Skip to main content

فِقْهُ الاسْتِدْلَالِ

By السبت 16 رجب 1440هـ 23-3-2019ممحرم 21, 1441دراسات

موضوع إصلاحي هام، ما أظن أنّ المسلمين، على مر تاريخهم الطويل، لاقوا حقبة زمنية كانوا أحوجَ إلى هذا الإصلاح منهم إليه اليوم!

ولِأدفع عن نفسي اتهاما بالتناقض فيما أطرح وأقول وأفعل، أبدأ بهذا البيان: لعلّه عُرف عنّي أنّي أؤكد بل أقطع، أنّ أمة الإسلام غائبة، أو بالتعبير النبوي إنّ المسلمين (غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ) .. وهل الغياب إلا صورة من صور الغثائية؟

وكنت أردف أنّه لا ينفع عمل إصلاحي، والأمة غائبة، إلا عملاً يستهدف إحضار الأمة من غيبتها .. والموضوع الذي بين يدي الآن، ليس له من هدف إلا عودة الأمة الغائبة. وأقول إنّه في حقيقته ليس موضوعا إصلاحيا وحسب، إنّما هو أصل أصيل في تدين كل إنسان مسلم، يَحمِلُ هَمَّ الإسلام بين جنبيه، ويحرص أنْ يكون على الإسلام الصحيح ليكون مقبولاً عند الله. وهو ليس لشريحة متخصصة فقط.

وما المقصود بـ (فِقْهُ الاسْتِدْلَالِ) بعيداً عن الخوض في المصطلحات؟

أقول: إنّ الوصول إلى الحق في أمر الدين لا يكون إلا بشيئين: نصٍ صحيحٍ (ولا بُد أن يكون من الوحيين)، واستدلالٍ مؤصلٍ بذلك النص. أما الأول فليس محل جدل وخلاف بين كل الطوائف والفرق، لأنّه معلوم بالضرورة. فالإسلام أصله الوحيان فقط. وأما الثاني، فهو الذي اخْتُلِف فيه فأورث اختلاف الأمة في الدين، فأفشلها، وأذهب ريحها. وكان سبباً في ظهور الفرق.

وأقول قلما أخرج من لقاء يضم بعض مَن يحملون همّ الإسلام، أو أستمع إلى حديث ديني في الفضائيات إلا أجدني أستشعر الحاجة الماسة لطرح هذا العنوان (فقه الاستدلال)، وما ينبغي أنْ يندرج تحته، فهو في البال منذ سنوات. وليس الداعي له جهلاً يُخَيِّم بين المسلمين، بقدرِ ما هو موجاتٌ فكريةٌ اجتاحت حياة المسلمين الدينية، في وقت مبكر، ولا زالت إلى يومنا الحاضر. فأخَلَّت بموازين الحق والصواب، لدى الكثيرين، وفيهم نخب، وشوَّشَت الأمر حتى في قراءة الوحيين القراءة الصحيحة. ولا أنسى أبداً حواراً مع أخ كان ناشطا ومنظما في العمل الإسلامي، وفي تنظيم معروف، طال معه الجدل في مسألة عقدية وفقهية، وقلت: لا بُد من أن يرجع المسلمون إلى الحق، فأجابني على الفور: ومن يعرف الحق اليوم؟ وهل يغيب الحق في الإسلام عن أحد أتباعه، العاملين لنصرته، وأصلا الإسلام باقيان، بحفظ الله، إلى يوم القيامة (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض) إلا عمن شغل نفسه ومن معه بعمل لا طائل تحته..؟ لأنّه بلا منهج يُتَّبَع، ولا علمٍ به يُنتَفَع، لعدم التأصيل فيه، وبالتالي تدينٌ لا يستقيم، لأنّه ليس على الاتباع يقوم..! وستبقى هذه المشكلة، ما لم يعد الناس إلى الدين الصحيح.

ويمكن اختصار الهدف من طرح هذا الموضوع اليوم، بهذه العبارة: (أصاب الخللُ فقهَ الاستدلال، فصار التدينُ في خلل، ولا بد من التصحيح).

وحسب ما هو متبع في كتابة مثل هذه الموضوعات، من البدء بالتعاريف اللازمة، فقد عمدت إلى كتب الأصول لأحظى بأبسط تعريف لكلمة (الاستدلال). فراعني ما وقفت عليه من وجود قائمة طويلة لتعاريف متعددة، تبدأ بالبسيط جدا، وهو لأحد العلماء يقول فيه: (الاستدلال هو طلب الدليل)، وتمضي القائمة صعودا إلى تعاريف يرفضها السمع والبصر لتعقيدها، وتغليفها بالمصطلحات الفلسفية. وقد أعادتني هذه المحاولة إلى أول تجربة لي مع كتب الأصول، في بداية الطلب، فقلت في مجلس مع بعض طلبة العلم، ياليت أنَّ كتب الأصول تُختصر إلى الربع أو أقل. وكاد المعترضون بل (المسفهون)، آنئذ يصفون كلمتي بأنّها (تجديف)، لأنّ عنوان (أصول الفقه)، له في نفوس كثير من المسلمين وقعٌ أكثر من حقيقته. ولا أريد الإطالة في هذه الجزئية، حتى لا يسير الموضوع في اتجاه غير المراد له.

إنّ تلك الموجات الفكرية المتتالية، بدلت بعض الحقائق الدينية، وحرفتها عن مسارها الصحيح، كما أحدثت في الأوساط العلمية الشرعية أساليب مبتدعة في التعامل مع الأدلة والنصوص، لم يعرفها أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، لإفقادها فعلها الصحيح في النفوس، وفاعليتها الشرعية في تكوين عملية التدين، وبتفريغها من المحتوى الذي أراده الله.

مَنْ هم هؤلاء الأعداء؟

إنّهم داخل الصف، لكنّهم مأمورون، وإنّهم لم يتغيروا، وإنّما يغيرون ظواهرهم في كل عصر، ويبدلون لحن قولهم الذي به يُعرفون، تمويهاً لتمرير مخططاتهم وتنفيذ مكرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال..! ومهما تعددت الأسماء، وتغيرت الأوصاف، فأعداؤنا هم كل من اجتمعوا على التشكيك بالوحيين، أو إقصائهما من حياة المسلمين، أو العبث بهما عن طريق التأويل، أو تقديم أي شيء من بضاعة عقول أهل الأرض عليهما، بغض النظر عن التعليل
والتبرير. هم العدو الأول والأوحد للمسلمين، بل هم العدو فاحذروهم .. أهدافهم واحدة وإن تباينت أعصارهم، أو اختلفت أساليبهم، أو تغيرت أسماؤهم، لكنّهم يتفننون في طرح الأفكار، وتنويع الوسائل، وتوزيع الأدوار .. ومن هذه الحقيقة فمعرفة أعداء الإسلام يجب ألا نطيل الوقوف معها، فننظر بعيدا لمعرفة الأهداف، فبها يعرفون. وعلى ذلك يكون الفرز.

أيها الإخوة أقول بكل صدق ووضوح وشفافية إنّ السطور الماضية بما حوت يجب أن تشكل قاعدة الانطلاق لكل عملية إصلاح ديني. ومعرفة العدو ومواقعه أهم إعداد قبل الاندفاع نحوه. وأجده مناسبا جدا قبل إنهاء هذه الفقرة، وقد كانت مكرسة للحديث عن أعداء الإسلام، أن أؤكد أنّ كل عداوة للإسلام منذ أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته، وإلى قيام الساعة، كان الهدف لها واحداً وواضحاَ، وهو الحيلولة بين المسلمين والوحي الذي أنزله الله لأهل الأرض، ولتحقيق هذا الهدف طرائق تتعدد وتتغير لتلائم الظروف المحيطة. يلخص الفكرة ويؤكدها قوله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا).

وكم يُحزن ويُؤسف ويُدهش، أن يُرى في كل مراحل تاريخ المسلمين، أنّ الذين تصدوا وناوؤا الوحي، كانوا من داخل الصف الإسلامي، وتبدو هذه الظاهرة أشد وضوحا في واقعنا المعاصر، وقد يكون بعض النخب ضالعين في ذلك..! وما أصدقها من عبارة طرقت سمعي مرات، ولا أذكر قائلها (الوحي روح الأمة). وليت المسلمين كافة، يحملون في نفوسهم للوحي ما كان في نفس بركة رضي الله عنها. ومن هي بركة؟ هي أم أيمن الحبشية، مولاة رسول الله وحاضنته، بعد وفاة أمه بالأبواء. وكانت تحبه جدا، ويحبها مثل ذلك. زَوَّجها من حِبِّه زيدِ، فولدت أسامة حِبَّ رسول الله وابنَ حِبِّه، رضي الله عنهم جميعا. وما أتكلم عن الوحي مرةً إلا حضرت في ذاكرتي بركة أم أيمن، لماذا؟ اقرؤوا هذا الحديث لتعرفوا لماذا، ثم أحبوا الوحي وعظموه في نفوسكم أسوة ببركة:

عَنْ أَنَسٍ قَالَ: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ. فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي لَا أَبْكِي أَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجعلَا يَبْكِيَانِ مَعهَا). رَوَاهُ مُسلم

ومن نافلة القول أنّ نصوص الوحيين هي أصل الدين، وعليها وحدها تدور عملية الاستدلال للوصول إلى الأحكام الصحيحة. وإنّ ضبط عملية التعاطي مع النصوص، وفق معايير صحيحة مؤصلة، له ايجابيتان عظيمتان في حياة المسلمين الدينية:

الإيجابية الأولى: إعادة القدسية المفقودة لنصوص الوحيين، بتحكيمهما وإبقائهما المصدر الوحيد للدين .. وما فُقدت تلك القدسية إلا حين قُدم على نصوص الوحيين، في القديم، ما هو دونها كآراء الرجال والعقل والمنطق، أو القواعد المذهبية أحيانا .. وقد كان كل ذلك، وأقولها بملء فمي، سابقات خطيرة جرَّت وراءها لاحقات وبيلة إلى يومنا الحاضر، وفي واقعنا المعاصر. وسيستمر ذلك ما لم يقيض الله للأمة أمر رشد، ويهيء مجددين يتمردون على مخالفات التراث، وينتقدونها بملء أفواههم، لتبقى ظاهرة (ابن تيمية)
حاضرة في كل جيل. إنّي أعتبر أنّ الالتفاف حول نصوص الوحيين، بأي شكل ولأي سبب، لتعطيل العمل بهما، هو سلب لقدسيتها التي استمدتها من الملك القدوس منزلها، ومن روح القدس الذي نزل بها، بأمر ربه على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك النبي المعصوم المؤتمن على الوحي المكلف بهداية الناس، الذي بلَّغها. والخطورة كل الخطورة، أن يستمرئَ الناس، أهل العلم، والعوام تلك العملية الخطيرة (سلب نصوص الوحيين قدسيتها) محتجين بأفعال من مضوا، وبخاصة أنّها توافق الأهواء، فتصبح مع مرور الزمن هي الأصل في الاستدلال.

وأما الإيجابية العظيمة الثانية:
فهي الوصول إلى الأحكام الصحيحة في الدين، وتبليغها إلى الناس، كما أراد الله، وكما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيكون العمل بها طاعة لله، ويكون الدين القيِّم كلُّه لله .. وبكلمات أخر، هي التي تصل بالمسلمين إلى إسلام (ما أنا عليه وأصحابي) الذي لا يقبل الله دينا سواه.

وبعيدا عن تكلف أهل التنظير. فالذي أقصده من العنوان، أنّ تعاليم دين الإسلام كلها تؤخذ من نصوص الوحيين القرآن والسنة. وعملية الأخذ هذه تسمى (استدلالاً). وعملية الاستدلال بالنصوص، قد يعتريها خلل فتكون النتيجة أحكاما شرعية غير صحيحة. من هنا لزم أن تضبط عملية الاستدلال بضوابط مستوحاة من مفاهيم الدين نفسه. ولما انغمستُ في دراسة الفقه، وفق طريقة أهل الحديث، وليس على الطريقة الفقهية التقليدية، وقفت على تجاوزات، بل مخالفات قَفَّ منها شعري. ومن تلك الأيام راودتني فكرة الموضوع، على شكل تساؤلات ملحة، كلما واجهتني باقعة، (أليس للفقه والفقهاء من ضوابط؟). ولم يكن بعد قد اشتد عودي في ذلك المجال، حتى تبلورت الفكرة وقد أسميتها (فقه الاستدلال)، وظل العمل لها أمنية، حتى شاء الله ذلك.

وأريد أن أضيف معلومة قد لا تروق لكثيرين، وهي: أنّ انتقادي لحالات من الاستدلال الخاطئ ليس مقصورا على صغار المشتغلين بالفقه، أو المتطفلين على هذا العلم. إنّما لم يسلم من ذلك كبار الفقهاء، والأمثلة ستتولى التفصيل. لكنّي لو طرح عليَّ السؤال: ما سبب ذلك في رأيك؟ لقلت بعلمي المتواضع: قد يكون مردُّ ذلك إلى عدم بلوغِ العالِم بعضُ الأدلة التي كان من الممكن أن تغير حكمه في المسألة، وهذا لا تثريب فيه على من كان شأنه كذلك، وله العذر. أما السبب الثاني الذي لا عذر فيه، فهو الميل مع الهوى المذهبي، وسيأتي لذلك تمثيل، إن شاء الله. وأحرص على أن أمثل لما قصدتُ، تَحَرُّزاً من فهمٍ لما قلتُ، على وجهٍ غيرِ الذي أردتُ.

يمر مع الباحث في كتب الفقه، حكمٌ كالآتي مثلا: (ما حكم من فاتته صلاة العيد؟). نجد من يقول من فاتته العيد مع الإمام صلاها أربعًا، وغريب جدا أن تكون الصلاة ثنائيةً، وتصير لدى القضاء أربعا! ولو تقصينا المسألة لوجدنا عند (الزين بن المنير) تبريرا أشد عجبا، يقول كأنّهم قاسوها على الجمعة! وهذا غير مقبول لأنّ من لم يدرك ركعة من الجمعة مع الإمام، يتم صلاته أربعاً، على أنّه يصلي عندئذ الظهر، لفوات شرط الجماعة للجمعة، والظهر هو واجب الوقت، أما العيد فما وجه أدائها أربعاً؟ وقال آخرون تقضى كما تصلى، أي ركعتين فقط.

ونرى القول الفصل في فتيا للشيخ العثيمين، وذلك للتأصيل والتزام الدليل. يقول رحمه الله: (أما صلاة العيد فليس لها بدل فإذا فاتت مع الإمام فإنّه لا يشرع قضاؤها وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وهو عندي أقرب إلى الصواب من القول بالقضاء والله أعلم).

ويضيف الشيخ: (ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنّها لا تقضى إذا فاتت، وأنّ من فاتته، فلا يسنّ له أن يقضيها؛ لأنّ ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنّها صلاة ذات اجتماع معين، فلا تشرع إلا على هذا الوجه).

وما دمنا نتكلم عن صلاة العيد، فالعجيب أنّ ثلاثة من الأئمة يرون أنّ صلاة العيد سنة مؤكدة، أو فرض كفاية إلا أبا حنيفة، فيراها فرض عين. يقول الشيخ العثيمين: (الذي أرى أنّ صلاة العيد فرض عين، وأنّه لا يجوز للرجال أن يدعوها، بل عليهم حضورها، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها بل أمر النساء العواتق وذوات الخدور أن يخرجن إلى صلاة العيد، بل أمر الحيض أن يخرجن إلى صلاة العيد ولكن يعتزلن المصلى، وهذا يدل على تأكيدها).

ننتقل إلى مسألة أخرى، وهي أنّ المذاهب الأربعة تقول: (وإنْ أسلم الكافر، أو طهرت الحائض، أو برئ المريض، أو قدم المسافر، أو بلغ الصغير، أو عقَل المجنونُ في أثناء النهار، وهم مفطرون، لزمهم الإمساك، والقضاء لذلك اليوم، لأنّهم لم يصوموه، ولكن أمسكوا عن مفسدات الصوم لحرمة الوقت). وقبل التعليق أريد التأكيد على هذه العبارة المأخوذة من الاقتباس (لزمهم الإمساك، والقضاء). وأكاد أقسم أنّ النظرة الأولى لهذا الكلام تجعلك تعلم أنّه ليس بدين، وأنّ مصدره عقل بشري وليس وحياً سماوياً..! أيُعْنَتُ الناسُ ويُضيقُ عليهم باسم الاسلام، ومن أكبر خصائص الدين اليسر..؟ وهل من خطإ أكبر من أن يكلف بشرٌ بشرا تكليفا شرعيا خففه عنهم الله برحمته! وإن لم يكن هذا شركا، فما هو الشرك؟ أين هذا الكلام، وهو في كتب المذاهب الأربعة، من قوله تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، ألا يحق لكل مسلم أن يقول: أين فقه الاستدلال…؟!

