Skip to main content

كَلَامٌ فِي الْمَمْنُوعِ

By الثلاثاء 17 ذو الحجة 1434هـ 22-10-2013ممحرم 21, 1441دراسات

يحسب القاريء للعنوان، بادي الرأي، أنّ ما سيأتي من كلام هو سياسي، لأنّ الناس ألفوا أنْ يكون المنع والحظر من نتاج الأنظمة الشمولية التي شاء الله لها أنْ تتهاوى واحداً تلو الآخر، وسيأتي المزيد إنْ شاء الله..! لكنْ عند المسلمين حظراً ومنعاً لم تُصدره سلطة، ولم يأت به الدين، ومع ذلك فقد فشا في الأمة، وكان له رهبة، وقد كان سبباً في بقاء الحق حبيساً في بعض الصدور..! ولقد جعل الإلف والتوريث مع مرور الزمن هذا الممنوع في نفوس أكثر المسلمين في منزلةٍ تُقارب أنْ تكون (من المحرم شرعاً). ومن هنا بدأت المشكلة العلمية في حياة الأمة الإسلامية، والتي ما لبثت أنْ امتد تأثيرها على كل شيء في حياة أمة الإسلام، إلى أنْ وصلت بالأمة إلى الغثائية والغياب، وهُما أخوان للموت..!

تلك المشكلة هي: (البعد عن الوحيين).! والبعد عن الوحيين له مظهران في الناس، إما إعراض ورفض وترك بالكلية، وهو الكفر الصريح، وبحثنا ليس في هذا النوع، أو تبديل وتحريف وتأويل، وهو اللف والدوران حول النصوص، وإعمال العقول لابتكار معان مُستنبطة بتعسف، يُمليها الهوى، ثم بثّها للعمل بها. ويدعي أهل ذاك الاتجاه أنّهم لا زالوا في فلك الوحيين ولم يخرجوا عنهما .. ومع أنّ نعت ذلك التوجه بالكفر مُجازفة وتعجل، إلا أنّ خطورته على المسلمين، أفراداً، وعلى الأمة جمعاء لا يُخطئه نظر، وهو أشد من الكفر، وقد أورد الأمة المهالك.

وفي كتابات سابقة حول الواقع المعاصر، والنكبات التي أصابت المسلمين، لخصنا المشكلة بأنّها (غياب الأمة)، وأنّ كل محاولات الإصلاح في غياب الأمة عديمة الجدوى، والتعبير بأنّها (إطفاء للحرائق) يفي بأكثر الغرض .. وأكدنا أنّ الجهد الرئيسي لإصلاح ما فسد من حال الأمة، يجب أنْ يتركز على إحياء الأمة، وبعثها من جديد، بإعاداتها إلى الوحيين وقد شردت عنهما بعيد وطويلاً .. ولِمن اتفق هذا التشخيص مع رؤيته سيوافق على خطوات المعالجة، وإلا فلكل وجهة هو موليها .. ومن المنطقي بين يدي أي معالجة، أنْ يسبق تشخيص دقيق .. وقد اخترت للتشخيص كلاماً نفيساً، لآسٍ كبير لأمراض الأمة وهو (ابن القيم) رحمه الله .. فقدجاء في كتاب (الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة) وهو كتاب عزّ في المكتبة الإسلامية نظيره، الكلام الآتي:

(إنّ المعارضين للوحي بآرائهم خمس طوائف:

1. طائفة عارضته بعقولهم في الخبريات وقدمت عليه العقل فقالوا لأصحاب الوحي لنا العقل ولكم النقلل.

2. وطائفة عارضته بآرائهم وقياساتهم فقالوا لأهل الحديث لكم الحديث ولنا الرأي والقياس.

3. وطائفة عارضته بحقائقهم وأذواقهم وقالوا لكم الشريعة ولنا الحقيقة.

4. وطائفة عارضته بسياساتهم وتدبيرهم فقالوا أنتم أصحاب الشريعة ونحن أصحاب السياسة.

5. وطائفة عارضته بالتأويل الباطن فقالوا أنتم أصحاب الظاهر ونحن أصحاب الباطن.

ثم إنّ كل طائفة من هذه الطوائف لا ضابط لما تأتي به من ذلك بل ما تأتي به تبع لأهوائها كما قال تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) القصص .وقال: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) المائدة. فما هو إلا الهوى أو الوحي كما قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، فجعل النطق نوعين نطقاً عن الوحي ونطقا عن الهوى ثم إذا رد على كل من هؤلاء باطله رجع إلى طاغوته، وقال في العقل ما لا يقتضيه النقل..! وقال الآخر في الرأي والقياس ما لا يجيزه الحديث.

