Skip to main content

قِيَامُ اللَّيْلِ

By الخميس 13 ربيع الثاني 1440هـ 20-12-2018ممحرم 21, 1441بحوث ومسائل, دراسات, فقه

ما أكثرَ ما سُئلتُ عن قيام الليل، وكنت أجيبُ بما يناسب. ولا أذكر أنّني توسعت مرة في الجواب. لكن الذي حفزني للكتابة الآن، ونشرِ بحثٍ كاملٍ عن قيام الليل، هذا السؤالُ الذي وردني لأول مرة بطريقة مختلفة عن كلِّ ما سبق .. كان ظاهر السؤال لأول وهلة أنّه في التفسير، لكن حقيقته أعمق من أن ينتهي بعد إيراد التفسير .. كان السؤال عن تفسير آياتٍ من سورة الذاريات: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

وتلا السؤال إضافة، بل تعليق من السائل، وأنا أصوغ عبارات التعليق مع الاختصار، يقول: (إذا كانت إحدى صفات المحسنين، أنّهم كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، ونفهم من الآية أنّهم يقضون أكثر الليل في صلاة وتلاوة ودعاء، ولا ينامون إلا القليل! أوليس لهؤلاء المحسنين في اليوم التالي أعمالٌ حياتية تتطلب جهداً وتركيزاً، فالرجل أمامه عملُ ساعاتٍ في وظيفة أو عمل حر، والمرأة أمامها جهاد في عمل البيت، وإعداد الطعام، والعناية بالأطفال، وقد يكون لها، أيضا، عملٌ وظيفيٌ خارج البيت، إلى غير ذلك من واجبات أخرى .. فكيف تُحَلُّ المشكلة؟ وهل يعذرهم الله إن تركوا صلاة الليل؟).

من التعليق تبين أنّ التركيز منصب على إشكال يكتنف صلاة الليل، فحواه أنّ أداءها بل المواظبة على ذلك، يتعارض مع طبيعة حياة أكثر الناس، فهل صلاة الليل للمتفرغين فقط؟ .. واستشكال السائل لمدى ملائمة هذه الشعيرة لمعظم المسلمين، لاسيما أصحاب الأعمال الحياتية التي لا مندوحة عنها .. فقررتُ تحويلَ الجواب إلى موضوع يغطي تلك الشعيرة ، ويَرُدُّ على كل ما يمكن أن يَرِدَ على الخاطر من تساؤلات. اعتمادا على النصوص الصحيحة .. وأسأل من الله التوفيق … وإلى وقفات علمية تربوية مع هذا الموضوع:

الوقفة الأولى: الحثُّ على قيام الليل، وذكر فضائله وثوابه

ومن المناسب جدا لاسكتمال الفائدة، أن تكون الوقفة الأولى عرضًاً لبعض النصوص الصحيحة التي جاءت تحث على قيام الليل، وتتحدث عن فضائله وأجره. ونبدأ بآيات الكتاب الكريم:

1.
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

يقول الشيخ السعدي في تفسير الآية: (هذه مقابلة بين العامل بطاعة الله وغيره، وبين العالم والجاهل، وأنّ هذا من الأمور التي تقرر في العقول تباينها، وعلم علما يقينا تفاوتها، فليس المعرض عن طاعة ربه، المتبع لهواه، كمن هو قانت أي: مطيع لله بأفضل العبادات وهي الصلاة، وأفضل الأوقات وهو أوقات الليل، فوصفه بكثرة العمل وأفضله، ثم وصفه بالخوف والرجاء، وذكر أنّ متعلق الخوف عذاب الآخرة، على ما سلف من الذنوب، وأنّ متعلق الرجاء، رحمة الله، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن.

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي، وما له في ذلك من الأسرار والحكم {وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} شيئا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار.

{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} إذا ذكروا {أُولُو الألْبَابِ} أي: أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل، وطاعة الله على مخالفته، لأنّ لهم عقولا ترشدهم للنظر في العواقب، بخلاف من لا قلب له ولا عقل، فإنّه يتخذ إلهه هواه).

2. (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى).

يقول الشيخ السعدي في تفسيرها: (هذا تسلية للرسول، وتصبير له عن المبادرة إلى إهلاك المكذبين المعرضين، وأنّ كفرهم وتكذيبهم سبب صالح لحلول العذاب بهم، ولزومه لهم، لأنّ الله جعل العقوبات سببا وناشئا عن الذنوب، ملازما لها، وهؤلاء قد أتوا بالسبب، ولكن الذي أخره عنهم كلمة ربك، المتضمنة لإمهالهم وتأخيرهم، وضرب الأجل المسمى، فالأجل المسمى ونفوذ كلمة الله، هو الذي أخر عنهم العقوبة إلى إبان وقتها، ولعلهم يراجعون أمر الله، فيتوب عليهم، ويرفع عنهم العقوبة، إذا لم تحق عليهم الكلمة.

ولهذا أمر الله رسوله بالصبر على أذيتهم بالقول، وأمره أن يتعوض عن ذلك، ويستعين عليه بالتسبيح بحمد ربه، في هذه الأوقات الفاضلة، قبل طلوع الشمس وغروبها، وفي أطراف النهار، أوله وآخره، عموم بعد خصوص، وأوقات الليل وساعاته، لعلك إن فعلت ذلك، ترضى بما يعطيك ربك من الثواب العاجل والآجل، وليطمئن قلبك، وتقر عينك بعبادة ربك، وتتسلى بها عن أذيتهم، فيخف حينئذ عليك الصبر).

3. (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا َزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).

لقد جاء في هاتين الآيتين كلام للمفسرين، يعتبرون أنّ الأعمال التي ذكرت في الآيتين: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) و(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ)، يراد بها الإشارة إلى قيام الليل، ولكن في غير الوقت الذي يتبادر للذهن. فما المقصود في هذه العبارة الأخيرة؟ لا بد أن يفهم جلياً، أنّ عبارة (صلاة الليل)، تنطوي على معنيين، من الضروري معرفة الفرق بينهما. فمن حيث المعنى العام، فهي إشارة إلى كل صلاة تؤدى في وقت الليل. والمفهوم اللغوي والشرعي لبداية الليل، هو غروب الشمس لقوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ). فصلاتا الليل من الفرائض، هما صلاة المغرب، وصلاة والعشاء، وهما المقصودتان بقوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا). يقول الشيخ السعدي في تفسير الآية: ({لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي: ميلانها إلى الأفق الغربي بعد الزوال، فيدخل في ذلك صلاة الظهر وصلاة العصر. {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي: ظلمته، فدخل في ذلك صلاة المغرب وصلاة العشاء).

أما ما يخص النافلة من صلاة الليل، فهي نوعان:
نفل مطلق وهو الصلاة ما بين المغرب والعشاء، وقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أصحابه كما سيأتي، ولم تُحدَّد بعدد معين، وقد قال حذيفة رضي الله عنه،: (قام فلم يزل يصلى حتى صلى العشاء)، وما جاء من أحاديث تحدد عدداً في الصلاة بين العشائين فضعيفة لا تنتهض بها حجة، وهي إذن نفل مطلق.

وأما النوع الثاني، فهو الصلاة التي تقع من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، والتي جاء تحديد عددها بإحدى عشرة ركعة، وفق ما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولم يخالفها أحد، وهي إذن نفل مقيد لا ينبغي الزيادة عليه، وقد أسهبنا في ذلك قبلاً. وهذا النوع هو أول ما يتبادر إلى الذهن، إذا ما قيل صلاة الليل، ولا ينفي أبدا وجود النوع الأول، وهو النفل المطلق.

وأما أدلة الصلاة بين العشائين (المغرب والعشاء)، فإليكموها:

قد ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في تفسير(كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) أنه قال: (كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء. وكذلك: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)).

ومما يؤكد، أنّ الصلاة بين المغرب والعشاء من صلاة الليل التي وصفناها بأنّها نفل مطلق، فعلُ النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه حذيفة رضي الله عنه، في حديثين، مختصرٍ وطويلٍ. أما المختصر فعن حذيفة قال: (صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم المغرب، فلما قضى صلاته، قام فلم يزل يصلى حتى صلى العشاء ثم خرج).

