Skip to main content

(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ)

By الأحد 5 رجب 1430هـ 28-6-2009ممحرم 21, 1441دراسات

العنوان كما تعلمون جميعا هو آية من سورة غافر، وهو النداء الأخير على لسان مؤمن آل فرعون لقومه بعد سلسلة نداءات يتصدرها نداء: (يَا قَوْمِ)، لم تجد عند القوم آذانا صاغية ولا قلوبا واعية .. والعنوان موحٍ بمعان عدة، وأنا لا شك أرمي إلى واحد منها فقط، وهو أنّ كل من يقرأ أو يسمع هذا النداء الأخير يستشعر فيه نبرة اليأس .. وتحميل المخاطبين مغبة ونتيجة الإعراض، والتأكيد على ندمهم ساعة لا ينفع الندم:

(وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).

وحين أتحدث عن نبرة اليأس، فإنّي لا أخفي قصدي أنّه قل من الدعاة اليوم، ممن يدعون إلى الله على بصيرة، من لم يتسلل إلى نفسه شيء من هذا اليأس، يوم يرى نفسه يصرخ في واد فلا يسمع إلا رجع الصدى، وهو يأتي المدعوين بكل آية ولا يجد في الأغلب إلا الإعراض، والتمسك بالمواقف الموروثة، وتقليد الرجال، وعدم المبالاة بنصوص الوحيين. وبالتالي فإنّ سؤالاً يطرح نفسه: هل يجوز هذا اليأس؟ وكيف نوفق بينه وبين ما جاء في سورة يوسف: (إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ

والجواب أنّ اليأس أنواع: يأس مما عند الناس، وهو ما عبر عنه حال مؤمن آل فرعون مع قومه، فقد أوصله تعامله معهم، ومعاينة ومعايشة أحوالهم مع دعوته الملحة، إلى أنّ انتفاعهم بما يسمعون ميؤوس منه، فتوعدهم بيوم يذكرون ما كان ينصحهم به، ويندمون أنّهم لم يستجيبوا ولات حين مندم.

أما اليأس المنهي عنه والذي هو من عمل وشيمة الكفار فاليأس مما عند الله، وهو يأس قاعدته سوء الظن بالله تبارك وتعالى، وشك وتشكيك بما عنده وليس عند أحد من خلقه. وهو يأس يُقعد عن العمل، ويُعطِّل السعي، ويُكَرِّس الاستسلام، ويَطرد التفاؤل والأمل. وقبل ذلك كله، فهو فشل في تطبيق التوحيد الذي هو أصل دين الإسلام .. ولدى الحديث عن اليأس يحسن ذكر آية في كتاب الله تبارك وتعالى تتحدث عن اليأس، وهي في أواخر سورة يوسف: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

واستيأس مبالغة في يئس كما يقول أهل اللغة، وإنّ يأس الرسل عليهم صلوات الله وسلامه هو من نوع اليأس مما عند الناس، وهو انتفاع من أُرسلوا إليهم بدعوتهم لهم، وليس يأساً مما عند الله.

ولا أود أن أغادر هذه الآية قبل حل إشكال فيها عند أهل التفسير وعند الصحابة قبلاً: ففي صحيح البخاري عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ: (قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) قَالَ قُلْتُ أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا قَالَتْ عَائِشَةُ كُذِّبُوا. قُلْتُ فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ قَالَتْ أَجَلْ لَعَمْرِى لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِك. فَقُلْتُ لَهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا. قُلْتُ فَمَا هَذِهِ الآيَةُ؟ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ، فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلاَءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ حَتَّى اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ).

نلاحظ أنّ عائشة رضي الله عنها تثبت قراءة التشديد (كُذِّبوا) وتؤكدها ليكون المعنى أنّ الرسل ظنوا، أي استيقنوا، أنّهم كُذِّبوا من قبل أقوامهم .. وترفض أم المؤمنين رضي الله عنها قراءة التخفيف التي تعني أنّ الرسل ظنوا أنّهم كُذِبُوا بما جاءهم عن ربهم، فيكون المعنى أنّ الرسل شككوا بصحة الوحي..!