يقول الشيخ العثيمين جوابا عن سؤال ورده: (السؤال: سمعت أنّكم أفتيتم للحائض إذا طهرت في نهار رمضان أنّها تأكل وتشرب ولا تمسك بقية يومها، وكذلك المسافر إذا قدم للبلد في النهار فهل هذا صحيح؟ وما وجه ذلك؟

الإجابة: نعم، ما سمعته من أنّي ذكرت أنّ الحائض إذا طهرت في أثناء اليوم لا يجب عليها الإمساك، وكذلك المسافر إذا قدم، فهذا صحيح عني، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله وهو مذهب مالك والشافعي رحمهما الله، وروي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: “من أكل أول النهار فليأكل آخره”، وروي عن جابر بن يزيد وهو أبو الشعثاء أحد أئمة التابعين الفقيه أنّه قدم من سفر فوجد امرأته طاهراً من الحيض في ذلك اليوم فجامعها، ذكر هذين الأثرين في المغني، ولم يتعقبهما، ولأنّه لا فائدة من الإمساك، لأنّه لا يصح صيام ذلك اليوم إلا من الفجر، ولأنّ هؤلاء يباح لهم الفطر أول النهار ظاهراً وباطناً مع علمهم بأنّه رمضان، والله إنّما أوجب الإمساك من أول النهار من الفجر، وهؤلاء في ذلك الوقت ليسوا من أهل الوجوب، فلم يكونوا مطالبين بالإمساك المأمور به. ولأنّ الله إنّما أوجب على المسافر وكذلك الحائض عدة من أيام أخر، بدلاً عن التي أفطرها، ولو أوجبنا عليه الإمساك لأوجبنا عليه أكثر مما أوجبه الله؛ لأنّنا حينئذ أوجبنا إمساك هذا اليوم مع وجوب قضائه).

وأعتقد أنّ سؤالا يحضر في خاطر كل من يقرأ فتيا الشيخ وما عرض فيها من أدلة ومناقشات، أليس الأمر واضحا وضوح الشمس بعكس دعوى الطرف الآخر التي لا تقوم على ساق..؟

وأكتفي بإضافة هذا المثال الأخير إلى سابقيه من الأمثلة، التي استعرضنا فيها نماذج من الخلل في عملية (الاستدلال)، في تراثنا الفقهي، لنشكل قاعدة انطلاق قوية لعملية اصلاح على بصيرة.

في تراثنا الفقهي أنّ جمهور الفقهاء وهم الأحناف والشافعية والمالكية ينتهون إلى أنّ أكل لحم الإبل لا ينقض الوضوء إطلاقا. وانفرد الحنابلة بأنّه ناقض كسائر النواقض. وهذا تقصٍ سريعٌ للمسألة، في مظانها.

في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة: (أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ قَالَ: (إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْتَ فَلاَ تَوَضَّأْ). قَالَ أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ قَالَ: (نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ)). رواه مسلم

ولما ذكر النووي رحمه الله هذا الحديث في (شرح صحيح مسلم) أضاف إليه حديثا آخر وهو عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ: (سُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوُضُوء مِنْ لُحُوم الْإِبِل فَأَمَرَ بِهِ).
ثم عقب النووي، رحمه الله، بعد إيراد الحديثين بالآتي:
(قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى، وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ: صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا حَدِيثَانِ: حَدِيث جَابِر، وَحَدِيث الْبَرَاء، وَهَذَا الْمَذْهَب أَقْوَى دَلِيلًا وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُور عَلَى خِلَافه).

وتكلم النووي رحمه الله في (المجموع) بكلام مماثل لما قاله في شرح مسلم وقد ذُكر آنفا، وختم كلامه بالعبارة الآتية: (واحتج أصحابنا بأشياء ضعيفة في مقابلة هذين الحديثين فتركتها لضعفها).

ومن العجيب، أنّ النووي رحمه الله، بعد الكلام السابق في (شرح مسلم) و(المجموع)، ناقض نفسه بنفسه، لأنّه لم يجد بدا من موافقةِ المذهب، الذي بيَّن ضعف موقفه، قبلاً، وتركِ
النصوص الصحيحة .. ولنقرأ العبارة التي يختم فيها النووي بحثه، في (المجموع) فيقول: (وأقرب ما يُسْتَرْوَحُ إليه قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة والله أعلم). يقصد بذلك ترك الوضوء من أكل لحم الإبل..! ولا أستطيع أن أكتم في صدري، تعليقا سريعاً؛ فأقول: هل يوجد مصطلح (يُسْتَرْوَحُ) في القاموس الفقهي..؟ وهل فعل الصحابة، لو صح عنهم، أقوى من الحديث؟ فأين (فقه الاستدلال)، مرة أخرى؟

ولا يُسَلَّم للنووي بذاك الحكم .. يقول الشيخ الألباني رحمه الله في كتاب (تمام المنة): (وهذه الدعوى خطأ من النووي رحمه الله، قد نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال في القواعد النورانية” (ص 9): وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة أنّهم لم يكونوا يتوضؤون من لحوم الإبل، فقد غلط عليهم، إنّما توهم ذلك لما نقل عنهم أنّهم لم يكونوا يتوضؤون مما مست النار).

ومما ينبغي التأكيد عليه، إزاء هذه الانعطافة (الوبيلة) في تراثنا الفقهي، ولها مثيلات، هل الجمهور حجة شرعية في الترجيح؟ وبكلمات أخر، هل (الجمهور) في معايير الاستدلال، أقوى من النص الصحيح الصريح؟ فتقدم عليه في الحكم؟ فضلا عن التساؤل، هل للمذهب، أي مذهب، مع كل ما معه من قواعد وأصول، أن يتقدم النص؟

إنّها سابقاتٌ، في التراث، أورثت لاحقاتٍ، صنعت عوجاً جسيماً في مسيرة الفقه الإسلامي، مع تقدم الزمن، لأنّ التقليد دينٌ عند بعضهم، وأنّه لا يَسَعُ المتأخرَ إلا اقتفاءُ أثر المتقدم، بل يتخذه إماماً حتى في سلب النصوص قدسيتها، وتدنيس عُلويتها، حين ينافسها نتاجٌ ومزاجٌ أرضي طيني، مجاملةً للأسماء والقامات والمقامات، فهل يعرف الحق بالرجال؟ وانحناءً
أمام سلطان الكثرة التي ألغى القرآن دورها وذمها (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)!

وتحكيماً لهوى النفوس (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ). وكل ذلك يشكل تقدما للمدرسة العقلية التي تريد اقتحام الكيان الإسلامي من خلال التحكم في أخطر شيء، لأنّه سيحقق أخطر النتائج، إنّه العبث في عملية الاستدلال. هكذا مواقعنا مكشوفة لأعدائنا، وأهدافهم تحققها أيدينا.

أمَا وقد استعرضنا في ما مضى، أربعة نماذج، تُبين إخفاق عملية (الاستدلال)، والتعاطي مع النصوص، في تراثنا الفقهي. وسيكون ذلك، إنْ شاء الله، مَدخلا لمقاربةٍ علميةٍ إصلاحيةٍ، تهدف إلى تصحيح مسار (عملية الاستدلال). لأنّ الواقع المعاصر يبدي وجودَ فاعليةٍ أكبر، لتحقيق أغراض أخطر، لدى مواقع جديدة، للعبث في (عملية الاستدلال)، بعد أن رُصدت النتائج التي حققها الخلل القديم، عبر قرون، ووُجد أنّها كانت رياحا مواتية تهب في أشرعة كل المراكب التي تحارب الإسلام اليوم .. وإن كنا، للإنصاف، نُبَرِّئُ نوايا بعض الأقدمين، مما تحمله صدور وتحركات المعاصرين.

ولعل بعض القراء يتصور الواقع المعاصر أقل سوءاً في كيده! وقضية الاستدلال أقل خطرا مما صورت في السطور الماضية، ولمثل هؤلاء أقول: انظروا إلى النتائج تعرفوا الحقيقة. فإذا كنا مقتنعين أنّ الأمة غائبة، أو غثائية بالتعبير النبوي، فلنسأل ما الذي أوصل إلى هذه النتيجة، غير بُعد المسلمين عن الالتزام بالوحيين؟ وما هذا البعد إلا عرضٌ كبير من أعراضِ الخلل في عملية الاستدلال، وإخراجِ أحكامٍ غيرِ صحيحة، ما يُنتج تديناً غيرَ صحيحٍ في النهاية. وإذا أردنا شاهدا لهذه الاستنتاجات، فلنسأل أنفسنا، ما سبب انغماس الناس اليوم في المعاملات الربوية بشكل غير مسبوق، إلا الفتاوى التي ابتعدت عن روح النصوص، لتُحِلَّ ما حرم الله بتأويلاتٍ باهتة. ولنقل الشيء نفسه في أداء العبادات على وجه غير صحيح، ملؤه البدع والمخالفات، وانتشار المعاصي والاستعلان بالمنكرات…؟

وصفوة القول، إنّنا لو عالجنا إخفاق عملية الاستدلال، وأعدنا الأمر إلى نصابه، لأنجينا أنفسنا، وأجيالنا والأمة جمعاء، من شراك نصبت لنا، وكيد أريد بنا، وشر مستطير يهددنا. وهل من شر أكبرَ من أنَّ جهلَ أبناء الإسلام بواجبهم في حفظ الدين، وحراسته، قد جعل من أبناء الإسلام عواملَ، ومَعاولَ هدمٍ لدينهم، من حيث لا يحتسبون. ولن يوقظ هذه الواجبات النائمة في أنفس المسلمين، وينعش تلك القدرات الكامنة دون تفعيل، إلا عودةُ المسلمين إلى أمرهم الأول، كما شخص ذلك نبيهم (إنَّها ستكونُ فتنةٌ. فقالوا: كيف لنا يا رسول الله؟! أو كيف نصنعُ؟ قال: ترجعون إلى أمْرِكم الأوَّلِ) .. ولن تكون عودة المسلمين إلى أمرهم الأول إلا بالتزامهم منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، ومن عنده غير ذلك فليأت ببرهانه.

وإلى ورقة عمل نتوافرُ عليها ونتواضعُ، للخروج (بعملية الاستدلال) من أزمتها التي استمرت قرونا، ولا زالت في تأزم مستمر وازدياد، مع تطور الحياة السريع، في عالم تضعف فيه الروادع، والضوابط، وتتراجع المثل والأخلاق، وتغلب النوازع والأهواء، على كل الأصعدة. إنّها توصيات لتغيير النفس، ونصح الآخر، وإبراء الذمة وإقامة الحجة، وقبل كل شيء وبعده، مادةٌ
للتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. إنّها عملية رائدة، متواضعة، في إمكانياتها الدعوية، ومع الريادة، لا تكون الكثرة، بل هي ستصنع الكثرة بالمؤازرة، إن شاء الله.

وسأجعل البحث نقاطا متسلسلة، وكل نقطة تدور حول خاطرة، أو تجربة، أو توصية، أو قاعدة، إلى غير ذلك من عناصر، وكل ذلك مستمدٌ من معايشةٍ طويلةٍ للفقه، وتجارب المتقدمين والمتأخرين معه، والنظر في طرائقهم. وستكون تلك النقاط، ذات صلة وثيقة بعملية الاستدلال، التي هي لب الموضوع، ومفتاح الحل .. وتجليةُ وتأصيلُ كلِّ جوانبها، كفيلٌ بعد، توفيق الله، بفتح أفق جديد في عملية الاستدلال، وكل ذلك الجهد لا يهدف إلى صنع فقهاء، إنّما يوجد، بعون الله، مسلمين ومسلمات، مستبصرين ومستبصرات، وفق منهج(ما أنا عليه وأصحابي) عاملين وعاملات، والله من وراء القصد

الوقفة الأولى: ماذا عن المذهبية؟

الحديث عن المذهبية مغامرة..! فهنالك متربصون لكل كلمة، وبكل متكلم. يعتبرون الكلام في ذلك ممنوعا. لكن الحق أكبر من كل أولئك. والكلمة التي أحب أن أقول، ليست للمتربصين، ولكنْ للمنفتحين الناشدين للحق والحقيقة: إنَّ أية مناقشة أو نقد لممارسات المذهبيين لا تنال أحدا من الأئمة الأربعة، ومن كانوا أقرانا لهم. فأولئك كانوا في تقواهم وسابقتهم في الدين، نماذج تحتذى، وهم غير معصومين، في آنِ معا. وقد أنصفهم ابن تيمية في رسالته الموسومة بـ (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).

وعندي في ما يخص هذا الموضوع سؤال مركزي، أنتظر إجابته: هل الأئمة كانوا يسعون إلى تشكيل مذاهب، أم هو أمر مفترىً عليهم؟ والصواب أنّ الأمر افتراءٌ على أولئك الكبار. إنّهم قدموا كل ما بوسعهم لخدمة الدين، والأخذ بأيدي الناس إلى التدين الحق، ولم يكن عندهم وراء ذلك مطمح..!

وعندي مجموعة من الأقوال نُقلت عن الأئمة الأربعة بأسانيد صحيحة، وتلكم الأقوال تشكل مفتاحا لفهم ما كان عليه الأئمة الأربعة وأقرانهم، حقيقةً، وتقطع كل إشكال بشأن ما لُبِّسَ عليهم، وما نُسِبَ إليهم. ولعل الحقيقة التي يجهلها كثير من الناس، تلك أنّ الأئمة كلهم لم يشاؤوا أنْ يتركوا من بعدهم مذهباً يُنافس الوحيين، ولم يوصوا بذلك ولم يسعوا إليه، ولو بُعثوا اليوم أحياء لأنكروه، إنّما ذلك من صنع أتباعهم فيما بعد .. وهذه مجموعة من تلك الأقوال:

الإمام أبوحنيفة:

(إذا صح الحديث فهو مذهبي). حاشية ابن عابدين.

(لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه). حاشية ابن عابدين.

(ويحك يا يعقوب (هو أبو يوسف) لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد).

الإمام مالك:

(إنّما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه). ابن عبد البر في الجامع.

(ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم). ابن عبد البر في الجامع.

الإمام الشافعي:

(ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي). تاريخ دمشق لابن عساكر.

(أجمع المسلمون على أنّ من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد). الفلاني.

(كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي). أبو نعيم في الحلية.

(إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب). ابن عساكر.

الإمام أحمد بن حنبل:

(لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا). ابن القيم في إعلام الموقعين.

(رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار). ابن عبد البر.

(من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة). ابن الجوزي في المناقب.

وللشيخ الألباني تعليق مفيد، بعد أن أورد مثل هذه الأقوال عن الأئمة في كتابه النافع الرائع (صفة صلاة النبي)، رأيت إثباته للفائدة، يقول:

(وعليه؛ فإنّ من تمسك بكل ما ثبت في السنة، ولو خالف بعض أقوال الأئمة؛ لا يكون مبايناً لمذهبهم، ولا خارجاً عن طريقتهم؛ بل هو متبع لهم جميعاً، ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالفتها لقولهم؛ بل هو بذلك عاصٍ لهم، ومخالف لأقوالهم المتقدمة، والله تعالى يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}).

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: (فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرفه؛ أن يبينه للأمة، وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأيَ عظيمٍ من الأمة؛ فإنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يُعَظَّم ويُقتدى به من رأي أي مُعَظَّم قد خالف أمره).

ولتستبين المسألة أكثر، ولتكون الصورة أوضح، أعرض الوجه الآخر من الصورة، وهو حالة الغلو في المذهبية، والمذاهب وأصحابها. فقد أبعد أحمد الصاوي النجعة في حاشيته على تفسير الجلالين حين يقول: (ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر) .. سبحانك هذا بهتان عظيم، لم ينزل بذلك قرآن ولم تصح به سنة. فالحق
في دين الإسلام واحد، ولا يُغير ذلك اختلاف الرجال، كائنين من كانوا، فبالحق تُعرف الرجال، ولا يُعرف الحق بهم.

تبقى مسألة تتصل بالموضوع، وتلقي عليه ضوءاً، إنّ وجود علماء مجتهدين، يختلفون في اجتهاداتهم، أمرٌ صحيح وصحي وشرعي، والصحابة مثال سابق .. لكنّ ذلك لا يعني أنّ كل الاجتهادات صواب..! نعم، كل مجتهد مأجورٌ، وليس كل مجتهد مصيباً .. وما أدق كلام الإمام مالك رحمه الله في تعليقه على الاختلاف، واختلاف الصحابة بالذات.! قال ابن القاسم: (سمعت مالكا وليثا يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قال ناس: (فيه توسعة) ليس كذلك إنّما هو خطأ وصواب).

