Skip to main content

فَلْنُـجَـدِّدِ الهِـجْـرَةَ

By الأثنين 20 جمادى الأولى 1437هـ 29-2-2016ممحرم 21, 1441دراسات

إنّ موضوع الهجرة أصبح لكثيرين من المتحدثين والمستمعين، كلاماً إنشائياً مكروراً، وعرضاً تاريخياً محفوظاً، واستنباطَ أفكارٍ مألوفاً، وبذلك فقدَ في حياة المسلمين وقعه المطلوب، وتأثيره المرغوب .. فلا بُد من جديد..!

والجديد أن نسأل أنفسنا: ماذا يعني موضوع الهجرة؟ وماذا نفهم منه؟

وهذا السؤال أو التساؤل ينطوي عندي على سؤالين، ظاهرٍ وخفيٍ. أما الظاهر فقد ذُكِرَ (ماذا يعني موضوع الهجرة؟ وماذا نفهم منه؟)، وأما الخفي، الذي قد لا يخطر ببال، والذي أُحبُّ، وأرى ذلك واجباً، البدء به، فهو كامن في قولي: (أن نسأل أنفسنا)، وإخال أنّ أكثر المسلمين باتت حقائق أنفسهم غير واضحة لهم ولغيرهم، فصار لزاماً أن نطرح هذا السؤال، ليعود إلى المسلمين التميز الذي فقدوه، وفي كل شيءٍ في حياتهم، وعلى رأس ذلك حياتهم الدينية.

ومع تداول الأيام، والبعد عن الأصول، صارت لفظة المسلمين، أو وصف المسلمين، غير دقيق الدلالة، وقد يشمل، باتساعه غير العلمي، وغير الواقعي، بل السطحي العاطفي، أعداءً للمسلمين..! لا يصدمنَّكم العجب، أوليس الصفويون الذين قلبوا لأهل السنة ظهر المجن في السنوات الخمس الأخيرة، وقاتلوهم في كل ميدان، ومع كل عدو، كنا ولا زال بعضنا، ولا زالت كتبنا تَعدهم من المسلمين، بمقولة: (أليسوا يستقبلون قبلتنا ويصلون صلاتنا ويأكلون ذبيحتنا…؟). حتى وقع الفأس في الرأس، وما أكثر البينات والبراهين التي تجاهلناها، وجادلنا فيها فوقع ما وقع، والعلماء مقصودون قبل العوام .. كذلك، ألم تكن الأصول التي أنتجت لنا داعش وأخواتها، وهم من يحاربون الإسلام اليوم، مادياً بالقتل والتدمير، ومعنوياً بالتشويه والتبديل، مُكرمةً أو على الأقل، مسكوتاً عنها، ومن العلماء، بمقولة: (إنّهم شباب خرجوا من صفوف طلابنا، وهم من يقفون في وجه أمريكا، والحكام) ويا للغفلة..! أولم يكونوا في عداد المسلمين..أيضاً..؟

أوليس محسوباً من المسلمين، بالسذاجة والسطحية والعاطفية نفسها، من الفرق الإسلامية من يصادم في طريقته نصوص الوحين، وما عليه أهل القرون الثلاثة، ويتبع غير سبيل المؤمنين، ينتظر فرصته، لينطلق بعداوته إلى العلن .. وهل الراقصون في مؤتمر غروزني، فرحاً بانتصار باطلهم، وطرباً لما يلقاه السنة في العراق وسوريا وغيرها، عنا ببعيد..؟

أما آن لنا أن نَنْضُوَ عنا ثوب الغفلة والسذاجة والعاطفية، وهو الثوب الذي خيط لنا من أعدائنا، وإن كانوا من بني جلدتنا..؟ كل ما لقينا ونلقى كان نتاج الجهل والهوى، حين زَهِدْنا وزَهَّدنا بحديث الافتراق: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة) وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي). وصدقنا من ضعفوه، جهلاً أو هوىً، وهم من النخب والعلماء، ونسينا أنّ له أصلا في كتاب الله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). وفي الآية نكتة خافية مستنبطة من لفظة (فَسَيَكْفِيكَهُمُ)، فمن الذين يكفي اللهُ رسولَه؟ إنّهم الأعداء حصراً .. وماهو وصف الأعداء في الآية؟ إنّهم المتولون الذين لا يماثل إيمانهم إيمان الرسول عليه السلام وأصحابه، أفلا يعني أنّ كل من خالف الوحيين، عالماً مختاراً عدو للمسلمين، فلم التلبيس..؟

