Skip to main content

زَمَنُ التَّخَطُّفِ…!

By الجمعة 24 شوال 1437هـ 29-7-2016ممحرم 21, 1441دراسات

استوقفتني أثناء التلاوة هذه الآية الكريمة: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).

والذي أعملت فيه النظر والفكر تعبير (يُتَخَطَّفُ النَّاسُ)، وكيف يُتخطف الناس؟ وما الذي يتخطفهم؟ واستذكرت ما في معاجم اللغة عن الخطف من مثل ما جاء في اللسان: (استِلاب الشَّيْءِ وأَخْذه بسُرعَة) عن أوصاف الخطف .. ووجدتني مسكوناً بمعنى (التخطف) وإدامة الوقفة معه، وما أدري السبب .. ثم بدأت ترتسم في مخيلتي معالم صورة، وحين تابعت الآية وتأملت خطابه تبارك وتعالى لأهل مكة، يَمُنُّ فيه عليهم أنّه أمَّنَهم في حرم آمن، في حين يرون العرب من حولهم يُتَخَطَّفون، بالغزو والقتل والسلب والنهب .. تداعت الصورة كاملة إلى مخيلتي في الحال، صورةٌ مقابلةٌ للحرم الآمن في مكة، والتخطف من حوله، وسرعان ما تجسدت الفكرة، وتكاملت الصورة؛ أليس الإسلام حرماً آمناً يلوذ به المسلمون ديانةً ورعايةً وحمايةً، في حين يتخبط أهل الأرض وتتخطفهم أفكارهم ومنازعهم الطينية، حتى ينحطون في بعض عوائدهم
وأعرافهم، إلى ما يقارب البهيمية..؟

وعلى الطرف الآخر ففي (زَمَنُ التَّخَطُّفِ) نرى بعض المسلمين يتخطفهم واقع من لا دين لهم، وقد صار عندنا في زمن العولمة، ونُمْطَر به من فوق رؤوسنا من فضاء العولمة .. فلم يعد بُعد المسافات تحصيناً من انتقال العدوى .. فلا بد من التحصين الذاتي.

وحقيقة أنّ الواقع المعاصر، أسهم إسهاماً كبيراً، في تسهيل وتعجيل تخطف المسلمين بتفلتهم من دينهم تأثراً بالواقع العالمي، لا بُد من التسليم بها .. وحينما يسود واقعٌ تكثر فيه الصوارف، وتتحكم فيه الأهواء، وينتفش فيه الباطل، ويغترب الحق، ويضعف الوازع، وتغدو النفس البشرية نهبة بين ذلك كله، تكون حالة (تخطف الناس) في عصرٍ وواقعٍ مشؤومٍ بانفلاته وانحرافاته، ومن هنا ولدت فكرة (زمن التخطف) .. فلا يُفهم أنّ الموضوع سيتناول أساليب العصر في خطف بعض المسلمين من دينهم، لا، فلا فائدة ترجى من الكلام في مشكلة لا يملك المصلحون مفاتيح حلها..! إنّما المفيد الكلام في ما نملك مفاتحه. وما الذي يتخطف بعض المسلمين إلا منازعهم وأهواؤهم ومصالحهم التي قد تميل بهم عن الحق والصواب، والتي لا يمكن ضبطها ولا تهذيبها ولا إلغاؤها أحياناً، إلا بضوابط الدين وتعاليمه، والتزام أحكامه التزاماً جاداً يُحدثه في النفس الاستحضار الدائم لقوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).

إذن مهمتنا التذكير والتحذير والبيان (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) .. وبناء على ما يسمونه (توارد الخواطر)، عرض لي مشهد، مستقر في الذاكرة، وهو مثلٌ ضربه النبي عليه السلام، وكثيراً ما أُحدث به، يلتقي بوجه ما مع فكرة التخطف أثبته دعماً للفكرة، يقول عليه السلام: (مَثَلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِى فِى النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِى وَمَثَلُكُمْ أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ فَتَغْلِبُونِى تَقَحَّمُونَ فِيهَا).

إنّه تخطف من بين يدي نبي رؤوفٍ رحيمٍ بأمته، كما وصفه ربه، يحرص أن يُبعد الناس عن النار، وما قَرَّب إليها من قول أو عمل، وهم يُصرون على التقحم فيها .. فالصورتان متقاربتان!