وأما الرواية الأخرى عن حذيفة رضي الله عنه قال: (قُلْتُ لِأُمِّي: دَعِينِي آتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُصَلِّي مَعَهُ الْمَغْرِبَ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي وَلَكِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ فَصَلَّى حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ فَسَمِعَ صَوْتِي فَقَالَ: (مَنْ هَذَا؟ حُذَيْفَةُ؟) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: (مَا حَاجَتُكَ؟ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلِأُمِّكِ إِنَّ هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلِ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).

وبعد البيان السابق، يُفهم أنّ الصلاة بين العشائين لا تعتبر بحالٍ زيادة على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، في النفل المقيد، كما أنّ الاستدلال، بذلك، على جواز الزيادة في صلاة التراويح مغالطة!

4. (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا).

يقول الشيخ السعدي في تفسير هذه الآيات: (فأمره هنا بأشرف العبادات، وهي الصلاة، وبآكد الأوقات وأفضلها، وهو قيام الليل. ومن رحمته تعالى، أنّه لم يأمره بقيام الليل كله، بل قال: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا}. ثم قدر ذلك فقال: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} أي: من النصف {قَلِيلا} بأن يكون الثلث ونحوه. {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي: على النصف، فيكون الثلثين ونحوها.

{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} فإنّ ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به، والتعبد بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له، فإنّه قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، ويرتل، ويتفكر فيما يشتمل عليه.

ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أي: الصلاة فيه بعد النوم {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} أي: أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره، وهذا بخلاف النهار، فإنّه لا يحصل به هذا المقصود، ولهذا قال: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} أي: ترددا على حوائجك ومعاشك، يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام).

لقد جاء في الآيات السابقة الأمر بترتيل القرآن الكريم، (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا). ولعل من النافع عدم تجاوز هذه الفقرة قبل إيضاح معنى الترتيل للقرآن الكريم، وقد كثر الكلام في ذلك وتباينت الآراء! .. يقول الشوكاني في تفسيره (فتح القدير): ({ورتل القرآن ترتيلا}، أَيِ: اقْرَأْهُ عَلَى مَهْلٍ مَعَ تَدَبُّرٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: اقْرَأْهُ حَرْفًا حَرْفًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ أَنْ يُبَيِّنَ جَمِيعَ الْحُرُوفِ، وَيُوَفِّيَ حَقَّهَا مِنَ الْإِشْبَاعِ. وَأَصْلُ التَّرْتِيلِ: التَّنْضِيدُ وَالتَّنْسِيقُ وَحُسْنُ النِّظَامِ، وَتَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْتَبِسُ فِيهِ بَعْضُ الْحُرُوفِ بِبَعْضٍ، وَلَا يَنْقُصُ مِنَ النُّطْقِ بِالْحَرْفِ مِنْ مخرجه المعلوم من اسْتِيفَاءِ حَرَكَتِهِ الْمُعْتَبَرَةِ).

ولا يفوتني أن أوجز نصيحة، أكررها في ما أقول وأكتب، مع أنّ المقام لا يتسع للتفصيل، لكن ما لا يدرك كله، ليس بالضرورة أن يترك جله، بل حتى أقله، فأقول لمن يبالغون في أمر التجويد ويشغلون المسلمين والمسلمات بأحكامه الدقيقة، ويستهلكون جل أوقاتهم، من أجل إتقان مهارات قد تستعصي على كثيرين، في حين توجد واجبات أكبر وآكد وأهم، تفوت على الدارسين. إنّ التجويد علمٌ لغوي وليس علما شرعيا، ولعل هؤلاء المدرسين قد تأثروا بما ينقل عن ابن الجزري من قوله:

والأخذ بالتجويد حتمٌ لازم من لم يُجَوِّدِ القرآن آثم

وأتساءل ولا بد أن يتساءل معي كل مسلم ومسلمة، من الذي أوجب هذا وجعله حتما لازما، وأثَّمَ من لم يأخذ به؟ ولن نجد إلا جوابا واحدا (لقد أجمع العلماء على ذلك!)، وأقول ولو أجمع العلماء وليس معهم نصٌ صريحٌ من الكتاب والسنة بالوجوب، فلا ينبغي لهم إيجاب شيء على المسلمين، لأنّ هذا تكليف شرعي، وفي الإسلام لا يكلف بشرٌ بشراً، وإنّما التكليف الشرعي لله، ولرسوله الذي يوحى إليه.

وللشيخ العثيمين فتيا، يقول فيها: (لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التجويد التي فصلت بكتب التجويد، وإنّما أرى أنّها من باب تحسين القراءة، وباب التحسين غير الإلزام ولو قيل بأنّ العلم بأحكام التجويد المفصلة في كتب التجويد واجب للزم تأثيم أكثر المسلمين اليوم، ولقلنا لمن أراد التحدث باللغة الفصحى: طبق أحكام التجويد في نطقك بالحديث وكتب أهل العلم وتعليمك ومواعظك..!

وقد اطلعت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول حكم التجويد ص50 مجلد 16 من مجموع الفتاوي، قال فيه: (ولا يَجعل همته فيما حُجِب به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائق القرآن إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك ، فإنّ هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق بـ(أأنذرتهم) وضم الميم من (عليهم) ووصلها بالواو وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت)).

وقد جاء عن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، في جواب له: (إنّ التجويد حسب القواعد المفصلة في كتب التجويد غير واجب، وليعلم أنّ القول بالوجوب يحتاج إلى دليل تبرأ به الذمة أمام الله، عز وجل، في إلزام عباده بما لا دليل على إلزامهم به).

5. (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا).

وهذه الآية تلتقي مع سابقاتها التي مرت، في الحث على قيام الليل، وبيان أنّ الحرص على فعل هذه الشعيرة هو من صفات عباد الرحمن، مع أنّها ليست على الوجوب.

6. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًالإسراء).

وهذه الآية مما اختلفت فيها أنظار وآراء المفسرين والفقهاء؛ بين كونها دليلا على وجوب قيام الليل في حقه صلى الله عليه وسلم، وكونها من النوافل كما هي في حق أمته، عليه الصلاة والسلام. والراجح الأمر الثاني، وستأتي الأدلة المؤيدة مع تفصيلٍ، لاحقاً بإذن الله.

ومن السنة الصحيحة:

1. (أَحَبُّ الصلاةِ إلى اللهِ صلاةُ داودَ، وأحبُّ الصيامِ إلى الله صيامُ داودَ؛ كان ينامُ نصفَ الليل، ويقومُ ثُلُثَه، وينام سُدُسَه، ويصوم يوماً، ويُفطِر يوماً).

يقول الشوكاني في (نيل الأوطار): (وَيَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ قِيَامِ ثُلُثِ اللَّيْلِ بَعْدَ نَوْمِ نِصْفِهِ، وَتَعْقِيبُ قِيَامِ ذَلِكَ الثُّلُثِ، بِنَوْمِ السُّدُسِ الْآخِرِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالْفَاصِلِ مَا بَيْنَ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَالْفَرِيضَةِ، وَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِ النَّشَاطُ لِتَأْدِيَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، لِأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ الْقِيَامِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الْقِيَامِ إلَيْهَا ذَاهِبَ النَّشَاطِ وَالْخُشُوعِ لِمَا بِهِ مِنْ التَّعَبِ وَالْفُتُورِ).

2. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ).

[(يعقد) يربط فيثقل عليه النوم. (قافية) مؤخرة العنق أو القفا. (يضرب كل عقدة) يُحْكِم عَقدَهُ ويؤكده. (فارقد) فنم ولا تعجل بالقيام. (طيب النفس) مرتاح النفس لما وفقه الله تعالى إليه من القيام. (خبيث النفس) مكتئبا يلوم نفسه على تقصيره في ترك الخير والقيام في الليل]. (والتفسير أخذاً من فتح الباري).