وقال الآخر في الذوق والحقيقة ما لا تسوغه الشريعة. وقال الآخر في السياسة ما تمنع منه الشريعة. وقال الآخر في الباطن ما يكذبه الظاهر.

فباطل هؤلاء كلهم لا ضابط له بخلاف الوحي فإنّه أمر مضبوط مطابق لما عليه الأمر في نفسه تلقاه الصادق المصدوق من لدن حكيم عليم). ا.هـــ

ولوضوح الطرح، وتقريبه من الأفهام، يحسن أنْ نُسمي تلك الطوائف الخمسة بمسمياتها التي يعرفها الناس اليوم:

فهل الأولى إلا أصحاب المدرسة العقلية أو (المعتزلة الجدد) ومن تبعهم..؟ وهل الثانية إلا أهل الرأي والقياس، وقد سموا قديماً (الأرأيتيون)، وهو منهج الأحناف..؟

وهل الثالثة إلا أهل التصوف، من نافسوا الوحي المنزل، بمقولة (حدثني قلبي عن ربي)..؟

وهل الرابعة إلا ما نُسميه اليوم بالعلمانية، الداعية إلى فصل الدين عن الدولة..؟

وهل الخامسة إلا أولئك الذين ضلوا في العقيدة، وفي أسماء الله وصفاته، وتركوا ظاهر القرآن والسنة، وأولوا بما يُرضي عقولهم، فقالوا عن اليد القدرة، واستوى بمعنى استولى، وجحدوا أحاديث النزول، وقالوا من سأل عن الله (بأين) فقد كفر، وكفّروا من قال إنّ الله في السماء .. وأفضل مُعبر عن حال هذه الطائفة ما بينه أحد أساطينهم وهو الرازي في كتابه (أساس التقديس)، حيث جعل النصوص المعارضة للعقل إما غير صحيحة فتُرد، وإما صحيحة فيُقطع بأنّ ظاهرها غير مُراد، ثم تُؤول على سبيل التورع، وإما يُفوض عِلمها إلى الله عز وجل .. وقد قال قائلهم كما في كتاب (جوهرة التوحيد):

وكل نص أوهم التشبيها أوله أو فوض ورم تنزيها

أيها المسلمون .. هل يُنكر أحد في أي بلد إسلامي أنّ من ينتسبون إلى تلك الطوائف الخمسة، من شيوخ وطلبة عِلم، موجودون بيننا بل قد يكون أكثرنا منهم بالممارسة والتطبيق، ونحن لا ندري .. وأنّهم هم الأكثر تأثيراً في طريقة تشكل تدين المسلمين..؟ بل إنّ الذين يُجاهدون بالدعوة على بصيرة من أجل رد الناس إلى الوحيين مُضيق عليهم من المشايخ، وفي بعض البلدان من أجهزة الأمن أيضاً، وتُعبؤ مشاعر الناس ضدهم، على أنّهم أعداء للدين. وليقرأ من شاء سيرة ابن تيمية رحمه الله مع أهل زمانه، ثم موقف مشايخ المسلمين من أفكاره ومواقفه حتى اليوم، وكذلك الشيخ الألباني رحمه الله. وبعد هذا، هل نستغرب لمَ ابتعدت الأمة عن الوحيين، وأتباع تلك الطوائف الخمسة تنخر دين الأمة..؟

وما دام أنّا عرفنا السبب فقد وضح التشخيص، وعُرفت المعالجة، وهي التصدي لتلك الدعوات بالعلم والأدلة الصحيحة، والدعوة على بصيرة، ولا يجوز أنْ يتقدم هذا الواجب أي واجب اليوم..!

* البدع…

والممنوع على سبيل الذكرى، ما كان الكلام فيه بقصد الإصلاح ممنوعاً بقوة سلطان العامة، ومَن وراءهم، واعتبرناه في الموضوع السابق من أسباب (غثائية الأمة وغيابها)، لأنّه عرقل إلى حد كبير عمليات الإصلاح الديني .. ومن القواسم المشتركة بين الطوائف الخمس التي ذكرها ابن القيم، وأسقطناها على أسماء حقيقية في الواقع المعاش، الإسهام في أخطر تغيير في دين الأمة، وهو إيجاد أكبر فرصة لتسلل البدع إلى دين الناس، ولمدة قرون، وصار هناك كمٌ تراكمي من البدع بات من المستحيل معالجته إلا على نطاق ضيق. ولتلك الاستحالة أسباب ثلاثة:

1. إنّ طول أمد معايشة الناس للبدع، مع غياب الانكار لها، صارت بالإلف عند الناس سنناً يتمسكون بها، فإذا أنكرت قيل أنكرت السنن..!