أما ابن عباس رضي الله عنه فيثبت قراءة التخفيف (كُذِبوا) ويؤكدها، خلاف ترجيح عائشة رضي الله عنها .. وقد جاء في فتح الباري مع بعض الاختصار من الكاتب دون إخلال بالمعنى: (قَالَ اِبْن عَبَّاس: {حَتَّى إِذَا اِسْتَيْأَسَ الرُّسُل وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} خَفِيفَة، وَتَلَا {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُول وَاَلَّذِينَ مَعَهُ مَتَى نَصْر اللَّه أَلَا إِنَّ نَصْر اللَّه قَرِيب} ثُمَّ قَالَ اِبْن عَبَّاس: (كَانُوا بَشَرًا ضَعُفُوا وَأَيِسُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) وَهَذَا ظَاهِره أَنَّ اِبْن عَبَّاس كَانَ يَذْهَب إِلَى أَنَّ قَوْله مَتَى نَصْر اللَّه مَقُول الرَّسُول، وَإِلَيْهِ ذَهَب طَائِفَة. وَعَلَى ذلك فَلَيْسَ قَوْل الرَّسُول {مَتَى نَصْر اللَّه} شَكًّا بَلْ اِسْتِبْطَاءً لِلنَّصْرِ وَطَلَبًا لَهُ، وَهُوَ مِثْل قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ {اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتنِي} قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا شَكَّ أَنَّ اِبْن عَبَّاس لَا يُجِيز عَلَى الرُّسُل أَنَّهَا تُكَذِّب بِالْوَحْيِ، وَلَا يُشَكّ فِي صِدْق الْمُخْبِر، فَيُحْمَل كَلَامه عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُمَ لِطُولِ الْبَلَاء عَلَيْهِمْ وَإِبْطَاء النَّصْر وَشِدَّة اِسْتِنْجَاز مَنْ وَعَدُوهُ بِهِ تَوَهَّمُوا أَنَّ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنْ الْوَحْي كَانَ حُسْبَانًا مِنْ أَنْفُسهمْ، وَظَنُّوا عَلَيْهَا الْغَلَط فِي تَلَقِّي مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُون الَّذِي بُنِيَ لَهُ الْفِعْل أَنْفُسهمْ لَا الْآتِي بِالْوَحْيِ، وَالْمُرَاد بِالْكَذِبِ الْغَلَط لَا حَقِيقَة الْكَذِب كَمَا يَقُول الْقَائِل كَذَبَتْك نَفْسك. قُلْت: وَيُؤَيِّدهُ قِرَاءَة مُجَاهِد {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا} بِفَتْحِ أَوَّله مَعَ التَّخْفِيف أَيْ غَلِطُوا، وَيَكُون فَاعِل (وَظَنُّوا) الرُّسُل).

ونرى أنّ توجيه كل من الترجيحين من عائشة وابن عباس رضي الله عنهم، ليس فيه إشكالٌ مخلٌ، يقضي باستبعاده. ولا يخفى أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قارن الآية موضوع البحث مع آيات أخر في السياق نفسه، وآلف بينها بأسوب حسن .. هذه فائدة لا صلة لها بموضوعنا، لكنّها من مشكلات التفسير، فأحببت أن لا أتجاوزها دون تجليتها.

وأدرؤ عن نفسي، أن يرفع أحد أصبعه فيقول: كيف تخاطب المسلمين بخطاب هو للكفار، وفق ما جاء في القرآن الكريم؟ يقصد بذلك العنوان. أقول إنّ هذه مشكلة تلح علي منذ زمن وهي: هل يجوز أن يخاطَب المسلمون المائلون عن الطريق السوي بما خاطب الله به الكفار؟ إنّي أحتج بالقاعدة الأصولية: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المناسبة) فقد يكون سبب نزول الآية موقفا وقفه الكفار والمكذبين للرسول، لكنّ ألفاظ الآية تصلح في أي وقت من الأوقات لإسقاطها على حال قوم ليسوا كمن أنزلت فيهم أول مرة في تسميتهم، ولكنّهم يلتقون معهم في مواقفهم، ونتائج مواقفهم .. وأضرب مثلاً: لقد نعى الله تبارك وتعالى على الكفار في مواقع عدة في الكتاب العزيز موقفا كان السبب الأول لصدهم عن الحق الذي جاءت به الرسل، بقوله:

. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ).

. (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ).

. (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا).

. (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ).

. (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ).

. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا).

. (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).

. (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ).

واليوم كثير من المسلمين يصدهم عن الحق والاتباع (إنّا وجدنا مشايخنا، وعلماءنا، وأئمتنا، وآباءنا)، فلم لا يخاطبون بالخطاب نفسه..؟ أليس الخطأ واحدا والنتيجة واحدة..؟ وإن في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد ذلك، وهو المخاطبة بما ينطبق على الحال دون النظر إلى أصل الخطاب: (جاء عدي بن حاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قال: يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم، فقال: (بلى إنّهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم)).

وفي رواية أنّ النبي عليه السلام قال تفسيرا لهذه الآية:
(أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنّهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه).

فالنبي صلى الله عليه وسلم يعتمد تشابه الحال وتوحد المآل،
فلا تحمل عبارة: (أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) على أنّها جعل الأحبار والرهبان أربابا على الحقيقة، وإنّما طاعتهم بما يخالف شرع الله هو بمثابة جعلهم أربابا. إذاً مطابقة الحال، وتشابه الأفعال، وتوحد النتائج يجيز أي خطاب بغض النظر عمن قيل فيه الخطاب ابتداء.