أولم يأنِ لنا أن نسأل من نحن إذن؟ لنعرف أنفسنا، ونعرف أعداءنا المستترين بيننا، بل المُرَأَّسين أحياناً، كي ننطلق الانطلاقة الكبرى، بعد طول رُقاد وإخلاد .. فمن نحن؟ أو ماذا يجب أن نكون؟ وها هي الإجابة ولكنّها تطول:

من نحن؟ نحن أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، هذا المنهج الذي شَرُف، وشَرَفُه أن لا صحيح، ولا مقبول عند الله سواه، وهو اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالنص والاسم لأمته، بعد أن حذرهم الافتراق الذي أصاب الأمم السابقة، وجعل أهله ومتبعيه هم الفرقة الناجية الوحيدة، من بين ثلاث وسبعين فرقة .. وهو فرض وواجب على كل مسلم، ولا خيار.

من نحن؟ نحن أهل الوحيين (تعلماً وعملاً وبثاً في الناس واستغناء
بهما عما سواهما). نحن الذين لا نقدم بين يدي الله ورسوله، ولا نقبل أن يعلو فوق صوت الوحيين صوت.

من نحن؟
نحن الذين
يُقدسون نصوص الوحيين ويعرفون لها قدرها، ويوقنون أنّ النص الواحد من الوحيين أقدس من كل شيء في الكون، بل من الكون نفسه، لأنّه من عند الله نزل.

من نحن؟ نحن الذين سمانا نبينا (الغرباء) ووصفنا بأنّا (ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم). فكان ذاك الاسم والوصف من نبينا شهادة لنا بأنّنا على الحق، رغم غربتنا .. يوم صَدَّقَ الواقعُ تلك التسميةَ وذلك الوصفَ.

من نحن؟ ولا أحب أن يفهم أحد أنّ الكلام السابق مناورة أو تهرب من أن أقول: نحن السلفيين .. بل أقول: تلك تهمة لا ننفيها وشرف لا ندعيه .. من منا لا يرضى ولا يحب أن يكون مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي..؟ من منكم يتحرج من أن يكون مع ابن عمر وابن عباس وابن مسعود..؟ من منا لا يتمنى أن يكون مع أبي هريرة وأبي ذر وبلال وصهيب وسلمان..؟ اقرؤوا هذا الحديث المتفق عليه، والذي هو بشارة ما بعدها بشارة لمن أحب السلف واهتدى بهديهم:

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَقُولُ فِى رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)).

وإليكم بشرى فوق بشرى وهي ألفاظ متغايرة في روايات الحديث تعطي طيفاً أوسع من المعاني … يقول ابن حجر في الفتح: (وفِي رِوَايَة سُفْيَان (وَلَمَّا يَلْحَق بِهِمْ) وَهِيَ أَبْلَغ فَإِنَّ النَّفْي بِلَمَّا أَبْلَغ مِنْ النَّفْي بِلَمْ، فَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ الْحُكْم ثَابِت وَلَوْ بَعْد اللَّحَاق. وَوَقَعَ فِي حَدِيث أَنَس عِنْدَ مُسْلِم (وَلَمْ يَلْحَق بِعَمَلِهِمْ) وَفِي حَدِيث أَبِي ذَرّ (وَلَا يَسْتَطِيع أَنْ يَعْمَل بِعَمَلِهِمْ) وَفِي بَعْض طُرُق حَدِيث صَفْوَان بْن عَسَّال عِنْدَ أَبِي نُعَيْم (وَلَمْ يَعْمَل بِمِثْلِ عَمَلهمْ) وَهُوَ يُفَسِّر الْمُرَاد).