للتخطف معانٍ لا يخطئها نظر أو فهم، إنّ الإنسان في عصرنا الحاضر الذي عَنَّ لي أن أسميه (زَمَنُ التَّخَطُّفِ)، يُختطف من كل شيء؛ من دينه، خلقه، عقله، مُثله، تربيته، اتزانه، أهله، مجتمعه وماله ووو… ثم أضيفوا ما شئتم من أشكال الخطف..! ولا تنسوا وصف السرعة، والخفة، والخفية التي ترافق الخطف والناس غافلون، سامدون .. وبما أنّ عصرنا عصر السرعة في كل شيء، والخطف من ذلك .. وقبل الاسترسال في الحديث أريد التأكيد عل نقطة، وهي أنّ (الخطف) الذي هو محور الموضوع، مادي ومعنوي فلا يغيب عن البال أحدهما.

والموضوع لا يهم أبداً الإنسان الذي وجد نفسه، وكل مبتغاه في هذا العصر الذميم، فهو متصالح معه، بل أسير له، وهو وما اختار..! يبقى الحديث تذكيراً وتحذيراً، وبياناً لكل من يرجو الله والدار الآخرة، ويريد أن يعيش في هذه الدنيا عيش السعداء، مهما كانت صروف الحياة معه، عملاً بالحديث الصحيح: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ). رواه مسلم

إذن فالموضوع ضُيِّق عمومُه، ليتعاطى مع المسلمين في ما يخص (خطف الدين) .. وبأسلوب آخر أقول: إنّ ظاهر التدين موجود عند أكثر المسلمين، وإنّ حقيقة التدين مفقودة عند أكثر المسلمين، وهذا هو خطف الدين، أن يبقى الدين شكلاً، ويغيب موضوعاً، ومن هنا نبدأ .. أما المظاهر الذي يتجلى فيها خطف الدين، فهذه بعضها، نستعرض ألواناً وأشكالاً منها:

* إخراج النفس من الخلل…

الأصل في كل مسلم أن يعتبر أنّ كل خطاب شرعي في الكتاب والسنة موجه إليه مباشرة، وعليه أن يعمل به إبراء للذمة .. فهل يجد كل مسلم، اليوم، في نفسه هذا الشعور، كما كان أسلافنا..؟

إنّ بعض المسلمين يُطِل على ما يعانيه المسلمون في مجتمعاتهم من موقع مراقب. وينتقد وينظر وهو يدعي الإصلاح، ويبقى مصراً على أنّه لا دور له في الخلل الموجود في واقع الناس .. فقد أخرج نفسه من دائرة الخلل التي يوجه لها النقد والاتهام، ويود أن يضع نفسه في كل المواقع، إلا موقع المتهم..! فينتقد ويهاجم ويتحمس، وينسى أنّه جزء من الخلل، الذي يزعم أنّه يعالجه.

وكان حقاً على كل مسلم أن يقول محدثاً نفسه؛ بل مصارحاً بها الآخرين: أنا جزء من المشكلة .. بيتي جزء من المشكلة .. تديني الناقص الذي لا يقوم على الدليل جزء من المشكلة.. عدم قرن القول بالعمل جزء من المشكلة .. عدم تحرير مسألة الاتباع في الدين جزء من المشكلة .. تجارتي وما فيها من تجاوزات شرعية جزء من المشكلة .. افتتاني بالواقع المخالف للشرع وانغماسي فيه ومسايرتي له جزء من المشكلة .. عدم استجابتي الفورية وغير المتلكئة لله ورسوله جزء من المشكلة..!

ولندقق في البون الشاسع بين ما كان عليه السلف، في اتهام أنفسهم وملاومتها، وما آل إليه حال الخلف .. نماذج من واقع السلف يحكي صورة الاستشعار الكامل للمسؤولية إلى حد أن يحس أحدهم أنّه المعني الوحيد بالنص الشرعي:

. عَنْ مِسْعَرٍ، قَالَ: أَتَى عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: (إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا} فَأَصْغِ لَهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ تُصْرَفُ عنه) .. فائدة: إذا قيل في الحديث عبد الله، فهو عبد الله بن مسعود.