2. كان التصدي للبدع في أول ظهورها، لِينا من قبل العلماء، ولعلهم ظنوا ذلك من الحكمة والموعظة الحسنة، وأنّهم في أي وقت يقدرون على اقتلاعها..! إضافة إلى أمر هام جداً فات الكثيرين ولا زال، وهو أنّ خطر البدعة ليس آنياً، إنّما هو بتقادم الزمن عليها، فتتمكن من قلوب الناس ويصعب التصدي لها.

3. والأخطر، من كل ذلك، انتشار مقولة خطيرة بين الناس بشكل مواز لانتشار البدع نفسها، وهي مصطلح (البدعة الحسنة)، وسيكون لذلك بعض تفصيل إنْ شاء الله.

ولكل ما ذكر، ولأنّ أمر البدع جِد خطير، رأينا أن يكون الحديث عن البدع، وبخطوط عريضة، وفق ما يسمح المجال، وإلا فحديث البدع طويل الذيل .. وأُحب أنْ أستدعي إلى ذواكر القراء أوضح مفهوم للبدعة وهو: أنّها عبادة الله بغير ما شرع، والله لا يُعبد إلا بما شرع، وأنّها استدراك على الله ورسوله، وإحلال للعقل محل النقل (النصوص). فحينما لا يتقيد المسلم في أمر دينه بالحدود والضوابط التي أوقفه الوحيان عندها، ويتجاوزها بالابتداع، فلا يعني ذلك التجاوز إلا أنّه يستدرك على الله ورسوله.! وأي مسلم يرتضي لنفسه ذلك الموقف..؟ بل كأنّ هذا المبتدع يقول بلسان حاله وفِعاله: يارب إنّك لم تُكمل لنا الدين، ويا نبي الله إنّك لم تدلنا على كل مواطن الخير، فلنعمل عقولنا..! وأين هذا من نصين: قرآني: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، وسني: (ليس شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه) .

ومما يجب قوله بجرأة وصراحة، وقد كان من الممنوع، أنّ المسلمين في أكثر ديارهم يعبدون الله بالبدع أكثر من السنن .. وما أذكر أنّني قلت هذه العبارة إلا استنكرها أكثر السامعين، وعدوها من المبالغات، ولا أبريء أكثر القراء من مثل هذا الآن. وردي على كل أؤلئك هو الأثر الآتي:

عن حذيفة بن اليمان: (أنّه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً قال: والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة).

فهل أبو عبد الله رضي الله عنه مبالغٌ أو متَّهِمٌ..؟ يجب أنْ يُعلم، بين يدي قراءة هذا الأثر عن حذيفة أنّ الذي قاله رضي الله عنه وأقسم على حدوثه، لا يمكن أنْ يقوله من عقله، وبذلك يكون لهذا الأثر حُكم الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي يجب أنْ نهتز لقراءة مثل هذا الكلام الذي يُؤكد خطورة الحال التي يعيشها المسلمون والبدع تحفهم من كل جانب .. وأنّ البساطة التي صار الناس، حتى المشايخ يواجهون بها هذا البلاء، بسبب طول الأمد وكثرة الإلف، تُكرِّس المخالفة، وتُبْعد الأمة عن الوضع المُرضي لله، وتُسْهم في غثائية الأمة وغيابها. وأنّه لا بُد من إفاقة وعودة إلى الاتباع وإلى تحكيم النصوص دون التحايل عليها.

ولعل أخطر ما كان من أمر البدعة، وأسهم كبيراً في إجهاض جهود قَمعها من حياة الناس مقولة (البدعة الحسنة) … ولا بُد إذنْ من تحرير هذه المسألة بشكل واف.

إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطى البدعة محتوى ومفهوماً سلبياً ذميماً حين قال: (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)، ومعلوم أنّ (كلّ) في لغة العرب من ألفاظ العموم والنبي صلى الله عليه وسلم أفصحهم وقد أُوتي جوامع الكلم. فهل يُعممم حيث لا ينبغي التعميم..؟ وهل يُؤخر البيان عن وقت الحاجة إليه، إذا كان في الإسلام بدعة حسنة تنفع الناس..؟ وهو الذي ما ترك خيراً إلا ودل أمته عليه.

