Skip to main content

(قُلْ لِأَزْوَاجِكَ).. خَاطِرَةٌ قُرْآنِيةٌ دَعَوِيةٌ

By الأحد 9 شعبان 1429هـ 10-8-2008ممحرم 21, 1441دراسات

إذا كنا نريد التجديد بمفهومه الإسلامي الأصيل، فلا بد من قراءة جديدة، بل إعادة قراءة لكثير من النصوص، ولكن ليست ككثير من القراءات التي يدعو لها اليوم أهل التبديل .. وفتنة التبديل أخطر فتنة ألقت بجرانها بين المسلمين، وإن كان خطرها المعاصر أدهى وأمر من ذي قبل .. لكن القراءات الجديدة التي ندعو إليها ترتكز على دعامتين:

أولاً: البعد عن التأويل المرفوض والمشبوه. ولطالما تكلمنا عن الويلات التي جر التأويل إليها أمة الإسلام.

وثانياً: مصداقية هذه القراءة من حيث ارتباطها الوثيق بالواقع لتكون أداة فعالة في تغيير واقع المسلمين الذي هو مفتاح الحل لكل مشكلاتهم (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).

والآية موضوع البحث قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا).

وإلى وقفات مع الآية:

الوقفة الأولى: الخيارات في الحياة أمام الإنسان كثيرة، في شتى ميادين الحياة وهي فوق الحصر. لكن الفكرة الأساس التي أريد الوصول إليها وإيصالها، أنّ الأمر حين يصل إلى المفاصلة بين الدنيا والآخرة، أو الجمع بينهما وفق معادلة شرعية، فإنّ الخيارات التي قد تكون في تعدادها فوق الحصر أحيانا تضيق عند ذلك حتى تصبح خيارين لا ثالث لهما، وهنا يكون الاختيار الصعب الذي يواجه كل البشر، ويمكن وصفه بالتعبير الدارج أنّه اختيار مصيري، لكنّه ليس مصيراً دنيوياً بل مصير أخروي، يتأرجح بين جنة ونار. ومع صعوبة هذا الاختيار فإنّ الله ييسره على المؤمنين الذين تدرجوا في مراقي العقيدة وفهموا عن ربهم ومن نبيهم كل حقائقها، وأدركوا بكل يقين أنّ الآخرة خير وأبقى.

ولقد اختزلت الموضوع الذي نحن بصدده آية فاذة وهي قوله تعالى في سورة القيامة: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) فقد أكدت الآية الكريمة الخيار الذي يسعد به من يسعد، ويشقى به من يشقى، وجعلته ثنائياً. وهذه قاعدة قرآنية عقدية تسري على كل الناس من ولد آدم ممن آمن بالله واليوم الآخر، ولا تستثني أحدا .. وقد شاء الله تبارك وتعالى أن يكون إيضاح هذه القاعدة وإسقاطها على حياة كل مؤمن، من خلال إسقاطها على أفضل وأكمل وأشرف وأعز بيت في الوجود وهو بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأوحى إلى نبيه أن يُخير أزواجه وهنّ أمهات المؤمنين ذاك الخيار الذي لا بد منه، ولا حيدة عنه، لِيَكُنَّ القدوة لمن بعدهن (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا).

بيت النبوة يقوم على قمة الالتزام، ويتطلع إلى الآخرة في كل شأن، ويأتي ويذر من خلال الضوابط الشرعية، يُعرض عن كثير من زخارف الدنيا طمعا في نعيم الآخرة .. هو باختصار بيت التعليم وبيت التوجيه وبيت القدوة والأسوة وبيت التطبيق قبل كل شيء، فهل كل من فيه يوحدهم هذا الهمّ وتجمعهم هذه القناعات..؟

ونساء النبي صلى الله عليه وسلم بشر ممن خلق الله ينظرن حولهن فيجدن من بهارج الدنيا صورا، ويسمعن من أهلها خبرا .. وحق لبعض المفسرين أن يربطوا بين هذه الآيات وما سبقها في السياق ربطا موضوعيا، فالآيات السابقة تتحدث عن قتال بني قريظة والانتصار عليهم الذي انتهى بتوريث الله المسلمين أرضهم وأموالهم مما أوجد توسعة مادية في مجتمع المسلمين آنئذ (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا).

