج رسول الله ميمونة وهو محرم). وقد صح عن ميمونة رضي الله عنه، نفسها من أكثر من طريق، قولها: (تزوجنى رسول الله وهو حلال). فماذا يفعل الباحث فى هذه الحالة؟ حالة تعارض بين نصين صحيحين..! لا بد من الترجيح.

وإذا دققنا في الأحاديث من أجل الترجيح،
وجدنا أنّ الروايات عن ميمونة نفسها لم يتفرد بها راوٍ واحد، فيصير الحديث غريبا عند علماء الحديث، ولو كان راويه ثقة. إنّما جاء الحديث عن ميمونة نفسها من عدة طرق، فلم يكن غريبا.
أما حديث ابن عباس فهو حديث غريب، إذ لم يروه عن رسول الله إلا ابن عباس.
فرجح العلماء رواية (الحلال) بملاحظة أشياء أخرى، إضافة لما ذكر من كون حديث ابن عباس غريبا.
ومما لاحظوه أنّ كل من روى حديث ميمونه رواه عنها بالنفس، وهي تروي بنفسها، وهي أدرى بحالها من ابن عباس الذي روى عنها.
ولما تعارضت الروايتان قدمت رواية ميمونة، واعتبر حديث ابن عباس، وفق ما يقتضيه علم المصطلح، حديثا شاذا، وهو ما خالف فيه الثقة الثقات، أو من هو أثبت منه،
والشاذ من أقسام الضعيف، مع أنّ سنده صحيح ورجاله ثقات، لكن أُعلَّ بالشذوذ ..
ومن العلماء من لاحظ مرجحا آخر، وهو صغر سن ابن عباس، فهو عرضة للوهم، أما ميمونة فكبيرة السن.

وزيادة في الإيضاح نذكر قصة مشابهة في صحيح مسلم، وهي من تفريغ شريط للشيخ الألباني: (الحديث الشّاذ هو كما قلنا آنفا ما خالف فيه الثّقة من هو أوثق منه أو أكثر عددا مثاله الحديث المتّفق عليه بين الشّيخين من حديث ابن عبّاس رضي الله عنه قال (يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب وجوههم كالقمر ليلة البدر) في قصّة لا نطيل الآن الكلام بذكرها قال عليه السّلام (هم الّذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيّرون وعلى ربّهم يتوكّلون فقام رجل اسمه عكّاشة أو عكاشة قال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منه قال أنت منهم، فقام آخر فقال قولة الأوّل فقال سبقك بها عكّاشة أو عكاشة) هكذا الحديث جاء في الصّحيحين وفي غيرهما بالسّند الواحد، ومدار هذا الإسناد على عبد الرّحمن بن أبي حصين أظنّه عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس وعن عبد الرّحمن بن أبي حصين يرويه هشيم الواسطي مصرّحا بالتّحديث كلّ الطّرق إلى هشيم تروي الحديث كما ذكرنا في صحيح مسلم وفي البخاريّ. لكن في صحيح مسلم تفرّد برواية أخرى، عن شيخه سعيد بن منصور صاحب السّنن الّذي طبع منه جزءان، سعيد بن منصور روى عن هشيم بنفس السّند الحديث بتمامه لكنّه قال (هم الّذين لا
يرقون ولا يسترقون) فزاد في الحديث لفظة لا يرقون فقال شيخ الإسلام في فتاويه “هذا الحديث بهذا اللّفظ ضعيف” ولم يقف لبيان علّته والعلّة هي تفرّد سعيد بن منصور بهذه اللّفظة دون كلّ الثّقات الّذين رووه عن هشيم بن بشير الواسطيّ فكانت زيادته هذه شاذّة. اسمها عند علماء الحديث زيادة شاذّة لأنّه شذّ عن رواية الجماعة في الحديث الواحد فكانت الزّيادة ضعيفة كما صرّح شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله، هذا هو الحديث الشّاذ
).

ويكرر الشيخ الألباني دائما العبارة الآتية: (…لكن الحقيقة إنّ مثل هذه الروايات التي ثبت خطؤها، لا تخدش مقام الصحيحين، ولا يزالان في المرتبة التي يعرفها أهل العلم، وهي أنّهما أصح كتابين على وجه الأرض، بعد كتاب الله عز وجل. لكن الأمر كما قال الإمام الشافعي رحمه الله {أبى الله أن يتم إلا كتابه}).