وقال أشهب: سُئل الإمام مالك رحمه الله: (عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتراه من ذلك في سعة؟ فقال:لا والله! حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً؟! ما الحق والصواب إلا واحد).

فإذا كان الاختلاف بين الصحابة، عليهم رضوان الله أجمعين، دائراً بين الخطأ والصواب، فمن باب أولى أنْ يكون مَنْ بَعدَهم كذلك. أما أنْ تدون اجتهادات كل إمام وتجمع في مذهب وتُقَسَّمَ الأمةُ وتُفرَّق إلى أربعة مذاهب لا يُقبل الخروج عنها، بل يُوجب بعضهم اتباعَها، كما جاء في نظم صاحب جوهرة التوحيد:

وواجب تقليد حبر منهم كذا حكى القوم بلفظ يفهم

فشيء لا يرضي الله، وآثم من سعى فيه، ونافح عنه. والتضليل الذي يشيعه المغرضون، من أنّ من ينتقدون المذهبية، يريدون نشر مذهب خامس، وإشاعة الفوضى في الدين، فذلك كذب وبهتان، وافتراء على من يريدون ردَّ المسلمين إلى الوحي، ونبذ كل ما ينافسه كتحكيم العقل في الدين، وتقديم أقوال الرجال على نصوص الوحيين.

وأختم الوقفة بكلام جامع للإمام الشاطبي، إمام الأندلس، يشكل فصل الخطاب في ما نحن فيه، يقول: (الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي فُرُوعِهَا وَإِنْ كَثُرَ الْخِلَافُ، كَمَا أَنَّهَا فِي أُصُولِهَا كَذَلِكَ؛ وَلَا يَصْلُحُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ).

ومن المناسب جدا لموضوع المذهبية، وقد طرح، أن نعرج في النهاية على فكرة لصيقة بالموضوع، ويلفها جدل كبير ودائم. ملخصها كيف تكون مواقف الناس مع المذهبية؟ وقد بحث العلماء ذلك، وسنعطي فكرة عن البحث.

قسم العلماء الناس في المجتمع المسلم إلى شرائح ثلاث:

1. مُقلد، وهو العامي والأمي المغرق في أميته وعاميته، فليس له إلا تقليد الأعلم، ولا شأن له بالأدلة والنظر فيها .. ومن هنا عرفوا التقليد بأنّه: من يعمل بقول غيره دون معرفة دليله. والمفروض أن تضم هذه المرتبة العدد القليل من المسلمين. وهؤلاء يتمذهبون حسب من يوجههم. وقالوا قديما: (العامي على مذهب مفتيه).

2. متبع، وهي المرتبة الأرقى وهي الاتباع، وعرفوا الاتباع بأنّه: من يعمل بقول غيره مع النظر في الأدلة، فيكون له الخِيَرَة مع تعدد الأقوال، لقدرته على النظر والترجيح. وهذه هي المرتبة التي تَسَعُ معظم المسلمين من المثقفين الذين لديهم القدرة على ربط الحكم بدليله والمقارنة بين الأدلة.

3. مجتهد، وهي المرتبة الأعلى، مرتبة الاجتهاد. وتليق بطلبة العلم والباحثين القادرين على دراسة النصوص ومقارنتها، ومعرفة الصالح للاحتجاج به من غيره، ثم استنباط الأحكام منها. وتضم هذه المرتبة العدد الأقل من المسلمين.

ويحسن أن ألحق بالتصنيف السابق ما هو متمم له، وهو ما جاء في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
وأهل الذكر هنا ليسوا أهل العلم فقط، بل أهل العلم بالوحي، وفي الآية أمر للناس غير العالمين بسؤال أهل الذكر وجوبا، وأمر لأهل الذكر أن يبذلوا وقتهم وعلمهم للناس، وجوبا ًأيضا، ولا يتشاغلوا عنهم، فهم مصابيح الهدى فيهم. وهذه الآية رد قاطع على من أراد تعميم مرتبة التقليد على كل الناس إلا أهل المرتبة الثالثة، وعلى من زعم أنّ ترك التقليد يحدث في الناس فوضى علمية، زعموا..!

أقول: الحمد لله أنّ معظم المسلمين المثقفين في الأمة ممن يهمهم أمر دينهم تسعهم مرتبة الاتباع، وليس فيهم مقلد. فيكون بحث مثل هذا الموضوع مناسبا وضروريا، وواجبا. فما دمنا عرفنا الاتباع أنّه العمل بقول الغير مع النظر في دليله، فمناقشة الأدلة فيما بيننا أمر سائغ بل واجب، ولا يجوز التسليم لأحد بقول أو رأي أو اجتهاد دون عرضه على الضوابط والمعايير العلمية .. فليس في الأمة معصوم بعد محمد عليه السلام، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم.

إذن ما أقترح التذاكر معكم فيه، ليس موضوعا تخصصيا بعيدا عن المتناول، إنّما هو تقعيدٌ لعملية النظر في الأدلة، لمن هو أهل لها، وبَيَّنا أنّ أهل المرتبة الثانية وهم (المُتَّبِعون) هم القادرون على القيام بأعظم مهمة لتحقيق الأهداف الإصلاحية الدينية، وعلى رأسها استرجاع الأمة الغائبة، مادامت الوسيلة إلى ذلك، كما نُبْدِئٌ ونعيد دوما، الدعوة على بصيرة، والتصفية والتربية. بعيداً عن منزلقات أصحاب تحكيم العقل..! وعن شطحات أهل التصوف في حدثني قلبي عن ربي..! ومخترعات أهل العصرنة والتنوير، كما يسمون أنفسهم..! فكل أولئك يجمعهم هدف واحد وهو (منافسة الوحيين) في عملية الاستدلال.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف بشرائطها ووسائطها، كان ضروريا إحياء الدور الهام، للشريحة التي يفترض أن تكون الأكثرية، وهم (المُتَّبِعون)، وعرفناها قبل قليل أنّهم العاملون بالقول بعد النظر في الدليل، ولا يقبلون الكلام على عواهنه، فلا تسليم لبشر غير محمد عليه السلام. والحمد لله أنّ طبقة التقليد لم تكتسح طبقة الاتباع لمنافستها على الأغلبية في المجتمع، كما أريد لها، ليسود التقليد ويستحكم الجمود، وما أعتقد إلا أنَّ ذلك من إيحاءات أعداء الدين في الداخل والخارج.

ومن هذا فإنّ بحثنا في (فقه الاستدلال)، لن يكون بحثا معمقا فهذا من شأن أهل الاختصاص، ولكنّنا نتذاكر، بإذن الله، في ما لا يسعُ من يحمل هم الدين والأمة الجهل به. بالقدر الذي يبصرنا بمواطن الخلل في واقعنا الديني.

الوقفة الثــانية: وقفة مع الدليل

مادمنا قد حددنا أنفسنا ببحث عنوانه (فقه الاستدلال)، وكلمة الاستدلال تعطينا أحد مشتقاتها وهو (الدليل)، وجمعها أدلة وهي ألصق مادة في بحثنا. فالأدلة في دين الإسلام قرآن وسنة، وهما أصلا الدين، عن أبي هريرة: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض). فهل استسلم كل المسلمين لهذين الأصلين في الدين؟ بهذا السؤال نبدأ. أما الاستسلام الظاهري فنعم، وأما الاستسلام الحقيقي الكامل فلا. لأنّهم اخترعوا أساليب من اللعب باللغة والعبث بالمعاني فغيروا في المعاني وبدلوا ما شاء لهم هواهم. وبخاصة في كتاب الله، فالقرآن حمالُ أوجُهٍ، ودليل ذلك، (أنَّ ابنَ عباس لما تبرع بالذهاب لمناظرة الخوارج، قال لعلي رضي الله عنه، يا أمير المؤمنين، فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل، قال صدقت. ولكنَّ القرآنَ حمالٌ ذو وجوهٍ، تقول ويقولون. ولكنْ خاصِمْهُمْ بالسُنن، فإنّهم لن يَجدوا عنها محيصاً. فخرج إليهم فخاصمهم بالسنن فلم تبق بأيديهم حجة). أجل بمثل هذا لُعبَ بدلالات ألفاظ القرآن من قِبل أهل الأهواء. ولما كانت السنن هي التي ستحول بينهم وبين ذلك الهدف، أي اللعب بمعاني القرآن، فكروا برد السنن. واتخذ ذلك العمل عدة محاور:

أ. عدم الاهتمام بالأسانيد وطرح الأحاديث للناس دون أسانيد، وصارت الساحة مفتوحة لتداول الأحاديث التي لا تصح، واستسهل الناس ذلك واستمرؤوه، حتى الخطباء والوعاظ لم يعودوا يهتمون بمعرفة الأسانيد، وبالتالي ساد الجهل بمعرفة درجة كل حديث، وهل هو مما يُحتج به من الأحاديث أم لا. وأُهملت الجهود المضنية التي بذلها المحدثون، وتبدل الدين وانتشرت البدع.

ب. شجعت هذه الفوضى في تداول الحديث، وتقلص رقابة أهل الحديث، الوضاعين لتمرير الأحاديث المكذوبة من خلال هذه الفوضى العلمية. ولا يخفى أثر ذلك في كثرة الاختلاف، وخطأ العمل، لبعد الاستدلال عن الأصول الصحيحة.

ج. خرجت إفرازاتٌ جديدة زادت الأمر ضِغْثاً على إبَّالَة، كما يقول المثل العربي، كظهور بدعة الاحتجاج بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وعدم صحة الاحتجاج بحديث الآحاد في مسائل الاعتقاد، وكذلك تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة. وما أبعد ذلك كله عن الصحة، لكنَّ حرص الفرق (غير الناجية) على الاستدلال الخاطئ لانحرافاتها، أفرز تلك المقولات والممارسات اللاشرعية، وهكذا يتسلل الخلل. وأذكر أنّني، منذ سنوات، كتبت موضوعا عن خبر الآحاد والقول بعدم صحة الاحتجاج به في العقائد، وذكرت الآتي: (مقولة إنّ أحاديث الآحاد لا يُستدل بها في العقائد، مولود غير شرعي لانحراف في العقيدة سبقه، وأراد مفتروه ستر انحرافهم بهذا الادعاء اللاشرعي).

ومن ذلك يتبين بوضوح أنّ الأولى والأهم في عملية الاستدلال فرز الأدلة، وغالب كلامنا عن الأدلة من السنة النبوية، إلى ما يصلح الاستدلال به، وما لا يصلح .. وهذه المهمة لا يقوم بها المسلم إلا مستعينا بالكتب المتخصصة في تحقيق الأحاديث، ومعرفة ما توصل إليه أصحاب الشأن، وهم أئمة الحديث، مع مقارنة أقوالهم إن اختلفوا .. وبالنظرة العامة نقول يكفي توفر صفة (الصحة أو الحسن)
لصلاحية الحديث للاحتجاج به، ولا حاجة لإضافة صفة أخرى. ومن هذا نقول: إنّ الحديث الحسن هو قسيم الصحيح من حيث الاحتجاج به. ونضيف من باب الذكرى أنّ الضعيف لا محل له في الاحتجاج، والقول بأنّ الضعيف يحتج به في فضائل الأعمال، قول مرجوح، أكابر علماء الأمة على خلافه، رافعين في وجه أنصاره المقولة الأقوى (إنّ في الصحيح غنيةً).

وحري بالمسلم الذي يحمل همَّ الإسلام، منضوياً في منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، أن يجعل في برنامجه العلمي حصصا لتعلم مصطلح الحديث، فإنّ ذلك لا غنى عنه لضبط عملية الاستدلال.

الوقفة الثــالثة: خطر متوقع

نوهنا أكثر من مرة بدور علم الحديث وعلمائه في إيجاد الاستدلال الصحيح. وإذا ذكر أهل الحديث وعلماؤه، فلابد من الإشادة بالجهود الجبارة التي بذلت لهذا العلم الشريف، والتي تفوق الوصف، وبخاصة علم الرجال وكتب الرجال، ولقد تركوا من ورائهم أعمالا أدهشت المفكرين في عالم الغرب في العصر الحاضر، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأديانهم، خدمةً للوحي المنزل، وحفظاً وصوناً لنصوصه من أن يفسدها دخول ما ليس منه فيها .. أجل إنّهم يمثلون حلقة من المعجزة الخالدة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). وما أحب أن أستشهد مرة بهذه الآية الكريمة، إلا ركزت بشدة أنَّ (الذِّكْر) في الآية هو الوحي وليس القرآن فقط! ولقد مال إلى القول الثاني جمعٌ من العلماء، ويُرى ذلك معتمدا في أكثر كتب التفسير. وينبني على هذا الخلاف نتيجة خطيرة تعطي فرصة مواتية لأهل التبديل والتحريف، ليراهنوا على أنّ الذي تكفل الله بحفظه هو القرآن فقط أما السنة فلا. وجادلني في ذلك كثيرون من أهل العلم، وقد تأثروا بما في الكتب، وردوا علي القول؛ إنّ الذكر
هو الوحي، معتبرين ذلك اجتهادا مني، لم يقله الكبار…! حتى أظفرني الله بهذا الاقتباس الرائع، فلله درك يا ابن تيمية، إذ تقول في أكثر من موضع من فتاواك، وهذا واحد منها في مجموع الفتاوى، (10/ 451): ({وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ اللَّذَانِ قَالَ اللَّهُ فِيهِمَا {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وَهُوَ الذِّكْرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قُيِّضَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَصَارَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ بِحَسَبِ مَا تَابَعَهُ.

وَإِنْ كَانَ مُوَالِيًا لِلرَّحْمَنِ تَارَةً وَلِلشَّيْطَانِ أُخْرَى كَانَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَوِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الرَّحْمَنَ وَكَانَ فِيهِ مِنْ عَدَاوَةِ اللَّهِ وَالنِّفَاقِ بِحَسَبِ مَا وَالَى فِيهِ الشَّيْطَانَ كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ الْقُلُوبُ {أَرْبَعَةٌ “قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ. وَقَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ – و”الْأَغْلَفُ” الَّذِي يُلَفُّ عَلَيْهِ غِلَافٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ} – وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ. وَقَلْبٌ فِيهِ مَادَّتَانِ: مَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلْإِيمَانِ وَمَادَّةٌ تَمُدُّهُ لِلنِّفَاقِ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ}. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا فِي “مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد” مَرْفُوعًا)).

وبَعْدَ هذا الاستطراد لتأكيد أنّ الذكر هو الوحي المنزل على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، قرآناً وسنةً، وهما المحفوظان بحفظ الله، إلى قيام الساعة. فهل نسمح لأهل المدرسة العقلية وأشياعهم أن يتطاولوا ويتطفلوا على هذا العلم الشريف ذي الخلفية المعجزة، ويستدركوا عليه وليس معهم من آلته وأهلية الخوض فيه شيء..؟ ولم يسجل التاريخ العلمي الإسلامي تطاولًا على علم الحديث إلا من جهة العقل، أو الهوى المرتبط بالانحراف عن الحق .. وقبل أن أسترسل في الكلام أحرص على أن أقول: إنّ تدخل العقل وأنصار تحكيمه في الدين، منافسة للوحي، هو في واقعنا المعاصر أخطر وأشد من أي وقت مضى، حتى في زمن المعتزلة، لذلك لا تستغربوا مني ومن غيري ممن وعى خطورة الأمر كثرة التحذير من ذلك. فما أسهل وما أكثر أن تسمع متكلما متدينا، يرد حديثا بدعوى أنّه لم يوافق عقله، أو لا ينسجم مع موقف التزمه دون تبصر .. فقضية العقل مع النص كانت وما زالت مزلة قدم لكثيرين وبخاصة في زماننا المعاصر، ما لم يحصنوا فهمهم بحقائق، فقه الاستدلال، التي نحن في صددها الآن.

وعلى كل مسلم أن يفهم بلا تردد أو التباس أنّ الله ما أنزل إلى الأرض وحيا إلا ليعمل به أهلُ الأرض، فكل ما أنزل من وحي صالحٌ للعمل به، وواجبٌ العملُ به، وآثمٌ من ترك العمل به .. أما أن تنبت في الأمة نابتةٌ تدعو إلى عرض نصوص الوحيين على العقل والواقع لفرزها إلى صالح وغير صالح فهذا افتراء على الله، منزلِ الوحي، عظيمٌ، بل هو الكفر بعينه.