ومن المنطلق نفسه لا يجوز لأحد أن يقول في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ) لا يوجد من يعبد الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة، والرد إنّ هذا مجاز عن حال محب هذه الأمور الدنيوية حبا يبعده عن الحق والإيمان والطاعة. من هنا أستجيز لنفسي وأنا مطمئن كل الاطمئنان إلى مخاطبة مسلم بما خاطب الله به الكافر إذا تطابقت الحال، وتشابهت الأفعال، واتحد المآل .. ومن هنا أتوجه إلى المسلمين اليوم قائلا: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).

وليس كلُ من يسمعني مخاطَباً بما أقول، فإنّي أحسن الظن بإخوة يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وآخرين أحسبهم من الدعاة العاملين بالمنهج النبوي الدعوي: (تَسْمَعُونَ ويُسْمَعُ مِنْكُمْ ويُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُم)، يخاطبون الناس بما سمعوه من باب التحذير والإصلاح.

ثم إنّني ألزم نفسي بقاعدة أرجو أن يُتنبَّه لها وأن تُحتذى فيما يتصل بأسلوب الدعوة. وهو أن يكون الهدف الأول تأسيس المنهج، والاستفادة من كل فرصة، لتأكيده وتفعيله وإقناع المدعووين به، فالمنهج المؤصل، يجب أن يكون نقطة البداية، وقاعدة الانطلاق في كل مشروع دعوي، والله الموفق

إذن هي مجموعة أقوال، تبريء ذمة قائلها، وتقيم الحجة على سامعها، وتؤسس منهجا وتُفعله .. فما عساي أقول لكم؟

أقــــول لكــــم: لا زلت أبديء وأعيد: أنّ الإسلام دين مادته الوحيان وطريقه الاتباع. فليعرف كل مسلم دينه، ولينظر كل مسلم على أي طريق يسير .. وأضيف أنّ حديث الافتراق أصل للدين لاسيما في هذا الزمان، وأنّه بوصلة الأمان وسفينة النجاة من ركبها نجا ومن تركها غرق .. أقول هذا في حق حديث الافتراق رغم ما نيل منه، وللأسف من دعاة ومشايخ، لكن كل كلمة تقال سلبا في هذا الحديث، يجب أن تزيد كل من يرجو الله والدار الآخرة، إصرارا، وتمسكا، وإيمانا بهذا الحديث، وعَضّاً عليه بالنواجذ. وأذكركم بالحديث، يقول الصادق المصدوق: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (الجماعة)). وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي).

وأختصر الكلام في هذا الحديث مركزا على أمور:

1. حتمية الافتراق، والواقع أعظم شاهد لمن لم يكفه قول النبي، ونعوذ بالله من حال من هذا حاله. وأستخلص أنّنا، أهل هذا الزمان، كأنّنا وحدنا المعنيون بهذا الحديث فالسلف لا يعرفون الافتراق لتمسكهم بحبل الله المتين .. ولا أتصور نجاة بغير هذا الحديث، وأعجب أشد العجب ممن أخروه من حياة المسلمين باسم المصلحة..!

2. إنّ الفرقة الناجية واحدة، كما حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن تكون تحت أي سبب أو تعليل اثنتين أو عشرين أو، أو، أو .. ومن جحد ذلك فقد عصى الله ورسوله.

3. مادام نبي الأمة صلى الله عليه وسلم وصف الفرقة الناجية، فليس لأحد أن يصف من بعده، أو أن يستدرك على وصفه، ومن فعل فهو عاص لله ورسوله عبدٌ لهواه، داعٍ للفرقة. فإسلام (ما أنا عليه وأصحابي) هو الوجه الوحيد للإسلام الذي لا يقبل الله سواه إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

أقـــول لـــكم: مقولة ابن تيمية رحمه الله: (فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : وَأَنْ يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَصْلَ فِي الدِّينِ لِشَخْصِ إلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لَقُولَ إلَّا لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ نَصَّبَ شَخْصًا كَائِنًا مَنْ كَانَ فَوَالَى وَعَادَى عَلَى مُوَافَقَتِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَهُوَ {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا).

وحين تفقد نصوص الدين قدسيتها، لكثرة ما أخرت وقدم عليها، ما لا يجوز أن يقدم، تقل أو تنعدم إيحاءاتها للقاريء .. لنُعِدْ قراءة الآية: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). أو الآية: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).

ففي الآية الأولى يعلن تبارك وتعالى براءة نبيه من الذين فرقوا دينهم، وفيها أنّ تفرق الدين يعني الانقسام والتشرذم، وهل الدين يوحد أم يفرق..؟ وفي الآية الثانية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه بإقامة الدين القيم، دين التوحيد. وهو ما فطر الله عليه كل بني آدم، وأن لا يكونوا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ويبين لهم أنّ ذاك الفعل، وهو تفريق الدين، ليس من عمل المؤمنين، وإنّما من عمل المشركين .. وسُموا كذلك لأنّهم أشركوا مع الوحي المنزل في الالتزام والطاعة ما جاءهم عن جهات أرضية، فاستحقوا وصف الشرك .. وكيف يتفرق أو يُفرق الدين..؟ قد يفاجيء الإنسان بحقيقة قرآنية وهي أنّ الذي يفرق الدين ليس الجهل وإنّما العلم ولكن أي علم..؟ إنّه العلم الرباني الذي تعبث به العقول والأهواء، وتبدل وتغير، فيغدو أداة تفريق لا توحيد.

