Skip to main content

دِفَاعٌ عَنِ المَنْهَجِ

By الأربعاء 1 رمضان 1431هـ 11-8-2010ممحرم 21, 1441دراسات

موضوعات عدة، سبقت هذا الموضوع، ما كانت تخلو من كلام عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي) لتأكيده، وتأصيله، وبيان وجوبه الشرعي تارة، وتارة لتفصيله، وتعليمه لمن يجهله.

ولا زلنا نواجه لغطاً كثيرا، وكلاماً طويلا، يثار حول المنهج، والداعين له، سواء في مناقشات شخصية، أو في كتابات لجاهلين، أو لمتحاملين..! وفيهم من يُظن به أنّه ذو علم، ولكن على بصره غشاوة، أسدلها التعصب، أو موافقة الأكثرين، فما نفعه مع هذين الداءين ما معه من علم، ونسأل الهداية لكل شارد عن سواء السبيل.

وأبرز ما يثيرونه في لغطهم، أنّ الإسلام هو المنهج، ولا حاجة بنا إلى زيادة على كلمة الإسلام، تُفرق ولا تُوحد، ويدعمون قولهم بسؤال: (هل كان تكرار كلمة المنهج معروفا في جيل الصحابة وسلف الأمة من أهل القرون الثلاثة..؟). بل إنّ منهم من يرى أنّ التأكيد على المنهج ضرب من أشكال الحزبية المبطنة .. ويزيدون الفرية بقولهم إنّه رفض للمذاهب الأربعة، والاستعاضة عنها بمذهب خامس جديد..! ويؤكدون على فكرة عدم شرعية الدعوة إلى المنهج، لأنّه يغني عنه ما يحظى به المسلم من توجيه ومتابعة، عن طريق الانتماء إلى تنظيم معترف به، أو الانضواء تحت جناح شيخ، وقد عبر أهل التصوف عن ذلك بمقولة: (من لا شيخ له فشيخه الشيطان) و (من قلد عالما لقي الله سالما)، والأصح عندي أن تبدل (سالماً) بكلمة (ظالماً) .. وسيكون الموضوع، بتوفيق الله: دفاعاً عن مبدأ التزام المنهج، ثم تفنيداً لكل لغط أثير حوله.

والكلام في ذلك من ثلاثة أوجه:

أولاً: هل كلمة الإسلام تغني عن المنهج؟

ولا بد قبل الإجابة، من تعريف كلمة (المنهج). لو لجأنا إلى قواميس اللغة كلسان العرب لوجدنا فيها التالي: (والمِنهاجُ والمنهج الطريقُ الواضح). من هنا يتضح أنّ الإسلام شيء، والمنهج شيء .. فالإسلام دين الله الذي اختاره لعباده (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، وأما المنهج فهو الطريق الصحيح والواضح للوصول إلى دين الإسلام. وحينما يُظهر لنا الواقع أنّ المسلمين لمّا دب فيهم الافتراق، وفقاً لنبوءة نبيهم صلى الله عليه وسلم، تعددت سبلهم في الوصول إلى الدين الحق، وليست كل السبل موصلة كما قال ربنا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فالآية تقرر بوضوح ما بعده وضوح أمرين اثنين:

الأول: أنّ السبيل الموصلة واحدة، وهي سبيل الله التي أمر ربنا باتباعها.

والثاني: نهي من الله تبارك وتعالى وتحذير من اتباع أي سبيل غير سبيل الله، وأنّ العاقبة التفرق .. ويأتي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، المبين لهذه الآية ليؤكد أنّ كل السبل المفرقة الأخرى هي من صنع الشيطان ورئاسته وقيادته وريادته: عن ابن مسعود قال: (خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَالَ: (هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ) ثمَّ قَرَأَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)).