ورحم الله الإمام مالك إمام دار الهجرة إذ يقول: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأنّ الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً). وكرر ابن تيمية ذلك بمقولة رائعة مقتضبة: (الدين ما مات عنه محمد صلى الله عليه وسلم).

ولقد وجد المبتدعة في مقولة (البدعة الحسنة) ملاذاً قوياً يحميهم ويحمي بِدَعَهم من النقد والتصدي والإسقاط .. فانتشر المصطلح المُضِل..! وكم يعجب العاقل من انتشاره وتخطيه الحديث الآتي في نفوس بعض المسلمين: (وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).

وبكل أسف يجد المرء نفسه مضطراً إلى القول إنّ مصطلح البدعة الحسنة ولد من عقول علماء وليس من عقول العوام..! حينما أسفر الاحتكاك بين الفلسفة مُتمثلة بعلم الكلام مع الدين، عن ظهور بدع العقيدة والتوحيد وخاصة في الأسماء والصفات، واستمرأ الناس مخالفة النصوص بالتأويل استجابة لداعي العقل، وبزعم التنزيه، ووجد بعض العلماء أنفسهم مُتقبلين لبعض البدع بالعقل، مدافعين عنها، فاخترعوا هذا المصطلح (البدعة الحسنة) ليواروا تحته مخالفتهم لما كان عليه النبي وأصحابه. وحصروا متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بعناوين عريضة في الدين، وجوزوا المخالفة في أمور اعتبروها فرعية..! ولا يجوز أنْ نتغاضى عن مثل هذه المنعطفات الخطيرة تهيباً لأسماء لامعة كانت من المتورطين .. ولا أتحرج من ضرب المثل بالنووي رحمه الله، لا إهانة له، فله في الدين يد لا يُنكرها إلا جاحد، ولكن من باب توصيف الواقع بأمانة، من أجل العبرة. فهو من القائلين بالبدعة الحسنة، المدافعين عن وجودها، وليس هو الوحيد ولكنّنا لسنا الآن بصدد تقصي أولئك العلماء.

ولا يجب أنْ ننسى دور التصوف في موضوع البدع، لاسيما مع بروز أسماء لها طنين ورنين عند الناس (كابن عربي، والجنيد، والتلمساني والحلاج وغيرهم) ممن لا يزالون يُذكرون بخير إلى يومنا الحاضر، حتى من بعض العلماء.

وآخر ما نخاطب به عقول دعاة (البدعة الحسنة) في الدين، بدعابة، لتقريب هذه الفكرة وتأكيدها نقول: إذا صحت في العقل السليم والفهم القويم العبارات الآتية: (لص شريف، زان عفيف، وحش لطيف، جمال مخيف، مستنقع نظيف، عاقل سخيف، فيل خفيف، سمج ظريف، دمار طفيف) إذا صحت، وهيهات، لأنّها وصف للشيء بضده..! يصح أنْ يُقال عندئذ: إنّ في الإسلام بدعة حسنة.

* الاختلاف…

ومن الكلام في الممنوع، بسبب سلطان العامة ومَن وراءهم، الاعتراض على مقولة سرت في الأمة لقرون، حتى صارت كأنّها من قواعد الدين، التي لا يحق لأحد الكلام فيها، بل إنّ من ينتقد تلك القاعدة مُتشدد، مُخالف، عدو للدين. والقاعدة المشؤومة هي: (الاختلاف رحمة). وبالعقل قبل الدين، ما كان الاختلاف رحمة أبداً، وإذا كان الاختلاف رحمة، فماذا يكون الاتفاق..؟ أيكون عذاباً، سبحان الله..! وحتى يكون كل قاريء لمثل هذا الموضوع على بينة من أمره، فلا بُد من تبيين خطوط عريضة، هي مفتاح فهم الموضوع برمته.

باختصار شديد فأي اختلاف في مسألة شرعية مع وجود نص صحيح صريح يُغطيها مرفوض، والمختلفون آثمون، لأنّ مثل هذه الحال لا يجوز فيها إلا اتباع النص ولا مدخل للعقل والاجتهاد .. أما إذا كانت أي مسألة عَرِيَّةً عن النص أو كان النص فيها صحيحاً غير صريح، تُصبح المسألة عندئذ اجتهادية، الخلاف فيها مقبول، ولا يجوز أنْ يُثَرِّب أحدٌ على أحدٍ في الاجتهاد، لأنّ الاجتهاد عملية عقلية والعقول قد لا تتفق..! ويكون واحد من المجتهدين المختلفين مُصيباً، يحظى بأجرين، والباقون مخطئون، ومأجورون أجراً واحداً، لأنّ الحق لا يتعدد .. أما حين نجد الاختلاف والاجتهاد والنصوص الصحيحة الصريحة حاضرة، فهنا تكمن المشكلة الكبرى التي يجب أنْ لا تمرر، صيانة للدين .. والمدافعون عن الاختلاف والتوسع فيه ينفون أنْ يكون مثل ذلك موجوداً، لكن الأدلة والشواهد كثيرة. والمسألة ليست حادثة وإنّما وجدت في القديم والكتب طافحة بالأمثلة.