. (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ).

. (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ).

. (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

فكيف يكون ذلك؟ أي كيف يتفرق الدين بعد أن يأتي علمه وحياً من الله، يعززه هدي الرسول عليه الصلاة والسلام؟ إنّما هو ترك الأصل العلوي السماوي للدين، واتخاذ أصول أرضية سفلية من صنع أهواء الناس وعقولهم.

تبقى في المسألة فكرة أخيرة وهي معلومة قرآنية، ففي الآيات السابقة قراءة في لفظة (فَرَّقُوا) وهي (فَارقُوا) فيكون التفرق في الدين، بترك أصوله العلوية هو في حقيقته، وبنص القرآن الكريم، مفارقة كلية للدين الذي أنزله الله، وخروج عنه ومنه.

أقــــول لــــكم: إنّ تضخيم شأن الرجال في الدين، وإعطاءهم حجما أكبر مما ينبغي يفرز إساءة عظيمة في الدين. وهي أنّ الرجال يصبحون عند بعض الناس أصلا ومصدرا للدين وليس واسطة لتعلمه .. وتتمادى المشكلة أكثر إلى حد غياب النص، لطغيان شخصية الرجال عليه عند الجهال، وهذا ما حذر منه سلف الأمة في المقولة الرائعة الشهيرة: (الحق لا يُعرف بالرجال، إعرف الحق تعرف الرجال). ولنقرأ هذه السطور لابن تيمية رحمه الله في رسالته المشهورة (الواسطة بين الخلق والحق):

(وَمَنْ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ -مِنْ مَشَايِخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ- فَمَنْ أَثْبَتَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ يُبَلِّغُونَهُمْ؛ وَيُعَلِّمُونَهُمْ؛ وَيُؤَدِّبُونَهُمْ؛ وَيَقْتَدُونَ بِهِمْ؛ فَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ. وَهَؤُلَاءِ إذَا أَجْمَعُوا فَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ؛ إذْ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيْسَ بِمَعْصُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ وَيُتْرَكُ: إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ}. وَمِنْ أَثْبَتَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ -كَالْحُجَّابِ الَّذِينَ بَيْنَ الْمَلِكِ وَرَعِيَّتِهِ- بِحَيْثُ يَكُونُونَ هُمْ يَرْفَعُونَ إلَى اللَّهِ حَوَائِجَ خَلْقِه؛ فَاَللَّهُ إنَّمَا يَهْدِي عِبَادَهُ وَيَرْزُقُهُمْ بِتَوَسُّطِهِمْ؛ فَالْخَلْقُ يَسْأَلُونَهُمْ وَهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّه؛ كَمَا أَنَّ الْوَسَائِطَ عِنْدَ الْمُلُوكِ: يَسْأَلُونَ الْمُلُوكَ الْحَوَائِجَ لِلنَّاسِ؛ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُمْ وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُمْ؛ أَدَبًا مِنْهُمْ أَنْ يُبَاشِرُوا سُؤَالَ الْمَلِكِ؛ أَوْ لِأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنْ الْوَسَائِطِ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ طَلَبِهِمْ مِنْ الْمَلِك؛ لِكَوْنِهِمْ أَقْرَبَ إلَى الْمَلِكِ مِنْ الطَّالِبِ لِلْحَوَائِجِ. فَمَنْ أَثْبَتَهُمْ وَسَائِطَ عَلَى هَذَا الْوَجْه: فَهُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ).

وإنّ نبي الأمة صلى الله عليه وسلم خشي أن يؤدي الغلو في شخصه إلى تغييب النص، أو أن يصبح أصلا في الدين وينسى الناس الوحي المنزل، فعلمه ربه أن يقول: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ)، وأن يقول: (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) .. بل إنّ في السنة وقائع عديدة يُسأل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجيب السائل فورا، ينتظر الوحي، ثم يسأل أين السائل فيعطيه الجواب. وما ذاك إلا تأكيد للآية التي نزلت في حقه عليه الصلاة والسلام: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى). وأضرب لذلك مثالاً واحداً من صحيح مسلم:

عن عَطَاءً قَالَ: (أَخْبَرَنِى صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ رضى الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ بِهَا أَثَرٌ مِنْ خَلُوقٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَحْرَمْتُ بِعُمْرَةٍ فَكَيْفَ أَفْعَلُ فَسَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتُرُهُ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ يُظِلُّهُ فَقُلْتُ لِعُمَرَ إِنِّى أُحِبُّ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ أَنْ أُدْخِلَ رَأْسِى مَعَهُ فِى الثَّوْبِ. فَلَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ خَمَّرَهُ عُمَرُ بِالثَّوْبِ فَجِئْتُهُ فَأَدْخَلْتُ رَأْسِى مَعَهُ فِى الثَّوْبِ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْهُ قَالَ: (أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا عَنِ الْعُمْرَةِ). فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: (انْزِعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ الَّذِى بِكَ وَافْعَلْ فِى عُمْرَتِكَ مَا كُنْتَ فَاعِلاً فِى حَجِّكَ)).