ولا ينقضي عجبي من تفسير عند ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير، أكاد أقول إنّه انفرد في تفصيلاته عن سائر المفسرين في قوله تعالى:
(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)
وإليكموه: يقول رحمه الله: (والشرعة والشريعة: الماء الكثير من نهر أو واد. يقال: شريعة الفرات. وسمّيت الديانة شريعة على التشبيه، لأنّ فيها شفاء النّفوس وطهارتَها. والمنهاج: الطريق الواسع، وهو هنا تخييل أريد به طريق القوم إلى الماء).

ووجه العجب في هذا التفسير أنّه يؤكد ما نحن في صدده من ضرورة وجود منهج يتأسس عليه التدين .. فلو انطلقنا من كلام ابن عاشور، وهو قيم ووجيه، فهمنا أنّ الإسلام هو المشبه بالماء، وأنّ المنهج هو الطريق الواضح للوصول إلى الماء لمبتغيه .. فيصبح هذا النص القرآني، على هذا التفسير، نصا في وجوب المنهج (طريق واضح) يُتوصل به إلى الإسلام الحق .. وغياب المنهج يعني عدم الوصول، أو وصولا غير سديد .. وزيادة على الوجوب الشرعي، فإنّ ضرورة المنهج تتأكد بحقيقتين هما تعدد الطرق واقعاً، وأنّ طريق الله واحدٌ ديناً.

ثــانيــاً:
من أجل دحض قول إنّ مسألة المنهج لم تكن ملحة زمن الصحابة، بل لا وجود لها أقول:

إنّ ضرورة المنهج تتأكد حين الافتراق وتعدد السبل إلى الإسلام، وهو ما حذرنا منه ربنا تبارك وتعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون). والإسلام زمن الصحابة كان غاية في الوضوح والوحدة فنبيهم بين ظهرانيهم، بشخصه وأقواله وأفعاله، وهو المرجع الدائم لكل عارض وفي كل وقت، واتباعه في كل شيء هو المنهج
الذي اكتفوا به ليوصلهم إلى الإسلام الحق، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم بكل وضوح، في مثل قوله: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي).

أما نحن الذين تفرقنا في الدين، وسلكنا السبل المتعددة والمضللة، ما الذي يرشدنا، وكيف نضع أنفسنا على الطريق الصحيح إلى الله وإلى الإسلام الحق؟

ليست المسألة إشكالا نطرحه على عقولنا لتجد الحل، ولا معضلة ننتظر أهل الفهم ليجتهدوا فيها، إنّ الحل جاهز، وإنّ المسألة أبسط بكثير، على من استسلم لنصوص الوحيين واسترشد بها. وهو ما ناقشناه في موضوع (البحث عن الذات) .. وقد رأينا أنّ المسلم الذي يريد الله والدار الآخرة يصل من خلال النصوص إلى أنّ المنهج الوحيد الموصل إلى الله، وإلى تطبيق الإسلام الصحيح الذي لا يقبل الله غيره هو منهج (ما عليه أنا وأصحابي).

وكما قلت، أكثر من مرة: إنّ هذا المنهج هو هدية نبينا لنا للخلاص والنجاة زمن الفرقة والتعددية
المضيعة للحق .. ومن هنا نستخلص نتيجة حتمية وأساسية وشرعية: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أرشدنا إلى المنهج الحق، وهو الطريق الواضح الصحيح إلى الإسلام الذي يريده الله منا فهماً وتطبيقاً .. ونستطيع بكل ثقة أن نقول: إنّ هذا هوالمنهج الحق للتدين الحق، وأنّه من تعليم نبينا لنا وليس من اجتهاد عقولنا. ونستطيع أيضا بكل ثقة أن نجزم أنّ غياب المنهج الحق هو غياب للدين الحق، وللتدين الحق، وأنّ وجود منهج، وهو منهج (ما أنا عليه وأصحابي) بالتحديد، إرث نبوي يقتضيه الاتباع وليس لنا ولا لغيرنا في ذلك خيار .. ومن جهة أخرى تسقط بهذا الطرح مقولات (كالحديث عن بدعية المنهج، وهل كان زمن الصحابة، وما يتصل بذلك كما بينت آنفا).