ثانياً: كيف يُصحح الألباني ويُضعف أحاديث في كتب السنن. كالترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم، ويخالف حكم الأوائل؟

ولا بد من القول ابتداء، إنّ فهم هذه المسألة يحتاج خلفية جيدة في علم الحديث. وللأسف فإنّ كل الذين يثيرون هذه القضية، للنيل من الشيخ الألباني، ما كانوا ليفعلوا ذلك لو علموا..! وما فعلوه إلا لاجتماع الجهل بعلم الحديث، والحقد على الشيخ عندهم..!

وللمنصفين أقول: إذا علمنا بمَ تميز الصحيحان (البخاري ومسلم) عن سائر كتب الحديث، يكون ذلك مفتاحا لفهم المسألة التي بين أيدينا. ولا بد من مقدمة:

تروي الكتب عن يحيى بن معين قال: (إذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ).
وفي قواميس اللغة:
القَمْش: جمع الشيء من ههنا وههنا، وكذلك التَقْمِيش.

ولقد صارت عبارة يحي بن معين دستور المحدثين والعلماء، في التحصيل والأداء: إذا كتبت فقمش أي اكتب كل ما تسمع واجمعه، وإذا حدثت ففتش أي ميّز وانتخب .. ومن وصية ابن معين للمحدثين: (اكْتُبِ الْحَدِيثَ خَمْسِينَ مَرَّةً، فَإِنَّ لَهُ آفَاتٍ كَثِيرَةً). ومن هو يحي بن معين؟ أكتفي بثلاثة تعريفات له: إمام أهل الحديث فى زمانه والمشار إليه من بين أقرانه،علم الأمة وإمام الجرح والتعديل، كان إماما ربانيا، عالما، حافظا، ثبتا، متقنا.

ومن تلك المقدمة أنطلق فأقول إنّ صاحبي الصحيحين عملا بتوجيه شيخهما ابن معين، كانا يجمعان الروايات، وبعد الجمع يبدءان بنخلها (دراستها ومقارنتها بدقة) ليُخرجوا الروايات التي يثبتونها في الصحيحين، لذلك غلبت على الصحيحين صفة صحة معظم ما فيهما من أحاديث، إلا نزرا يسيرا. وقد تلقتهما الأمة بالقبول.

ويؤكد ذلك أن نعرف أنّ البخاري رحمه الله ترك بعده كتابا اسمه (الأدب المفرد)، ليس كل ما فيه صحيح. فقام الشيخ الألباني جزاه الله كل خير، بدراسة أسانيده وأخرجه في مجلدين (صحيح الأدب المفرد) و (ضعيف الأدب المفرد). ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ أحاديث الأدب المفرد لم تكن على شرط البخاري لأنّ فيها الضعيف، لكنّه رحمه الله، قمَّشها (جمعها) ليفتشها (يدرسها) في ما بعد، إلا أنّ المنية عاجلته.

وأصحاب كتب السنن، على جلالة أقدارهم، إلا أنّهم لم يكونوا كصاحبي الصحيحين في العلم والدقة والحرص. فكانت أسانيد كتبهم تقبل المراجعة إذ لم تَحْظَ بدقة الدراسة كالصحيحين، فجاءت وفيها الصحيح والحسن والضعيف، والموضوع بنسبة قليلة جدا، وهذا يكاد يكون عليه اجماع العلماء.

ولعل أصحاب السنن قد عَوَّلوا على قاعدة عند المحدثين: (من أسند فقد بريء من العهدة)، فمن أعطاك الحديث بإسناده كاملا، فقد حمَّلك مسؤولية العمل به، وبرئت ذمته في ذلك. أي من بيان صلاحية الحديث للعمل وللاحتجاج، لأنّه ترك ذلك للقاريء .. وقد أبرأ أصحاب السنن ذممهم، وخدموا السنة بنشر كتبهم، وذكر الأحاديث فيها، بالأسانيد التامة، وقد لا يذكرون الحكم على الحديث، أو درجته أحيانا.