ولا يجب أنْ نتحرج من القول: إنّ مما أعطى الاختلاف شرعية حصّنته من النقد، المذاهب الأربعة التي فهمها الناس، ومنهم علماء، على غير حقيقتها، وأعطوها حصانة لم يعطها الشرع لها، وهي تختلف أحياناً فيما بينها .. وهاكم الصواب.

إنّ وجود علماء مجتهدين قد يختلفون في اجتهاداتهم أمرٌ صحيح وصحي وشرعي، والصحابة مثال سابق .. لكنّ ذلك لا يعني أنّ كل الاجتهادات صواب..! نعم، كل مجتهد مأجور وليس كل مجتهد مصيباً .. وما أدق كلام الإمام مالك رحمه الله في تعليقه على الاختلاف، واختلاف الصحابة بالذات.! سُئل الإمام مالك رحمه الله: (عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله أتراه من ذلك في سعة؟ فقال:لا والله! حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً؟! ما الحق والصواب إلا واحد). فإذا كان الاختلاف بين الصحابة الكرام دائراً بين الخطأ والصواب، فمن باب أولى أنْ يكون من بعدهم كذلك. أما أنْ تدون اجتهادات كل إمام وتجمع في مذهب وتُقسم الأمة وتُفرق إلى أربعة مذاهب لا يُقبل الخروج عنها، بل يُوجب بعضهم اتباعها، كما جاء قي نظم صاحب جوهرة التوحيد:

وواجب تقليد حبر منهم كذا حكى القوم بلفظ يفهم

وأبعد أحمد الصاوي النجعة في حاشيته على تفسير الجلالين حين يقول: (ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك إلى الكفر). سبحانك هذا بهتان عظيم، لم ينزل بذلك قرآن ولم تصح به سنة. فالحق في دين الإسلام واحد، ولا يُغير ذلك اختلاف الرجال، كائنين من كانوا، فبالحق تُعرف الرجال، ولا يُعرف الحق بهم.

تبقى حقيقة هامة، تتصل بالموضوع، ويجهلها كثير من الناس، تلك أنّ الأئمة كلهم لم يشاؤوا أنْ يتركوا من بعدهم مذهباً يُنافس الوحيين، ولم يوصوا بذلك ولم يسعوا إليه، ولو بُعثوا اليوم أحياء لأنكروه، إنّما ذلك من صنع أتباعهم فيما بعد. والدليل على ذلك ما قاله أبو حنيفة رحمه الله لتلميذه لمّا رآه في حلقته يكتب كلامه: (ويحك يا يعقوب! لا تكتب كل ما تسمع مني؛ فإنّي بشر قد أرى الرأي اليوم، وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً، وأتركه بعد غد).

والذي يُغري الناس بالحماس للاختلاف عوامل عدة أهمها الحديث الباطل الذي لا أصل له رغم انتشاره في الكتب والخطب وعلى ألسنة الناس: (اختلاف أمتي رحمة). والحديث الآخر (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم). وإذا سقط هذا الكلام المزعوم، وسقطت معه مقولة (إنّ الحق يتعدد) سقطت دعوى الاختلاف وتسويغه، والدفاع عنه، والدعوة إليه والعمل بمقتضاه .. وما أدق وما أروع ما قاله عالم الأندلس الشاطبي رحمه الله في كتاب الموافقات: (الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ فِي فُرُوعِهَا وَإِنْ كَثُرَ الْخِلَافُ، كَمَا أَنَّهَا فِي أُصُولِهَا كَذَلِكَ؛ وَلَا يَصْلُحُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ).

وإنّ دعاة الاختلاف لا يجدون عندهم ما يسند دعواهم إلا نصين لم يوفقوا في فهمهما:

الأول: قوله تعالى : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).