ثالثاً: ومن أجل فهم المنهج حق الفهم، واستيعاب
ضرورته من أجل الوصول إلى الإسلام الحق الذي لم تعبث به يد التأويل والتبديل والتحريف، لا بد من أن يُعرف
أنّ المنهج مجموعة من الثوابت الشرعية المستقاة من الوحيين، والقواعد التي استقرأها العلماء من الكتاب والسنة، تشكل الطريق الصحيح والواضح لمقاربة الإسلام تمهيدا لتطبيقه على النفس، وفي شؤون الحياة كلها، ليخلص بها المسلم إلى إسلام (ما أنا عليه وأصحابي) .. وبناء على اختلاف الناس حول هذه الثوابت والقواعد التي تشكل المنهج، نشأت الفرق التي حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام .. وسأذكر بعض هذه الثوابت والقواعد للتمثيل وليس للحصر فبالتمثيل تزداد الفكرة وضوحا:

* الأصل في كل نص أن يؤخذ على ظاهره، ولا يلجأ إلى معنى مؤول أو مجازي إلا إذا تعذر الأخذ بالظاهر، ولقرينة شرعية تحتم ذلك .. ولمرة واحدة سأذكر لكم القاعدة المقابلة لدى الفرق الأخرى ليتبين الاختلاف الكبير الذي يسببه اختلاف المنهج .. يقول الشاردون عن المنهج على لسان الصاوي في تفسير الجلالين: (ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة، والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر، لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر).

* إذا تعارض العقل والنقل فالحكم للنقل.

*
(مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا ، فَهْوَ رَدٌّ).

* (إنّ شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). ومن ذلك فليس في الإسلام بدعة حسنة.

* الحديث الضعيف لا يُحتج به حتى في فضائل الأعمال لأنّ في الصحيح غنية.

* إذا توفرت للحديث صفة الصحة كان حجة في الدين، حتى في العقائد، متواترا كان أم آحادا.

* الكثرة غير محكمة في الدين، بل هي مذمومة في كتاب الله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) .. والحكم لمن عنده الدليل من الوحيين. وبذلك تسقط سلطة الجمهور التي تتحدث عنها كتب الفقه.

* قول ابن مسعود: (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).

* إنّ الحقّ واحد لا يتعدد.

* سنة النبي صلى الله عليه وسلم فعلية وتركية، ويكون اتباعه في الاثنتين.

* القاعدة المأثورة عن الأئمة: (إذا صح الحديث فهو مذهبي).

* قاعدة الإمام مالك رحمه الله: (كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر).

ومن هذه القاعدة العظيمة نقول: إنّ تخطئة الكبار من العلماء ولو كانوا من الصحابة بنصوص الوحيين، بغض النظر عن الفاعل، أمر واجب لسلامة الدين، ومراجعة التراث، وهو من باب النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وليس تطاولاً على أحد ولا انتقاصاً من أحد .. وترك ذلك تَستُّراً بالتأدب مع الكبار، وحفظا لأقدارهم، هو في الحقيقة هروب من إحقاق الحق ونصرته، وتملص من عملية الإصلاح.

* أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم عدول ثقات، مع اختلاف أقدارهم، وبالتالي فإنّ رواياتهم يجب قبولها بلا استثناء. وبالرغم من عدالتهم، لا نثبت لأحد منهم العصمة. ونطبق القاعدة: (نحن متعبدون بما روى الصحابي لا بما رأى أو فعل أو اجتهد).

* لا اجتهاد في مورد النص.

* كل مجتهد مأجور، وليس كل مجتهد مصيبا.