ورحم الله الشيخ الألباني فقد ذكر في السلسلة الضعيفة قاعدة جليلة، في معرض رده على من دافع عن سكوت الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن بيان درجة حديث ضعيف ساقه في بعض ما كتب دون السند، والمسألة طويلة. وقد تعقبه الألباني من أجل ذلك، وحرر السطور الآتية، ولكنّي حذفت بدايتها اختصارا، لأنّها لا صلة لها في ما نحن بصدده. يقول الشيخ في السلسلة الضعيفة: (…وهو يعني بذلك أنّ سكوت هؤلاء الأجلاء قدوة حسنة للشيخ محمد ابن عبد الوهاب في سكوته عن الحديث!

وليس يخفى على كل ناشئ في هذا العلم أنّ هذا من أبطل الباطل. لأنّ لازِمَه أنّ أئمة الحديث كأصحاب السنن والمسانيد وغيرها إذا ساقوا الأحاديث بأسانيدهم ساكتين عنها أنّه لا علة فيها! فهل يقول بهذا من رزقه الله ذرة من العلم، أو الخشية من الله “أَمْ عَلى قُلوبٍ أقْفالُها”؟

وأهل العلم يعلمون أنّ المحدِّثين إذا ساقوا الأحاديث بأسانيدها فقد برئت ذمتهم، ورُفعت المسؤولية عنهم، ولو كان فيها أحاديث ضعيفة؛ بل موضوعة، وليس كذلك من ساق الحديث دون إسناده، فعليه أن يبين حاله مقابل حذفه لِإسناده، وبخاصة إذا ساقه محتجاً به، ولو ذكر من أخرجه كما يفعل بعض الفقهاء المتأخرين، فأين هذا من صنيع المحدثين؛ الناصحين للأمة بروايتهم الأحاديث بأسانيدها التي تكشف عن مراتبها؟!).

وبناء على ما تقدم فإنّ المكتب العلمي لمجلس التعاون لدول الخليج، أراد في بداية تأسيسه، منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة القيام بمشروع إعادة دراسة كتب السنن وإعطاء درجة الأحاديث للتسهيل على الباحثين. فكلف الشيخ الألباني بذلك، ثم خرجت بكتابين لكل كتاب من السنن الأربعة، واحد للصحيح وآخر للضعيف. فأثرت مكتبة الحديث أيما إثراء، ويَسَّرت على الباحثين أيما تيسير .. قلت ذلك ليُعلم أنّ دراسة الشيخ الألباني لكتب الحديث، ليس أمرا مزاجيا، بل عمل علمي دقيق وشاق، ولا يتقنه إلا النزر اليسير من جهابذة العلماء، وقد رحب بالإنجاز كثير من العلماء وطلبة العلم، فرحم الله الشيخ الألباني، وأجزل له المثوبة، وهل يرعوي من جعلوا همهم إسقاط الرجل..؟!

ثالثاً: هل يُقبل من الألباني، وهو معاصر، أن يحكم على أحاديث في كتب بينه وبين مصنفيها قرون؟

مرة أخرى أقول: إنّ المعرفة بعلم الحديث ومصطلحه هي التي تجيب عن تلك التساؤلات، وتحل الإشكالات عند أصحابها، إن كانوا يريدون العلم والحق. أما جاهلٌ حاقدٌ مفترٍ، فليس لعلته في ما نقول دواء..!

ومرة أخرى أقول: أقول للمنصفين: إنّ العنصر الرئيس في الحكم على الأسانيد يرتبط بشيئين: أسماء الرواة، ومعرفة أحوالهم، والحكم عليهم من كتب الرجال .. وكل ذلك مدون ومحفوظ في كتب يعرفها أهل الفن، من مثل: تهذيب الكمال للمزي، تهذيب التهذيب لابن حجر، تقريب التهذيب لابن حجر، ميزان الاعتدال للذهبي، ولسان الميزان للذهبي، وغيرها .. ثم مراعاة وتطبيق
قواعد علم الحديث وعلم المصطلح.