والمقصود بالعقد ما يقوم به الشيطان من أعمال لغواية الإنسان وصده عن السبيل. ولنتذكر مسألة هامة، لا ينبغي الغفلة عنها، حول طبيعة العلاقة بين إبليس وبني آدم، ذكرها لنا ربنا حكاية عن إبليس عليه اللعنة، لما أخرج من الجنة، في سورة (الأعراف): (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ(18)).

ولنقرأ تفسير الشيخ السعدي لهذه الآيات؛ (أي: قال إبليس لما أبلس وأيس من رحمة الله {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي: للخلق {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: لألزمن الصراط ولأسعى غاية جهدي على صد الناس عنه وعدم سلوكهم إياه.

{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} أي: من جميع الجهات والجوانب، ومن كل طريق يتمكن فيه من إدراك بعض مقصوده فيهم.

ولما علم الخبيث أنّهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم، ظن وصدَّق ظنه فقال: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} فإنّ القيام بالشكر من سلوك الصراط المستقيم، وهو يريد صدهم عنه، وعدم قيامهم به، قال تعالى: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .

وإنّما نبهنا الله على ما قال وعزم على فعله، لنأخذ منه حذرنا ونستعد لعدونا، ونحترز منه بعلمنا، بالطريق التي يأتي منها، ومداخله التي ينفذ منها، فله تعالى علينا بذلك، أكمل نعمة. {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}، أي: قال الله لإبليس لما قال ما قال: {اخْرُجْ مِنْهَا} خروج صغار واحتقار، لا خروج إكرام بل {مَذْءُومًا} أي: مذموما {مَدْحُورًا} مبعدا عن الله وعن رحمته وعن كل خير. {لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ منكم أَجْمَعِينَ} وهذا قسم منه تعالى، أنّ النار دار العصاة، لا بد أن يملأها من إبليس وأتباعه من الجن والإنس).

والذي يجدر التأكيد عليه، أنّ الشيطان اللعين يعرف كيف يختار بل يصطاد أتباعه أو أولياءه. إنّه لا يقف في طرق، وعلى أبواب الحانات وأماكن اللهو، وحيث يدار الباطل، وما لا يرضي الله بكل فنونه وأشكاله، فكل من يحومون حول تلك الأماكن هم أنصار الشيطان وخاصته..! إنّما يقف على مدارج الصالحين إلى طاعة الله، وينصب شباكه وشراكه، لعله يحظى بفتنة بعضهم..! فالحذر الحذر أيها المؤمنون الصالحون الطائعون.

3. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضلُ الصيامِ بعدَ رمضانَ شهرُ الله المحرَّمُ، وأفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل).

ومن هذا الحديث يُعلم أنّ صلاة الليل تأتي في المقام الأول، على جدول نوافل الصلاة، كما يأتي صوم المحرم بين نوافل الصوم.

4. وعن عبد الله بن عَمروٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فِي الجنةِ غرفةٌ يُرى ظاهرُها من باطِنها، وباطِنُها من ظاهرها). فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسولَ الله؟ قال: (لِمَنْ أطابَ الكلامْ، وأطعم الطعامْ، وباتَ قائماً والناس نيامْ)).

أين مغتنمو الفرص؟ وأين طلابُ الجنةِ، وحالةٍ من حالات نعيمها؟ في تلك الغرفة أعمال ثلاثة، بُدِئت باثنين اجتماعيين، طيب الكلام، وفي المتفق عليه (والكلمة الطّيبَة صَدَقَة). ثم اللقمة توضع في بطن جائع لتقيم أوده (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع بجنبه وهو يعلم به)، وتأتي الثالثة وهي أمر عبادي، أن يخلو العبد بخالقه في هدأة الليل، وقد غابت كل الصوارف والمشاغل، ونامت كل الأعين فلا رقيب ولا مُسائل، فما أعذبَ وأروعَ المناجاةَ مع مَنْ عينه لا تنام، تبارك ذو الجلال ولإكرام.

5. وعن عائشةَ رضي الله عنها: (أنَّ رسول الله كان يقوم من الليل حتى تَتَفَطَّرَ قدماه، فقلت له: لِم تصنعُ هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أحبُّ أَنْ أكونَ عبداً شكوراً؟!)). (تتفطر قدماه: أي تتورمان)

ومما يناسب المقام، أن نُذكر المسلمين بالمسألة الخلافية التي تتضمنها الكتب، وهي هل صلاة قيام الليل في حق النبي صلى الله عليه وسلم، واجبة أم مندوبة كما هي في حق جميع المسلمين؟

والصواب ما رجحه الشوكاني في تفسيره المعروف (فتح القدير)، يقول رحمه الله: (وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: (قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، قالت: ألست تقرأ هذه السورة يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا فِي السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَنْزَلَ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا مِنْ بَعْدِ فَرْضِهِ). وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (لَمَّا نَزَلَتْ أَوَّلُ الْمُزَّمِّلِ كَانُوا يَقُومُونَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَزَلَ آخِرُهَا، وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا نَحْوٌ مَنْ سُنَّةً).

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: (لَمَّا نَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قَامُوا حَوْلًا حَتَّى وَرِمَتْ أقدامهم وسوقهم حتى نزلت: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ).

وقيل: معنى (فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)، أي؛ صَلُّوا مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَالصَّلَاةُ تُسَمَّى قُرْآنًا كَقَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ.

وقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ قِيَامَ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ، وَالنُّقْصَانُ مِنَ النِّصْفِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ فَرْضًا ثَابِتًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا لِقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُودا.ً

قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْوَاجِبُ طَلَبُ الِاسْتِدْلَالِ بِالسُّنَّةِ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَوَجَدْنَا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا وَاجِبَ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا الْخَمْسَ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ نَسْخٌ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَقِّ أُمَّتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَسْخٌ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، وَبَقِيَ فَرْضًا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى الْقَوْلُ بِنَسْخِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي حق أمته، وليس في قوله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَدْ وُجِدَتْ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنَ النَّوَافِلِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ مِنَ اللَّيْلِ فَقَدْ وُجِدَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنَ التَّطَوُّعِ.

وَأَيْضًا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِقَوْلِ السَّائِلِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَالَ: «لَا، إِلَّا أَنَّ تَطَّوَّعَ» تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ غَيْرِهَا، فَارْتَفَعَ بِهَذَا وُجُوبُ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَلَاتِهِ عَلَى الْأُمَّةِ، كَمَا ارْتَفَعَ وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ)).انتهى كلام الشوكاني.


والأصل: أنّ النافلة هي الزائد عن الفرض من التطوع ونحوه، ولكن بعض العلماء والمفسرين، قد فهم أنّ معنى (نَافِلَةً لَكَ) يعني من خصائصك، وبنوا على ذلك أنّ قيام الليل واجب في حق النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنّه سُنَّة، لنصوص أخرى ترجح ذلك، وقد مر ذكر بعضها وسيمُرُّ بعضٌ آخر. وقد استدل بعض العلماء على أنّ قيام الليل ليس واجبا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، بدليلين خفيين، وهما قوله: (أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا)، فلو كان قيام الليل واجبا في حقه، لما
علل طول قيامه وتورم قدميه بهذه العلة. والدليل الثاني تنفله على راحلته في صلاة الليل، ولم يكن يؤدي الفرائض وهو راكب.

6. وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: (إنَّ في الليلِ لساعةً لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ يسأَلُ اللهَ خيراً من أمرِ الدنيا والآخرةِ؛ إلا أعطاهُ إياه، وذلك كلَّ ليلةٍ).

ويكفي أن نعلق على هذا الحديث الجامع لفضائل قيام الليل، في نفحة ربانية، ومنة رحمانية، يدركها العبد بهذه الطاعة فتكون له فوزا في دنياه وأخراه، بقول ربنا تبارك وتعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).