مرة أخرى، هي نماذج وليست كل القواعد، وهي التي ذكرت أنّها أساس في تشكيل المنهج وضوابطه، نراها مبثوثة في كل الكتب التي تدور في فلك الوحيين. وليُعلم أنّ المنهج ليس مجموعا بين دفتي كتاب، يتلقفه المسلم في بداية تدينه فيدرسه ويحفظه، إنّما هو علم يتلقاه وهو يدرس العقيدة والفقه والحديث والتفسير.

رابـــعاً: بالمنهج تتحقق فائدتان عظيمتان لا تتحققان دونه، ولا بغيره:

أما الأولى فهي ضبط تدين الفرد على الإسلام الحق الذي لا يقبل الله سواه. ولا بد من اليقين من أنّ الإسلام لا يقبل تعدد الوجوه بل إنّ له وجهاً واحداً هو الذي أنزله الله به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إليه البشر إلى قيام الساعة .. ولا زالت هذه الفكرة المؤصلة شرعياً، والتي ليس لعقل بشري تدخل في صنعها وصياغتها، عصية على نفوس وعقول كثير من المسلمين، لأنّ التفرق الذي أطلنا فيه الكلام في المرات الماضية، أوجد الفرق المتباينة في فهمها وتطبيقها للإسلام بعيدا عن إسلام (ما أنا عليه وأصحابي)، وصار لكل طريق ومنهج، ونشأت العصبية التي تدعو إلى أن تتمسك كل فرقة بالذي هي عليه. وحينما يُنادَوْن بنداء نصوص الوحيين، إما يردونها بدعوى عدم الصحة، وإما يفسدونها بالتأويل الذي يطوعها لأهوائهم. وهذا هو حال أمة الإسلام الذي مازالت عليه عشرات القرون.

وأما الفائدة الثانية وهي لصيقة الصلة بالأولى، بل هي متداخلة معها. إنّها وحدة الأمة التي لا يمكن أن تتوحد إلا
بتوحيد مصدر التلقي لأفرادها، وهو ما ندندن حوله في حديثنا عن المنهج وضرورته.

وما تسمع اليوم خطيبا ولا داعية ولا متحدثا إلا يُعرب عن قلقه الكبير وحزنه العميق من تفرق الأمة وتشتتها وذهاب ريحها، وتراهم يطرحون الطروحات التي تفوق الحصر في عددها ويضعون الخطط للتوحيد، ولا تسمع من واحد طرح مشروع (توحيد مصدر التلقي) وهو الحل الوحيد، وأؤكد عن ثقة ودراية أنّه الوحيد، وأن لا حل سواه.

ولمّا غاب طرح الحل الناجع نرى الأمة تزداد فرقة يوما بعد يوم. ولو سألنا لماذا؟ فالجواب أنّ من يؤمن بأنّ الاختلاف رحمة، وأنّه قدر الأمة، لا يدعو إلى توحيد مصدر التلقي، ففاقد الشيء لا يعطيه .. والأعجب والأنكى أنّ عقلاء الأمة بدل تذويب الخلاف والحث على التزام المنهج الذي يزيل الخلاف، راحوا يشغلون أنفسهم بتنظير فلسفة الاختلاف، وبوضع آداب للاختلاف، وتعليم الناس تلك الفلسفة وذاك الأدب .. وأعلق بجملة واحدة فأقول كأنّنا بذلك نعلم السارقين آداب السرقة، والزناة آداب الزنا، فالزنا والسرقة محرمان لا آداب لهما، وكذلك الاختلاف في الدين حرام ولا أدب له. وأعتذر إن كان في الكلام بعض القسوة.

قد يقول قائل وهل توحيد المسلمين أمر سهل؟ أقول: نعم، إن كان توحيدهم عن طريق توحيد مصدر التلقي على منهج (ما أنا عليه وأصحابي). لأنّ توحيدهم عن هذا الطريق معجزة ربانية وليس جهدا ومقدرة بشرية .. واقرؤوا إن شئتم قول ربكم: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

ومع وضوح معنى الآية، أقول: كما أنّ النصر وشرح صدور المؤمنين لتأييد النبي، مصدره الله وحده، فإنّ توحيدهم وتأليف قلوبهم منه وحده، لاستحالة ذلك على أي جهد بشري ولو كان من محمد صلى الله عليه وسلم.