ومما يزيد خطورة المشكلة استمرارُ ضخها من بعض الفضائيات وتبني الترويج لأسماء اشتهرت عند الناس بهذا المنهج العقلي. وبث برامج تظهر أولئك الأشخاص في محاورات معهم، واستعراض مؤلفاتهم، وكل ذلك من باب الدعاية لهم ولفكرهم المنحرف. ومع أنّ تلك الشخصيات لا تستحق أن تقحم أسماؤهم في مثل هذه الدراسة، ولكن لا حرج من أجل توثيق الكلام المطروح. أذكر اسمين هما الدكتور محمد ديب شحرور، وعدنان إبراهيم، وأُذكِّر بأنّها سجلت لهما في رمضان الماضي ثلاثين حلقة لكل منهما، لتُبث خلال الشهر المبارك، ولقد استمعت لبعضها، ووالله ما فيها إلا الكفر البواح، والبرنامج برنامج ديني، ويقدمون بلقب المفكر الإسلامي، وهذا هو (التجديد والتلميع)، وكما قلنا آنفا، أدوار موزعة لا بد أن تنفذ. والخلل في ازدياد، يوما بعد يوم، وزاوية البعد عن الحق، في انفراج مستمر. وإلى تَقَصٍ لواقع هذا التوجه الخطير على تدين الناس، مع ذكر الأمثلة الواقعية.

الوقفة الرابعة: استعراض واقعي

عمرو بن عبيد البصري، شيخ من شيوخ المعتزلة، ماذا قال عنه الذهبي رحمه الله؟ (الزاهد، العابد، القدري، كبير المعتزلة، وأولهم، أبو عثمان البصري). وقال فيه الذهبي والحافظ المزي وغيرهما كلاما لا يكاد يصدق لغرابته: قال معاذ بن معاذ: (سمعت عمروا يقول: إن كانت [تبت يدا أبي لهب] في اللوح المحفوظ، فما لله على ابن آدم حجة).

وسمعته ذكر حديث الصادق المصدوق، فقال: (لو سمعت الاعمش يقوله لكذبته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله لأنكرته، ولو سمعت رسول الله يقوله لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت يارب ليس على هذا أخذت ميثاقنا).

ويقول أحدهم: (كنت عند يونس بن عبيد (من صغار التابعين) فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبدالله تنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد، وقد دخل عليه ابنك؟ قال: ابني! قال: نعم. فتغيظ الشيخ. فلم أبرح حتى جاء ابنه.

فقال: يا بني، قد عرفت رأيي في عمرو ثم تدخل عليه؟ قال: كان معي فلان. وجعل يعتذر. قال: أنهاك عن الزنى، والسرقة، وشرب الخمر. ولأن تلقى الله بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو).

أنظروا إلى أخبار هذا الشيخ المعتزلي، وأقواله، وما فيها من اعتداء سافر ووقح على الوحي من قِبل العقل البشري الذي لم يستنر بنور الوحي، وإنّ هذا النهج الاعتزالي قد باض وفرخ، وأوجد لنفسه أتباعا، في كل زمان، لأنّ الصدام بين الدين الحق والعقل البشري المحكوم بالهوى لا يقف، ما دام بناء الإيمان لم يُستكمل في بعض النفوس بعد، وإنْ وجدت مظاهر خداعة، ولنستحضر ما قاله الذهبي عن ذلك الشيخ المعتزلي عمرو بن عبيد: (الزاهد، العابد، القدري، كبير المعتزلة)، مظاهر زهد وعبادة خادعة، لأنّها لم تكن صادرة عن إيمان وقر في القلب، والذهبي ما شق عن صدر الرجل، لكنّ التناقض الذي يجتمع في الرجل، يجعله إلى الباطل أقرب منه إلى الحق، واقرؤوا ثانية النقولات عنه التي تحوي بشكل سافر مخالفة الوحي، بل والاعتراض عليه. ولنتذكر قول ربنا في سورة الحجرات: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). ولنطل التأمل في الآية وبخاصة في قوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)، فلا يمكن أن يجتمع في القلب إيمانٌ
وريبةٌ. وهذا، ولا شك، حال المنتسبين إلى المدرسة العقلية، وصدق من سماهم بالمعتزلة
الجدد.

ولهؤلاء حضورٌ كبيرٌ، ونشاطٌ دؤوبٌ، في عصرنا، عصر العولمة والفضائيات.

ونؤكد كل ما قلناه، بالتعريف بأسماءٍ يمثلون هذا التيار، مع بعض أقوالهم. والحديث عن ممارساتهم:

محمد عبده الذي ينعت بالإمام، واستمعوا إليه يقول: (اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا يُنظر إليه على أنّه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل).

وأما الإسم الأشهر في هذه المدرسة والذي تعلق بأفكاره كثير من شباب الجيل المعاصر فهو (محمد الغزالي) وهو عنوان كبير لهذه المدرسة وانحرافها:

يقول في كتابه (فقه السيرة) معلقا على حديث شق الصدر: (ولو كان الشر إفراز غدة فى الجسم ينحسم بانحسامها، أو لو كان الخير مادة يزود بها القلب كما تزود الطائرة بالوقود فتستطيع السمو والتحليق. لقلنا: إنّ ظواهر الآثار مقصودة. ولكن أمر الخير والشر أبعد من ذلك).

ويقول في الكتاب نفسه: (وكما تجاوزت هذا الحديث تجاوزت أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه وأعلمهم بالفتن وأصحابها إلى قيام الساعة. وقد صح من كتاب الله وسنة نبيه أنّه لا يعلم الغيوب على هذا النحو المفصل العجيب أحد).

ويمضي في الكتاب نفسه فيقول: (آثرت هذا المنهج في كتابة السيرة فقبلت الأثر الذي يستقيم متنه مع ما صح من قواعد وأحكام وإن وهى سنده، وأعرضت عن أحاديث أخرى توصف بالصحة لأنّها في فهمي لدين الله وسياسة الدعوة لم تنسجم مع السياق العام).

ومن باقعاته في كتابه الموسوم قذائف الحق: (أريد أن أقرر حقيقة إسلامية ربما جهلها البعض: هل رفض حديث آحاد لملحظ ما يعد صدعا في بناء الإسلام كلا، فإنّ سنن الأحاد عندنا تفيد الظن. مثال: هب أنّ رجلا قال لا أستطيع قبول رواية إذا وقع الذباب. أيعد من الكافرين..؟).

وتجد العجب العجاب في آخر كتبه وهو (السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث): (وأهل الحديث يجعلون دية المرأة على النصف من دية الرجل، وهذه سوأة فكرية وخلقية رفضها الفقهاء المحققون.

وهل خاب قوم ولوا أمرهم امرأة؟ إنّنا لسنا مكلفين بنقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا وأستراليا، إننا مكلفون بنقل الإسلام وحسب.

وهل تزوج المرأة نفسها؟ والمرأة في أوربا تباشر زواجها بنفسها ولها شخصيتها التي لا تتنازل عنها، وليست مهمتنا أن نفرض على الأوربيين مع أركان الإسلام رأي مالك أو ابن حنبل، إذا كان رأي أبي حنيفة أقرب إلى مشاربهم ، فإن هذا تنطع أو صد عن سبيل الله).

ثم يرد حديث (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ) بدعوى مخالفته ظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ). ما أقبح هذا الاستدلال، وما أَوْهاهُ، أخرجه هوى النفس، وليس الفهم والعلم.

يقول بعد ذكر حديث الكشف عن الساق، وربطه بالآية الكريمة: (وهذا سياق غامض مضطرب مبهم وجمهور العلماء يرفضه. وقد حاول القاضي عياض القول بأنّ الذي جاء المؤمنين في صورة أنكروها أول الأمر، ملكٌ. ثم يقول: لماذا يقوم أحد الملائكة بهذه التمثيلية المزعجة وبإذن من؟؟. وما جدواها..؟ الحديث كله معلول وإلصاقه بالآية خطأ. وبعض المرضى بالتجسيم هو الذي يشيع مثل هذه الروايات. وإنّ المسلم الحق ليستحيي أن ينسب إلى رسول الله هذه الأخبار).

أكثرت من الاستدلالات، لأنّ بعض الناس لا يزال مخدوعا بالأسماء المشهورة، وبالدعايات المبثوثة، وبحسن الظن، فلا يفيد معهم إلا أنْ يُواجهوا بالنقول الموثقة من مصادرها.

وخلاصة هذه النقطة أنّ تصحيح نصوص السنة وتضعيفها له رجاله المتميزون بتدينهم والتزامهم الوحيين قبل كل شيء، وأمة الإسلام تعرفهم في كل الأعصار والأمصار، والأمة بمجموعها عالة عليهم في ما تركوه وما يتركونه من بعدهم من نتائج دقيقة ومحققة في هذا العلم الشريف .. ولا بد لكل من يتطفل على هذا الشأن من أن يُفضح على رؤوس الأشهاد، تحذيرا للأمة منه، ومن تآمره على الدين لصالح الشيطان.

الوقفة الخامسة: ما زلنا مع جنايات العقل

والكبار الذين ذكرناهم في النقطة السابقة، نماذج لبدء الانحراف المعاصر، سلموا الرايات لمن بعدهم، وها هم يضطلعون بالمهمة، وبأسلوب أسوأ من سلفهم، لكن التأسيس كان على القواعد التي خلفوها لهم، وبنكران واضح، فلا يذكرون أساتذتهم بخير لأنّ كل مارق منهم يريد أن يقدم نفسه للناس على أنّه أمة وحده.

ومن أعظم جنايات العقل، في الدين، أنّه حينما يُربَّى ناشئةُ المسلمين على إقحام العقل في الدين، وأنّ العقل حَكَمٌ على الوحي، يضعف عند من رُبوا على ذلك، جانب عظيم وخطير في الإيمان: إنّه الإيمان بالغيب. ومعلوم أنّ قدرة العقل البشري أن يعمل في عالم الشهادة فقط، فقد خلق لهذه المهمة، وإن تعداها إلى عالم الغيب، وقع المحذور وهو الكذب والكفر. فالعقل البشري مأمور في العمل مع المعقول والمحسوس والمشهود وكل ما يصل إليه من خلال الحواس الخمس. والغيب ليس مجالا لعمل العقل البشري، لأنّه لم يخلق لذلك، ولا تصل إليه حواسه.

والإيمان بالغيب مما جاءت كثير من نصوص الوحيين بالأمر به والتأكيد عليه. وقد أمر الناس بالإيمان بغيوبٍ جاءتهم بها نصوص الوحيين. ونُقَعِّدُ الآن قاعدة تحول بيننا وبين التعامل الخاطئ مع الغيب، فاحفظوها: ليس بين المسلم وأي معلومة غيبية، إلا النصوص الصحيحة، وكل تعامل مع الغيب خارج ذلك الإطار، يدخل فاعله في المنطقة المحرمة شرعا، القول على الله بغير علم (قلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). ويُلاحظ أنّ الآية الكريمة ذكرت المحرمات بتدرجٍ تصاعدي، بمعنى أنّ آخرها هو أشدها تحريما. وهذه مجموعة من الآيات التي تؤكد أمر الإيمان بالغيب:

(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
(لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ).

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ). (من خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ).
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

وقد جاء في السنة الصحيحة، حديثٌ معَ مثلٍ لتأكيد أمر الإيمان بالغيب، وحض المسلمين على تربية النفوس على هذا الأصل العظيم في دين الإسلام، وهو الإيمان بالغيب. إنّ التأكيد على التسليم والاستسلام لما جاء به الوحي أمر عظيم، في دين الإسلام. أما أن يعرض الوحي أولا على العقل أو الواقع أو المنطق، فهو منزلق خطير في الدين. ولعل ذلك هو السبب الرئيس في كل ما اعترى عقائد الناس من خلل، في القديم والحديث. ولنقف ملياً مع هذا الحديث التربوي في الصحيحين وغيرهما:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ) فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: (فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي) فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: (فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ)).

ونقف مع الحديث ثلاث وقفات:

1. هل الإيمان ببقرة تتكلم، وذئب يتكلم من مستلزمات الإيمان بالله. وهل هو مما يُسأل عنه المؤمن في قبره؟ وهل سيحاسب عنه يوم القيامة؟ الجواب قطعا لا. فما وجه ذكر البقرة والذئب في الحديث إذن؟

إنّ القصد أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم باختصار أنّ كل أمر يأتي المسلمَ عن طريق الوحي، يجب الإيمان به، وإن كان العقل وإلف الواقع ينكره. وإنَّ أمور الوحي والغيب لا تقبل المناقشة العقلية، وينتهي دور العقل معها في إثبات كونها وحيا أم غير ذلك. أما التدخل في المضمون فلا.

2. ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا للمصدقين بما يأتي عن الله ورسوله وعدم التردد في ذلك بنفسه وبأبي بكر وعمر، ليكون صلى الله عليه وسلم وصاحباه في ذلك أسوة وقدوة.

3. ما مغزى الإشارة إلى أنّ أبا بكر وعمر لم يكونا في المجلس؟

إنّها شهادة من نبي الأمة صلى الله عليه وسلم لهما بحسن الإيمان، وسرعة وقوة التصديق، وهما غائبان، وبالاستسلام المطلق للوحي والاتباع الكامل للنبي صلى الله عليه وسلم دونما تردد أو تلكؤ. وعدم إنتظار شهادة العقل لذلك. ليكونا نموذجين في الاستسلام المطلق للوحي.

ألسنا نحن أهل هذا العصر وقد لفَّتْنا الشكوك من كل جانب، ويتنزل علينا التضليل آناء الليل وأطراف النهار، أولى من أبي بكر وعمر بهذا الاستسلام والانقياد لما يأتي به الوحي، من فوق سبع سماوات، ولِما يأتينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه ربه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)..؟

الوقفة السادسة: العقل والفلسفة

لم يجد العقل البشري الذي لم يستنر بنور الوحي، لدى تراجعه أمام حقائق الدين والغيوب والتعاليم التي جاء بها الوحي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إلا أن يأوي إلى ركن شديد، من بضاعة الأرض، وهي الفلسفة. فتمازج معها وتماهى ليصنع خليطا يواجه به الوحي والدين، وهو (علم الكلام). وكم أعجبتني عبارةٌ للشيخ سفر الحوالي، أثبتها في هذا السياق: (ولكن بعض المنتسبين للإسلام ضلوا السبيل، والتمسوا الحق من غير طريقه، فمنهم من لم يقنعه ما جاء في الكتاب والسنة، ومنهم من أخذ يبحث في غيرهما عما يعتقده في ربه، ومنهم من ابتلي بأهل الفلسفات القديمة والأديان المنقرضة، وأراد أن يجادلهم، ويدافع عن الإسلام، ولكن بغير منهج الكتاب والسنة، فأخذ يجادل بالعقل، ويدافع بالهوى، ويرد بعض الدين، ليدافع عن البعض الآخر، وينكر شيئاً ليثبت شيئاً. كما وجد أصحاب البدع والفرق في هذه الفلسفات وسيلة لدعم بدعهم وآرائهم).

ولم يجد التائهون والشاردون من المسلمين، بغيتهم إلا في رواسب الفلسفة اليوناية، فاتخذوها ملتحدا، لتعين العقل البشري التائه القاصر. وماذا في الفلسفة اليونانية المفلسة إلا القول على الله بغير علم، والخوض فيما لا تبلغه العقول، وقد كان فلاسفة اليونان، أمثال (أفلاطون وأرسطو) وثنيين، بعيدين عن هدي الأنبياء. فماذا تقدم هذه الفلسفة للعقل التائه الشارد عن الوحيين. والذين خلطوا هذا المزيج (علم الكلام) وساروا به هُم المعتزلة. ومن هناك بدأت بضاعة علم الكلام تروج، ثم تابع الأشاعرة ومن على شاكلتهم ذلك المشروع الأثيم، وصاروا يطلقون على (علم الكلام) اسم (علم التوحيد). وأعجب من هذا التزوير في المسمى، التعريف الذي يُعَرِّفُ به المسلمون المفتونون علمَ الكلام به. يقولون: (علم يُقتدر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير، بإيراد الحجج، ودفع الشبهات).

يقول الشيخ الحوالي: (علم الكلام عند السلف علم بدعي، لا يجوز الخوض فيه إلا بغرض إبطاله، وليس لمجرد أنه علم جديد واصطلاح حادث، ولكن لمخالفته الصريحة لمنهج الكتاب والسنة في عرض العقيدة والدفاع عنها. وإنّ العقيدة إنّما تثبت بالوحي (الكتاب والسنة) لا بعقول المخلوقين وآرائهم، ودين الإسلام إنّما يقوم على الاتباع والاستسلام. فالمسلم يصدق ويوقن بخبر بمجرد أن يثبت لديه أنّ هذا من عند الله دون حاجة إلى جدل واقتناع عقلي).