. وعن أنس بن مالك قال: (لما نزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إلى قوله وأنتم لا تشعرون، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي أنا من أهل النار وجلس في أهله حزينا فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك فقال أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي وأجهر بالقول حبط عملي وأنا من أهل النار فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال فقال لا بل هو من أهل الجنة قال أنس وكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس وقد تحنط ولبس كفنه فقال بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل).

وكان في أيديهم الميزان النبوي، الذي يعاير حالهم مع الله في كل لحظة .. وهو قمة الاستجابة لإقسام الله تبارك وتعالى بالنفس اللوامة (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) .. وإدراك تام لدور ملاومة النفس في صحة التدين.

. عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: (إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَمَا الْإِثْمُ؟ قَالَ: (إِذَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ)).

. وعن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: (قرأ عمر بن الخطاب سورة مريم {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} فسجد وقال: هذا السجود، فأين البكيّ؟)، يريد: فأين البكاء.

بمثل هذا الجد في أخذ كلمات اللّه بقوة، انطلق الإسلام في الأرض…

. وعن أنس: (أن أبا طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه قرأ سورةَ براءة، فلما أتى على هذه الآية:{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} قال: أرى ربَّنا عز وجل سيستنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني أي بني، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله تعالى عنه حتى مات، ومع عمر رضي الله تعالى عنه ، فنحن نغزو عنك، فأبى فجهزوه فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرةً يدفنونه فيها إلا بعد سبعةِ أيام فلم يتغير فدفنوه فيها).

. وكذلك أسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص على تابوت صراف، وقد فضل على التابوت من سِمَنِهِ وهو يتجهز للغزو. فقيل له: (لقد عذرك الله. فقال: أتت علينا سورة البعوث {انفروا خفافا وثقالا}).

. وقال الزهري: (خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له: إنك عليل فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثَّرت السواد وحفظت المتاع).

. ولقد قال ابن أم مكتوم رضي الله عنه – واسمه عمرو – يوم أحد: (أنا رجل أعمى، فسلموا لي اللواء، فإنّه إذا انهزم حامل اللواء انهزم الجيش، وأنا ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح).

وفي بيوتهم وأخصِّ شؤونهم لا يُفوتون فرصة الامتثال والاتباع، ولا يرون في الإسلام لباً وقشراً .. وأصلاً وفرعاً ..و..و..و.. كما نرى نحن اليوم ونفلسف تهرباً من المسؤولية وتحللاً من التكليف.

عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده قال: (فوجدت عنده سهل بن حنيف قال فدعا أبو طلحة إنسانا ينزع نمطا تحته فقال له سهل لم تنزعه فقال لأن فيه تصاوير وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما قد علمت قال سهل أولم يقل إلا ما كان رقما في ثوب، فقال بلى ولكنه أطيب لنفسي).

وعن ابنٍ لابن عمر قال: (أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس، وكان أبو أيوب فيمن آذنَّا، وقد ستروا بيتي بنجاد أخضر، فأقبل أبو أيوب فدخل، فرآني قائما، واطلع فرأى البيت مستترا بنجاد أخضر، فقال: يا عبد الله! أتسترون الجدر؟ ! قال: أبي: – واستحيى – غلبنا النساء أبا أيوب! فقال: من أخشى أن تغلبنه النساء فلم أخش أن تغلبنك! ثم قال: لا أطعم لكم طعاما، ولا أدخل لكم بيتا. ثم خرج) .. فهذا أبو أيوب لم تمنعه مجاملة ابن عمر، وعدم إحراجه في الحفل من أن يقول الحق وينكر المنكر، ويقاطع الحفل، ليحيي في أذهان الناس حديث رسول الله عليه السلام: (نهى أن تستر الجدر).

وكم من الناس اليوم من يُقعده عن كل خير الانشغال في طلب الرزق، ولو دعوته لمجلس علم لاحتج بذلك .. وفاته قول نبيه: (إن روحَ القدسِ نفثَ في رُوعي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستكملَ رزقَها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاءُ الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينالُ إلا بطاعته).