العرب أمة قبائل متحاربة متخاصمة متفاخرة تقوم بينهم الحرب الضروس لسنوات من أجل أتفه الأسباب .. فأي قوة تستطيع توحيدهم، وشاعرهم يصف حال تشتتهم وتناحرهم قائلا:

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
ولا نلومكمو أنْ لا تحبونا

مَهْلاً بني عمّنا مهلاً موالينا
اللَّه يعلم أنّا لا نحبكمو

فلم يتوحد العرب بوشائج الأنساب، ولا دعوات وحكمة ذوي الألباب، إنّما بقدرة الملك الوهاب، وبالوحيين اللذين نزل معهما فصل الخطاب .. ولنقرأ قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

فالذي وحد العرب بالأمس لا زال حياً قادراً على توحيدهم اليوم .. وأنّ المنهج الذي جمعهم بالأمس، لا زال بين أيديهم، ولا زال فيه السر الذي جمعهم بالأمس. لكن أين القلوب التي تعي، وأين النفوس التي تسير في الطريق الصحيح..؟

خامساً: مع تركيزنا الشديد على أمر المنهج، وهو حق إن شاء الله، لا بد من أن نؤكد أنّ صاحب المنهج ليس معصوما من الخطأ، ونعني الخطأ ضمن دائرة المنهج .. فالمنهج يضمن السير على الطريق الصحيح الموصل إلى الهدف الصحيح. أما الخطأ في بعض الممارسات، والسلوكيات فيقع بها السائرون على المنهج .. ونمثل للإيضاح فأقول: إنّ صاحب المنهج كالسائر على الطريق الواضح الصحيح، وكونه على الطريق الواضح الصحيح لا يمنع من أن يرتكب مخالفات مرورية، لا تخرجه عن الطريق ولا تضله عن الهدف لكنّه يؤاخذ عنها .. فالخطأ في إطار المنهج ممكن ما دمنا لا نقر لأحد بعصمة، والخطأ قرين العمل .. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) .. والصواب، في غياب المنهج، غير مأجور ولا ينفع صاحبه، لأنّ الذي جاء به الصدفة وليست النية في الوصول إلى الحق. أشبه بالساعة المعطلة التي تصدق مرتين.

اتهامات ظالمة…

لقد اتهم الناس على اختلاف أطيافهم أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) باتهامات ظالمة باطلة دفع إليها الهوى والعصبية والتحامل. ورأيت من المناسب جدا أن أُبين الحق في ذلك (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

من أبرز هذه التهم الباطلة:

1. التحامل على الأئمة الأربعة، والتنقص من قدرهم، وإغفال دورهم في الدين.

2. رفض فكرة التمذهب كليا واعتبارها إحداثا في الدين.

3. زعم من زعم أنّ أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي) أحدثوا مذهبا خامسا، ويأمرون الناس بترك الأربعة والتزامه.

وها هو التفنيد بكل شفافية بعيدا عن أي عصبية أو انحياز. ولأنّ البنود الثلاثة متداخلة وتتفرع عن أصل واحد سيكون الرد في نص واحد:

إنّ الأئمة الأربعة رحمهم الله شأنهم شأن غيرهم ممن لم تلمع أسماؤهم، لأسباب لها بحثها المستقل، كالأوزاعي والليث وزفر وسفيان وغيرهم، أقل ما يليق بهم من وصف أنّهم أئمة الهدى بامتياز، وأنّ لهم في الإسلام سابقة ويدا لا يمكن لمسلم عاقل أن يجحدها .. ومن ظن بهم أنّهم وجدوا النص الصحيح بين أيديهم ثم رغبوا عن الأخذ به تعمدا، فقد أعظم عليهم الفرية، واحتمل عند الله بهتانا .. ولقد قدموا للمسلمين إرثاً علمياً لا يُستغنى عنه .. ولما كانوا بشرا غير معصومين فيجري عليهم الخطأ والوهم والنسيان، وتطبق في حقهم قاعدة أحدهم وهو مالك التي تطبق في حق من هم أكبر منهم وهم الصحابة: (كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر).