7. وعن أبي أمامةَ الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بقيام الليل، فإنَّه دأبُ الصالحين قبلكم، وقُربةٌ إلى ربَّكم، ومَكْفَرَةٌ للسيئات، ومَنْهاةٌ عن الإثمِ).

فلننتبه لما جاء في هذا الحديث من مناقب تمنحها عبادة قيام الليل، لمن يلازمها من المسلمين. فهو عبادة من شيمة الصالحين الدوام عليها، وتدني فاعلها من الله وجنته، وتكفر عنه سيئاته، وتكون له، بفضل الله، حائلاً بينه وبين الآثام التي تعج بها الحياة من حوله.

8. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رَحِمَ الله رجلاً قام من الليل فصلّى وأيقظ امرأتَه، فإنْ أبتْ نَضَحَ في وجهها الماءَ، ورَحِمَ اللهُ امرأةً قامتْ من الليل فصلَّتْ وأيقظَتْ زوجَها، فإنْ أبى نضَحَتْ في وجهه الماءَ).

فلندقق النظر جيدا في هذا الكلام النبوي المُبْهِج لكلِّ زوجين يريدان الله والدار الآخرة، فيحرص كل منهما على أن لا يُفَوِّت على صاحبه نفحة علوية، قد تغلبه عيناه عنها. ولا يكتفي بالنداء، لشدة حرصه، وقد دله نبيه على الطريقة الأليق والأجدى، وهي في عرف الناس، ضربٌ من الدعابة، لكن تخدم غاية عظيمة، فيأبى إلا تطبيقها اتباعا لنبيه. فبهذا الهدي العظيم يجب أن تبنى بيوت المسلمين، وعليه تُؤسَّس، باب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في البيت المسلم، وبين كل أفراد الأسرة، وذلك هو الذي يأتي بكل خير، ويحول دون أي شر .. ولما افتقدته بيوت المسلمين، فقدوا كل شيء..! قال عليه السلام: (إذا أيقظَ الرجلُ أهلَه من الليلِ فصلَّيا، أو صلّيا ركعتين جميعاً كُتِبا في الذاكرين والذاكرات).

9. قال: عليه الصلاة والسلام، (يا عبدَ اللهِ! لا تكنْ مثلَ فلان، كان يقومُ الليلَ، فَتَرَكَ قِيامَ الليلِ). فهو نُصحٌ منه عليه الصلاة والسلام لصاحب له أن لا يتهاون في صلاة الليل، وحذره من التشبه برجل (لا تكنْ مثلَ فلان، كان يقومُ الليلَ، فَتَرَكَ قِيامَ الليلِ)، ولم يسمِّهِ، صلى الله عليه وسلم، حتى لا تكون غيبة، وحتى يكون النصح أكثر قبولاً عند من يوجه إليه النصح مادام بعيدا عن التشهير، وهذا من هديه القويم، بأبي هو وأمي الذي أراد أن يعلمه لنا، حينما كان يقول: (ما بال أقوام…؟)، دون أن يصرح بالأسماء. وضَرْبُ المثلِ أبلغُ في النصيحة.

الوقفة الثانية: وقت قيام الليل وعدد ركعاته.

يفضل تأخير صلاة الليل إلى ثلث الليل أو نصفه، ومن الأدلة على ذلك:

1. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ).

2. وعنه رضي الله عنه أيضاً، عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرْتهم بالسواك مع الوضوء، ولأخّرت العشاء إِلى ثلث الليل أو نصف الليل، فإِذا مضى ثلث الليل أو نصف الليل؛ نزل إلى السماءالدنيا جلّ وعزّ فقال: (فذكر الجمل الثلاث) وزاد هل من تائب فأتوب عليه).

وللفائدة أورد هذه الفقرة من كتاب نيل الأوطار للشوكاني، بسبب ما يعلق في أذهان بعض الناس، من كلامٍ مخالفٍ من المبتدعة حول نزول الله، تبارك وتعالى، في كل ليلة إلى السماء الدنيا: (وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ وَأَنَّهُ وَقْتٌ لِإِجَابَةِ الْمَغْفِرَةِ. وَالنُّزُولُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَحَادِيثِ قَدْ طَوَّلَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ الْكَلَامَ فِي تَأْوِيلِهِ، وَأَنْكَرَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَة بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ كَالزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ والسفيانين وَاللَّيْثِ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَجْرَوْهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفِيَّةٍ وَلَا تَعَرُّضٍ لِتَأْوِيلِ).

3. وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنَّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ).

4. عن أبي أمامة قال: (قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الدعاء أسمع قال: (جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)).

أما عدد ركعات القيام فحديث عائشة رضي الله عنها وحده يكفي ولا حاجة لطول الكلام: فقد أخرج البخاري وغيره عن عائشة قالت: (مَا كَانَ النَّبِيُّ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً).    وجاءعنها أيضاً في المتفق عليه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُصَلِّى بِاللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ)

ولم يثبت عن الصحابة عليهم رضوان الله، ولاسيما عن أمهات المؤمنين، قولٌ مخالفٌ لرواية عائشة رضي الله عنها، فالواجب الوقوف عند هذا الحدِّ اتباعاً (وإنّ خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) ..
وكل كلام حول زيادة عدد ركعات قيام الليل، ولاسيما ما يثار في كل سنة، في رمضان عن صلاة التراويح، ومعلوم أنّ صلاة التراويح هي صلاة قيام الليل نفسها، مع اختلافٍ واحدٍ وهو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم شرع بفعله سنية أدائها جماعة في رمضان، ولا تصح جماعة في غيره … أقول كل ما يثار دائما حول هذا الموضوع، لا حَظَّ له، لا من نظر صحيح، ولا من نص صريح. إنّما هو التقليد ليس إلا.

وضيق المجال لا يسمح بتفصيلٍ، يخرجنا عن موضوعنا الأصلي، لكنّي أحب تقرير حقيقة، تخفى على كثيرين. يُعلن المروجون للفكرة أسماءً لامعةً من علماء وتابعين وحتى من الصحابة، كعمر بن الخطاب، مثلا. ومع أنّ نسبة فعل الزيادة لبعض تلك الأسماء غير صحيحة، ولاسيما لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، لكنّنا لا نجعل تلك حجتنا عليهم، بل نقول لهم هَبُوا أنّ دعواكم صحيحة، فهل تلك الأسماء التي تحتجون بها، تقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاتباع، وهو وحده الذي أُمِرَ المسلمون باتباعه وأخذ الدين عنه، وهذا ما أسماه علماء العقيدة، توحيد الاتباع، أو توحيد الرسالة، في شهادة (وأشهد أن محمدا رسول الله).

الوقفة الثالثة: كيفية صلاة الليل وقراءتها

سنستعرض مجموعة من الأحاديث الصحيحة التي تبين صفة أداء رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل، وهو الأسوة والقدوة، وإنَّ خيرَ الهدي هديُه.

عن عائشة قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ افْتتح صلَاته بِرَكْعَتَيْنِ خفيفتين).

أما تتمة صلاته في الليل أي في بقية الركعات، فقد جاءت عنه في وصف صلاته، كيفياتٌ متعددةٌ، هي ثابتة من فعله صلى الله عليه وسلم، بأسانيد لا يرقى إليها شك. ولن أُدخل القُراء في تفصيل الكيفيات التي وردت عن أداء صلاة الليل، من فعله عليه الصلاة والسلام، فذلك له مظانُّه، لمن شاء التوسع، وأنصح بمرجعين، (قيام رمضان) و(صلاة التراويح) وهما للشيخ الألباني رحمه الله .. لكنّني سأوجه القراء إلى ما وجههم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تخفيفاً على الناس، في حديث قولي صحيح، وبروايات متعددة، عن ابن عمر رضي الله عنهما. ومعلوم أنّ الحديثَ القولي خطابٌ للأمة جمعاء، وكأنّي به، بأبي هو وأمي، أراد بحديثه القولي توجيه الأمة إلى الأبسط والأسهل، في طريقة أداء هذه العبادة، قيام الليل، وخاصة في حال أدائها جماعة، مع بقاء الكيفيات التي كان يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام، مشروعةً غيرَ منسوخةٍ، لمن أرادها في صلاته وحده. ومن المهم جدا أن يُعلم أنّ صلاة الليل لا تؤدى جماعة إلا في رمضان
فقط، وصارت تسمى في عصر التابعين (صلاة التراويح). وأما ما جاء من حالات فردية من ائتمام بعض الصحابة، مثل ابن عباس، وحذيفة، وابن مسعود، وغيرهم بصلاته، في قيام الليل، وإقرارهِ إياهم على ذلك، بغية تعليمهم من خلال رؤية صلاته عليه السلام، لينقلوها للناس، وكانت حالات فردية، ولم تتكرر، فالأقرب توصيفُها على أنّها وقائعُ أعيانٍ، كانت لها مناسباتها التي اقتضتها.