ويبقى الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم لكل تلك الطيوف من المعاني (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ). منطوق الحديث ومفهومه أنّ حبنا السلف، ودرتُهم الصحابة، يؤهلنا لأن نُحشر ونكون معهم يوم القيامة، ولو قصرت أعمالنا عن أعمالهم .. فأين يكون الصحابة ومن تبعهم بإحسان يوم القيامة..؟ ولكن عنوان (ما أنا عليه وأصحابي) أعظم وأقدس وأدق وأنجى من أي عنوان أو تسمية، لأنّه من بين شفتي النبي الكريم خرج، وكان على المؤمنين، واجباً وليس خياراً.

ليقل الآخرون ما يقولون، ولن نختار عن صحبة أنفاس السلف وهديهم، وعلى رأسهم صحابة نبينا، في الدنيا، وأن نكون معهم في الآخرة أي خيار. وليختر غيرنا ما يختار من صحبةِ من ينال من السلف، ويرغب عن هديهم، ويأنف أن يكون سلفياً، ويحب أن يحشر خلفياً والله الموعد .. والآن، وقد عرفنا أنفسنا وأعداءنا، ما موقفنا من الهجرة؟

الوقفة الأولى: حديثان صحيحان يحددان الخطوط العريضة لموضوع الهجرة، أولهما له ارتباط زماني ومكاني، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا).

وفي المعاجم: (وَأَصْل الْهِجْرَة هَجْر الْوَطَن، وَأَكْثَر مَا يُطْلَق عَلَى مَنْ رَحَلَ مِنْ الْبَادِيَة إِلَى الْقَرْيَة).

أما الحديث فيتناول هجرة معينة، وهي الْهِجْرَة الَّتِي هِيَ مُفَارَقَة الْوَطَن الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَة بل واجبة عَلَى الْأَعْيَان من مكة إِلَى الْمَدِينَة. والحديث يحكم بانقطاع تلك الهجرة وسقوط فرضيتها بعد فتح مكة لسببين: الأول أنّ مكة صارت دار إسلام ولم يعد للهجرة منها مبرر. والثاني أنّ الإسلام قوي وازداد أتباعه، فلم يعد للهجرة إلى المدينة، لتكثير سواد المسلمين فيها من مبرر، والله أعلم.

ومعنى قوله: (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) أي إذا توقفت الهجرة، فالجهاد ماض، ولا بُد من هذا البيان منه عليه السلام، لأنّ الأصل أنّ الجهاد والهجرة متلازمان، فالجهاد يستلزم من المجاهد هجر الأهل والوطن، فيكون حكم الهجرة من أجل الجهاد مع صلاح النية باقٍ.

وكذلك فإنّ حكم الهجرة باقٍ إلى يوم القيامة عند قيام أحوال تشبه حال مكة والمدينة. ونستطيع أن نسميها بالهجرة المفتوحة إلى قيام الساعة، والهجرة المفتوحة إلى قيام الساعة يختلف حكمها باختلاف الأحوال المحيطة، والظروف الملابسة وسيكون تفصيل بإذن الله. وعلى ذلك أدلة:

. عن معاوية وغيره مرفوعاً: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها).

. (إنّ الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد). وفي رواية: (لن تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار).

وقد ذكر ابن حجر رحمه الله في الفتح كلاماً لبعض أهل العلم حول أحكام الهجرة المفتوحة إلى قيام الساعة، كما أسميته، نافعاً وحقيقاً بالاطلاع عليه: (حُكْم غَيْر مَكَّةَ فِي ذَلِكَ (أي في الهجرة) حُكْمهَا فَلَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ بَلَدٍ قَدْ فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ .أَمَّا قَبْلَ فَتْحِ الْبَلَدِ فَمَنْ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحَد ثَلَاثَة: الْأَوَّلُ قَادِر عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْهَا لَا يُمْكِنُهُ إِظْهَار دِينِهِ وَلَا أَدَاء وَاجِبَاتِهِ فَالْهِجْرَة مِنْهُ وَاجِبَةٌ. الثَّانِي قَادِر لَكِنَّهُ يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ وَأَدَاءُ وَاجِبَاتِهِ فَمُسْتَحَبَّة لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِهَا وَمَعُونَتِهِمْ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْأَمْنِ مِنْ غَدْرِهِمْ وَالرَّاحَةِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ. الثَّالِث عَاجِز يُعْذَرُ مِنْ أَسْرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْره فَتَجُوزُ لَهُ الْإِقَامَةُ فَإِنْ حَمَلَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكَلَّفَ الْخُرُوجَ مِنْهَا أُجِرَ). وقد أحببت إيراد هذا التفصيل لابن حجر لأنّنا قد يشكل علينا حكم المسلمين، في بلاد الكفر، من أهل البلد نفسه، هل تجب عليهم الهجرة؟ فتفصيل ابن حجر واف في الموضوع.