أما الأمر الأول، وهو العنصر الرئيس، وما يخص الرواة وأحوالهم في كتب الرجال فإنّه علم جليل عظيم، أدهش العقول المعاصرة، أن يكون ذلك العلم والفهم والفكر المستنير موجودا، قبل ما يزيد عن عشرة قرون. وعلم الرجال وما يتصل به خاص بزمان تدوينه، لأنّه سجلٌ لأعيانٍ ووقائع حاصلة في ذلك الزمن، الذي بدأ فيه علم الحديث وعلم الرجال، وتدوينهما. ولا يستطيع أحد، ولا يُقبل من أحد، في الأزمنة اللاحقة أن يضيف شيئا، أو يحذف شيئا من تلك الكتب، لأنّ ما فيها من علوم مستمد من واقع مضى. فهل يستطيع الألباني أو غيره، بل هل يقبل منهم أن يعدلوا أو يغيروا، أو ينقصوا أو يزيدوا في الحكم على راوٍ من رواة الحديث؟ لا، لأنّ ما في كتب الرجال شهادات لهم أو عليهم من معاصريهم وأهل زمانهم. ثم طويت تلك الصحف، على ما فيها، فليس لمن جاء بعد تلك الأعصر إلا العمل بتلك الشهادات دون أي تدخل في تلك الشهادات.

لكن المشتغل بالحديث من المعاصرين يستطيع أن يستدرك على كتب الأقدمين في تطبيق قواعد علم الحديث، وعلم المصطلح إن فات ذلك المتقدمين. فللمتأخر من أهل الفن أن يُعِلَّ بعض الروايات في كتب الأقدمين بالشذوذ والإرسال والانقطاع، وعنعنة مدلس لم يصرح بالسماع، ورد جرح غير مفسر في أحد الرواة، وغير ذلك والشرح في ذلك يطول. وليس لنا هنا أن نقول: (ما ترك المتقدم شيئا للمتأخر) فللمتأخر مجال للاستدراك على المتقدم في أمور دون أمور، وفق ما بُيِّن.

رابعاً: كيف يُمكن للمتأخر أن يصحح ما ضعف المتقدم؟

يمكن ذلك من خلال تصحيح خطأ وقع فيه المتقدم، في دراسة سند رواية، لنكتة غابت عنه، والتفصيل والتمثيل لذلك يطول. لكنّ المسألة الأعم في ذلك، هي تصحيح أو تحسين الرواية الضعيفة بما يُصطلح عليه في علم مصطلح الحديث بالاعتبار. وهو البحث عن روايات متابعة وشاهدة للرواية الضعيفة، فترفعها إلى الحسن أو الصحة. وللاعتبار حالان:

1. المتابع: وهو الحديث الذي يشارك فيه رواته رواة الحديث الفرد لفظا ومعنى، أو معنى فقط، مع الاتحاد في الصحابي.

2. الشاهد: هو الحديث الذي يشارك فيه رواته رواة الحديث الفرد لفظا ومعنى، أو معنى فقط، مع الاختلاف في الصحابي.

وتسمى عملية الاعتبار لتحسين أو تصحيح الحديث الضعيف، عن طريق المتابعات والشواهد، أيضا، بتصيح الحديث بتعدد طرقه أو رواياته. فيحدث أن لا يكون لحديث فرد تحت نظر المتقدم روايات أخرى تعضده فيتقوى بها. لكنّ المتأخر، الذي يكون أكثر اطلاعا لكثرة المصادر بين يديه، يقف على روايات تصلح للاعتبار فتتقوى بها رواية المتقدم الضعيفة فترتفع إلى الحسن أو حتى الصحة.

إذا القضية تتمحور حول سعة اطلاع المتأخر، لتعدد المصادر عنده. ومن هذا القبيل ما يذكره الشيخ الألباني في أكثر من كتاب وشريط ردا على من ينتقده في تحسين وتصحيح بعض الأحاديث الضعيفة، من أنّه اطلع على مخطوطات في المكتبة الظاهرية لم تر النور بعد، ولم يطَّلع عليها غيره..! وقد وقف فيها على روايات تشهد لبعض الأحاديث الضعيفة، ونراه يقول عن الحديث (صحيح بشواهده).

الموضوع طويل الذيل، وذو شعب كثيرة، لكنّني لملمته قدر الإمكان إنصافا للشيخ المفترى عليه محمد ناصر الدين الألباني، وإحقاقا للحق، وكلا الأمرين واجب شرعي، لا تبرأ الذمة بتركه .. وتبيانا للناس أنّه لا يزال في المسلمين من يتزيَّون بزي العلماء والدعاة، ويشغلون مناصب تعليمية وتوجيهية، لكن يحركهم الهوى والحقد والحسد، وإلى الله المشتكى.

(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) … (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَة)…

والحمد لله رب العالمين