ولا بد من أجل أن يَقيَ المسلم نفسه، من أن يُخطف دينه أو بعض دينه، من أن يتعاهد إصلاح قلبه ليصلح معه سائر جسده، وذلك بمعرفة أنّ القلب لا يتسع لهموم متعارضة متناقضة .. فاجتماع النقائض في قلب المسلم، بدافع إغراء العصر، والانغماس في مادياته، واللهاث وراء سفاسفه، يغلق القلب عن الاشتغال بالنافع والباقي من أمر الآخرة. يقول ابن القيم:

(لا بد في قبول المحل لما يوضع فيه، أن يفرغ من ضده. فقبولُ المحل لما يوضعُ فيه مشروطٌ بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات ، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه لاعتقادِ الحق ومحبتِهِ موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شَغلُها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها، فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغلُهُ بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره) .. وكل هذه المعاني أوجزتها الآية الكريمة: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

فلا يمكن أن تجتمع في قلبٍ محبةُ الله مع إيمان بشكل ما من أشكال الطاغوت .. ويحسن بنا تعريف (الطاغوت) للأهمية .. وأجمع تعريف ما جاء عن ابن القيم رحمه الله قال: (الطاغوت كل ما تجاوز العبد به حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرةٍ من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها، وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته). إعلام الموقعين (1/50)

* قسوة القلب…

وقسوة القلب هي من أبرز أمراض المسلمين اليوم وأعمها، وقد لا يخطر ببال بعضنا أنّ المؤمن يعتريه ذلك .. فقسوة القلب نتاج الجهل، والبعد، وبطىء الاستجابة أو عدمها. ولنقرأ قول ربنا: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ). فعن ابن مسعود قال: (مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ). رواه مسلم

وقال ابن عباس: (إنّ الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن).

إنّه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم؛ واستبطاء للإستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله .. والله وصف قلوب المؤمنين بالسلامة: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .. وبالإنابة: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) .. وباللين (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ..
فأين هذه القلوب اليوم..؟

تلك هي أصناف القلوب التي تستجيب لربها وتتفاعل مع آياته وأوامره ونواهيه .. وقد عدَّ الله تبارك وتعالى ما سوى ذلك من القلوب كحالة (اللا قلب) فقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)، وهل يوجد بشر بلا قلب..؟

* عدم الاستجابة التامة والفورية لله ورسوله…

عدم الاستجابة الكاملة والفورية لله ورسوله، والتردد والتلكؤ والتسويف في ذلك، عامل كبير من العوامل المؤدية لخطف الدين، وقد تكون نتيجة لا سبباً، ولا يغير ذلك من كونها مشكلة خطيرة .. وهي أزمة مسلمي اليوم، حيث يجدون أنفسهم بين تعاليم الدين تناديهم، وعوامل الشد إلى الوراء تقصيهم، كل ذلك بسبب فتنة العصر.

يقول ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

وروى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: (كُنْتُ أُصَلِّى فِى الْمَسْجِدِ فَدَعَانِى رَسُولُ اللَّهِ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى. فَقَالَ: (أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ)) ثُمَّ قَالَ لِى: (لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِى الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ). ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ أَلَمْ تَقُلْ: (لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِىَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِى الْقُرْآنِ). قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هِىَ السَّبْعُ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِى أُوتِيتُهُ)).

إنّ الحياة التي يدعونا إليها الله ورسوله لا شك أنّها أفضل حياة على وجه الأرض، لأنّها الحياة التي تقوم على منهج أنزل من فوق سبع سماوات .. فكيف تعلو عليها حياة صنعتها عقول أهل الأرض..؟ إنّها الحياة الطيبة، السعيدة، الجادة، الملتزمة، المعطاء، إنّها الحياة الدنيا التي لا تزول بزوال الدنيا، إنّما تتصل بالآخرة أجراً وثواباً، والآخرة خير وأبقى .. إنّها حياة على الأرض ولكن لم تُخْلِد إلى الأرض.