الوقفة الثانية: لقد ابتلي المسلمون اليوم بما يمكن تسميته بالهجرة المعاكسة. وما المقصود بالهجرة المعاكسة؟ إنّ المفهوم الإسلامي الصريح للهجرة واحد، وهو الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، فراراً بالدين ونصرة للدين .. أما الهجرة المعاكسة اليوم فهي هجرة من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر، بتأويلات وتبريرات أوهَى من بيت العنكبوت. وفي الأغلب الأعم إنّ الداعي والدافع لتلك الهجرة مطمع مادي .. وأقول ابتداء: لا أنكر أن يكون أحد قد أخرجه من بلده، أن يقول ربي الله، ولم يجد بلداً مسلماً يؤويه فهو معذور عند الله إن
شاء الله. أما في غير تلك الحال فالنصوص صريحة قاطعة مانعة، وإليكم بعضها:

رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق بَهْز بْن حَكِيم بْن مُعَاوِيَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه مَرْفُوعًا: (لَا يَقْبَل اللَّه مِنْ مُشْرِك عَمَلًا بَعْدَمَا أَسْلَمَ أَوْ يُفَارِق الْمُشْرِكِينَ) .. وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيث سَمُرَة مَرْفُوعًا: (أَنَا بَرِيء مِنْ كُلّ مُسْلِم يُقِيم بَيْن أَظْهُر الْمُشْرِكِينَ). وفي رواية: (قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال: (لا تراءى ناراهما)).

ولا يجحد عاقل أنّ الإقامة بين أهل الكفر خطر على دين المقيم وخطر على دين أهله وأولاده، فتأثير البيئة أمر مُسلّم به لا يقبل المناقشة .. ولكن الذين ابتلوا بذلك فضلاً عن تجاهلهم للمحاذير، وإلقائهم المعاذير، وتأويلهم النصوص لا يُحسون بخطورة الحال التي هم فيها، لأنّ نقصان دينهم يكون شيئاً فشيئاً وليس دفعة واحدة.

وأكبر حجة يتمسك بها أولئك الحرية ويؤكدون على الحرية الدينية، ويغيب عنهم أنّهم يعطون شيئا وتؤخذ منهم أشياء، والذي يُسلب منهم أعظم وأخطر، إنّه الدين .. وقد كثر في هذه الأيام الحديث عن الهجرة، والنصوص الذي ذكرت آنفا واضحة. وأقول: لا يُفكرنَّ الذي تحدثه نفسه بالهجرة إلى بلاد الكفر، باستصدار فتيا من شيخ أو عالم، وليفكر ماذا سيقول لربه حين يقف بين يديه، وليفتِ نفسه..!

الوقفة الثالثة: بعد الحديث عن الهجرة بظاهرها المادي الجغرافي الذي يعني الانتقال من مكان إلى مكان من أجل الدين. فإنّ للهجرة مضامين أخرى شرعية، معنوية، سلوكية. فللهجرة إذن وجهان: مادي جغرافي، ومعنوي سلوكي .. يقول صلى الله عليه وسلم: (أفضل المؤمنين إسلاما من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وأفضل المهاجرين من هجر ما نهى الله تعالى عنه، وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل).

ويقول: (المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب).

ويقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه). ويقول: (أفضل الهجرة أن تهجر ما كره ربك عز وجل).

وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْعِبَادَةُ فِى الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَىَّ). وفي رواية: (في الهرج والفتنة).

فلننظر إلى تلك المضامين الرائعة التي حَمَّلها نبي الأمة عليه السلام لكلمات إسلامية معروفة كالمؤمن والمسلم والمجاهد والمهاجر، وإنّ العمل بكل تلك المضامين واجب لأنّها جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونعود إلى موضوعنا الخاص وهو الهجرة، وإلى ما فيها من المضامين غير المضمون المادي الجغرافي، الذي قد يكون حالة استثنائية أو نادرة في حياة المسلم، أما المضامين الأخرى المعنوية فهي هجرة تلازم المسلم ملازمة ظله، أو نقول هو في هجرة دائمة لا تنقطع، وقد سماه النبي عليه السلام (مهاجراً) وهو مقيم في وطنه لم يبرحه، لأنّ هجرته تكون بروحه، ودينه، وخلقه وعمله ليَتَمَيَّز بكل ذلك عمن حوله من جاحد أو متردد أو مقصر، بل ليكون بدينه الحق
شامة بين الناس. ولقد تلقى هذا الفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض العلماء مؤكدين عليه.

يذكر ابن حجر في الفتح كلاماً لابن أبي جمرة في شرح حديث (لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) يقول فيه: (قَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة مَا مُحَصِّله: إِنَّ هَذَا الْحَدِيث يُمْكِن تَنْزِيله عَلَى أَحْوَال السَّالِك لِأَنَّهُ أَوَّلًا يُؤْمَر بِهِجْرَةٍ مَالُوفه حَتَّى يَحْصُل لَهُ الْفَتْح، فَإِذَا لَمْ يَحْصُل لَهُ أُمِر بِالْجِهَادِ وَهُوَ مُجَاهَدَة النَّفْس وَالشَّيْطَان مَعَ النِّيَّة الصَّالِحَة فِي ذَلِكَ).

وابن القيم استلهم من تلك الأحاديث موضوع كتابه الموسوم (طريق الهجرتين وباب السعادتين) يقول في مقدمته:(وله (يقصد المؤمن) في كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجوء والافتقار في كل نفس إليه. وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته ولا يقبل الله من أحد دينا سواه وكل عمل سواه ، فَعَيْشُ النفس وحظُها، لا زاد المعاد).

ومن الضروري ونحن نبحث في معاني الهجرة أن لا ننسى أول هجرة شرعية وهي هجرة أبينا وأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وقد حكى القرآن عنه ذلك في قوله: (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وفي آية أخرى: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ).

ومن كل النصوص المتقدمة نفهم أنّ الهجرة بمفهومها المعنوي والسلوكي هي عبادة لله، وطاعة له ولنبيه وتطبيق لكل الأوامر والنواهي التي جاءت عنهما. وحري بنا نحن الذين ارتضينا لأنفسنا الأوصاف التي استهللت بها الموضوع، أن نتذاكر ونتواصى أشكالاً من الهجرة الدائمة، ونحن في ذكرى الهجرة. وهذه بعض الأشكال على سبيل التمثيل وليس الحصر:

1. أن تكون هجرتنا الأعظم إلى الله ورسوله، وأن نترجمها يقيناً واعتقاداً أنّ الإسلام دين مادته الوحيان، وأنّ طريقه الاتباع بأنواعه الثلاثة: اتباع ما أنزل من ربنا. اتباع النبي صلى الله عليه وسلم. اتباع سبيل المؤمنين.

2. الهجرة في زمن الفِرَق والافتراق إلى إسلام واحد هو إسلام (ما أنا عليه وأصحابي) لأنّ غيره من أشكال التدين المطروحة على الساحة اليوم لا ثمن لها عند الله، ولا تزيد أصحابها إلا ضلالاً وخساراً. فما لم يكن زمن محمد دينا فليس بدين من بعده.