ومثل هذه الواقعة يسميها الأصوليون: بالوحي الحقيقي، تمييزا لها عن الوحي الحكمي الذي يوصف به كل ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان صلى الله عليه وسلم يخشى أن يصل الغلو في شخصه إلى حد الشرك والإخلال بالتوحيد، أو إلى أبعد من ذلك كما غلا النصارى في عيسى عليه السلام فألهوه .. فكان صلى الله عليه وسلم يوصي أمته بعدم الغلو في شخصه. ولنستعرض الأدلة الآتية:

. عن ابن عباس: (قَالَ رجلٌ لِلنَّبِيِّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ! قَالَ: (جَعلتَ لِلَّهِ نِدًّا؟! مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ)).

. عن مطرف قال: (قَالَ أَبِي: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ: (السَّيِّدُ اللَّهُ). فَقُلْنَا وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا. فَقَالَ: (قُولُوا قَوْلَكُمْ أَوْ بَعْضَ قَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ)).

وقد أخرج أبو داود هذا الحديث تحت ترجمة ( باب في كراهية التمادح ) .. ولا شك أنّ النبي أهل لكل مديح ولن يوفى حقه في ذلك مهما مُدِح، لكنّ موقف النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور ما كان إلا لقطع الطريق على أهل الغلو، ولو كان ذلك الغلو في شخص سيد ولد آدم.

وفي الحديث ملمح هام وخطير في أنّ الانزلاق في طرق الغلو هو من استجرار الشيطان ليفسد على الغالي أمر دينه لنقرأ ثانية: (قُولُوا قَوْلَكُمْ أَوْ بَعْضَ قَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ). إنّ الشيطان يتربص بالمؤمن، ويتدخل في شأن حب المؤمن نبيه ليفسد ذلك الحب، في إخراجه عن إطاره الشرعي الصحيح ليتحول إلى انحراف ديني. فكيف بمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم في القدر والمنزلة..؟

وفي السنة ملمح آخر يخدم الفكرة نفسها بوضوح ما بعده وضوح، فمما هو محل اتفاق بين العلماء جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وعبارة (في حياته) قيد ضروري في موضوع التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أنّه يجوز التبرك بآثاره حتى بعد موته صلى الله عليه وسلم، لكنّ المشكلة إثبات تلك الآثار، وألا يدخل في ذلك الاستغلال والتنطع .. وما من بلد إسلامي إلا ويدعي وجود أثر من آثار النبي عليه السلام، فهنا شعرة من رأسه، وهناك ضرس من أضراسه، وفي مكان ثالث سيف وهكذا .. ولما كان من الصعب إثبات ذلك على وجه التحقيق، كان ذلك القيد بلفظ (في حياته) سدا لذريعة الغلو أو الكذب.

نرجع إلى حديثنا، فإنّ الصحابة كانوا يترقبون أن يحظوا بأثر من آثاره ليتبركوا به، وقد أقرهم على ذلك، ففي البخاري: (ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ {وهو عروة بن مسعود الذي جاء يفاوض النبي عن قريش في الحديبية} جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ..).

فمع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم على تلك الأفعال وذاك الإقرار يفيد الجواز ولا شك، لكنّنا نرى لنبينا صلى الله عليه وسلم موققا آخر، نجده في الحديث الصحيح الآتي: عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه: (أَنَّ النَّبِيَّ تَوَضَّأَ يَوْمًا فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ: (مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذَا؟) قَالُوا: حَبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يحب الله وَرَسُوله أويحبه اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلْيُصَدِّقْ حَدِيثَهُ إِذَا حَدَّثَ وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا أُؤْتُمِنَ وَلِيُحْسِنَ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ)).

وحاشا أن يخطر ببال مؤمن أن يتناقض الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقفه، لكن لبعض العلماء توجيه لطيف وهو أنّ فعل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ووفود قريش المعادية للدين وللنبي وللمؤمنين حاضرون يفاوضون، كان ضروريا لتصوير حقيقة التفاف المؤمنين حول نبيهم، وتفديته بالنفس والمال والولد والوالدين. ونقل تلك الصورة للأعداء، وهذا ما قرأناه في تقرير عروة بن مسعود لقريش .. أما إذا لم يكن الموقف يقتضي ذلك، فمع جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وبقاء ذلك على الأصل، فإنّه صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى ما هو أفضل وأجدى، إلى مواقف وأعمال هي من أخلاق الإسلام، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، تعبر عن حب صاحبها لله ورسوله: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يحب الله وَرَسُوله أويحبه اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلْيُصَدِّقْ حَدِيثَهُ إِذَا حَدَّثَ وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا أُؤْتُمِنَ وَلِيُحْسِنَ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ).