وبكلمات أخر نقول في تأويل الآية: إذا قام في المسلمين الأمر الشرعي، استجابة لدعوة الله ورسوله .. فلا بد أن تقوم معه كل الأمور الأخرى: السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري ووو. والمفهوم المخالف معتبر .. فإن لم نستجب فلننتظر كل ما يسوء. لأنّنا وقتها سنُترك لأرضيتنا ولعقولنا ولتدبيرنا، ويَتخلى الله عنا.

إذن إنّ أزمة المسلمين تكمن في عدم الاستجابة، أو الاستجابة الناقصة المتلكئة .. ولنعزز الفكرة بالأمثلة والنماذج.

عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال: (كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا وأنفع، قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه، ولا يكاريها بثلث ولا بربع، ولا بطعام مسمى)). والمخابرة: نوع من المعاملات الزراعية ، بين الناس ، ويقال إنها منسوبة إلى مدينة خيبر ويقال المخابرة.

كم هو نافع للمرء في دينه ودنياه، أن يتخذ لنفسه شعار الصحابة المذكور آنفا: (وطواعية الله ورسوله أنفع لنا وأنفع).

وعن عبد الله بن عباس: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِى يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: (يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِى يَدِهِ). فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ. قَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ). رواه مسلم

إنّها استجابة وزيادة على الاستجابة .. رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرم لبس خاتم الذهب، ولم يحرم الانتفاع به. لكنّ الرجل لم تعد نفسه تتبع ذاك الشيء المحرم .. والصحابة حوله يؤكدون له حِلَّ الانتفاع ويأمرونه بأخذ الخاتم ويكون الجواب: (لاَ وَاللَّهِ لاَ آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ).

عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاءٍ فنزلت التي في البقرة {يسألونك عن الخمر والميسر} الآية فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاءٍ فنزلت التي في النساء: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} فدعي عمر فقرئت عليه ثم قال: اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاءٍ فنزلت التي في المائدة {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} إلى قوله {فهل أنتم منتهون} فدعي عمر فقرئت عليه فقال انتهينا انتهينا).

وكم من معاملة ربوية استُحِلَّت، واستمرأها الناس، وصارت أصلا في التعامل بينهم، وسكت عنها العلماء، بل أيدها بعضهم، والحكم فيها صريح .. وكم من مشهد فظيع يراه الرجل في أهله (زوجة، إبنة، أخت..) يصادم الدين والأخلاق بل المروءة والغيرة، ولا يتمعر وجهه لأنّ الواقع أقر ذلك فصار عند الناس عرفاً وعادة أقوى من الشرع..؟

وكم من بدعة يرتكبها مسلم في عبادته، ويُبَصَّرُ بالدليل تلو الدليل على بطلانها، وما يزيده ذلك إلا إصراراً وعناداً .. طاعةً للكثرة من العوام، وتقليداً لأهل البدع من المشايخ، حتى رأينا اليوم البدع تكاثر السنن.

وكم من دعوة باطلة منحرفة تستهدف عقيدة المسلمين وشريعتهم غُلفت بأغلفة براقة، من العقلانية والعصرانية، وبثتها الوسائل المقروءة أو المسموعة أو المرئية بدعوى التجديد والعصرنة، وملائمة الإسلام لكل زمان ومكان .. فتلقفها بعض المسلمين مُسَوقِين لها ومُروجين بحماس واندفاع. وكـــم. وكـــم. وكـــم..؟

ما السبب المقنع في أن لا يكون الخَلَف على طريقة السلف في تطبيق الدين؟

الجواب: عدم الجدية، وكثرة الصوارف، وتعدد الأقوال، وعدم الاستجابة والإخلاد إلى الأرض .. قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) .. وكل أولئك تجعل المسلم يَذْهَلُ عن خطاب الله ورسوله له، وهذا هو اختطاف الواقع الذي يدور كل الموضوع حوله .. وإلا فما أكثر الأوامر والزوجر والمحذرات .. (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا).

* تأخير التوبة، أو عدم التفكير بها أصلاً…

ومن أمراض المسلمين في (زمن التخطف) الغفلة عن الذنب وتعويق التوبة والأوبة. جاء في الحديث الصحيح: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا أَيْ بِيَدِهِ فَذَبَّهُ عَنْهُ).