ونجد للآية بعض تفسيرات هي من لي أعناق النصوص ولا تُوافق حقائق الإسلام أبداً، كأنْ يُقال إنّ الاختلاف في الدين قدر محتوم، وأنّ الله شاء للناس أنْ يبقوا مختلفين. ولا يسمح المقام باستعراضها وتفنيدها، والأجدى عرض الفهم الصحيح للآية.! فعندما يُستبعد الشد الذهني المسبق لموضوع الاختلاف، ويُنظر في الآية نظرة متأنية موضوعية تنسجم مع حقائق هذا الدين، نخرج بفهم مغاير، وهو الآتي باختصار: إنّ الله لم يشأ التدخل في اختيار الناس الديني، مع قدرته على ذلك (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) و (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَهُ) ليكون الحساب عادلاً وتُحمل المسؤلية كاملاً. ومادام الناس يصدرون عن أهوائهم وعقولهم ومصالحهم وحرصهم على ما كان عليه آباؤهم الأولون فسيختلفون ولا يزالون مختلفين. ثم يأتي الاستثناء في الآية ليبين أنّ الذين يرحمهم الله لا يختلفون. فبمَ رحمهم؟ رحمهم بما أنزل لهم من هداية فاتبعوها وتركوا الأهواء والعقول والمصالح وما كان عليه الآباء لِما جاء من عند الله، فكانوا مهتدين غير مختلفين. وقد خلقهم ليهديهم سواء السبيل ويرحمهم بذلك، لا للاختلاف الذي يوجب لهم العذاب.

أما النص الثاني فهو قصة بني قريظة:

(عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَاب:ِ (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ). فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ).

واستنتج من لم يستطيعوا التحرر من شد مسبق لأمر الاختلاف، أنّ كل أمر شرعي يُمكن أنْ يُفهم بأكثر من فهم، وأنّ العمل بكل تلك الأفهام جائز شرعاً مستدلين بإقرار النبي عليه السلام فريقي الصحابة على اختلافهم، ومن هذا الفهم أوتوا.

فلنفترض أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ) حثّهم على الإسراع في التحرك إلى بني قريظة، وهو الراجح، فالذين فهموا هذا الفهم وقفوا للصلاة حين حان الوقت، وهو مراد النبي عليه السلام، فلمَ لم يعنف الفريق الآخر، ويقول أخطأتم بتأخيركم الصلاة عن وقتها؟ وهنا يكمن اللغز الذي فات الكثيرون..! إنّ الذين أخروا الصلاة إلى حين الوصول خالفوا ما أراده النبي باجتهاد، ولكن اجتهادهم كان سائغاً وغير خاطيء، لأنّ الآمر لهم رسول الله، وهو المشرع، وله أنْ يأمرهم بتأخير الصلاة عن وقتها، ولذاك الفهم والفعل من بعض الصحابة مُسوغ كبير، كان يعلمه النبي عليه السلام وهو أنّهم كانوا قبل أيام مع نبيهم في غزوة الأحزاب، وأخر النبي عليه السلام صلوات ثلاث عن وقته لانشغاله بالقتال، وصلاها جميعاً ليلاً:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (حُبسنا يوم الخندق حتى ذهب هويّ من الليل حتى كُفينا، وذلك قول الله تعالى: (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً)، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره فأقام فصلى الظهر وأحسن كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام للعصر فصلاها كذلك، ثم أقام للمغرب فصلاها كذلك، ثم أقام للعشاء فصلاها كذلك، وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف: (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً)).

وبالنتيجة نقول: إنّ حادثة بني قريظة واقعة عين لا عموم لها، ولا يُقاس عليها مثيلاتها لأنّها لن تتكرر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (لكونه الآمر للصحابة). ولا يجوز أنْ تصبح عنواناً لتجويز الخلاف وتبريره، والقول إنّ الاختلاف في فهم النصوص والأوامر الشرعية جائز وسائغ شرعاً بدعوى إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على ذلك. ولقد رأيت مثل هذا الكلام في أكثر من مؤلف لأكثر من داعية.

بعد ذلك فالاختلاف ليس له في دين الله مكان. فقد جعل الله تبارك وتعالى برهان كون القرآن من عنده، عدم قبوله الاختلاف، وكذلك الدين كله (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) والمفهوم المعاكس أنّ وجود الاختلاف في القرآن وفي الدين نفي للمصدر الإلهي لهما.

ومن الأدلة القاطعة على رفض الدين للاختلاف حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه يقول: (كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلاً تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ). فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلاً إِلاَّ انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض، حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ).