أقــــول لـــــكم: في زمن صار الاختلاف في الدين ثقافة يبثها المشائخ والدعاة، ويربى عليها الأجيال، حتى صارت الدعوة إلى نبذ الاختلاف في الدين، دعوة غريبة بل متهمة. ولقد وُضِعَ من قديمٍ، والمؤامرة على الإسلام قديمة، نصوصٌ لتخدم هذه الثقافة الدخيلة والخاطئة من مثل (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) ومثل (اختلاف أمتي رحمة) وكلا النصين لا يصح. ولا يُظن أنّ القبول الكبير لدعوى الاختلاف، على أنّه من يسر الإسلام وعظمته، بسبب صحة تلك الدعاوى، بل لأنّ هوى ضعاف الدين يرحب بتلك المقولات ليجدوا من خلالها فرصة للتخفف أو للتحلل من الأحكام .. أجل في مثل هذه الأجواء السائدة بين المسلمين وبين علمائهم ودعاتهم بشكل أخص، أقول لكم ما قاله الإمام الشاطبي رحمه الله، في كتابه الشهير (الموافقات):

(الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي فُرُوعِهَا وَإِنْ كَثُرَ الْخِلَافُ، كَمَا أَنَّهَا فِي أُصُولِهَا كَذَلِكَ؛ وَلَا يَصْلُحُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أُمُورٌ:

أَحَدُهَا: أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}؛ فَنَفَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ البتة، وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى حَالٍ.

وَفِي الْقُرْآنِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي رَفْعِ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ؛ فَإِنَّهُ رَدَّ الْمُتَنَازِعِينَ إِلَى الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِيَرْتَفِعَ الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الِاخْتِلَافَ لَمْ يَكُنْ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ رَفْعُ تَنَازُعٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، وَالْبَيِّنَاتُ هِيَ الشَّرِيعَةُ، فَلَوْلَا أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي الِاخْتِلَافَ وَلَا تَقْبَلُهُ الْبَتَّةَ لَمَا قِيلَ لَهُمْ: مِنْ بَعْدِ كَذَا، وَلَكَانَ لَهُمْ فِيهَا أَبْلَغُ الْعُذْرِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَالشَّرِيعَةُ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فَبَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ عَامٌّ في جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ وَتَفَاصِيلِهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ}، وَلَا يَكُونُ حَاكِمًا بَيْنَهُمْ إِلَّا مَعَ كَوْنِهِ قَوْلًا وَاحِدًا فَصْلًا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ.

وَقَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه}، ثُمَّ ذَكَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَحَذَّرَ الْأُمَّةَ أَنْ يَأْخُذُوا بِسُنَّتِهِمْ؛ فَقَالَ: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}.

وَالْآيَاتُ فِي ذم الاختلاف والأمر بالرحوع إِلَى الشَّرِيعَةِ كَثِيرٌ كُلُّهُ، قَاطِعٌ فِي أَنَّهَا لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى مَأْخَذٍ وَاحِدٍ وَقَوْلٍ وَاحِدٍ، قَالَ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: “ذَمَّ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ وَأَمَرَ عِنْدَهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ”).

ويمضي الشاطبي رحمه الله في سوق الأدلة القوية، والحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، على أنّ شريعة الإسلام لا تقبل الخلاف لا في الأصول ولا في الفروع، لكنّي آثرت ذكر أبرز الأدلة توخيا للاختصار.

ولا بد أن نفهم من الكلام السابق أنّ الخلاف مرفوض فيما تضبطه النصوص. وأما حين تنتقل المسألة من الالتزام بالنص إلى مسرح الاجتهاد، فيكون البحث قد دخل في طور مختلف .. ولا بد من ذكر ضوابط حينما يكون الحديث عن الاجتهاد:

1. لا يجوز إعمال آلة الاجتهاد مع وجود النص الصحيح الصريح. ومن اجتهد مع وجود النص كان تاركا الوحي إلى عقله وهذا مخرج من الملة.

2. إذا تعددت الاجتهادات، فالمفاضلة بينها يعود للرأي الشخصي وليس لضابط عام، لأنّنا نكون قد خرجنا من دائرة النصوص الملزمة إلى تحكيم الأقيسة العقلية. وقد عُبر عن ذلك بالقول (ما اجتهاد بأولى من اجتهاد).

3. لا يعني جواز تعدد الاجتهادات في غياب النص القاطع أنّ كل الاجتهادات صواب..! فالقاعدة أنّ (كل مجتهد
مأجور) لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر
وليس (كل مجتهد مصيبا) كما قال بعضهم.