3. الهجرة إلى سلف الأمة متمثلاً بالقرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)، وجعلهم المعيار والميزان والحَكَم في ما اختلف الناس فيه أو خالفونا فيه، فهم المرشحون من الله ورسوله لهذه المهمة .. وليس هذا اختياراً بل واجباً، ومن رفض الاحتكام إليهم في الدين فقد رد على الله ورسوله شهادتهما فيهم.

4. هجرة عظيمة نهجر فيها البدع وأهلها، فما أفسد الدين إلا البدع، فبها صار الدين لغير الله ما دامت أصوله انحدرت من كونها سماوية علوية إلى أرضية سفلية. ومن احتواء البدع، والحرب عليها أن تكون ثقافتنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الصحيح من السقيم عالية، وأن نبث ذلك في الناس فالأحاديث الضعيفة والموضوعة هي البوابة التي تسللت البدع من خلالها إلى حياة المسلمين.

5. هجرة نهجر فيها المجاملة والمسايرة والمساومة في دين الله لنكون ممن لا يخشون في الله لومة لائم، لأنّه لا يجامل ويساير ويهادن الآثم إلا آثم مثله. ولِم المجاملة والمهادنة والمسايرة والله علمنا أصول التحرك بهذا الدين: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) فلا عنف ولا استبداد ولا مصادرة..!

ونحن لا ندعو الناس بدعوة أرضية لأشخاص أو جماعات أو أحزاب إنّما ندعوهم بدعوة الوحيين، فمن استجاب فلنفسه أحسن، ومن أعرض فعليها، والله حسيبه.

6. الهجرة الأخيرة أتدرون إلى أين..؟ إلى أرض المآسي، إلى ميدان النكبات، إلى بؤرة الظلم والظلام، إلى سوريا الذبيحة والجريحة والمبادة، بلد الدماء والخراب والدمار، فليهاجر كل مسلم، وليس كل سوري، إلى تلك الأرض بروحه وقلبه وعقله .. فما جرى في سوريا هو الفصل الأول، من مسلسلٍ ستتبعه فصول..! فلنهاجر إليها بقلوبنا دعاءً وابتهالاً، وبأموالنا معونةً وتبرعاً وعطاءً، وبعقولنا المستهدية بنور الوحيين، نصحاً، وتوجيهاً، وتعلماً لدرس كبير، لم يستطع المسلمون تعلمه، قبل أن ينزل ما نزل، وما أكثر ما عند المسلمين من نُذُرٍ وتحذيرات، لكنّها الغفلة والبعد..!

وأبرز درس كان ينبغي أن يتعلمه المسلمون قبل خوض أي صراع، ما علمهم إياه ربهم في كتابه الكريم، من ضرورة إعداد الأنفس للصراع قبل الاستعداد له بعدده وخططه، فهل تعمق المسلمون اليوم، في دراسة شرطي الله للنصر والتمكين وهزيمة الأعداء، فحققوا في أنفسهم وإخوانهم ذينك الشرطين ليستحقوا من ربهم نتائج تقر بها أعينهم..؟ ماهما الشرطان؟

(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) و (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).

ألخص الشرط الأول: بأنّ الله كلفنا ما نطيق (وهو تغيير أنفسنا) وتكفل لنا بما لا نطيق (وهو كل عداوة من أهل الأرض تريد ديننا وتريدنا، في الداخل والخارج).

أما الشرط الثاني: أن تكون مساءلة النفس معنا في كل لحظة، فنعزو إلى أنفسنا سبب كل تعثر وفشل ولا نُحمله أي جهة أخرى، قبل أن نستكمل مساءلة الأنفس، وتغدو الصعاب عندئذ امتحانا للكشف
والتمحيص: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) و (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ).