وكل هذا التغيير المادي الذي ساد آنئذ لم يكن ليخفى على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمتنع عليهن أن يمددن أعينهن إلى ما يُمتع به الناس، فهن بشر ممن خلق الله وليس ذلك حراما .. لكنّ الله تبارك وتعالى اختار لنبيه حياة من نوع خاص يوضحها ويصفها لنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا) وفي رواية: (كَفَافًا). متفق عليه

وفي الدعاء الآخر: (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ).

وكان صلى الله عليه وسلم يتضور جوعا فيشد الحجر على بطنه. وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَا شَبِعْنَا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ الْمَاءِ وَالتَّمْرِ). والأسودان التمر والماء، ويؤكد خبرها ما جاء في البخاري عن ابن عمر قال: (مَا شَبِعْنَا حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ).

ولا بد من التأكيد أنّ هذا الواقع النبوي اختيار وليس اضطرارا .. ولنقرأ هذا الحديث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة مثنية فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما هذا يا عائشة) قالت: قلت يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فذهبت فبعثت إلي بهذا فقال: (رديه يا عائشة فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة)).

أمهات المؤمنين يشهدن هذا الواقع ببعديه: الموسع والمضيق .. وحتى لا تكون الخلخلة في موقفهن جراء نظرتهن إلى واقعهن المادي شديد التواضع، اختيارا، وما عليه الآخرون بعد أن وسع الله على المسلمين .. ولأنّ الله تبارك وتعالى لا يريد لهذا البيت الأول والأسمى والقدوة إلا أن يكون مستقراً تمام الاستقرار، ومنسجماً كل الانسجام، ومنضبطاً حق الانضباط، ولكي يطهر الله هذا البيت ومن فيه تطهيراً تاماً ظاهراً وباطناً، كان أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يخير أزواجه.

ومرة أخرى أؤكد أنّه إذا كان هذا هو اختيار الله تبارك وتعالى لبيت النبوة، لتمييزه عن سائر البيوتات، فليس حراما أن يختار مؤمن، أي مؤمن، اختيارا آخر ما دام في دائرة الحلال. ومن هذه النكتة كان تخيير النبي، أو أمر الله للنبي أن يخير أزواجه أن يرضين بما اختار الله لنبيه، وأن يقنعن بمستوى العيش في بيت النبوة، من أجل وحدة الهمّ والمنطلق والنظرة، ولتوضيح أكثر أقول: لو أنّ إحداهن اختارت الاختيار الآخر لا تكون قد استبدلت الكفر بالإيمان.

ولمّا وفق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن أزواجه، إلى الاختيار الصحيح استحققن أن يسميهن الله بالمحسنات وأن يعدهن وعداً حسناً (فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) .. ولا يخفى أنّ الإحسان مرتبة زائدة على الإيمان، فكان أن وصف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد اختيارهن الموفق (بالمحسنات) فهن قبل التخيير (مؤمنات) وارتقين بعده إلى (المحسنات). واستحققن أن يخاطبهن ربهن فيقول (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) فهل بعد هذا الموقع من موقع، وبعد هذا الفضل من فضل..؟

وأختم الوقفة بتلخيص الفكرة التي أحببت إيصالها في أنّ الأمور الكبرى والمصيرية، إن شئتم، لا تحتمل الخيارات الواسعة بل يضيق الأمر ليكون الخيار بين شيئين.

فالخيارات المتعددة تُميع المواقف، وتعطي الفرصة لهواة اللعب على الحبال أن يجدوا فرصهم داخل الصف. أما الحزم والعزم فهو الذي يقوي الانطلاقة نحو الهدف، ويقطع كل أشكال التردد والتعثر. ويلغي قوى الشد إلى الوراء .. وحتى لا أترك القصة مبتورة فإنّي أكمل ما حصل، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: (إِنِّى ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِى حَتَّى تَسْتَأْمِرِى أَبَوَيْكِ) ثم تلا هذه الآية، فقالت عائشة: (فِى أَىِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَىَّ فَإِنِّى أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ. قَالَتْ ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ).

ويذكرني اختيار الأزواج عليهن رضوان الله، بعبارة يقولها أحد الإخوة الدعاة في أنّ وقائع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مفتعلة مصنوعة، أي صنعها الله وقدرها ليجعلها المثل والقدوة، وإلا فبيت النبوة لا يمكن أن يصدر عنه من أمهات المؤمنين غير ما صدر، لكنّه تعليم للمسلمين من أرقى وأفعل طرائق التعليم.