وأختم الكلام عن علم الكلام وأهله، بنقول عن السلف:

يقول الإمام الشافعي: (لأن يبتلى المرء بكل ذنب نهى الله عنه ما عدا الشرك، خير له من الكلام). وقال أيضاً: (لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقول ذلك). وقال أيضاً: (حكمي على أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، فيقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام). 

وقال الإمام مالك: (إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبدالله ما البدع؟، قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته، وكلامه، وعلمه، وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة وتابعيهم).

الوقفة السابعة: استعراض لبعض جنايات ذلك العلم المشؤوم (علم الكلام).

لمّا أراد أصحاب فتنة التأويل والتبديل النيل من عقيدة ودين المسلمين، وجدوا بضاعة علم الكلام أفضل ما يحقق أهدافهم، ولا يخفى أنّ تلك البضاعة يتم بها، وبمقولاتها الباطلة، تبديل وتأويل، بل العبث بدلالة الوحيين، بأسلوب ينطلي على الجهال وأنصاف وأرباع المثقفين، ممن لم يعرفوا (فقه الاستدلال) فحسبوا كل ذاك الشر المبتدع خيراً .. ولا أستطيع إلا أن أقول بكل أسف ومرارة إنّ بعض العلماء في القديم والحديث انطلت عليهم تلك الأكاذيب وصاروا يقولون بها..!

إنّ الذين شغفهم منطق أرسطو جعلوه قاعدة لضبط وفهم نصوص الدين، أعني نصوص الوحيين. فقسموا النصوص من حيث ثبوتها إلى (يقيني أو قطعي الثبوت) و (ظني الثبوت). فهم يقولون بناء على ذلك التقسيم: إنّ النص القرآني قطعي الثبوت لا شك فيه، أما النص من السنة، فإذا كان متواتراً فهو يقيني الثبوت، وإذا كان من الآحاد أو دون المتواتر فهو ظني الثبوت عندهم. ولا نريد أنْ نُناقش صحة هذا الكلام عقلياً ومنطقياً، هذا لا يهمنا الآن، لكن الذي يتحتم الوقوف عنده ومعه، أنْ نعلم ماذا يترتب على هذا الكلام؟ هم رتبوا على هذا الكلام أنّ كل نص يقيني الثبوت يُحتج به في العقيدة، أما النص الظني الثبوت وعندهم أنَّ خبر الآحاد ظني الثبوت فلا يُحتج به في العقيدة. ويفوت الكثير من الناس أنّ الأحاديث المتواترة في السنة قليلة جداً، وإذا اعتُمدت تلك القاعدة الباطلة ضاع كثير من أحكام الدين بسبب رد خبر الآحاد، والتشكيك بثبوتها..! فهل هذا صحيح من الناحية الشرعية؟ إنّ هذا من صنع علماء الكلام كما قلت آنفاً. أما الذي عند علماء الدين فغير ذلك.! كل نصٍّ من سنة المصطفى عليه السلام توفرت فيه شروط الصحة الخمسة، وهي: (اتصال السند – عدالة الرواة – ضبط الرواة – السلامة من الشذوذ والعلة) فهو قطعي الثبوت سواء كان خبر آحاد أو متواترا، ويُحتج به في العقيدة وغيرها من أمور الدين، وإن خالف هذا القول الحق، تهويمات وأوهام أهل علم الكلام. وهذا ما كان عليه النبي وأصحابه وأهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية.

وإنّ دحض مزاعم المتكلمين في أنّ حديث الآحاد يفيد الظن ولا تقوم به الحجة، فله أكثر من دليل وشاهد، وأقواها وأوضحها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك ثابت في السنة، قد أرسل معاذا إلى اليمن ليبلغهم دين الإسلام، وهو واحد فرد، فهل فات رسول الله عليه الصلاة والسلام أنّ معاذاً لا تقوم به الحجة على أهل اليمن، وبالتالي لا تبرأ ذمته بالبلاغ؟ والشيءَ نفسَه، نقول تعليقاً على حديث أنس بن مالك أيضا: (أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالُوا ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلاً يُعَلِّمْنَا السُّنَّةَ وَالإِسْلاَمَ. قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِ أَبِى عُبَيْدَةَ فَقَالَ: (هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ)). أخرجه مسلم

وأكتفي بهذين الدليلين الدامغين والداحضين لدعوى كل مخالف، عملا بالمثل العربي القديم؛ (كل الصيد في جوف الفرا).

أما ما يتعلق بأوصاف: (متواتر، آحاد) فهي تصف طريق ورود الحديث إلينا، ولا علاقة لذلك بالصحة وصلاحية الاحتجاج .. فيثبت الشرع بالمتواتر والآحاد، ولا تفريق بين عِلميات وعَمليات، أو عقائد وعبادات، فذلك من أوهام المتكلمين (أهل علم الكلام)، وما أكثرها..!

ويُثير أهل العقل والمنطق سؤالا للتشويش، هل يتعبدنا الله بالظن؟ علماء الإسلام يعتمدون التقسيم الآتي: (يقين، وظن راجح)
ويسمونه أيضا: (غلبة الظن، وظن مرجوح). أما الظن المرجوح، فليس من الدين والحق بشيء، وهو الذي قال عنه الله عز وجل في كتابه: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا). وأما الظن الراجح، فهو دون اليقين وفوق الظن المرجوح، وإنَّ المسلمين، مُتعبدون به كما اليقين. وأدلة تعبد المسلمين لله بالظن الراجح كثيرة. ومنها على سبيل التمثيل، أذان المؤذن لدخول الوقت، فهل دخول الوقت بالأذان يقين أم ظن راجح؟ وهل الصيام لرؤية الهلال يقين أم ظن راجح؟ وهل طهارة مكان تجوز الصلاة فيه يقين أم ظن راجح؟ وهل تحديد اتجاه القبلة يقين في أنّه إلى عين الكعبة أم هو ظن راجح؟ وأمثلة كثيرة وكثيرة جداً، تُظهر يُسر الدين، ورحمة الله بعباده، في أنّه تعبدهم بغلبة الظن أو الظن الراجح، وليس باليقين في كل مسألة، لأنّه ليس بمقدورهم تحصيله.

أما مسألة (يقيني (أو قطعي) الدلالة)، و(ظني الدلالة)، فهي أيضاً من موروثات أهل الكلام. وتوجيهُها الصحيح كالآتي: كل نص لا يحتمل إلا فهماً واحداً هو يقيني الدلالة، وهذا أمر لا خلاف عليه، ومُعظم نصوص الدين من هذا القبيل، مثال ذلك: أوقات الصلاة، عدد ركعاتها، توقيت الصوم، أنصبة الزكاة، فروض الميراث.

أما ظني الدلالة: فهو النص الذي يمكن أنْ تتعدد المفاهيم المأخوذة منه عندما يُعرض على النظر
العقلي، أو التحليل اللغوي، كالاختلاف في معنى القُرء (الحيض)، ومفهوم لمس المرأة الذي ينقض الوضوء، ودلالة حرف الباء في مسح الرأس في آية الوضوء .. والمتأثرون بعلم الكلام وأهله يرون أنّ الله أراد لهذه النصوص (ظنية الدلالة) أنْ تكون حمالة معان، توسعة وتيسيراً على العباد، وإلا جعلها كالنوع الأول..! وهذا قول على الله بغير علم، وهذا التوجه مُنسجمٌ مع الزعم الباطل أنّ (الحق يتعدد) وأنّ (الاختلاف
رحمة) .. والصحيحُ أنْ يُقال: إنَّ السنة التي أنزلها الله لتُبيِّن معاني القرآن (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، تقطع الاحتمالات العقلية واللغوية. فرسول الله حدد القرء بالحيض قولاً، حين خاطب المستحاضة: (دعي الصلاة أيام أقرائك، ثم اغتسلي وصلِّي، وإن قطر الدم على الحصير). فلا يُترك ذلك إلى ما تقتضيه اللغة .. وبَيّن أنّ لمس المرأة الناقض للوضوء هو الجماع فعلاً، حين ثبت أنّه كان يُقبل ويصلي ولا يتوضأ: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ). وبَيّن فرض مسح الرأس بفعله في صفة وضوءه: (ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهما حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ). فلا يُترك فعل النبي
وقوله وهما السنة المبينة للقرآن إلى مقتضيات اللغة وترجيح العقل. مع ضميمة بطلان (أنّ الاختلاف رحمة) وأنّ (الحق يتعدد) .. ومن هنا نعلم أنّ مذهب الرأي لم يظهر في الفقه الإسلامي إلا حين ابتعد أهله عن السنن، إما جهلاً بها،
أو تقديم ما سواها عليها، إعراضاً عنها!. ورحم الله عمر ورضي عنه إذ يقول: (أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم).

تبين من الأمثلة السابقة، أنّ ما حاول بعض المشتغلين بالفقه تسميته نصوصاً ظنيةَ الدلالةِ، لتجويز الاختلاف فيه، تمشيا مع القاعدة الآثمة الاختلاف رحمة، تُحوله نصوص السنة إلى نصوصٍ يقينيةٍ الدلالة، لا تجوز مخالفتها. وبذلك تتضح جنايات (علم الكلام) على عملية (الاستدلال).

الوقف الثامنة: متابعة العرض

من الثابت في القواعد الأصولية والفقهية (لا اجتهاد مع ورود النص) وعلى هذه القاعدة أكثر من إجماع .. وذلك بدهي جدا فإنّ النصوص أصل الأحكام، وهي نصوص منزلة من فوق سبع سماوات، ولكن إذا غاب النص في مسألة ما، أذن الشارع في تدخل العقل لاستنباط حكم اجتهاديٍ لها .. أما أن يجتمع النص والعقل ويتنافسان وتكون النتيجة تقديم الاجتهاد (يعني العقل) على النص فأمر يرفضه العقل قبل الدين. ومع ذلك وُجد في الأمة من يقول ذلك، ويدعو إليه ويعمل به .. هذا هو الدكتور يوسف القرضاوي يقول في أحد كتبه كلاما مخالفا فيه الإجماع حول القاعدة الاصولية المذكورة يقول بالحرف: (فوجود النص لا يمنع الاجتهاد كما يتوهم واهم، بل تسعة أعشار النصوص أو أكثر قابل للاجتهاد وتعدد وجهات النظر، حتى القرآن الكريم ذاته يحتمل تعدد الأفهام في الاستنباط منه، ولو أخذت آية مثل (آية الطهارة) في سورة المائدة، وقرأت ما نقل في استنباط الأحكام منها، لرأيت بوضوح صدق ما أقول). ولا عجب فالرجل المذكور مولع بعلم الكلام وتطبيقاته، ولا غرابة، فهو ينافح عن الأشاعرة ومنهجهم. ويدافع في كتبه عن قاعدة (الاختلاف رحمة)..! التي أفرزت التبديل في أحكام الدين، ومخالفة الوحيين، منذ بداياته الأولى وحتى الآن. والبرهان لمن أراد البرهان، كتابه (الحلال والحرام في الإسلام).

الوقفة التــاسعة: قواعد مُعَطَّلة

من فقه الاستدلال، للوصول إلى النتائج الصحيحة في التعاطي مع النصوص تطبيقُ قواعدَ أصوليةٍ، قد لا يوفق البعض إليها من مثل قاعدة (النبي لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة). ما معنى هذه القاعدة وما تفسيرها؟

إنّها تعني أنّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا تحدث عن أمر لا بد أن يستكمله ويأتي بكل أطرافه، ولا يترك بعده لأحد قولاً في المسألة .. ونسأل لماذا؟ فنقول: لأنّه نبيٌ، ولأنّ علمه، وما يعلمه للناس، وحيٌ فلا يعتريه نقصٌ، ولا وهمٌ، ولا نسيانٌ، ولا تقصيرٌ في التبليغ، ولا تأخير عن وقت الحاجة! ومهمته التي بعث بها عليه الصلاة والسلام هدايةُ البشرِ، والنصحُ لهم.

ورغم أهمية هذه القاعدة في عملية الاستدلال، فالملاحظ، بالتقصي، غيابها
في حالات عديدة من تراثنا الفقهي، ما أدى إلى مجيء أحكامٍ مخالفةٍ لنصوص الوحيين. وأمثل بمثال واحد دفعا للإطالة، ولأنّ الغاية هي التمثيل للفكرة لإيضاحها، وليس التقصي للحصر. والمثال هو المسح على الخفاف والنعال والجوارب. فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم طريقة المسح بفعله، ومدة المسح بقوله، وسكت بأبي هو وأمي عما وراء ذلك .. وإذا بنا نرى للعلماء في كتب الفقه كلاما وشروطا لصحة المسح، كشكل الخف، ونوعه ومتانته ووو. فهل يا ترى عزب ذلك كله عن علم النبي صلى الله عليه وسلم، أم أنّه نسيه، أو أخَّره ثم لم يذكره؟ أقول لو أنّ العلماء وقفوا حيث وقف صلى الله عليه وسلم، وأراد للمسلمين الوقوف حيث وقف، اتباعاً، مستحضرين قاعدة (أنّ النبي لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة) لأغناهم وقوفهم عن ذلك الاستدراك على النبي عليه السلام، ولحال بينهم وبين تكليف الناس، تكليفاً شرعياً،
مصدره العقل والاجتهاد، وليس الوحي والانقياد، وناهيكم بذلك شططاً وبعداً. والأصل أن يلتزم العلماء ويَعلم الجهلاء، أنّه لا يجوز أن يُتعامل مع ما جاء به نبي الأمة صلى الله عليه وسلم على أنّه اجتهادُ عقلٍ بشريٍ، فنبيحَ لأنفسنا، استكمالَ ما أنقصه، واستدراكَ ما فاته .. فما أشنعه فعلا..! وما أكفره قولا وفعلا واعتقادا..!

ووقوف المسلمين حيث أوقفهم النبي صلى الله عليه وسلم تماماً، هو الطاعة، والاتباع، بل هو الدين الحق ولا شيء غيره! وكل ما يأتي به العقل، مع النصوص، زيادة على الفهم والتطبيق، يقال فيه (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).

والقاعدة الثانية المعطلة عند بعض العلماء (إقرار النبي صلى الله عليه وسلم) في عملية الاستدل، وفهم الوقائع والأحاديث، على الوجه الصحيح. وأضرب مثالا كثر الجدل حوله، لمعرفة حكم نجاسة الدم، وهو قصة الأنصاري الذي كان في الحراسة ورماه المشرك بثلاثة سهام وهو يصلي، لقد أخذ العلماء منه أنّ خروج الدم لا ينقض الوضوء، وليس نجسا، بناء على تطبيق قاعدة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم. وكان الخلاف حول الإجابة عن سؤال: هل ثبت اطلاع النبي عليه السلام على الواقعة؟ فالأحناف لم يعتبروا أنّ تلك الواقعة دليلٌ على عدم نجاسة الدم، وأنّه ليس بناقض، لعدم ثبوت اطلاع النبي عليه السلام على الواقعة، في حين اعتبرها آخرون من العلماء دليلا قويا في المسألة، ولم يبحثوا في
قضية؛ هل اطلع النبي أم لا! معتمدين على أنّ الله مطلع، وقد سمى بعض العلماء ذلك الدليل (إقرار الله).

وأذكر أنني كنت في مناقشة مع الشيخ الألباني رحمه الله عن قصة الأنصاري فقال: (إذا كانوا قد ردوا دلالة القصة، بدعوى أنّ النبي لم يطلع، فنسألهم، ألم يطلع رب النبي)؟ كذلك، فإنّ غياب (فقه الدليل) عند بعضهم، جعلهم يثيرون مشكلة أخرى في قصة الأنصاري، حيث قالوا: هل يجوز للأنصاري الصلاة، وهو مأمور بالحراسة؟ وقالوا إنّ في اشتغاله بالصلاة تضييعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالحراسة، وقاسوا الحالة على حالة رماة أحد..! كم كان يغنينا عن كل ذلك الجدل والخوض، أن نعتقد أنّ فعل الأنصاري صحيحٌ، وأنَّ الدمَ غيرُ نجسٍ، وليس ناقضاً للوضوء، لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يطلع، وكفى.