وأسأل: أيسوء رسول الله تفرق المسلمين في المنزل وهو أمر ذوقي محض، ويُخبر أصحابه أنّ ذلك التفرق من الشيطان، ويسره تفرقهم في صلاتهم وعباداتهم ودينهم..؟

والاعتراف بوجود الاختلاف واقعاً، والسعي إلى تصفيته عن طريق العودة إلى النصوص والتزام حرفيتها، حقّ، أما تبرير الاختلاف وتسويغه وتكريسه وجعله ثقافة شرعية وهدية الله إلى أهل الدين، للتيسير عليهم، فباطل يرفضه الدين، ويكرهه الله ورسوله.

* المنطق اليوناني…

وممن الممنوع الذي لم يكن الكلام فيه مقبولاً في الأوساط الدينية، ومرة أخرى، وبشكل أجرأ وأصرح، لغلبة سلطان الجهل الذي يُظن عِلماً، وداعي الهوى الذي يُسيء فهماً، تحكيم وتحكّم المنطق اليوناني في تعاليم الإسلام عقيدة وفقهاً .. وبالمناسبة، فقد عادت بي الذاكرة إلى الوراء ما يقرب من ثلاثين عاماً، حين كنت أحضر محاضرة يلقيها الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم، وكم كانت عبارة جريئة في ذاك الوقت والموقع، حين قال، ويكاد يكون الكلام في ذاكرتي حرفياً: (إنّ المنطق اليوناني الذي نبذته أوربا في بداية عصر النهضة، وألقته في مزبلة التاريخ، حكَّمه المسلمون في دينهم وعقيدتهم).

وما هي الطريق التي تسلل منها المنطق اليوناني إلى عقول علماء المسلمين؟ إنّه علم الكلام ورواده ممن دخلوا عِلم الفلسفة ولم يُحسنوا الخروج منه دون مسّ منها أصابهم. ولمعرفة أثر عِلم الكلام في الفقه، تكفي نظرة فاحصة إلى أكثر كتب (أصول الفقه) ليُعلم أنّ مُعظم تأصيلات ذاك العلم فلسفية منطقية، والبحث يطول.

ولأولئك الذين يرون هذا الكلام جديداً عليهم، أذكر نموذجاً شديد الوضوح لتدخل المنطق في الفقه: من المعروف أنّ التيمم هو البديل عن الوضوء في كل شيء حين فقدان الماء أو العجز عن استعماله، ولذلك أصلان: قوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (إنّ الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير). فقد جعل الله وكذلك رسول الله التيمم بديلاً عن الوضوء، وله كل أحكام الوضوء، دون أي تفصيل مخالف. ولما قرأ عُلماؤنا التيمم بمنظار المنطق اليوناني فهموا فهماً عجيباً لم تأت به النصوص المحكمة، وبثوه في كتب المذاهب، وأقاموه على تساؤلٍ عِماده المنطق وليس النص: (هل التيمم رافع للحدث أم مبيح للصلاة ولكل ما يتيمم له..؟)، ولو كان هذا السؤال لازماً لأمر الدين، فهل يسكت الله عنه ورسوله، ويُترك دين الله لأهل المنطق والفلسفة..؟ وأخذت المذاهب الأربعة بأنّه (مُبيح) وملؤوا الكتب المذهبية بتفصيلات عن ذلك ما أنزل الله بها من سلطان..! منها: أنّ مَن نوى بتيممه رفع الحدث وليس استباحة الصلاة لم تجز له الصلاة بذلك التيمم، وأنّ من نوى التيمم لنافلة لا يجوز أنْ يُصلي به الفرض، والعكس، وأنّ من نوى التيمم للتلاوة لا تصح صلاته به، ومنها أنّ من تيمم للظهر لا يصح أنْ يصلي به العصر، بمعنى أنّ خُروج وقت الصلاة التي تيمم لها ينقض ذلك التيمم، إلى غير ذلك، والشرح يطول.

فهل كل ذلك من سماحة ويسر الإسلام، أم أنّه من جنايات المنطق اليوناني على الإسلام وأهله..؟ وكيف يكون مثل هذا المنزلق الخطير، والوحيان في متناول أيدي الناس..؟ إنّها فتنة التبديل..!