الوقفة الثانية: ولا يفهمن أحد من الآية فهماً لم يرده الله ولا ينسجم مع خلق المسلم، فيسقط من فهمه الخاطيء على الآية معاني الشدة والقسوة، والنهر والقسر. إنّ المتدبر لألفاظ هذه الآية التي حملت ذاك المعنى العظيم لا بد أن تستوقفه الكلمات التالية:

(فَتَعَالَيْنَ): وفيها من اللين ما يحمل الرغبة في المفاهمة والمسايرة والملاطفة.

(أُمَتِّعْكُنَّ): والمتعة هنا مال أوجبه الله تعالى على من يفارق زوجته جبرا لخاطرها، ولكي تكون المرحلة الأخيرة بل اللحظة الأخيرة من العشرة الزوجية تتجاوز كل معنى للحقد أو الغضب أو الكره بل هي من التسريح بإحسان. يقول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا).

(وَأُسَرِّحْكُنَّ): استعمل كلمة التسريح بدل الطلاق وفيها من انسيابية اللفظ ورقته ما يخفف من شدة المعنى على النفس، وزيد على ذلك وصف التسريح بأنّه سراح جميل، وكم لوصف جميل هنا من وقع رائع .. وفي القرآن الكريم نظائر لذلك، كالصبر الجميل، والهجر الجميل، والصفح الجميل.

يقول ابن القيم رحمه الله في (بدائع الفوائد): (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحة مرارا يقول: ذكر الله الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل. فالصبر الجميل الذي لا شكوى معه والهجر الجميل الذي لا أذى معه والصفح الجميل الذي لا عتاب معه).

فالموقف ليس موقف تبكيت أو تأنيب أو تحدٍ، إنّما هو موقف تخيير وتفاهم .. وقد يتعسف بعض الدعاة ليتخذ من هذا التخيير لأزواج النبي تبريراً لأن يقيم مع أهل البيت الذين لم يتمكن من التفاهم معهم في هذه المسألة معركة كلامية، وتشنيعاً وتشهيراً، ويفوته أنّه يخرج بكل ذلك عن أدب ولطف ويسر الإسلام.

الوقفة الثالثة: في الآية توجيه عظيم، وللدعاة خاصة، كيف لا والمُخاطب في الآية سيد الدعاة ومعلمهم وقدوتهم في أنّ بيت الداعية ومن فيه يجب أن يكون قاعدة الانطلاق الصلبة للداعية، تمنحه العزم والتصميم في الاندفاع نحو الهدف، والثبات في الخطى على طريق ليست الزهور فرشه، وإنّما الأشواك غرسه .. وأنّ وقت المسلم ثمين ومليء، لا يحتمل التعثر والتوقفات المتكررة لمعالجة المواقف الداخلية مما يؤدي إلى تشتيت الفكر وبعثرة الجهد في التلفت إلى الوراء .. وما الذي يجعل من بيت الداعية قاعدة الانطلاق تلك؟ إنّه توحد الهمّ المحمول، والقناعة المشتركة في ما هو مبذول، والرضا بالنتائج والحلول.