ألا ترون معي أنّ تلك القواعد وتطبيقها في عملية الاستدلال ينقذ النص من أن يثور حوله الجدل، ويترك العمل به، بل يُعمل بخلافه، فتضعف ثقة الناس به، ومن أعجب ما سمعت من الشيخ الألباني رحمه الله، والعجب من دقة الفهم والتطبيق، قال لو أنّ الصحابة في اليمن فعلوا أمرا ولم يأت من النبي إنكار فله حكم الإقرار، لأنّ العمل في اليمن لو كان لفهم خاطئ لنص، لأوحى الله لنبيه ليصحح. من أبرز الأدلة على هذه المسألة ما جاء في الحديث المتفق عليه (كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ: (فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ فَلَمْ يَنْهَنَا)، وموطن الاحتجاج، أنّه كان مستقرا في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، أنّهم لو فعلوا في سرهم شيئا غير جائز، لبلغ النبيَ عن طريق الوحي ولنبههم عليه. فما أعظم هذا الين، وما أظلم العقل البشري حين لا يستسلم للحق.

وإلى قاعدة أخرى معطلة: إنّ علماء الحديث كان همهم الأول النظر في سند الحديث فإن صح السند سحبوا صفة الصحة على المتن. والسبب أنّ صحة السند تجعل الحديث قطعة من الوحي فلا حاجة للنظر في المتن .. ولا يستوقف المتنُ عالمَ الحديث إلا إذا وجد فيه شذوذا، وعرفوا الشذوذ بأنّه مخالفة الثقة من هو أوثق منه، عندئذ ينتقل الحديث، رغم صحة سنده، إلى قسم الضعيف. وأذكركم بتعريف العلماء للحديث الصحيح: (هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا).

ولكن أريد من هذا البحث أن ألفت الانتباه إلى المعيار الذي عاير به علماء الحديث المتن بعد صحة السند، وهو موافقة الثقة للثقات، أو لمن هو أوثق منه. فإن خالف صار الحديث شاذا، ويخرج بهذا التعريف تفرد الراوي الثقة برواية لم يذكرها غيره من الثقات، وهنا لا يكون الحديث شاذاً، بل تطبق عندها قاعدة (زيادة الثقة مقبولة). إذن، يجب التفريق بين المخالفة، والتفرد. وأضرب مثالا واحدا يوضح الفكرة تماما إن شاء الله. جاء في صحيح البخاري ومسلم الحديث الآتي: ((يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ) قَالُوا وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (هُمُ الَّذِينَ لاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فَقَامَ عُكَّاشَةُ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ. قَالَ: (أَنْتَ مِنْهُمْ). قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ. قَالَ: (سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ)).

وجاء في مسلم رواية عن شيخه سعيد ابن منصور وهو ثقة فزاد كلمة: (هُمُ الَّذِينَ لاَ يَرْقُونَ) فاعتبرت الرواية التي فيها زيادة سعيد ابن منصور شاذة رغم ورودها في مسلم، ورغم أنّ سعيدا ثقة، وذلك لمخالفته الأحاديث الصحيحة التي ثبتت فيها الرقية من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بها، وأنّ جبريل عليه السلام رقى النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة.

ولا يوجد في تاريخ علم الحديث أنّ واحدا من العلماء المعتبرين عرض متن حديث على العقل واعتبره شاذا
لمخالفته العقل..! لماذا؟ ببساطة وبداهة لأنّ العقل عند أهل الدين وأهل العلم الذين لم يشب إيمانهم دعاوى علم الكلام، وتحكيم العقل، يقتضي أن يكون الوحي فوق العقل، وما كان للعقل أن يكون حكما على الوحي بل لا بد من أن يكون تبعا له ليكون من الفائزين .. ولا يوجد استشهاد على ذلك أبلغ من موقف عمر حين قبل الحجر فقال: (والله إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك لما قبلتك). وبهذا الحسم، ضُبطَتْ معادلة العقل مع النص كما فعل عمر رضي الله عنه .. إنّ مقتضى النظرة العقلية أنّ الحجر لا يضر ولا ينفع، ويسقط دور العقل وينتهي حين جاء الوحي وأوجب الاتباع (ولولا أنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك لما قبلتك).

وأحب الآن أن أبين الفارق بين فعل علماء الحديث في ترك العمل بالحديث، مع صحة سنده، لشذوذ متنه، وقد عرفنا الشذوذ. أما أصحاب المدرسة العقلية، فيردون الحديث الصحيح لمخالفة متنِه عقولَهم، فهل يستويان مثلا..؟! وقد بدأ ذلك الانحراف من عند المعتزلة، وقد مر معنا موقف عمرو بن عبيد من الحديث الصحيح ، كما مر معنى موقف المعتزلة الجدد، في الأمر نفسه، ومثلنا لهم بالشيخ محمد الغزالي.

وملخص ما مر هو المقارنة بين فعل أهل الحديث وعلمائه، وفعل أصحاب المدرسة العقلية في التعامل مع متون الأحاديث. فالعقلانيون يقارنون المتون بالعقل، رغم صحة الأسانيد، من أجل قبولها أو ردها. بينما نرى أهل الحديث تنحصر المعايرة والمقارنة عندهم بالأسانيد والرجال، وليس العقل بمرجع ٍعند المحدثين. حتى الحديث الشاذ لا يعتبر شذوذه ناتجا عن مقارنته بالعقل. وقد أسهبنا في الشرح قبلاً.

كما أنّ الوقفة ناقشت بإسهاب جناية علم الكلام يوم جعل الجدل العقلي أساسا في الدين، وهو ما نعاه عليهم الإمام مالك رحمه الله، ورد بقوة وبعبارة مقتضبة افتراء أهل علم الكلام، حين قال: (أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء).

الوقفة العاشرة: لا زال العقل يخترع

ماذا يخترع العقل؟ ولعل لفظة يبتدع تقبل الإضافة للعبارة! الهدف الابتعاد بحياة المسلمين عن الوحيين، وهو أول محاولات أعداء الدين مع نبي الأمة عليه الصلاة والسلام: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا).

ولقد جلًى الله تبارك وتعالى تلك المكيدة لنبي الأمة عليه الصلاة والسلام، ولنا من بعده إلى قيام الساعة، فباتت مكشوفة، ومع ذلك فلا زال المسلمون يؤتون من تلك الجهة، ولا تزال المدرسة العقلية (تخترع) وتبتدع أنماطا من الكيد. ولعل أحدث ما في الساحة من المكر(العقلاني) فرية جديدة، طلع علينا بها من جديد، وهي ما سمي (فقه المقاصد)، فيما يخص عملية الاستدلال بالنصوص. وهي تعطيل العمل بالنص، وإدخال العقل ليأخذ مكان النص، وسُوغتْ العملية، بل أُسْلِمَتْ، بدعوى (الفقه المقاصدي). ولو أُنكِر على الفاعل ذلك لقال تركت العمل بالحديث لصالح تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة. وفي هذا الكلام من الضلال ما فيه، ومن العبث بالدين ما يلغيه. وهو ولاشك مناورةٌ والتفافٌ على النص. والمراقبون والمحللون لهذه الظاهرة، يقولون: إنّ الذي عجل تبلورها وطُفوها على السطح، انفتاح بعض الإسلاميين، وانغماسهم في العمل السياسي، فكَثُر الحديث عن التجديد في فهم الإسلام، وتجديد الخطاب الديني، وكثر التأويل لجسر الهوة بين العمل السياسي والعمل الإسلامي، لما بينهما من المتناقضات. كما وجد هذا التوجه بين بعض القائمين بالعمل الدعوي، حينما يرون الواقع المستعصي على الإصلاح، يفشل جهودهم. ومن ذينك التناقضين، عند الفصيلين المذكورين، ولدت فكرة (الفقه المقاصدي). وحقيقته ودوافعه، استعجالٌ للنتائج، وتصورُ وتصويرُ الفشل نجاحاً. ولا يُنفى وجود أهداف أخطر..! و(فقه المقاصد) محاولة جديدة وحديثة في تأويل الدين، تعتمد على فكرة وجود مقاصد وحقائق، لكل نص شرعي، تختلف عن ظاهر هذا النص. ولا زلنا ندور في فلك (فتنة التأويل).

وقبل الاستمرار في البحث لا بد من تعريف سريع بمقاصد الشريعة. يعرف العلماء علم المقاصد بالآتي: (علم المقاصد: هو العلم بالمعاني والحكم التي راعاها الشارع عند تشريع الأحكام في جميع أبواب الشريعة أو في بعض أبوابها).

فما هي مقاصد الشريعة؟ لقد حُصِرَتْ عند عامة العلماء في خمس أو ست، وهي : الدين، والنفس، والنسب أو النسل، والعقل، والمال، والعِرْض.

وقد تسمى المقاصد بالضروريات الخمس، أو الست إشارة إلى أنّ تحقيقها ضروري لقيام حياة الإنسان على الأرض، كما يريدها الله تبارك وتعالى. وتأكيدا لأهميتها وضرورتها في حياة الناس، ومن أجل المحافظة على وجودها أقام الشرع حدوداً من العقوبات:

فحَدُّ الردة في مقابل حفظ الدين. وحَدُّ القتل قصاصاً في مقابل حفظ النفس. وحَدُّ الزنى في مقابل حفظ النسب أو النسل. وحَدُّ شرب الخمر في مقابل حفظ العقل. وحَدُّ السرقة في مقابل حفظ المال. وحَدُّ القذف في مقابل حفظ العِرْض.

أما أدلة هذه المقاصد أو الضروريات فيَرْجع إلى الاستقراء التام لأدلة
الشريعة المُتَّفَق عليها مع اتفاق العقول الصحيحة على ذلك.

وقال الشاطبي: (قد اتَّفَقَتْ الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس: وهي: الدين، والنفس والنسل، والمال، والعقل، وعِلْمُها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه، بل علمت ملائمتها للشريعة بمجموعة أدلة لا تنحصر في باب واحد).

ونرجع إلى أصل بحثنا، وإن كان ما مضى استطرادا ضروريا. كانت بداية الفقرة عن ظهور توجه يلغي تطبيق النص الشرعي، بحجة تقديم تحقيق المقصد الشرعي، والأمثلة كثيرة أكتفي باثنين تجنبا للإطالة.

الأول: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، ويوم رقَّ الدينُ، وتراجع دور النصوص، وساد حكم العقل في الدين، وانتقلت صورة المجتمعات الكافرة وما فيها من اختلاط محرم بين الجنسين، وعلاقات مرذولة تسود أوساط الاختلاط وعلى رأسها الجامعات، تُفاجِئُنا تلك الانحرافات، بإفراز خبيث وهو الزواج المدني، ومعناه أن يسجل الشاب والشابة زواجهما في أي دائرة رسمية في الدولة، ولو في مخفر الشرطة أو عند المختار، دون وجود الولي ولا الشهود، لأنّ الغاية أن تحاط العملية بالسرية، ولعلي لا أظلم أحدا إذا قلت إنّهم يريدونها (زناً مشرعناً). ولما قام بعض العلماء يؤكدون عدم شرعية هذا الفعل، قام من الأدعياء ومن يدعي انتسابه إلى العلم الشرعي، يقول: إنّنا في إباحة هذا النوع من الزواج، نقدم مقاصد الشريعة، وهي حفظ الأنساب، وتيسير الزواج على النص الذي يعيق ذلك!

والثاني: قول بعضهم، إنّ المقصد من الحجاب، هو مجرد الاحتشام! فمتى تحقق ذلك الاحتشام، لا يجب التقيّد بالشروط الشرعية التي ذكرها علماء المسلمين لحجاب المرأة المسلمة.

ولما ساد ذلك الفهم في المجتمعات المسلمة، حيث يُرى أنصاف، وأرباع المسلمين، بسبب رقة الدين، ووجود دعاة ومفتين (متحررين)، صرنا نرى آلاف النماذج مما يسمى زورا (الحجاب الإسلامي)، أو (الحجاب الشرعي)، وترى العجب العجاب، في ذلك الحجاب، لما يجمعه من المتناقضات، عقلا وشرعا. وصرتَ ترى وتسمع أن (الكاسية العارية) تسمى بالعرف المعاصر (محجبة). وما ينقضي عجبي من هذا المصطلح النبوي (الكاسيات العاريات)، وما أراه إلا نبوءة صادقة، من الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، عما آل إليه فهم وتطبيق الإسلام، عند من يزعمون أنفسهم مصلحين، وما هم إلا مفسدين!

ولا أريد أن أطيل في التفنيد وأركز على ثلاث نقاط:

1. لا يتصور عاقل فضلا عن المسلم أن يكون هناك تعارض أو تناقض بين المقاصد الشرعية، والنصوص الشرعية، فمعروف كما ذكرنا آنفا أنّ مقاصد الشريعة مستنبطةٌ من النصوص أصلا، فكيف يتناقض الأصل مع الفرع؟

2. يجب أن يعلم أنّ النصوص وحيٌ، وأنّ المقاصد استنباطات واجتهادات عقلية لفهم النصوص، فكيف تقدم عليها..؟

3. إذا اعتبرنا أنّ تحقيق المقاصد هو من المصالح، فلا يقبل عقلا أو دينا أن يكون تطبيق النص الشرعي، وهو وحي، لا يأتي بالمصالح، ويأتي من يدعو إلى تركه لصالح تحقيق المقاصد..!

وأختم بما قرأته في بعض المقالات، عن رأي منسوب للشيخ القرضاوي، حول (فقه المقاصد)، بالرغم عما عُرف عنه من التساهل.!

يقول المقال: (يسمى الدكتور يوسف القرضاوي هذا الفريق مدرسة المُعطِّلة الجُدد، وهي مدرسة تعطل النصوص بادعاء المصالح والمقاصد، ومن سمات هذه المدرسة عنده: الجهل بالشريعة. الجرأة على القول على الله بغير علم. التبعية للغرب.

ويرى الشيخ القرضاوي أنّ مرتكزات هذه المدرسة ما يلي: إعلاء منطق العقل على منطق الوحي. ادّعاء أنّ عمرَ عطَّل النصوص باسم المصالح، ودعوى تعطيل سهم «المؤلفة قلوبهم». مقولة نجم الدين الطوفي في تقديم المصلحة على النص. مقولة: حيث توجد المصلحة فثَمَّ شرعُ الله.

وكان من نتائج ومواقف هذه المدرسة في نظر الشيخ القرضاوي: الهروب من النصوص القطعية والتشبث بالمتشابهات. معارضة أركان الإسلام والحدود باسم المصالح). منقول عن مجلة البيان العدد 308.

الوقفة الحادية عشرة: السنة فعلية وتركية

مسألة في وضوحها كالشمس في رابعة النهار، ومع ذلك كانت وما زالت مادة خلاف في الاستدلال، وما من اختلاف إلا يُستشعر الهوى من ورائه، إن لم أقل يستيقن!

فات كثيرين، وفيهم علماء، أنّ التَّرْكَ من النبي دين، كما أنّ الفعل منه دين .. وبالتالي فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم يُتابَع على الترك، كما يُتابَع على الفعل. ولا بد من مثل نضربه ليكون لنا فيه إسوة وعبرة. فالصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، كانوا نموذجا فريدا في اتباع نبيهم صلى الله عليه وسلم، فإن ترك تركوا، وإن فعل فعلوا، وإن استشكلوا شيئا سألوا. والجملة الأخيرة تحتاج إيضاحا، نوضحها بهذا الحديث المتفق عليه:

عَن ابنِ عبَّاسٍ: (أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَيْمُونَةَ وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ خَالِدٌ: أَحْرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ) قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيّ).

فخالد يعطينا النموذج والمثال لما كان عليه أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم. لما رأى النبي عليه السلام يكف يده عن الضب، توقف حتى سأل النبي عليه السلام عن الحكم، وكان يحب أكل الضب. فالأصل عند الصحابة الكرام الاتباع المطلق لرسول الله في الفعل والترك: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا). ولقد دبَّجَ بعض من ينتسبون إلى العلم، في القديم والحديث مقالات يزعمون فيها أنّ الترك من النبي عليه السلام لا يعني عدم الجواز. وقد جانبوا فيها الصواب، أيّما مجانبة! لأنّ جلّهم من الفرق والمدافعين عن الابتداع، والقائلين بالبدعة الحسنة. وقطعا لدابر التشويش، لا بد أن يعزز مفهوم القاعدة بإضافة وصف يوضحها. نقول إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعل أمرٍ، مع وجود المقتضي لفعله، وانتفاء المانع لفعله، فتركه من بعده سنة وفعله من بعده بدعة ضلالة، مهما كان الداعي لفعله. وقد ألف أكابر العلماء المحققين والمدققين، مؤلفات عن هذه القاعدة، وسألخص الصواب فيها، إن شاء الله. أقول وبالله التوفيق: الترك منه عليه السلام على ثلاثة أضرب:

أولاً:
ترك فعل لم يقم المقتضي لفعله أصلا، فليس من الشرع، فهو عفو.

ثانياً:
ترك فعل مع قيام المقتضي لفعله، ووجود مانع للفعل. ففعله سنةٌ، حين زوال المانع.