ولو أصابوا في كل شيء لما اختلفوا وكانوا مذهبا واحدا .. إذن لو تعارض قولهم مع ما هو أعظم وأثبت كهدي محمد صلى الله عليه وسلم، تُرِكَ، ولا شك، ولا خيار، للأثبت والأعظم.

ويجب أن يُعلم بأنّ واحداً منهم لم يخطر بباله أن يشكل مذهبا، ويأمر الناس باتباعه. بل كانوا يتصدرون للفتيا، ولإرشاد الناس في دينهم حسب ما بلغهم من العلم. وقد جمع أتباعهم من بعدهم أقوالهم، وكانت فكرة المذاهب الأربعة، التي لم يكن لهم فيها رأي ولا فعل، بل ولا استحسان .. وتأملوا قول أبي حنيفة لأبي يوسف يوم رآه يكتب عنه: (ويلك لا تكتب عني كل ما تسمع فإنّي بشر أرى الرأي اليوم ثم أرجع عنه غدا، وأرى الرأي غدا وأرجع عنه بعد غد).

ومُهم جداً أن يُعلم أنّ كل الإرث العلمي الذي تركه الأئمة من بعدهم هو فهمهم البشري للوحيين، ولا يجوز أن يكون البديل عنهما، إذ لا تبرؤ به الذمة، فالحساب عند الله، يوم العرض عليه، قائم على تطبيق ما جاء به الوحي لا غير، عملا بقوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ). وهم بوصلات يتوصل بها إلى فهم الوحيين وليست الوحيين .. وهم، رحمهم الله، في كل ما صدر عنهم بين الأجر والأجرين كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)، أما اتباعهم في كل شيء، دون عرضه على الوحيين،لا ينجي، ولا تبرؤ به الذمة .. إذن يستهدى بهم في ما وافق ما جاء في الوحيين.

وهُم أهل لأن يعتذر عنهم في كل ما لم يصيبوا الحق فيه، ولهم في ذلك بدل العذر أعذار، ولم ينصف الأئمة أحد كما أنصفهم ابن تيمية رحمه في رسالته الشهيرة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ولا أظنها إلا عملاً فريداً غير مسبوق، فلتقرأ .. وخير ما يحمد لأولئك الأخيار تلك العبارت التى صدرت عنهم ليحتاطوا لأنفسهم حتى بعد موتهم، وهذي بعضٌ منها .. ولولا خشية الإطالة لذكرتها كلها لنفاستها:

الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة؛ كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار). ويقول: (من رد حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهو على شفا هَلَكة). ويقول: (لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا).

الإمام الشافعي رحمه الله: (كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند أهل النقل بخلاف ما قلت؛ فأنا راجع عنها في حياتي، وبعد موتي). ويقول: (إذا رأيتموني أقول قولاً، وقد صحَّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافُه؛ فاعلموا أن عقلي قد ذهب). ويقول: (أجمع المسلمون على أنّ من استبان له سنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لم يَحِلَّ له أن يَدَعَهَا لقول أحد).

ويقول: (ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزُبُ عنه، فمهما قلتُ من قول، أو أصّلت من أصل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قولي).

الإمام مالك بن أنس رحمه الله: (قال ابن وهب: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خفَّ الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدلُك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: إنّ هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته بعد ذلك يُسأل، فيأمر بتخليل الأصابع). يقول رحمه الله: (إنّما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه).