ومما يتمم هذا البحث إيراد القاعدة العظيمة لإمام دار الهجرة مالك: (سئل مالك عمن أخذ بحديثين مختلفين، حدثه بهما ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة؟ قال: لا والله حتى يصيب الحق، وما الحق إلا في واحد، قولان مختلفان يكونان صوابا؟ ما الحق وما الصواب إلا في واحد!).

وجاءت القاعدة نفسها بعبارة أخرى: (فنُقل عنه لما سُئل عن اختلاف الصحابة قوله: ليس إلا خطأ وصواب. وقال: قولان مختلفان لا يكونان قطُّ صواباً).

وفي التعمق في شأن الاختلاف، ومعرفة متى يجوز، ومتى يُعاب، صيانة للدين من التشويش والتحريف، وقطع للطريق على أعدائه، في حربهم عليه مستغلين وسيلتين خطيرتين وهما التبديل والتطويع
للعقل وضغط الواقع.

أقــــول لــــكم: إنّ من المقولات التي بثها دعاة الاختلاف ومصدرها علم الكلام وأهله، أنّ الاختلاف في الدين يكون في الفروع وليس في الأصول .. فكثيرا ما نسمع دعاة الاختلاف يقولون بكل تبجح نحن مختلفون في الفروع، أما الأصول فنحن عليها متفقون. وهذه كذبة لا تختلف عن سابقتها وهي أنّ الاختلاف رحمة. هؤلاء الدعاة يختلفون مع أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات، ويخالفونهم عن طريق التأويل مخالفة كبيرة في أسماء الله وصفاته، ثم يقولون إنّنا متفقون في الأصول. فهل توحيد الأسماء والصفات من الفروع التي لا يضر الاختلاف فيها..؟ إنّ تقسيم الدين إلى أصول وفروع من افتراء أهل الكلام، وهم القائلون أيضا بتعدد الحق، وهم القائلون بأنّ كل مجتهد مصيب .. مقولات غايتها تفريق الدين وتبرير الاختلاف. ولنسمع رأي ابن تيمية في رسالة (الفرقان بين الحق والباطل):

(جَعْلُ الدِّينِ “قِسْمَيْنِ” أُصُولًا وَفُرُوعًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِين. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ الَّذِي اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ يَأْثَمُ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ ظَهَرَ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَدْخَلَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ…).

ومن الافتراءات التي بثها أهل الكلام وعلماؤه، ودعاة الاختلاف في الناس حتى صارت عندهم من المسلمات في الدين، يتكلم بها من يُحسَن بهم الظن، دون تمحيص، كل ذلك من أجل تكريس الاختلاف وجعله أصلا في الدين: تقسيمُهم النصوص إلى (يقيني الثبوت، وظني الثبوت) وإلى (ظني الدلالة ويقيني الدلالة).

وأقول بكل ثقة واطمئنان: لو أنّ هذه القاعدة وُئدت في بطن الأرض، لكان الدين بخير لسلامته منها، ومن القائلين بها، ولما احتاج عاقل حصيف، في تطبيق الدين ودراسته إليها. والتفصيل في ذلك يضيق عنه مجال هذه الرسالة، ويطلب في مظانه.

أقــــول لــــكم: تراكمات من تأثير الفلسفة، وعلم الكلام، وتمحلات وتأويلات من أصحاب المدرسة العقلية، وتبريرات ونظرات من أهل الأهواء؛ يجتمع كل أولئك على مرّ القرون فتصبغ العقل المسلم بصبغة حب الكلام الكثير الذي لا طائل تحته، في المسائل التي لا تحتاج ذلك لوضوح النصوص فيها، حتى تضييع نصوص الوحيين، وفوات العمل بها، في ثنايا طول الكلام، وحشد كل الأقوال، وكلُ يذهب جُفاء، لو حُكمت النصوص. لكنَّ قصدَ من يعمل بقواعد علم الكلام تغيير دلالة النصوص والتخفف منها. ولا نستغرب هذا، فبعض كتب أصول الفقه التي تعتمد علم الكلام، تفصل في ذلك. والمؤسف أن نرى بعض العلماء متأثرين بكتب الأصول تلك ويجدون فيها بغيتهم مثل إنزالُ حُكمٍ من الوجوب إلى الندب، وتخفيف آخر من التحريم إلى الكراهة .. والخطير في الأمر أن تصل هذه المقاربات إلى منطقة القول على الله بغير علم، بقصد أو بغير قصد.

وكان من نتائج ذلك إهدار الوقت والجهد فيما لا نفع فيه ولا غناء، ولا أتحرج من القول أنّ (قبول المذهبية) أسهم بقدر كبير في هذا الجنوح عن جادة النصوص، والغاية تبرير، وتغطية تلك الثغرة المريبة وهي قبول اختلاف المذاهب، وجعله رحمة في الدين، زعموا.