ففي المتفق عليه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ). وفي رواية عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِىَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى).

وأراني مضطراً إلى استطرادٍ بسيطٍ، نصحاً للأمة، وتنبيها على مفهوم خاطئ، مقارنةً بمنطوقِ النصوص الأخرى في صلاة الليل. لقد شاع في أوساطٍ علمية، قديما وحديثا، وعند من يميلون إلى الزيادة على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل، وبخاصة في رمضان. فبالرغم من حديث عائشة رضي الله عنها: (مَا كَانَ النَّبِيُّ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً)، والذي لم يُعرف له مخالف من الصحابة عامة، ومن أمهات المؤمنين خاصة.! وجدوا في تأويل حديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق ملتحدا، فصرفوا دلالة قول النبي عليه السلام: (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) عن كونها بيانا لكيفية أداء صلاة الليل، بعد أن تعددت أشكالها، وفقا لما جاء من فعله عليه السلام، إلى معنى بعيد يوافق أهواءهم، فرأوا أنّ الحديثَ إذنٌ بالزيادة على العدد المحدد بفعله صلى الله عليه وسلم، مع عدم وجود مخالف، كما بينا، فأجازوا الزيادة مطلقا! وهذا لا يقوله من يريد الوقوف عند حدود ما توحي به مفردات اللغة العربية. وأضافوا لهذا الخطإ خطأً آخر، إذْ اعتبروا صلاة الليل نفلاً مطلقاً، مع أنّه غير خافٍ على ذي بصرٍ وبصيرةٍ أنّ قيام الليل في رمضان وغيره نفلٌ مقيدٌ بفعله عليه الصلاة والسلام، كرواتب الصلوات، وصلاة الاستسقاء، والخسوف والكسوف، وصلاة التسابيح. ولم يأت دليل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم غيَّر العدد في صلاة الليل، ولو مرة واحدة في حياته، حسب رواية عائشة رضي الله عنها، وعدم وجود المخالف لها، ولنتدبَّر…!

ويُردُّ عليهم بقول الراوي ابن عمر، والقاعدة الأصولية تقول (إنّ الراوي أدرى بتفسير ما روى)، فعن ابن عمر: (أنّ رجلاً من أهل البادية سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل؟ فقال: بأصبعيه هكذا: (مثنى مثنى، والوتر ركعةٌ من آخر الليل)). (قِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ مَا مَثْنَى مَثْنَى؟ قَالَ: أَنْ يُسَلِّمَ فِى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ).

فلنعقد بالخناصر على تفسير ابن عمر لما روى (أَنْ يُسَلِّمَ فِى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ). فهو تحديد لكيفية الأداء، وأبعد ما يكون عن مفهوم إطلاق عدد الركعات، وهو مُحَدَّدٌ بفعله صلى الله عليه وسلم.

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُصَلِّيَ مِنَ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ: (يُصَلِّي أَحَدُكُمْ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً أَوْتَرَتْ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ)).

وفي رواية أخرى عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (نَادَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بَيْنَهُمَا كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ:(مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَصَلِّ واحدة)).

ولندقق النظر في سؤال السائل الذي ابتدأه بأداة الإستفهام كيف وهي للسؤال عن الكيفية، وليست كم التي يسأل بها عن العدد، والمتكلمون عربٌ أقحاحٌ، وليسوا من الأعاجم. كيف؟ كيف؟ كيف؟ ما لكم كيف تحكمون؟

يقول الشيخ الألباني في كتابه (صفة صلاة النبي): (وكان صلى الله عليه وسلم ربما جهر بالقراءة فيها وربما أسر، يقصر القراءة فيها تارة ويطيلها أحيانا، ويبالغ في إطالتها أحيانا أخرى، حتى قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء قيل: وما هممت قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم).

وقال حذيفة بن اليمان: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت: يصلي بها في [ركعتين] فمضى فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع…)).

وإذا كنا نقرأ عن صفة صلاة نبينا لنفسه في الليل وما فيها من الإطالة، فالذي يجب أن نعرفه، بعد إيماننا بوجوب اتباعه والاقتداء بهديه، أنّ ذلك ليس على إطلاقه في كل أمر. فمَنْ من الأمة يستطيع أن يصلي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، في طول القراءة فيها، وجعل الركوع بقدر القيام، والسجود كذلك؟ ليس ذلك مما يكون فيه الاتباع لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم خفف عن أمته ولم يُعْنِتْهُم، إنّما يكون الاتباع في العدد، والوقت، وكيفية الأداء مما يشمله قوله صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي).

ولِما كان من هديه من التخفيف في الصلاة لمن يؤم، والتطويل لمن صلى لنفسه، وتبقى الصلاة موافقة لهدية وإن اختلفت في الطول والقصر .. ولنقرأ حواره مع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما حين قال له:
((اقْرَإِ الْقُرْآنَ فِى كُلِّ شَهْرٍ). قُلْتُ إِنِّى أَجِدُ قُوَّةً. قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِى عِشْرِينَ لَيْلَةً). قَالَ قُلْتُ إِنِّى أَجِدُ قُوَّةً. قَالَ: (فَاقْرَأْهُ فِى سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ)).
(ثم رَخَّصَ له أن يقرأه في خمس). (ثم رَخَّصَ له أن يقرأه في ثلاث). ونهاه أن يقرأه في
أقل من ذلك. وعَلَّلَ ذلك في قوله له: (من قرأ القرآن في أقل من ثلاث؛ لم يفقَهْهُ). وفي لفظ: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث).

وفي أحاديث عدة أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن لا يشددوا على أنفسهم في العبادة. ومن هذه الأحاديث: قوله:
(خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنّه قال: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) وقال عليه الصلاة والسلام: (القصدَ القصدَ تبلغوا). والقصد هو الاعتدال وترك المبالغة، في كل أمر، وذلك يتعب النفس والجسد، ولا يوصل الفاعل إلى الغاية التي يريد، وهي رضا الله، وقبول العمل، فالله غني عن تعذيبنا أنفسنا بالعسر وترك اليسر .. عن ابن عباس رضي الله عنهما: (بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذْ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ فَلَا يَقْعُدَ وَلَا يستظلَّ وَلَا يتكلَّم وَلَا يُفطِرَ فَقَالَ: (مُروهُ فَلْيَقْعُدْ وليستظلَّ وليتكلَّم وليصُم وَلَا يُفطِر)).

وَعَنْ أَنَسٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ فَقَالَ: (مَا بَالُ هَذَا؟) قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيت الله قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفسه لَغَنِيّ). وَأمره أَن يركب).

وفي ما يخص صلاة الليل، عن أنس رضى الله عنه قال: (دَخَلَ النَّبِىُّ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ: (مَا هَذَا الْحَبْلُ). قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ. فَقَالَ النَّبِىُّ: (لاَ، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ)).

وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا نَعَسَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَنْصَرِفْ لَعَلَّهُ يَكُونُ يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فَيَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي).

وعنها رضي الله عنها، أيضا، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا نَامَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي وَهُوَ نَاعِسٌ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبًّ نفسه).

ويبقى الحديث الجامع لكل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنّ لكل عابد شِرَّةً، ولكل شِرَّةٍ فترة؛ فإما إلى سنة، وإما إلى بدعة. فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك).