والقلب اللين لا يقبل تأخير التوبة: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً). (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

ولتسمع القلوب القاسية وأصحابها الذين يشيحون بوجوههم عند ذكر التوبة، حتى يُقبضوا على ما كانوا عليه من المعاصي .. أجل ليستمعوا إلى ما جاء في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مئة مرة).

فكم من توبة أُخِّرَت وأُجلت من أجل العَبِّ من الدنيا، والتَضَلُّع من المعصية..؟ بل كم من حج وهو الركن المؤجل أُخِّر بالعلل نفسها حتى حال الموت أو المرض دونه..؟

إنّ القلب القاسي يرى الحقائق الشرعية بعيدة جداً، ويستدني أهواءه ومطامعه (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا) .. حتى إنّ المرء ليخيل إليه وهو ينظر في حال المسلمين الذين قست قلوبهم، كأنّ ألسنة أحوالهم تقول: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) أو (سَيُغْفَرُ لَنَا) أو (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أو (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) .. ولو بُصِّروا بما هم عليه لقالوا بألسنتهم ما يخالف أحوالهم .. وكذلك، فإنّ قسوة القلب تبعد الشقة بين القول والعمل .. وكل ذلك من الخطف.

* ترك سبيل الله واتباع السبل…

ومن أسباب خطف الدين من الناس، سريان مقولة (الحق يتعدد) بين الناس، وفي أوساط المتدينين، بل وعند بعض الدعاة والعلماء، وأبلغُ ردٍّ، بل تكذيبٍ لتلك الفرية الآتي: يقول تقدست أسماؤه 🙁 وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

فالسبيل إلى الله واحدة لا تقبل التعددية، وهي مُعرفة بالإضافة إلى الله تبارك وتعالى إضافة تشريف (صِرَاطِي) .. وحين تتعدد السبل فهي المنطقة المحرمة التي نهانا ربنا عن الولوج فيها (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) إنّها بداية مفارقة سبيل الله للتشتت والضياع في سبل لا يدرى أين تنتهي .. وما هي النتيجة؟ (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) وأي خير يرجى .. وأي فلاح يؤمل .. من سير خارج سبيل الله..؟

ويأتي الحديث الصحيح ليبين معنى الآية بتمثيل يقطع كل تأويل، وما ذاك إلا لأهمية وخطورة الفكرة:

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وقال: (هذا سبيل الله) ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره وقال: (هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه) ثم قرأ: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيلي ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)).

كل سبيل غير سبيل الله، محل شك واتهام .. والداعي إليه، والسائر عليه، شيطان، كائناً من كان..! فهل يقال بعد هذا إنّ الحق يتعدد..؟ ونبي الأمة صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاة الليل أحيانا بهذا الدعاء العظيم: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).

فلمَ هذا الدعاء إن كان الله تبارك وتعالى يتعبدنا بحق متعدد .. ويقبل أن نسلك إليه طرقا متنوعة..!

إنّ المسلمين حينما يرضون الخروج عن سبيل الله تتخطفهم السبل وتتقطع بهم، وتتحكم فيهم المصالح والأهواء فتفرقهم أيدي سبأ، عندئذ لا يفكرون إلا بالتبرير والدفاع عن الواقع. يقول ابن تيمية رحمه الله:
(وأما قول القائل: كلٌ يعمل في دينه الذي يشتهي، فهي كلمة عظيمة يجب أن يُستتاب منها، وإلا عوقب، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون ما يشتهيه أو يهواه).
(الفتاوى 22/240)

وبحثنا هذا طويل الذيل، لا حدود له، وكل فكرة نبحثها تنتهي بنا إلى غيرها، مما لا يمكن تجاوزها .. فلنكتف بهذا القدر، ولعل فيه كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. لكن لا أريد الانتهاء، قبل إجابة مختصرة عن سؤال افتراضي: كيف الوقاية من تخطف العصر؟ والجواب: الاعتصام بالوحيين علماً ودعوةً وتطبيقاً، وعدم تقديم شيء عليهما، والاتباع للنبي وحده دون أي بشرٍ سواه، فلا معصوم غيره .. والتزام منهج (ما أنا عليه وأصحابي) فهو اختيار رسول الله عليه الصلاة والسلام، لمن أراد السلامة من أمته .. والحمد لله رب العالمين