ومن هنا كانت تلك المطولات في الأبحاث الفقهية، التي كان يغني عنها الوصول إلى الحق من أقصر طريق، وهو تحكيم نصوص الوحيين، وإلقاء قواعد علم الكلام بعيدا. ولقد تنبه عالم الأندلس الإمام الشاطبي رحمه الله إلى هذا المنزلق في حياة أمة الإسلام فقعد القاعدة الآتية في كتاب (الموافقات):

(كُلُّ مَسْأَلَةٍ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ؛ فَالْخَوْضُ فِيهَا خَوْضٌ فِيمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَأَعْنِي بِالْعَمَلِ: عَمَلَ الْقَلْبِ وَعَمَلَ الْجَوَارِحِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّا رَأَيْنَا الشَّارِعَ يُعرض عَمَّا لَا يُفِيدُ عَمَلًا مُكَلَّفًا بِهِ؛ فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعَمَلُ؛ إِعْرَاضًا عَمَّا قَصَدَهُ السَّائِلُ مِنَ السُّؤَالِ عَنِ الْهِلَالِ: “لِمَ يَبْدُو فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ دَقِيقًا كَالْخَيْطِ، ثُمَّ يَمْتَلِئُ حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى؟”.

ثُمَّ قَالَ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}، بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ أَنَّ الْآيَةَ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ فِي التَّمْثِيلِ إِتْيَانٌ لِلْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا، وَالْبِرُّ إِنَّمَا هُوَ التَّقْوَى، لَا الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُفِيدُ نَفْعًا فِي التَّكْلِيفِ، وَلَا تجرُّ إِلَيْهِ.

وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ سُؤَالِهِمْ عَنِ السَّاعَةِ أيَّان مُرْساها: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا}؛ أَيْ: إِنَّ السُّؤَالَ عَنْ هَذَا سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْنِي؛ إِذْ يَكْفِي مِنْ عِلْمِهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ السَّاعَةِ؛ قَالَ لِلسَّائِلِ: “مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟”؛ إِعْرَاضًا عَنْ صَرِيحِ سُؤَالِهِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِمَّا فِيهِ فَائِدَةٌ، وَلَمْ يُجبه عَمَّا سَأَلَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ سَأَلَ: مَنْ أَبِي؟ رُوي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ يَوْمًا يُعرف الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ؛ فَقَالَ: “لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ”. فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَبِي؟ قَالَ: “أَبُوكَ حُذافة”. فَنَزَلَتْ.

وَقَالَ ابنُ عبَّاس فِي سُؤَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ صِفَاتِ الْبَقَرَةِ: “لَوْ ذَبَحُوا بَقَرَةً مَا لَأَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا؛ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ”4، وهذا يبيِّن أن سؤالهم لم يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ).

وسأضرب لكم مثالاً معاصراً عن الا شتغال بما لا طائل تحته: يتسابق اليوم بعض من المشايخ وطلبة العلم إلى السفر إلى بعض البلدان الإسلامية، لينالوا إجازة في رواية كتب الحديث المشهورة كالصحيحين والسنن الأربعة، بأسانيد من الشيخ أو طالب العلم إلى صاحب الكتاب. ثم يعودون فرحين بما آتاهم الله من فضله ليعيدوا الكرة مع أتباعهم ويمنحوهم إجازة كالتي أخذوا بعد قراءة الكتاب معهم، بطريقة أستأذن أن أقول إنّها مضحكة لسرعتها والحرص على طي أكبر عدد من الصفحات في أقصر وقت، لا يبالون فهم المقروء لهم أو عليهم أم لم يفهموا..! وأسأل ماذا قدم هؤلاء للإسلام والمسلمين..؟ غير أن يقدموا أنفسهم للسذج من الناس أنّهم يحملون هذه الإجازات .. وهل صاروا بتلك الإجازات علماء في الحديث وفقهه..؟ إنّهم يجعلون هذه الجعجعة بديلا عن شرح الوحي الثاني للناس وحملهم على تطبيقه ومحاربة البدع التي فشت في غياب السنة الصحيحة، علما وتطبيقا .. ولو استعرضنا سير بعض العلماء في القديم والحديث ممن تركوا أثرا كبيرا في الحياة الدينية للأمة وكانوا بحق من المجددين. فما ضرهم أبدا، وما أضعف من أثرهم وتأثيرهم، أن لم يكونوا يحملون تلك الإجازات..؟ ولا أزيد على ما قلت.

قد قلت ما قلت ولست يائساً من نفع ما قلت مادام يقع في قلوب وعقول من يحملون همّ هذا الدين، فيُبلغون ما سمعوا للآخرين مضيفين عليه، ما قد يكون ند عن عقل وقلم قائله، فيبرؤون ذممهم ويقيمون الحجة على من سمعهم قائلين لهم (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) … والحمد لله أولا وآخرا