أما أنت يا سوريا، فلنقل بملء أفواهنا، وأعلى أصواتنا، لقد تمالأ عليك أهل الأرض بظلمهم، لكن أشد ظلم وقع عليك يا سوريا، ظلم أهلك وبنيك، وقد كانوا من أشد الظلمة عليك. لماذا؟ لأنّهم لمّا قاموا ينتصرون لك اتبعوا وحكَّموا كل شيء إلا الدين الحق وتعاليمه، واستبدلوا به دين السياسة، وفكر الإسلام السياسي، فما زادوكِ غيرَ تَخْسير .. وضربوا لكل أهل الأرض أسوأ الأمثلة في الفرقة والخذلان وتسلط الأنا .. ولقد استبدلنا، عمليات التوالد الانشطاري المتسارعة للفرق والفصائل العاملة في كل مجال، بالتوحد والتلاحم لمواجهة الخصم والكيد .. فحققنا في التعددية والفرقة شأوا، لم يبلغه قبلنا أحد..!

وهاهم بعض أبناء سوريا، من المفكرين والمنظرين، يطلعون علينا كل يوم، في وسائل التواصل، في ما سُمي (فقه الثورة)، في كلام تأخر عن وقته كثيراً كثيراً، أين كانوا في البدايات؟ هم من صنع الخلل، ودعا إليه، وشجع عليه، هم الذين تحركوا بالعواطف وقفزوا فوق النصوص والمنهج، هم صانعوا الهزيمة، حين لم يقدموا النصح القائم على التأصيل .. وجاؤونا اليوم متسابقين في محاولة القفز من السفينة الآيلة إلى الغرق، بتذاكٍ، أو تغابٍ..!

إنّ ما نزل بالمسلمين اليوم ومقدمته في سوريا، نوازل متجذرة الأسباب في أحوال وواقع الأمس، وهي ليست وليدة اللحظة، إنّما هي وليدة تراكمات من الجهل والبعد عن الحق، ومن الفشل والتعثر، وسنوات من التفريط والتقهقر، فلا تجدي فيها معالجات آنية سطحية، وتراشقات للتهم بين الأطراف، واتهام العدو بكل ما في اللغة من كلمات الاتهام .. كل شيء يفعلونه في صخب العواطف واللامنهجية، إلا شيئاً واحداً يفترض أن لا يتحدثوا إلا به، وألا يشتغلوا بسواه. فما هو..؟ إنّه غياب الأمة وغثائيتها، ويمكن أن نقول موتها. وهو ولا شك من سنن الله في الخلق .. ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا). فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ). قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).

وغياب الأمة سبب كل شر وبلاء، لأنّ المسلمين يعيشون بلا كيان، وإن بلغوا المليار والنصف، فلا وزن لهم بين أهل الأرض ولا هيبة، وحياتهم وحركتهم على الأرض، كما يقول المثل العربي (أسمع جعجعة ولا أرى طِحْناً).

ولمن لا يزالون يمارون في ذلك، أُذَكَّر بمؤتمر في القاهرة منذ سنتين ضم 500 عالم مسلم، من أجل سوريا وهددوا وتوعدوا، وأبرقوا وأرعدوا، فماذا كانت النتيجة..؟ لم يدرِ بهم أحد، لأنهم يصدرون عن ذواتهم وليس عن كيان أمة، فالأمة غائبة. وما الذي غيبها؟ بعدها عن الوحيين .. ولا يُعيدها إلا أن تعود إلى الوحيين. ولذلك طريقان يقعان على كواهل نخب المسلمين؛ دعوة على بصيرة، وتصفيية وتربية .. فالأمة مجموعة أفراد تصلح، إذا صلحوا، والعمل من أجل إعادة الأمة، يندرج فيه تحقيق الهدف الذي ذكرناه أنفا، وهو تغيير الأنفس، وتحقيق أهلية استقبال نصر الله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).

ولنتذكر في مناسبة الهجرة، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم هاجر بالأمة التي كونها بالتربية طيلة ثلاث عشرة سنة، ولم يشغلهم خلال تلك الفترة غير مهمة تكوين الأمة، ولما اشتد أذى المشركين في مكة ألح بعض الصحابة على النبي ليأذن ببعض عمليات قتالية، فنزلت الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ…). فلا هدف يقدم على تحقيق عودة الأمة وحضورها، وإن حضرت حضر الخير كله. أفلا يجعل المسلمون اليوم هجرتهم إلى ذاك الهدف … والحمد لله رب العالمين