ولا بد من إيضاح كيف يمكن للداعية أن يؤدي واجبه وهو أخطر وأعظم وأسمى واجب إن كانت زوجته تحمل هما آخر مخالفاً؟ كيف يمكنه أداء دوره وما يفتؤ يسمع من زوجته كلما هم بالحركة (بيتك وأهلك وأولادك أولى بجهدك ووقتك وبذلك من كل الناس..). كيف يؤدي الداعية ما عليه وتراه وهو يقوم بمهمته يكثر من النظر إلى ساعته (لأنّ الإجازة انتهت) ولأنّه يعلم أنّ تأخره سيثير عليه زوبعة لدى رجوعه، لا تتضح بعدها الرؤيا أياما عدة .. كيف يكون حال الداعية وهو يكثر من المعاريض مستأذنا في المغادرة ثم تنتهي المعاريض ويدخل في الكذب .. كيف يكون الموقف لو اقتضى الأمر إكرام الزائرين وبذل شيء من التعب والمال فيجيء الرد (نحن أولى بما يُبذل من الغريب) .. سيضطر لاختلاق ألف سبب كي لا يستقبل أضيافه في بيته .. صور لم يبتكرها خيالي لكنّها حقائق واقعة. وإن أنسَ فلن أنسى قصة تكررت على مسمعي مرات، وعن عدة أشخاص، وهي أن تخطف المرأة الكتاب من يد زوجها وتلقيه بعيدا صائحة (هذا ضرتي) .. خذوا صورا من النوع الآخر: لمن تتركنا؟ لله، ونعم بالله امض على بركة الله ونحن من ورائك نحوطك بدعائنا ونخلفك في أنفسنا فلا تحمل همنا .. هل من شيء يكرم به الزوار؟ مر بما شئت خير قِرىَ لأكرم زَوْرٍ .. لعل الله ينفعنا بما تقدم عنا .. صور حية من الاتجاهين تتكرر، وهي من الواقع المشهود وليس المفروض .. ودعاة تقاعسوا وتقلصوا بعد زواجهم يوم صارت عوامل الشد إلى الوراء أقوى من قوة الاندفاع .. ولمعترض أن يقول أنت تريد بيوتا مثالية، أقول: لا، كل بيت وكل أهل يمكن أن يكونوا على حال مرضية ولكن بشروط يقوم بها الداعية:

1. أن يكون عطاؤه وتربيته وتعليمه ودعوته لحصنه وأهله قبل أن يكون للآخرين. فالإنسان لا يمكن أن يحمل هم أمر يجهله، ولا يمكن تصبير الناس على ما يجهلون والإنسان عدو ما يجهل، علمهم أن يصبروا، وإن احتاجوا جرعة إضافية صبرتهم .. أما أن تصبرهم وهم في مرحلة الصفر من الصبر فلا فائدة.

2. إنّ الانغماس التام في أمر الدعوة وإضاعة حقوق الآخرين وبخاصة أهل البيت، الذي يظنه بعض الدعاة قمة التضحية، يضربون المثل به مرفوض وبخاصة إذا كان المضيعُ حقوقُهم هم أهلَ بيته.

عن عبد الله بن عمرو قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرتي فقال: (ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار) قال: بلى قال: (فلا تفعلن نم وقم وصم وأفطر فإنّ لعينك عليك حقا، وإنّ لجسدك عليك حقا، وإنّ لزوجتك عليك حقا، وإنّ لضيفك عليك حقا، وإنّ لصديقك عليك حقا)).

فلا بد من العدل في أداء الحقوق، والمعين على ذلك، بعد توفيق الله، دقة البرمجة، وإنجاز الوعد وعدم الافتئات .. وأكثر ما يؤتى الناس في هذا الشأن يؤتون من لدن الفوضى والتي يظنونها انغماساً وتضحية .. وأولى الحقوق بالتأدية قبل غيرها حقوق الزوجة والأولاد الذين هم شركاء الدرب، بل هم كما أسميتهم آنفا بقاعدة الانطلاق الصلبة.

3. لا بد أن يسرق الداعية نفسه، من وقته الضيق، وبرنامجه المزدحم، من أجل واجب أسري، في برنامج يدخل السرور إلى قلب زوجته وأولاده، مثل رحلة قصيرة وطعام محبب، ليس من مألوف البيت. وليحرص الداعية أن يظهر فرحه وحفاوته بتلك المناسبة، واعدا أن تكون ديمة، وأنّها تمنحه من السعادة، ما لا يجده في غيرها. ويجب أن لا يستهان بما تفعله الهدية في نفوس الزوجة والأولاد، ولو كانت متواضعة لكن معناها كبير. وليعمق أثر تلك اللفتات بعنصر المفاجأة فهو أبهج. وليتخذ لنفسه منهجا، في ذلك الشأن يتعلمه من الحكمة القائلة: (مَنْ وَفَّى وُفِّيَ لَه).

الوقفة الرابعة: إنّ مما يستخلص من الآية السابقة أنّ القضايا ذات البال، وقضايا الدين والدعوة إلى الله، في مقدمة ذلك لا تقبل الغموض ولا العيمومة ولا المجاملات، وأن تترك للمصادفات والمفاجئات. إنّما تولى من العناية الكثير، فهي تحتاج إلى تربية ودراسة، وبرمجة وترتيب أولويات، ومراعاة حقوق كثيرة .. ومن أجل تأمين وإنجاز كل ذلك في كل مشروع دعوي فعلى كل مسلم أن يعلم أنّ ربه علمه، وكان النموذج في تعليمه بيت النبوة، أن لا بد من وقفة قبل الانطلاق، وقبل التعثر والإخفاق، لإعداد البيت، قاعدة الانطلاق، خير إعداد من أجل المهمة الكبرى العظيمة. وهذا ما أُمر به النبي صلى الله عليه وسلم في الآية، فكان كل شيء في منتهى الصراحة والوضوح.