ثالثاً:
ترك فعل، مع وجود المقتضي للفعل، وانتفاء المانع له، فتركه بعده سنة، وفعله بدعة.

وها هو التفصيل:

أولاً:
ما لم يقم المقتضي على فعله فليس بشيء، فهو عدم، وبالتالي لا تناله الأحكام الشرعية. مثال: إنسان ليس عنده حالة مرضية فلِمَ يأخذ الدواء. ويتصل بهذا تماماً كلام بعض العلماء في المصلحة المرسلة أنّها شيء لم يقم المقتضي لفعله ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: تركُ فعلٍ مع قيامِ المُقتَضي لفعله، ووجودِ مانعٍ للفعل. ففعله سنة بعد زوال المانع. نعطي المثال ونطبق عليه القاعدة، فذلك أدعى للفهم. صلاةُ التراويح صلاةُ مشروعةٌ، وهي سنة، وقد صلاها النبي عليه السلام بأصحابه ثلاثَ ليالٍ جماعة، فقد قام المقتضي لصلاتها جماعة بفعل النبي عليه السلام، لأنّ النوافل لا تصلى جماعة، إلا إذا قام دليل على ذلك. عَنْ عَائِشَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى رِجَالٌ وَرَاءَهُ بِصَلَاتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فتحدثوا بِذَلِكَ فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِيَةَ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا بِذَلِكَ فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا لِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمَّا قُضيت صَلَاةُ الْفَجْرِ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يخفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفرض عَلَيْكُمْ فَتَقْعُدُوا عَنْهَا)).

يفيدنا فقه الحديث أنّ صلاة التراويح مشروعة وهي سنة، شرع النبي عليه السلام أداءها جماعةً حين صلى بأصحابه ثلاث ليالٍ، ومعلوم أنّ النوافل لا تصلى جماعة، إلا إنْ دل على ذلك دليل. فلما اجتمعوا في الرابعة لم يخرج إليهم، ولما التقاهم في الفجر قال: (أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يخفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفرض عَلَيْكُمْ فَتَقْعُدُوا عَنْهَا). فنكيف الواقعة كالآتي: صلاة التراويح مشروعة، وشُرعت الجماعة فيها لصلاة النبي بأصحابه ثلاث ليال، فكان المقتضي قائما لتلك الصلاة بتلك الكيفية. والامتناع في الرابعة، كان بسبب مانع بدا للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو خشيته أن تكتب عليهم، فيُقصِّروا في أدائها، فترك الصلاة بهم، فصاروا يؤدونها فرادى. وبعد وفاة النبي عليه السلام، وفي خلافة عمر رضي الله عنه، دخل المسجد فوجد الناس يصلون أوزاعاً متفرقين، ولفقهه رضي الله عنه فطن إلى أنّ المقتضي قائم على جواز الجماعة في التراويح، وأنّ السبب الذي منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستمرار فيها مع أصحابه خشيتُه أن تكتب على المسلمين، فلا يطيقوها. وأدرك رضي الله عنه أنّ المانع الذي تركها النبي صلى الله عليه وسلم بسببه قد زال بوفاته، وانقطع الوحي فانتفت الكتابة، فأمر بأدائها جماعة، وما زال المسلمون حتى اليوم يحيون سنة الجماعة في التراويح.

ثالثاً: ترك فعل مع وجود المقتضي للفعل، وانتفاء المانع له، فتركه بعده سنة وفعله بدعة.

أُؤكدُ هنا على عبارة (وجود المقتضي)، ويقال أيضاً: (قيام المقتضي)، والمعنى واحد، والمقصود أنّ الشيء الذي ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعله، كانت هناك مبرراتٌ ودواعٍ لفعله، ومع ذلك تركه، فالأذان مثلا مشروع قبل الصلوات، للإعلام بدخول الوقت، ودعوة الناس إلى الصلاة، وكذلك الإقامة بين يدي البدء بالصلاة، وكان يفعله الرسول عليه الصلاة والسلام في الخَمْس والجمعة، لكنّنا نراه عليه الصلاة والسلام قد تركه في العيد والكسوف والاسستسقاء، مع أنّ الحاجة قائمة لفعله، فنتركه كما تركه. ومن أذن وأقام لصلاة العيد فقد ابتدع في الدين. ولذلك أكدنا على عبارة وجود المقتضي، حتى لا يحتج أحد بأنّ النبي رغَّب بصلاة الضحى، ولم يكن يفعلها غالبا، فلماذا لا نتابعه بالترك؟ نقول لأنّ الأصل في الضحى أنّها سنه، وهي على التخيير، أما الأذان فهو واجب، ومع ذلك تركه، فيكون الترك هنا تشريع خاص لصلوت خاصة. والأمثلة متعددة.

مُهِمٌّ جداً أنْ يُعلم أنَّ كلمة سنة لا تعني هنا، مفهومها عند الفقهاء، أي هي عبادة دون الفرض، ودون الواجب في التكليف، أو (ما يثاب فاعلها، ولا يؤاخذ تاركها). إنّما هي على مفهوم الأصوليين، أي الأصل الثاني في الدين، فالدين قرآن وسنة، وهي المعنى الذي يتكرر في عبارة تنتهي بها أحاديث شتى: (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى)، ومن هذه الأحاديث مثلاً: (أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى).

وفي تعليق للشيخ الألباني، حول لفظة السنة في هذه الأحاديث، يقول: (إنّما المقصود بهذه السنة في الحديث الصحيح: الطريق والمنهج والشريعة التي سار عليها الرسول عليه الصلاة والسلام، بما فيها من أحكام حتى المباح، آخر حكم من الأحكام الخمسة). فلما كان المقتضي لفعلِ أمرٍ ما قائماً، وكان المانع مُنتفياً، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك الأمر، فذلك حظرٌ لفعله إلى قيام الساعة، لأنّ الترك منه عليه السلام يعني أنّ فعل ذلك الأمر لا يتعبدُ لله به. ورحم الله الإمام مالكا؛ يقول: (ما لم يكن زمن رسول الله ديناً، فليس بدينٍ من بعده).

وهذا النوع الثالث من أفعال الترك من رسول الله، أهم الأنواع، وأحقها بالدراسة المتأنية لخطورته فهو باب كبير لتسلل البدع إلى دين الإسلام. لذلك قلت قبلا: إنّ جُلَّ من كتبوا ليثبتوا أنّ الترك منه صلى الله عليه وسلم لا يفيد المنع أو التحريم، هم من أهل التصوف والفرق الناكبة عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي). وسنُكثر من الأمثلة ومناقشتها، للأهمية:

قراءةُ الصمدية يوم الجمعة من جماعة المؤذنين في المسجد بدعة. يأتي من يقول هي ذكر لله، وتذكير للناس في المسجد، وفي يوم مبارك، وبين يدي عبادة مشهودة، هي ركعتا الجمعة. وفوق كل ذلك هي قرآن يتلى! فأين البدعة؟ ويجاب عن هذا الكلام، فيقال لمن يعتقد صوابه، علمت شيئا وغابت عنك أشياء. مهما كان حرصك على الذكر والتذكير والخير في هذا اليوم المبارك، فحرص النبي أعظم، وهو القائل، بأبي هو وأمي: (والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه).

ولننظر كيف فهم الصحابة منهج الوقوف حيث أوقفهم الله ورسوله، يقول حذيفة بن اليمان مخاطبا أمة الإسلام: (كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول فلا تَعَبَّدوها). فباب العبادات والقُرُبات موصدٌ أمام العقل البشري واستحسانه، فالعبادات مبناها على الحظر، ولا يكون التكليف بها إلا من الله ورسوله فقط. ولنقل الشيء نفسه في بدعة صلاة المؤذن على النبي بعد الأذان، كما هو الحال في كثير من البلدان الإسلامية، ومهما قيل وسيق من أدلة عامة على فضل الصلاة على النبي، فإنّ تصنيف هذا الفعل على أنّه بدعة، يبقى هو الأصل، لأنّ النبي عليه السلام أشرف بنفسه على تعليم المؤذنين الأذان، ولم يرشدهم إلى هذه الزيادة المبتدعة، مع وجود المقتضي لها، وهو المفهوم العام لفضل الصلاة على النبي. فهي سنة
تركية يجب اتباعها، وفعلها بدعة.

ولا زلنا نسمع ونقرأ ونحاور من يحاولون رفض هذه القاعدة، والالتفاف حولها، بحجج شتى، ولكنّها داحضة. وأذكى تلك الحجج باعتقاد مروجيها، أنّك حين تنهى إنسانا، وقد يكون بعرف الناس عالماً، عن عمل تعبدي، لأنّه بدعة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع وجود المقتضي لها، وانتفاء المانع منها، فيجيبك الجاهل بتعالمٍ وانتفاشٍ متمثلاً لغروره، بيت أبي العلاء: (لآت بما لم تستطعه الأوائل)، يقول المتعالم أنا معك في كل ما قلت، وأطالبك بنص واحد عن النبي عليه السلام أنّه نهى عن فعل هذا الشيء! ويقال له ولأمثاله (الدليل عدم الدليل). لكنّ أكثر من هذا شأنهم، يجهلون معنى قاعدة (الدليل عدم الدليل)، لأنّهم جهلوا قاعدتين مهمتين:

الأولى: أنّ النبي عليه السلام يُشَرِّع بفعله كما يُشرع بقوله.

والثانية: أنّ القربات والعبادت
مبناها على الحظر، وعلى من يدعي جواز شيئ من ذلك أن يأتي بالديل. وبتبسيط يناسب فهم العوام، أقول: لقد أغلق النبي عليه السلام بفعله باباً، ومن يرد فتحه يُطالَب (مبنياً للمجهول) بالديل، وليس له أن يُطالِب (مبنياً للمعلوم) بالدليل من يُؤكد الإغلاق. وليس بعد هذا التبسيط من بساطة…!

ومن عجب أنّ الكثير من المسلمين يتخلون عن هذه القاعدة الشرعية الأصولية (السنة التركية) التي ضُيعَت في معظم بلاد المسلمين، بالمحاكمات العقلية، وابتداعات العوام، ولاعتبارت عرفية جاهلية! ولو كان في ذلك مخالفة للهدي النبوي وتضييع السنة. وأضرب مثالا، بإثبات هذه المناقشة للشيخ الألباني حول السنة التركية وأهميتها. يَتبيَّن منها، أنّ من كان مُعظِّما للسنة، وللهدي النبوي لا يتنازل عن ذلك لأي اعتبار، ولو أدَّى لنيل الجهال والسوقة من عرضه. وسأذكر لكم نموذجا من ذلك بعد المناقشة. ولنقرأ هذا الحوار في سلسلة الهدى والنور شريط رقم (698): (شيخ بارك الله فيك، الحديث الذي في صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه: «إنّ شر صفوف النساء أولها، وخيرها آخرها» فالآن في الغرف الآن المغلقة المعدة، لذلك: هل الحكم هو كذلك، كما دل عليه ظاهر الحديث؟ لأنّ الآن الأماكن هذه المغلقة؛ لأنّ النساء في معزل عن الرجال، فهل ظاهر الحديث هو كذلك في هذه الأماكن المغلقة الآن؟

الشيخ: أنا في اعتقادي لا أستطيع أن أُجيب عن السؤال؛ لأنّني أظن أنّ السائل يعترف بشرعية هذا الإغلاق، وأنا لا أرى ذلك؛ لأنّ هذه بدعة.

غلق النساء أو حبسهن في المساجد الخاصة الوسيعة؛ بسبب فساد المجتمع، حبسهن في غرفة، بحيث تخفى عليهن حركات الإمام، وبحيث أنّهنّ يتعرضن في بعض الأحيان للإخلال بالصلاة إلى درجة البطلان.

فيجب أن نرجع إلى ما كان عليه السلف الأول، هذا البحث بُحث أمس .. وقيل: إنّه نساء اليوم غير نساء أمس، وطبعاً هذا مُشَاهد. ومغزى هذا القيل: أنّه ينبغي أن نحبس النساء في هذه الغرف حتى ما يَطَّلع الرجال على شيء من عوراتهن.

وينبغي أن يُلاحظ شيءٌ وهو: أيّ تنظيم يقوم به طائفة من المسلمين ينبغي أن يُنْحى فيه منحى ما كان عليه الرسول عليه السلام؛ لأنّه هو القدوة، ليس فقط في الغايات والمقاصد، بل وأيضاً في السُبُل والوسائل الموصِلة لتلك الغايات والمقاصد، وأنتم تعلمون جميعاً معنا بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي حَضّ النساء على أن يُقِمْن الصلوات الخمس في بيوتهن في أحاديث كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «وبيوتهن خير لهن»، ومع ذلك فإنه لم يمنعهن من أن يحضرن المساجد، مع ذلك ما كان قد وضع حاجزاً وفاصلاً من جدار أو ستارة بين الرجال وبين النساء، وإنّما نَظَّم صلاة الرجال، ونَظَّم صفوف الرجال تنظيماً خلاف تنظيمه لصفوف النساء، كما هو معلوم لديكم من قوله عليه السلام: «خير صفوف الرجال أوّلها وشَرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشَرّها أولها»؛ ولذلك فاتخاذ مصلىً خاص بالنساء هذا خلاف السنة، من حيث يتوهم الكثير أنّه في هذا نوع من الصيانة للنساء، والحيلولة بينهن وبين الرجال، نحن نقول: خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد كان من الميسور له أن يفصل بين الرجال والنساء في المسجد، بمثل أي جدار ولو بجدار متواضع من الخوص من شجر النخيل، لكنه ما فعل شيئاً من ذلك، ما في داعي لمثل هذا التَكَلُّف إطلاقاً، وبخاصة أنّ لسان هذا التكلف معناه: الرضا فيما عليه -كثير- إن لم أقل عامة النساء المسلمات، من عدم التزامهن للجلباب الشرعي، فكأن الرجال حينما يرون النساء يتقاعسن ويتكاسلن عن القيام بواجب الجلباب الشرعي، فهم جعلوا بديلاً في المسجد وضع هذا الستار المادي بين الرجال والنساء).

وعدتكم بعرض تعليق من الجهال. نشر على وسائل التواصل الاجتماعي فيديو يبدؤه شيخ بقوله انظروا إلى هذا الوهابي الذي لا يغار على محارم الله، والذي يريد أن يقيم الاختلاط بين الجنسين في المساجد. ويصف أهل الخير الذين يعزلون مساجد النساء، صيانة للحرمات، بأنّهم مبتدعة .. وكلام باطل كثير، فعليه من الله ما يستحق.

أردت من هذا الكلام أن يدرك الناس الفرق الكبير، بين العالم والجاهل. بين عالم بضاعته نصوص الوحيين، والحرص على تحكيم الهدي النبوي، وإزاحة البدع من حياة المسلمين، وعامي جاهل بضاعته هيشات الأسواق وتهييج العوام من أمثاله، بكلام سوقي يرمي السنة وأهلها المنافحين عنها، ولا يدري هذا الجاهل الأفاك أنّه ينالُ من جناب صاحب السنة، صلى الله عليه وسلم، ويُجرِّئُ العوام على ذلك. وإلى الله المشتكى.

وأضرب مثالا آخر وقد امتلأت مساجد المسلمين بشرائط بيضاء تلصق على السجاد لضبط المحاذاة بين المصلين وتسوية الصفوف. وللشيخ الألباني كلام في ذلك أيضا. يقول الشيخ في الصفحة (8/ 268)، وما بعد من جامع تراث العلامة الألباني في الفقه:

(مَدُّ الخيط في المساجد بدعةٌ ضلالة، لا يجوز الاعتماد عليها في المساجد، اللهم إلا في بعض المساجد، وفي وقت مُحَدَّد، أعني: المساجد التي بُنِيَت مُنْحَرفة عن القبلة، أو لم تكن في الأصل بُنيت مسجداً، إنّما كانت داراً ثم أُوْقِفَت مسجداً واتُفِق على أنّ قبلة هذه الدار منحرفة يميناً أو يسارا. فهنا؛ لتصحيح تسوية الصف للجماهير من المصلين، لا بأس من مد الخيط هذا أو هذا الخط، تنبيهاً وتعليماً ومؤقتا.

أما المساجد التي قِبْلَتُها صحيحة واتجاهها إلى القبلة والكعبة صحيح، فوضع هذا الخط من البِدع الضلالة؛ لأنّها تُنَافِي السنة. أعني: تُنَافِي سُنَّة تسوية الصفوف، وتُنَافِي قيام أئمة المساجد بواجب الأمر بتسوية الصفوف، وما يتعلق بالمصلين.