وفي رواية أخرى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةٌ وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ فَإِنْ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تعدوه).

وقال الطحاوي في تفسير كلمة (شِرَّة): (هي: الحِدَّة في الأمور التي يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها إلى ربهم عز وجل، وإنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحبَّ منهم فيها ما دون الحِدّة التي لا بد لهم من القصر عنها، والخروج منها إلى غيرها، وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد يجوز دوامهم عليه، ولزومهم إياه؛ حتى يَلْقَوا ربهم عز وجل، وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كشف ذلك المعنى أنّه قال: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)).

الوقفة الرابعة: القراءة في قيام الليل

أما القراءة في صلاة الليل فأبدأ بالقول أنّنا لا نجد أدلة تحدد حدا للقراة في صلاة الليل، لا يصح تجاوزه. إنّما ترك الأمر للمصلي وظروفه، وهذا من يسر الدين. وقد جاء في كتاب (قيام رمضان) للشيخ الألباني، كلام مؤصل حول هذا الموضوع، نثبته،
يقول:

(وأما القراءة في صلاة الليل في قيام رمضان أو غيره، فلم يَحُدَّ فيها النبي صلى الله عليه وسلم حداً لا يتعداه بزيادة أو نقص، بل كانت قراءته صلى الله عليه وسلم فيها تختلف قصراً وطولاً، فكان تارة يقرأ في كل ركعة قدر {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} وهي عشرون آية، وتارة قدر خمسين آية، وكان يقول: {من صلى في ليلة بمئة آية لم يُكْتَبْ من الغافلين}. وفي حديث آخر: {…بمئتي آية فإنّه يكتب من القانتين المخلصين}. وقرأ صلى الله عليه وسلم في ليلة وهو مريض السبع الطوال، وهي سورة {البقرة} و{آل عمران} و{النساء} و{المائدة} و{الأنعام} و{الأعراف} و{التوبة}. وفي قصة صلاة حذيفة بن اليمان وراء النبي عليه الصلاة والسلام أنّه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة واحدة {البقرة} ثم {النساء} ثم {آل عمران}، وكان يقرؤها مترسلاً متمهلاً. وثبت بأصح إسناد أنّ عمر رضي الله عنه لما أمر أُبّيَّ بن كعب أن يصلي للناس بإحدى عشرة ركعة في رمضان كان أُبيٌّ رضي الله عنه يقرأ بالمئين، حتى كان الذي خلفه يعتمدون على العِصِي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا في أوائل الفجر. وصح عن عمر أيضاً أنّه دعا القُرَّاءَ في رمضان، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ ثلاثين آية، والوسط خمساً وعشرين آية، والبطيء عشرين آية.

وعلى ذلك فإنّ صلى القائم لنفسه فليطول ما شاء، وكذلك إذا كان معه من يوافقه وكلما أطال فهو أفضل، إلا أنّه لا يبالغ في الإطالة حتى يُحيي الليل كله إلا نادراً، اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم القائل: {وخير الهدي هدي محمد}. وأما إذا صلى إماماً، فعليه أن يطيل بما لا يشق على من وراءه، لقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا قام أحدكم للناس فليخفف الصلاة، فإنّ فيهم الصغير والكبير وفيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة، وإذا قام وحده فليطل صلاته ما شاء}). انتهى كلام الألباني.

ونجد في حديث آخر، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل بآية، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قام رسول الله بآية من القرآن ليلة).
وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: (قام النبي بآية حتى أصبح يرددها، والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أنّ رجلاً قرأ المفصَّل في ركعة فقال له: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِى كَانَ النَّبِىُّ يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ فِى كُلِّ رَكْعَةٍ).

وعن أبي سعيد الخدري: (أَنَّ رَجُلاً سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)).

وكل ذلك دليل على تنوع القراءة، في صلاة الليل، على حسب ما يفتح الله به على عبده، وعلى حسب أحوال المصلين.

أما عن الكيفية في القراءة في صلاة الليل
فعن عائشة رضي الله عنها أن
ّها سُئلت عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل يجهر أم يسرّ؟ فقالت:
(كل ذلك قد كان يفعل، ربما جهر وربما أسرَّ).

وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ يُصَلِّي يَخْفِضُ مِنْ صَوْتِهِ وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَهُ قَالَ: فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ) قَالَ: قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَقَالَ لِعُمَرَ: (مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي رَافِعًا صَوْتَكَ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا) وَقَالَ لِعُمَرَ: (اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا)).

ما يستحبّ فعله أثناء القراءة

يُستحبّ لكل من قرأ في صلاة الليل الاقتداء بما كان يفعله نبيه صلى الله عليه وسلم كما مر سابقا. فإِذا مرَّ بآية رحمة أن يسأل الله سبحانه من فضله، وإِذا مرَّ بآية عذاب أن يتعوّذ بالله من النار، وإذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيح سبّح، وإذا مَرَّ بسؤالٍ سأل.

قال الشيخ الألباني رحمه الله في الردّ على من يقول في استحباب ذلك في صلاة الفرض: (هذا إِنّما ورد في صلاة الليل كما في حديث حذيفة، فمقتضى الاتباع الصحيح الوقوف عند الوارد وعدم التوسع فيه بالقياس والرأي، فإِنّه لو كان ذلك مشروعاً في الفرائض أيضاً لفَعله صلى الله عليه وسلم، ولو فعَله لنُقِل، بل لكان نقْله أولى من نقل ذلك في النوافل كما لا يخفى).

وقد ناقش العلماء قديما أيهما أفضل طول القراءة، أم تعدد الركوع والسجود بزيادة الركعات؟ وتعددت الاجتهادات، وقد اختار ابن تيمية رحمه الله: (أنّ تطويل الصلاة قياماً وركوعاً وسجوداً، أولى من تكثيرها قياماً وركوعاً وسجوداً).

الوقفة الخامسة: صلاة الوتر

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا).
وفي مسلم عن نافع أنّ ابن عمر كان يقول: (مَنْ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلاَتِهِ وِتْرًا قَبْلَ الصُّبْحِ كَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَأْمُرُهُمْ).

وعن أبي بن كعب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد).

(ومن السنة أن يقرأ في الركعة الأولى من ثلاث الوتر: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانية: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، وفي الثالثة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ويضيف إليها أحياناً: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ). وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قرأ مرة في ركعة الوتر بمئة آية من النساء).

وعن نافع (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ فِى الْوِتْرِ، حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ).

* دعاء القنوت وموضعه

وبعد الفراغ من القراءة وقبل الركوع، يقنت أحياناً بالدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم سِبْطَهُ الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو:

(اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك، وإنّه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لا منجا منك إلا إليك).

وموضعه قبل الركوع كما أسلفنا لحديث أبي بن كعب: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت قبل الركوع). ويجوز بعد الركوع، والأول أولى.

ما يقول في آخر الوتر

ومن السنة أن يقول في آخر وتره قبل السلام أو بعده: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخْطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفسك).

وإذا سلم من الوتر قال: (سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثًا وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بالثالثة يمدها).

الركعتان بعد الوتر

ولقد ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله، وهو خطاب لأمته، أنّه كان يصلي بعد الفراغ من الوتر ركعتين. أما أمره لأمته
فعن ثَوْبَانَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقال: (إِنَّ هَذَا السَّفَرَ جُهْدٌ وثِقَلٌ فَإِذَا أَوْتَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ وَإِلَّا كَانَتَا له).

وأما ثبوتهما من فعله، فَعَنْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ).

وجاء في السنة الصحيحة أنّه كان يقرأ فيهما: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ)
و(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ).