وقد تخطر خاطرة الآن: ما العمل إن لم يكن ذاك الأمر في حسبان الداعية من قديم؟ أقول ليتوقف ويعالج الموضوع، ويستدرك ما فات، ثم يتابع المهمة. أما المضي وتجاهل واقع بيته، فإنّ الحال يصبح قنبلة موقوتة تنفجر كل لحظة .. وأما الإخوة الذين هم على أبواب الزواج فليكن هذا التخيير في وقت مبكر وأثناء مفاوضات الزواج.. ولا يقولن أحد إذن لن أجد ضالتي المنشودة. نقول له أخلص النية وأحسن القصد وسيغنيك الله من فضله. وكثير من الناس تواجهه مشكلة ملحة فيعالجها بالتجاهل والتجاوز، فيعطيها فرصة التضخم والانفجار المفاجيء.

إنّ هذه الآية تعلمنا مواجهة الواقع بواقع، وأن التأخير في المعالجة ليس حلا، وأنّ الإصلاح يبدأ من الدوائر الضيقة ثم إلى الأوسع فالأوسع .. وطمع الإنسان في أهله أنّهم الأولى في أن يتحملوه، صحيح ولكن بعد تعليمهم وتوجيههم وجعلم ينظرون للأمر بمنظاره، ويعايرونه بمعياره، وهو الشيء الذي اختصرناه بحمل الهم الواحد. ولا يخفى أنّ الوصول إلى الحل، الأمثل، والواقع المريح، في إعداد قاعدة الانطلاق، هو النتيجة المنطقية لمسلسلات من جهد تربوي، وسلوك توجيهي، وتأثير معنوي، بعد توفيق الله العلي.

الوقفة الخامسة: هل الكلام الذي قيل آنفا عن بيت الداعية يقتصر على البيت والأهل؟ في الحقيقة والواقع إنّه حكم للعلاقة بين كل قرينين، وكان البدء بالزوجة وأهل البيت وهو ما جاء في كتاب الله لشدة القرب، وكثرة التماس، والدور الخطير .. وهو في لغة الأصوليين تعبير بالأعلى ليكون الأدنى من باب أولى .. فالعلاقة بين كل من يحملون هماً مشتركاً، ويسعون إلى غاية واحدة، ويسيرون في درب واحد يجب أن تُحكم بمفهوم الآية المذكورة.

وهنا أستأذن باستطراد لا بد منه، يمت إلى ما نحن فيه بسبب. وهو رأي أعتقده منذ زمن وناقشت فيه بعض أهل الاهتمام .. إنّني لا أرى التنظيم الحزبي في حقل العمل الدعوي الإسلامي، لأنّ ذلك بدعة تسللت إلينا من عالم السياسة، ومن بلاد الكفر .. وقد تكون مناسبة لواقعهم لأنّه حركة أرضية، لأهداف أرضية، وبضوابط أرضية .. أما الذين يتحركون بمنهج الله العلوي السماوي فليس ذلك منهم وليسوا منه. والذي يغني عن ذلك في تعبئة الناس لنصرة الدين، وضعهم أمام مسؤولياتهم تجاه دينهم وتجاه ربهم بالتربية والتعليم والتذكير والوعظ (بمعنى أن نُحملهم همّاً). وعندئذ لا يكون المحاسِب عن التقصير بشرا مثلهم كما في عالم السياسة، لأنّ من يحمل الهمّ ويرقب الله في ذلك الهم، لا يحتاج قَيماً أو مشرفاً أو مسؤولاً من بني البشر، بل يوكل في ذلك إلى دينه وتقواه، والله الموعد.