فإنّهم إذا اعتادوا الصلاة في المساجد، وتسوية الصفوف فيها على الخيط، يصلون في مسجد ليس فيه خيط، وقد يكون في المصليات التي بدأت تنتشر هذه السنة والحمد لله في كثير من البلاد يصلون العيد في العراء، فتجد الصف من أسوأ الصفوف، لا يُحْسنون تسويته؛ لأنّهم لم يتمرنوا في مساجدهم، ولم يُمَرِّنهم أئمتُهم على تسوية الصف؛ لأنّهم لا يصلون إلا على الخيط. فهم يعتمدون مع أئمتهم على الصلاة على الخيط المبتدع، وهذا بلا شك من وحي الشيطان، وتأكيداً لبعض الآثار التي جاءت عن بعض سلفنا، الذي يقول: «ما أُحْدِثَت بدعة، إلا وأُمِيْتَت سنة». هذه حقيقة نَلْمَسُها لَمْس اليد. وهذا هو المثال بين أيديكم، مد الخط في المسجد؛ لكي لا يقول أحد للثاني يا أخي تَقَدَّم وتَأَخَّر، حتى يُصبح الصف مستقيماً تماماً، كما كان الرسول يفعل والخلفاء من بعده، حتى كان في زمن عثمان رضي الله عنه. لما اتسع المسجد النبوي بالمصلين، وتكاثرت الصفوف تكاثراً عظيماً جداً، وكُلُّ شخص معنيٌ بتسوية الصفوف، فهو يأمر الجميع بتسوية الصفوف، ويساعده ذلك الموظف، فلا يقول: الله أكبر، إلا بعد أن يَسْمَع من المُسَوِّي للصفوف بأنّ الصفوف قد استوت. هذه السُنَن قد أُلْغِيَت منذ زمن بعيد، وهذا كله تعطيل لأمر تسوية الصفوف الذي كان الرسول عليه السلام يبالغ في الحض على تسويتها إلى درجة أنّه كان يقول: {لتُسَوّون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم}، و{سَوُّوا صفوفكم، فإنّ تسوية الصفوف من حسن الصلاة}، وفي الرواية الأخرى: {من تمام الصلاة}).

وأفند الآن أقوى الحجج، بزعم أصحابها. يقولون إنّنا نطبق هنا قاعدة المصالح المرسلة. أقول يكفي هؤلاء إمعان النظر في تعريف المصلحة المرسلة، عند الأصوليين، حتى يتبينوا خطأهم. يقول الأصوليون في تعريف المصلحة المرسلة: (هي مصلحة لم يقم دليل شرعي على اعتبارها أو إلغائها، وسميت مرسلة لأنّها لم تقيد بدليل اعتبار أو دليل إلغاء).

وكل ما يأتي به الدين هو مصالح العباد. وتقسم المصالح إلى ثلاثة أنواع؛ مصلحة معتبرة وهي كل ما أمر به الشرع أو ندب إليه، وتكون معلومة بالنصوص. ومصلحة ملغاة، وهي كل ما نهى عنه الشرع وكرهه، كتحريم الزنا والخمر وأكل الأموال وغير ذلك، وهي معلومة بالنصوص. ومصلحة مسكوت عنها لم يُحكم لها بإلغاء ولا اعتبار، بل تترك لاجتهادات العلماء وأولي الأمر، حيث تدعو لها الحاجة، وسميت بالمرسلة، لقول العرب: أرسلت الدابة بمعنى أطلقتها ولم أعقلها.

بعد هذا العرض، يتضح التعريف تماما، والذي نبطل به دعوى المعارضين، أن نقول لهم إنّ ما تركه نبي الأمة، مع وجود
المقتضي لفعله، هو حكم من الشرع بالإلغاء، فلم يعد مصلحة مرسلة بل صار مصلحة ملغاة. ومما يزيد الإيضاح النظر في هذه القاعدة: (المصلحة لم يقم المقتضي لفعلها زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفعلها، فجاز فعلها بعده. أما البدعة فقد قام المقتضي
لفعلها زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها، فحرام فعلها بعده).

يبقى أن نقول للذين يمارون في إثبات سنة الترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباعها. لمَ لا تؤذنون لصلاة العيد وتقيمون كما تفعلون للجمعة؟ فسوف يقولون متابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد تركها مع قيام المقتضي لفعلها. والمقتضي اجتماع الناس للصلاة، وإيذانهم بدخول وقتها، وقد يكون الاجتماع للعيد حاشدا أكبر من الجمعة. ولنقل الشيء نفسه في صلوات أخرى كصلاة الكسوف والاستسقاء والجنازة، ونقول بعد ذلك لم تتابعون الرسول عليه الصلاة والسلام، في أمرٍ، وتخالفونه في آخر؟

ولنقل بكل جزم، إنّ سنة النبي صلى الله عليه وسلم التركية مع وجود المقتضي لها واجبة الاتباع، كالفعلية تماما، ومن فرق فليأت ببرهان. والتساهل في تأكيدها، فتح لأكبر الأبواب التي تتسلل البدع منها إلى الدين. وعن التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي: (ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة).

الوقفة الثانية عشرة: الأصل؛ العمل بظاهر النصوص، وليس بالتأويل.

الأصل في كل نص أن يؤخذ على ظاهره، ولا يُلجَأ إلى معنى مؤول أو مجازي إلا إذا تعذر الأخذ بالظاهر، وهذا ما يقتضيه العقل قبل كل شيء، مادامت اللغة وسيلة التفاهم الوحيدة بين الناس. والذي يتواضع عليه الناس ويتوافرون في أي مجتمع بشري على الأرض هو المعاني اللغوية الظاهرة وليس الباطنة المُؤوَّلة، وبعبارة أبسط هي اللغة التي تحويها المعاجم. والذي لا يَختلف عليه العقلاء أنّ التحاور بين الناس بالمعنى الباطن المُؤَوَّل يُوَلِّدُ حتماً سوءُ التفاهم وليس تحقيق التفاهم، وما أظن عاقلا يسعى لذلك. هذا كلام عام، وقد يحتاج إلى تمثيل، لو سأل شخصٌ شخصاً عن صديق مشترك بينهما، انقطعت أخباره بسبب قطيعة مارسها ذلك الثالث معهما، ما أخبار فلان؟ فأجاب المسؤول إنّه مات، فاكتفى السائل بكلمة تعزية وانصرف. ثم بدا له أن يكلم أسرة الصديق المتوفى معزياً. وكانت المفاجأة أنّ الذي رد على المكالمة هو المتوفى نفسه. ليست القصة غريبة! كل ما في الأمر، أنّ الصديق المسؤول، وبسبب امتعاضه من الصديق المقاطع، استعمل كلمة (مات)، لأنّه يعتقد أنّ الهجر للأصدقاء كالموت، من حيث البعد وانقطاع الأخبار! إذن وقع سوء تفاهم، فمن المسؤول عن ذلك؟ أهو الذي ترك اللفظ الظاهر إلى المُؤوَّل، أم الذي لم يفهم أنّ الموت يقصد به الصديق المسؤول القطيعة؟ إنّ الذي سبب سوء الفهم من اعتمد التأويل، وليس من أخذ بالمعنى الظاهر المتبادر، ولم يؤول. طال التمثيل لكنّه لا يترك في المسألة لبسا، إن شاء الله. ولنحول الآن البحث، ليكون شرعياً.

نقول: أنزل الله قرآنا ليهدي به البشر كلهم إلى قيام الساعة، ويَحسُن أن نستعرض الصفات التي وَصَف مُنْزِلُ القرآنِ بها القرآنَ المُنْزَل، فلنتأمل الآيات:

(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

(كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ).

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

وأرسل مُنزِلُ القرآنِ، تبارك وتعالى، رسولاً بلسان قومه، ليُعلِّم الناس ويبين لهم ما أُنْزِلَ إليهم، ونسب إليه البيان المبين، وأمر بطاعته، واتباعه، وألّا يُؤخذ الدينُ من أحدٍ سواه. ولنتدبر الآيات الآتية التي تخص الرسول صلى الله عليه وسلم:

(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). (وما أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)

(وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

لسانٌ عربي مبين، به القرآن أُنْزِل، ورسولٌ بلسان قومه أُرْسِل، والنتيجة الحتمية أن يصير الناس، كما أخبرهم نبيهم: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنّما المؤمن كالجمل الأنِف حيثما انقيد انقاد). فمن أين سيأتي الخلاف..؟ إنّه من النفوس والعقول التي تأبى الحق، الذي مَنَّ الله به على العباد. وقد أنبأنا الله بخبر هؤلاء: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

ولما ضلوا وفارقوا ما أنزل الله باتباع أهوائهم، بحثوا عن تبريرات واهية، وحجج باطلة، ليَلموا الشطط الذي صاروا إليه، ويثبتوا أنّهم لا زالوا في فلك النصوص يسبحون، لكنّهم مخصومون بقول الله (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا).

ولتستبين سبيل المخالفين، العابثين بدينهم، أعرض صورة من ضلالهم وإخلادهم إلى الأرض، بعد ما جاهم من البينات من ربهم. وهذه صورة الشطط الذي هم فيه. يقول الشاردون عن المنهج الحق على لسان أحمد الصاوي، في حاشيةٍ على تفسير الجلالين: (ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة، والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر، لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر).

ولا بد من الاعتراف، أنّ بعض التعريفات التي جاءت في كتب الأصول، وليدة علم الكلام، أحدثت تشويشاً في مسألة الأخذ بظاهر النصوص. ففي حين أكدنا على تعريف ظاهر النصوص بأنّه مدلولها المفهوم بمقتضى الخطاب العربي، نجد تعريف الظاهر في كتب الأصول مخالفا لما ذكرنا. فقد جاء عند متأخري الأصوليين أنَّ (الظاهر عندهم ما احتمل معنى راجحاً وآخر مرجوحاً)، أما النص عندهم فهو (والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا). ولذلك قال بعض المحققين المنصفين، الرافضين لصنعة أهل الكلام: (إنّ الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف، غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين، والواجب في نصوص الوحي إجراؤها على ظاهرها المتبادر من كلام المتكلم، سواء ما جاء عن الله أو عن رسوله، وهذا المعنى هو مراد المتكلم، ونفيه يكون تكذيباً للمتكلم، أو اتهاما له بالعي وعدم القدرة على البيان عما في نفسه، أو اتهاما له بالغبن والتدليس وعدم النصح للمكلف، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى وحق رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم). منقول عن مقال رصين في موقع (الدُرَرُ السَّنِّية) لم يُذكر اسم كاتبه.

والبحث في موضوع الظاهر والباطن أو المؤول يُسلمنا تلقائيا إلى عنوان وبحث جديد وهو التأويل الذي عليه مدار الجدل. وقد كثر اللبس وسوء الفهم لتعدد معاني التأويل، واستعمالات الكلمة. والتعريف الوافي للتأويل هو: (صرف الكلام عن ظاهره المتبادر، لذهن السامع، إلى معنى مؤول، وقد يسمونه مجازيا، من غير قرينة شرعية تحتم أو تبرر ذلك الصرف)، ولا بد من أن تكون القرينة شرعية، لا عقلية، منطلقها الهوى. والذين سمَّوا صرف معنى النصوص عن ظواهرها تأويلا، لم ينصفوا، فهو، والحق يقال، أقرب إلى التحريف والتضليل منه إلى التأويل.

والتأويل أنواع ثلاثة، وما يأتي مأخوذ عن فتوى للشيخ العثيمين، مع اختصار غير مخل:

أ. تأويلٌ يكون بمعنى التفسير، كقول كثير من المفسّرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا، كالطبري، وكالقاسمي الذي سمى تفسيره (محاسن التأويل).

ب. تأويلٌ بمعنى عاقبة الشيء، أو مآله، كقوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) ومنه قول يوسف عليه السلام، لما خرّ له أبواه وأخوته سجداً (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ)، أي: هذا وقوع رؤياي.

ج. التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره، وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دلّ عليه الدليل فهو محمود، ويكون من القسم الأول وهو التفسير، وإن لم يدل عليه الدليل فهو مذموم ويكون من باب التحريف وليس من باب التأويل. مثاله قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فظاهر اللفظ أنّ الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه وعلا عليه، فإذا قال قائل: معنى استوى: استولى على العرش، فنقول: هذا تأويل باطل من عندك. وكذلك ما فعله بعض الطوائف في تأويل الأسماء والصفات.

وقال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى: (وَمَنْ عَلِمَ حَالَ خَاصَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ- عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ تَصْدِيقًا لِبَاطِنِ أَمْرِ خَبَرِهِ وَظَاهِرِهِ وَطَاعَتَهُمْ لَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ فِي خَبَرِهِ وَأَمْرِهِ مَا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ مَا بَيَّنَهُ لَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ نُصُوصِهِ عَلَى خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ اللَّهُ عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ هَذَا مَا ظَهَرَ إلَّا مِمَّنْ هُوَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالِاتِّحَادِ كَالْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْجَهْمِيَّة نفاة حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ).

وفي فتح الباري، لابن حجر، كلام نفيس في إنكار التأويل الكلامي ومناهج الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين، يقول الحافظ: (وَقَدْ تَوَسَّعَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْفَاضِلَةِ فِي غَالِبِ الْأُمُورِ الَّتِي أَنْكَرَهَا أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعُهُمْ وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِذَلِكَ حَتَّى مَزَجُوا مَسَائِلَ الدِّيَانَةِ بِكَلَامِ الْيُونَانِ وَجَعَلُوا كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ أَصْلًا يَرُدُّونَ إِلَيْهِ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْآثَارِ بِالتَّأْوِيلِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَكْرَهًا ثُمَّ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ الَّذِي رَتَّبُوهُ هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَوْلَاهَا بِالتَّحْصِيلِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ عَامِّيٌّ جَاهِلٌ فَالسَّعِيدُ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَاجْتَنَبَ مَا أَحْدَثَهُ الْخَلَفُ).

وأذكر أنّ عنوان وقفتنا هذه كان: (الأصل؛ العمل بظاهر النصوص، وليس بالتأويل).
ومن العنوان أنتقل
إلى ختام الوقفة بكلام
رائع لابن القيم، في كتاب (إعلام الموقعين عن رب العالمين) عن التأويل:

(فَأَصْلُ خَرَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إنَّمَا هُوَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِكَلَامِهِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُرَادُهُ، وَهَلْ اخْتَلَفَتْ الْأُمَمُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ وَهَلْ وَقَعَتْ فِي الْأُمَّةِ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ فَمِنْ بَابِهِ دَخَلَ إلَيْهَا، وَهَلْ أُرِيقَتْ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفِتَنِ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ [الْأَدْيَانُ السَّابِقَةُ إنَّمَا فَسَدَتْ بِالتَّأْوِيلِ] وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ، بَلْ سَائِرُ أَدْيَانِ الرُّسُلِ لَمْ تَزَلْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ حَتَّى دَخَلَهَا التَّأْوِيلُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ).

وبعد فالموضوع تطاول، مع حرصي ألا يكون، لكنّه غني، وأقول ثانية، لقد جاء متمشياً مع الهدف من إنشائه، فهو ليس لكل مسلم، إنّما لمن يحمل همّ الإسلام، بين جنبيه، ويقدمه على كل الهموم. وأسأل الله النفع لقارئه، والأجر لكاتبه. ويا حَمَلة الهمّ، فليوفقكم الله، ما دمتم على طريق الإصلاح سائرين. وأي إصلاح! إنّه الأعظم والأهم؛ استرداد الأمة الغائبة. ولْنذَكِّر أنفسنا، دائما، أي عُدَّةٍ نُعد لتحقيق الهدف العظيم؟ لطالما قلنا وأعدنا وأكدنا: دعوة على بصيرة، وتصفية وتربية .. فلا تَعُدُّوا الخطى، بل اضبطوا المنهج، ولا تسابقوا الزمن، فلا بد من أن يبلغ الكتاب أجله، والنتائج بيد الله وحده، تبارك وتعالى. ولا يشغلنَّكم عن هَمِّكُم شيء، إلا إبراء الذمة عند الله. وقد اختصر الشيخ الألباني الكلام فقال: (العبرة أنْ لا نموت خارجَ الطريق). ونُذكر من لا يزال يُفكر، إنّ الطريق واحد، لأنّ الله واحد: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ولنقرن مع الآية الكريمة شرح النبي صلى الله عليه وسلم لها: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ) ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَالَ: (هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ثمَّ قَرَأَ {وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ})).

فالحذر، الحذرَ أخي المسلم أن تكون عن يمينِ أو شمال طريق الله، فتبوءَ بوصف نبيك!!!

والحمد لله رب العالمين