ويقول الشيخ الألباني، في (السلسلة الصحيحة)، معلقاً حول ثبوت الركعتين بعد الوتر، من قوله، بعد فعله عليه الصلاة والسلام: (وقد كنا مترددين في التوفيق بين صلاته صلى الله عليه وسلم الركعتين وبين قوله: {اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا}، وقلنا في التعليق على ” صفة الصلاة ” (ص123 – الطبعةالسادسة): والأحوط تركهما اتباعا للأمر. والله أعلم. وقد تبين لنا الآن من هذا الحديث أنّ الركعتين بعد الوتر ليستا من خصوصياته، صلى الله عليه وسلم، لأمره صلى الله عليه وسلم بهما أمته أمرا عاما، فكأنّ المقصود بالأمر بجعل آخر صلاة الليل وترا، أنّ لا يُهمل الإيتار بركعة، فلا ينافيه صلاة ركعتين بعدهما، كما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم وأمره).

بقيت في موضوع الوتر مسألة تناولتها بعض كتب الفقه، وهي عدم الإيتار بثلاث ركعات تُشبهُ في كيفيتها صلاة المغرب، وكثرت في ذلك الأقوال وتضاربت. وقد لخص الشيخ الألباني المسألة، في كتابه (صلاة التراويح، ص112)، تلخيصا جيدا يطابق النصوص. يقول رحمه الله: (وقد روي في كراهة الوتر بثلاثِ {ركعاتٍ} أخبارٌ، بعضها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين منها؛ قوله صلى الله عليه وسلم: (لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب ولكن أوتروا بخمس). وسنده ضعيف، لكنْ رواه الطحاوي وغيره، من طريق آخر، بسندٍ صحيحٍ، وهو في ظاهره يعارض حديث أبي أيوب المخرج بلفظ (ومن شاء فليوتر بثلاث). والجمع بينهما بأن يُحمل النهيُ عن صلاة الثلاث بِتَشَهُّدَيْن، لأنّه في هذه الصورة يشبه صلاة المغرب. وأما إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا مشابهة، ذكر هذا المعنى الحافظ ابن حجر في “الفتح” واستحسنه الصنعاي في “سبل السلام”. وأبعدُ عن التشبه في الوتر، بصلاة المغرب، الفصلُ بالسلام بين الشفع والوتر كما لا يخفى).

الوقفة السادسة: متفرقات في صلاة الليل

1. من فاته قيام الليل.

عن عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاَةُ مِنَ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَةً).

وعنها رضي الله عنها قالت: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ رَكْعَةً. قَالَتْ وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ وَمَا صَامَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا إِلاَّ رَمَضَانَ).

وزيادة ركعة في عدد ركعات القيام، حين يُقضى في النهار، لأنّ الإيتار في العدد من شأن صلاة الليل، أما صلاة النهار فلا، ولذلك شُفع العدد.

2. ولما كان لصلاة الليل الأجر الكبير عند الله، ولما وصفت في بعض الأحاديث أنّها (دَأْبُ الصَّالِحِينَ)، كان لزاما على كل راعٍ، أن يحث من اسْتُرْعيَ على التزام هذه الشعيرة. وقد مرت معنا أحاديث تدل كيف يجب أن يتعاون الزوجان، من أجل المداومة على صلاة الليل. وبين أيدينا الآن أحاديث وسعت دائرة هذا التعاون الخير…!

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِىِّ لَيْلَةً فَقَالَ: (أَلاَ تُصَلِّيَانِ). فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا. ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهْوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهْوَ يَقُولُ: (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلاً)).

ويعلق الطبري على هذا الحديث، فيقول: (لولا ما علم النبي صلى الله عليه وسلم من عِظَمِ فضل الصلاة في الليل ما كان يُزعج ابنَتَه وابنَ عمه، في وقت جعله الله لخلقه سكناً، لكنّه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة في قيام الليل).

3. وبالرغم من أنّ صلاة الليل سنة، وهي غير واجبة طبعاً، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبهنا في الحديث الآتي إلى فائدة خطيرة لصلاة الليل.

في صحيح البخاري، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ: (سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْفِتَنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ، يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ؟ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَة)).

ويعلق ابن الأثير على الجملة الأخيرة، في الحديث، قائلا: ({رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة}، هذا كناية عما يقدمه الإنسان لنفسه من الأعمال الصالحة. يقول: {رُبَّ غني في الدنيا لا يفعل خيراً، وهو فقير في الآخرة، ورُبَّ مكتسٍ في الدنيا ذي ثروة ونعمة عارٍ في الآخرة شقيٌّ}).

4. جواز صلاة التطوع جالسا مع القدرة على القيام، ولكنَّ أجرَ الجالس على النصف من أجر القائم، لحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: (سألت رسول الله عن صلاة الرجل قاعداً فقال: (إن صلَّى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم)).

ونُذكِّر بالمناسبة أنّ القيام ركن في صلاة الفريضة، ومن صلى الفريضة قاعدا، وهو قادر على القيام
لم تصح صلاته لتركه ركن القيام. ومن رحمة الله على عباده، ومن يسر الدين، أنّ صلاة الجالس، غير القادر على القيام في الفريضة والنافلة، تكون كاملة الأجر، يقول عليه الصلاة والسلام في ما يرويه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: (مَا مِنْ أَحَدٍ يَمْرَضُ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ إِلَّا كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ، مَا كَانَ مَرِيضًا، فَإِنْ عافاه، أراه قال: غسلَه، وإن قبضه غفر له).

وعنه صلى الله عليه وسلم: (إِذَا سَافَرَ ابْنُ آدَمَ أَوْ مَرِضَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ مقيم صحيح).

5. وبمناسبة الحديث عن الصلاة جالسا نُذكر ببعض الهدي النبوي في هذا الموضوع:

أ. السنة لمن أراد الصلاة جالسا أن يتربع، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت النبي يصلي مُتربِّعاً). وإن كان التربع صعباً على المصلي جلس بالطريقة التي تريحه.

وكان من هديه عليه الصلاة والسلام إن صلى جالسا ركع جالسا. وكان أحيانا يقرأ جالسا، ثم يقوم فيكمل القراءة قائما، ويركع قائما.

ب. والذي يجهله كثير من المسلمين، أنّ من يصلي جالسا يركع ويسجد إيماءً، لحديث جابر: (عاد صلى الله عليه وسلم مريضاً، فرآه يصلي على وسادة؛ فأخذها، فرمى بها، فأخذ عوداً ليصلي عليه، فأخذه، فرمى به، وقال: (صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلا؛ فَأَوْمِ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك)).

ولا بد من معرفة معنى الإيماء لغوياً. فالإيماء يكون حركة باليد أو بالرأس؛ وفي لسان العرب: (الإِيماءُ أَن تُومِئَ برَأْسِكَ أَوْ بيَدِك كَمَا يُومِئُ المَرِيضُ برأْسه للرُّكُوعِ والسُّجُودِ، وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَوْمَأَ برأْسِه أَي قَالَ لَا). وعلى ذلك فالمصلي يخفض رأسه مطرقاً للركوع، ويزيد الخفض للسجود، إذا كان لا يستطيع السجود على الأرض. أما ما يفعله أكثر المصلين، من حنيِ الظهر للركوع، وزيادة الانحناء للسجود، فهذا خطأ لغوي شرعي، ومخالفة صريحة للحديث المتقدم .. ومما يؤسف له، أنّ تسجيلاتٍ مرئيةً يتناقلها الناس، على برامج التواصل، لشيخٍ يبين فيها كيفية الركوع والسجود، في حال الصلاة جالسا لا تمت إلى الصواب وإلى النصوص بصلة، وهذه جنايةُ المذهبية والتقليد.

6. من رحمة الله بعباده أنَّهُ يَجزيهم على صدق نواياهم، إذا فاتهم العمل. عن أبي الدرداء أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلّي من الليل؛ فغلبته عينُه حتى أصبح؛ كُتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه). وفي صحيح الأدب المفرد: (مَا مِنْ عَبْدٍ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِقِيَامِ سَاعَةٍ مِنَ اللَّيْلِ فَيَنَامُ عَنْهَا إِلَّا كَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ وَكُتِبَ لَهُ أَجْرُ مَا نَوَى).