والعمل للإسلام يكون بوسائل إسلامية وضوابط شرعية تُستلهم من هدي النبوة وسبيل المؤمنين. وإنّ الذي يرص العاملين في صف جماعة المسلمين الواحدة، ويدفعهم على الطريق الواحد إلى الغايات المشتركة، ويحصنهم بالإخلاص همّ يُحمل، وخوف الله من التقصير والتفريط، وليس أعين الرقباء والعقوبات المسلكية كما في العمل السياسي. وكما أنّ آية التخيير أوجبت توحد الهم والقناعة والمنطلق في البيت الواحد فإنّها تفعل الفعل نفسه في جماعة المسلمين .. فللجماعة المسلمة نصيب من هدي الآية وإرشادها كما للبيت المسلم.

بل إنّ العنصر الأساسي في تشكل الجماعة المسلمة من مجموعة أفراد وضبط مسارهم نحو أهدافهم، توحدُ الهمِّ فيما بينهم .. وذات مرة انبرى لي أحدهم قائلا ما فتئت تذكر الهم وتكثر من ذكره أليس ذلك بدعة استحدثتها؟ فأجبته بالحديث الآتي: (من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك).

الوقفة السادسة:
ومن أجمل الشعر الذي قرأت، والذي يجسد فكرة هذا اللقاء القصيدة التالية للداعية مصطفى السباعي رحمه الله. والشاعر فيها يخاطب أنثى على أن
ّها شريكة الحياة والدرب والهم، ويفترض أنّها ليست في مستوى مسؤوليتها، فيبين لقاري القصيدة أنّ المفاصلة هي الحل في تلك الحال .. ويصلح أن يكون هذا الخطاب لأي شريك أو قرين يفترض أن يشارك صاحبه حمل هم مشترك من معالي الأمور .. وباختصار لا بد من همّ يُحمل، ومُشارك يُشارك .. لتتحقق النتائج .. وهل المفهوم الإسلامي للجماعة إلا هذا، كما أسلفت..!

ولقد أضفت إليها بعض الأفكار والأبيات لتنسجم مع المنهج. (منهج ما أنا عليه وأصحابي) الذي أدين الله أنّه اختيار نبي الأمة، للأمة لتكون من الأعلين، ولن تصل الغاية بسواه..!

يقول السباعي رحمه الله:

دعيني وشأني ليس عذري بنافع
وهل يلتقي طيران هذا محلق
وذاك مسف حائم فوق جيفة
وكم بين من يمشي بصيرا بدربه
وبين عمٍ لا يهتدي لطريقه
وشتان ما بين الخلي من الهوى
وأنّى يداني عاقلا ذا حصافة
دعيني ففي دنياي همّ ومحنة
حِل وترحال وحرب وهدنة
ودنياك ما دنياك؟ وهمٌ وخدعة
وفي يسرها ضنك وفي عزها ضنى
إذا كنت عن دنياك ترضين إنّني
فإن تسخري مني فلست بساخر
هم الناس بين اثنين صيد تشوقهم

لديك ولا حالي يعن ببالك
تروم جناحاه سماء ملائك
على الأرض تدنيه لوطء سنابك
يضيء له الإخلاص وعر المسالك
يحاط بحجب مظلمات حوالك
وبين محب مدنف الجسم ناهك
جهول سفيه هالك ابن هالك
وقطع طريق في المفاوز شائك
وتعليم أستاذ وعزلة ناسك
وسعي حثيث نحو هاتي المهالك
تثير لأدنى الشيء أقسى المعارك
سعيد بدنيا الخير لست بفارك
وإن تضحكي مني فلست بضاحك
سعيد بدنيا الخير لست بفارك

وأضفت إليها الأبيات التالية:

دعيني أعيش العمر في عزلة الهوى
فديني هو الوحيان علما ودعوة
ولست أرى في كثرة الناس حجة
ولست أرى من قدّم العقل صائبا
وتباً لمن في الدين أحدث بدعة
وما زال في التوحيد عصمة أمرنا
دعيني فهذا في الحياة تخيري
تعالي إلى همّ لنحمله معا
تعالي إلى همّ نعيش لأجله

وغربة ديني رغم كيد المماحك
وهدي نبي عمدتي في مناسكي
وإنّي أرى التقليد أوخم مسلك
على الوحي بل يدعو بدعوة مشرك
تنافس هدي المصطفى بتهوك
ومن فاته التوحيد ليس بسالك
فهل أنت في دربي وحالي كحالك
وإلا وداعا ليس داري بدارك
ولا همّ إلا همُّ ديني فشاركي

والحمد لله رب العالمين