الإمام أبو حَنِيفة رحمه الله: (إذا صح الحديث فهو مذهبي). ويقول: (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه. وفي رواية: حرام على مَن لم يعرف دليلي أن يُفتي بكلامي).

وعليه؛ فإنّ من تمسك بكل ما ثبت في السنة، ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مبايناً لمذهبهم، ولا خارجاً عن طريقتهم؛ بل هو متبع لهم جميعاً، ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.

ما أروعها من كلمات، وما أعظمها من قواعد تلك التي تكلم بها الأئمة رحمهم الله. يا ليت كل مسلم يقرؤها ويعيها .. بل يا ليت كل متعصب للأئمة يفقه عنهم ما قالوا، إذاً لأنصفناهم ولأنصفنا أنفسنا من بعضنا، وتلاشت كثير من مشكلاتنا الدينية.

أما أمر التمذهب فهل المسلم مأمور بأن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة..؟ يأتينا الجواب العجيب في منظومة جوهرة التوحيد:

كذا حكى القوم بلفظ يفهم

وواجب تقليد حبر منهم

واتخذ البعض هذا القول دينا، وشنعوا على كل من لا يعمل به .. وما أسهل إسقاط هذا القول بأن نسأل المعتقدين الداعين إليه ذلك من الذي أوجب
ذلك؟ آلله تبارك وتعالى، أم نبيه صلى الله عليه وسلم..؟ وهما فقط لهما سلطة الإيجاب والأمر، وما أظن أهل هذا القول يكابرون ويقولون الله ورسوله أوجبا، فتسقط المقولة برمتها .. ولو قلنا إنّ ترك التمذهب بواحد من الأربعة ضلال وضياع في الدين، ثار في النفس فورا السؤال الآتي: ما بال من سبق المذاهب وأهلها، وعمن أخذوا دينهم؟ فإن كان الجواب أنّهم على خير، وأخذوا دينهم عن القرون الثلاثة المشهود لها، قلنا يسع الأمة كلها إلى قيام الساعة ما وسعهم..! وأما إن قيل لم يكن دينهم بذاك. نقول ليس لعلة قائل هذا القول من علاج، ونعوذ بالله من الجهل وأهله.

والعلماء يقولون إنّ الناس ثلاثة أقسام:

1. مجتهد: يُحسن دراسة الأدلة ويعرف الصحيح والضعيف من الأحاديث ويستطيع استنباط الأحكام من أدلتها وهم قلة في الأمة.

2. مُتبع: وهو من يأخذ بقول الغير مع النظر في أدلته، ويقارن بين الأقوال من حيث قوة الأدلة، ومثل هذا يستطيع أن يُغلب قول مذهب على مذهب، ويتبع الأقوى وهؤلاء أكثر جماهير الأمة.

3. مُقلد: وهو المغرق في عاميته وجهله، فلا يسعه إلا تقليد عالم أو مذهب يرشده الناس إليه لغلبة الظن في صلاحه وهذه الفئة قلة كالأولى.

وقد قسم الله تبارك وتعالى الناس في قوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) إلى عالمين يجلسون لمسائل الناس وإرشادهم وهذا واجب عليهم، وإلى غير عالمين يجب عليهم سؤال العلماء، وإن لم يفعلوا كانوا آثمين، وبذلك يصلح أمر الناس العلمي.

أما قصة المذهب الخامس فافتراء ما بعده افتراء، وإنّ أمر الناس بالعودة إلى أدلة الوحيين وعرض كل قول حتى أقوال الأربعة على الوحيين فهذا دعوة إلى الأصل، وليس اختراع مذهب خامس وإلزام الناس به. وهل الأصل في دين الإسلام إلا الوحيان الكتاب والسنة، واتباع الوحيين هو المذهب الأوحد وهو الأصل .. ولنقرأ مرة أخرى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) … والحمد لله رب العالمين