7. مما يساعد المسلم على القيام نشيطا لصلاة الليل، بعد توفيق الله، الابتعاد عن السهر، وهو ما ابتلي به أكثر الناس اليوم. عن أبي برزة رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا).

وبعد هذه الإحاطة النافعة، بإذن الله، بصلاة الليل، حان الوقت لإجابة السؤال المذكور في المقدمة، والذي كان الباعثَ على هذا البحث الشامل. وللذكرى، أعيد السؤال مختصراً، (فهل صلاة الليل للمتفرغين فقط؟ واستشكال السائل لمدى ملائمة هذه الشعيرة لمعظم المسلمين، لاسيما أصحاب الأعمال الحياتية التي لامندوحة عنها).

أيها السائل الكريم، وفقك الله إلى طاعته، من خلال التفقه في دينه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ يُرِدِ اللهُ به خَيراً يُفَقِّهْهُ في الدَّين). وإنّ مفتاح العلم والتَّفَقُّهِ السؤالُ .. عَنْ جَابِرٍ قَالَ: (خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رجلا منا حجر فَشَجَّهُ فِي رَأسه ثمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابه فَقَالَ هَل تَجِدُونَ لي رخصَة فِي التَّيَمُّم فَقَالُوا مَا نجد لَك رخصَة وَأَنت تقدر على الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بذلك فَقَالَ: (قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ)). والعِيُّ هو الجهل. وسيكون جوابي لك فقرات متسلسلة:

1. يجب أن لا يتعامل المسلمون مع تكليفهم الشرعي، دون استحضار نصوص ثلاثة. أولها، قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وثانيها قوله تبارك وتعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). وثالثها قوله جل وعلا: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

وحين يستوعب المسلم هذه القواعد القرآنية التي رحم الله بها عباده، برحمته التي وسعت كل شيءٍ، يَجِد نفسه إزاء تكاليف الدين، وأوامر الله ورسوله، مع فهمٍ جديدِ، وفقهٍ أكيدٍ، وإقبالٍ على اللهِ رشيدٍ.

2. واعلم أيها السائل الكريم، أنّ قيام الليل من النوافل، أي ليس بواجب، بل هو سنة. والسنة في تعريف العلماء، هي ما يُثابُ فاعِلُها، ولا إثمَ على تاركِها. فيكون المسلم مع هذه الشعيرة، أعني قيام الليل، أميرَ نفسِه، أي في سعة وراحة وليس في حرج.

3. سنعود معاً إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام، (أَحَبُّ الصلاةِ إلى اللهِ صلاةُ داودَ، وأحبُّ الصيامِ إلى الله صيامُ داودَ؛ كان ينامُ نصفَ الليل، ويقومُ ثُلُثَه، وينام سُدُسَه، ويصوم يوماً، ويُفطِر يوماً). ولنطبق هذه القاعدة على قيام الليل في هذه الأيام التي يكون فيها الليل اثنتي عشرة ساعة. فيكون تقسيم نبي الله داود عليه السلام، لصلاة الليل، والذي أخبرنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه بأنّه أحب الصلاة إلى الله، كالآتي:

أ. ينام نصف الليل، أي ست ساعات.

ب. يقوم ثلث الليل، أي أربع ساعات.

ج. ينام سدسه، أي ساعتين.

فيكون مجموع ساعات النوم، ثماني ساعات، ويكون عدد ساعات صلاة الليل أربع ساعات. والآن نسأل أوليس الإنسان البالغ يكفيه من النوم في الليل ثماني ساعات؟ ولو أجرينا حساب النسبة، لوجدنا أنَّ ساعات النوم هي ثلثا الليل، ويبقى الثلث الثالث للصلاة. وهذه النسبة تطبق في كل أيام السنة. فلو كان الليل تسع ساعات، لكان نصيب النوم ست ساعات، وللصلاة ثلاث، وهكذا.

إذن ساعات النوم ضِعف ساعات الصلاة، وهذا الأمر المثالي النموذجي، ويستطيع المسلم تغيير هذه النسبة حسب ظروفه ولا حرج، والحمد لله. وبالرجوع إلى بعض فقرات السؤال نؤكد، ما يلي:

* ما دام قيام الليل سنة، فلا يؤاخذُ الله تبارك وتعالى مسلماً ولا مسلمةً، إن لم يؤديا هذه العبادة، مع حرصهما على ذلك، لعدم توفر الظروف المُعِينة على ذلك. ولو توفرت لدى المسلم أو المسلمة النيةُ الصادقةُ فإنّ الله جل جلاله سيعينُهم، ويهيء لهم من أمرهم مِرفقاً. بل لقد مرَّ معنا، من قريب، أنّ من نوى القيام لصلاة الليل، ولم يستطع لسببٍ خارجٍ عن إرادته، كتبَ اللهُ له أجرَ ما كان ينوي، وجعل نومه صدقةً عليه.

* إنّ صلاة الليل لا تتعارض أبداً مع طبيعة بعض المسلمين الذين مُلئت أوقاتهم بواجباتٍ حياتية دنيوية. لقد قال ربنا(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا {9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا {10}). يقول الشيخ السعدي في تفسيره: ({وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} أي: راحة لكم، وقطعا لأشغالكم، التي متى تمادت بكم أضرت بأبدانكم، فجعل الله الليل والنوم يغشى الناس لتنقطع حركاتهم الضارة، وتحصل راحتهم النافعة).

فلا بد أن يأوي الإنسان إلى الليل والنوم، وهذا شأن معظم المخلوقات. فبالبرمجة الرشيدة، وحسن استغلال الوقت بحكمة، يحقق الإنسان معظم طموحاته. ولا أنسى أن أقول في معرض الحديث عن الليل والنوم: كم يُهدِر أكثرُ المسلمين من الوقت في سهرٍ لا طائل تحته، ولا منفعة..! تَحمِلُهم عليه العادات، وتشدُّهم إليه الشاشات..! حتى صار اليوم، الذي يُحب أن يأوي إلى فراشه مُبكراً، هروباً من سهرٍ؛ مُفلسٍ من عمل الدنيا والآخرة، لِيُعِدَّ نفسَه لوقتِ مُناجاةٍ مع ربه، في ركعة قيام، وصلاةِ الفجر في وقتها خلف الإمام…! إنّ مثلَ هذا، في نظر الكثيرين، مُتَخلِّفٌ عن واقعه، مغردٌ خارج سربه.! فليس تكليفُ الله، إذن، غيرَ مُلائمٍ ومناسبٍ لطبيعة حياتنا، بل إنّ نظام حياتنا المستورد من أهل الكفر، لا يليق بقداسةِ دِيانتنا.

* ونستنتج مما فصَّلنا في الفقرتين السابقتين، جواب الاستشكال في سؤال السائل (هل قيام الليل للمتفرغين من المسلمين؟). نقول: لقد بينا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم علمنا، في التقسيم النموذجي لفقرات قيام الليل، أنّ ذلك التقسيم لم يجعل عبادة القيام عبئاً على المقدار الطبيعي من النوم، الذي يكفي الإنسان لتحقيق الراحة من كَدِّ عمل النهار. لكن الذي اقتطع من ليله وقتاً، لا يعود عليه بمردودٍ نافع أبدا، لأنّه يقضيه في سهر مفلسٍ، كما قلت قبلاً، هو الذي يظلم نفسه مرتين. مرةً لحرمان نفسه من نعمة الراحة في النوم الذي هو من أعظم نعم الله، (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا {9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا)، وقد مر تفسيرها. وأخرى، حين ضَيَّع على نفسه طاعة الله والقرب منه، في أفضل الأوقات، حيث (يَنزلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخَرُ، فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يستغفرني فأغفر له). ومن أعظم نصائح رسول الله للمسلمين قوله:(احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ واستعن بِاللَّه ولا تعجز).

وأختم موضوعي بإهداء القارئ هذا الدعاء، الذي كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقوم من الليل:

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ: (اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ. أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ. اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)).

والحمد لله أولا وآخرا…

إسطنبول؛ 27ربيع الأول 1440 5 كانون الأول 2018