جعلت ما مضى مثالاً واضحاً وصارخاً لما أردت، والآن إلى ما هو أخطر:

إنّ الذين شغفهم منطق أرسطو جعلوه قاعدة لضبط وفهم نصوص الدين، أعني نصوص الوحيين. فقسموا النصوص من حيث ثبوتها إلى (يقيني أو قطعي الثبوت) و(ظني الثبوت). فهم يقولون بناء على ذلك التقسيم: إنّ النص من القرآن قطعي الثبوت لا شك فيه، أما النص من السنة، فإذا كان متواتراً فهو يقيني الثبوت، وإذا كان من الآحاد أو دون المتواتر فهو ظني الثبوت عندهم. ولا نريد أنْ نُناقش صحة هذا الكلام عقلياً ومنطقياً، هذا لا يهمنا الآن، لكن الذي يتحتم الوقوف عنده ومعه، أنْ نعلم ماذا يترتب على هذا الكلام؟ هم رتبوا على هذا الكلام أنّ كل نص يقيني الثبوت يُحتج به في العقيدة، أما النص الظني الثبوت وعندهم خبر الآحاد ظني الثبوت فلا يُحتج به في العقيدة. ويفوت الكثير من الناس وكثيراً من المسلمين أنّ الأحاديث المتواترة في السنة قليلة جداً، وإذا اعتُمدت تلك القاعدة الباطلة ضاع كثير من أحكام الدين بسبب رد خبر الآحاد..! فهل هذا صحيح من الناحية الشرعية؟

إنّ هذا من صنع علماء الكلام كما قلت آنفاً. أما الذي عند علماء الدين فغير ذلك.! كل نصّ من سنة المصطفى عليه السلام توفرت فيه شروط الصحة الخمسة، فهو قطعي الثبوت سواء كان خبر آحاد أو متواتراً، ويُحتج به في العقيدة وغيرها من أمور الدين. وهذا ما كان عليه النبي وأصحابه وأهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية. فالذي يهمنا في أي نص صلاحيته للاحتجاج به. فنقول: الذي ندين الله به أنّ كل نص نبوي توفرت فيه شروط الصحة الخمسة وهي: (اتصال السند، عدالة الرواة، ضبط الرواة، السلامة من الشذوذ والعلة) فهو قطعي الثبوت ويصلح دليلاً لكل أمر من أمور الدين، ولا استثناء.

أما ما يتعلق بأوصاف: (متواتر، آحاد) فهي تصف طريق ورود الحديث إلينا، ولا علاقة لذلك بالصحة والاحتجاج. فيثبت الشرع بالمتواتر كما يثبت بالآحاد ويثبت بالآحاد كما يثبت بالمتواتر، ولا فرق بين عِلم وعمل، وعقيدة وعبادة.

ويُثير أهل العقل والمنطق سؤالا للتشويش، هل يتعبدنا الله بالظن؟ لأنّهم يرون ما دون التواتر من أحاديث النبي عليه السلام يُفيد الظن وليس اليقين. وعلماء الإسلام يعتمدون التقسيم الآتي: (يقين، وظن راجح، وظن مرجوح). والظن المرجوح هو الذي قال عنه الله عز وجل في كتابه: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا). وأما الظن الراجح فهو دون اليقين وفوق الظن المرجوح، فنحن المسلمين، مُتعبدون به كما اليقين. وأدلة تعبد المسلمين لله بالظن الراجح كثيرة، ومنها على سبيل التمثيل: أذان المؤذن لدخول الوقت، فهل دخول الوقت بالأذان يقين أم ظن راجح؟ وهل الصيام لرؤية الهلال يقين أم ظن راجح؟ وهل طهارة مكان تجوز الصلاة فيه يقين أم ظن راجح؟ وقد يُسمى غلبة الظن. وهل تحديد اتجاه القبلة يقين في أنّه إلى عين الكعبة أم هو ظن راجح؟ أمثلة كثيرة تُظهر يُسر الدين ورحمة الله بعباده أنّه تعبدهم بغلبة الظن أو الظن الراجح، وليس باليقين في كل مسألة، وهو ليس بمقدورهم تحصيله.

أما مسألة (يقيني (أو قطعي) الدلالة)، و(ظني الدلالة)، فهي أيضاً من موروثات أهل الكلام، وتوجيهها الصحيح كالآتي: كل نص لا يحتمل إلا فهماً واحداً هو يقيني الدلالة، وهذا أمر لا خلاف عليه، ومُعظم نصوص الدين من هذا القبيل، مثال ذلك: أوقات الصلاة، عدد ركعاتها، توقيت الصوم، أنصبة الزكاة، فروض الميراث .. أما ظني الدلالة: فهو النص الذي يمكن أن تتعدد المفاهيم المأخوذة منه عندما يُعرض على النظر العقلي، أو التحليل اللغوي، كالاختلاف في معنى القُرء (الحيض)، ومفهوم لمس المرأة الذي ينقض الوضوء، ودلالة حرف الباء في مسح الرأس في آية الوضوء .. والمتأثرون بعلم الكلام وأهله يرون أنّ الله أراد لهذه النصوص (ظنية الدلالة) أنْ تكون حمالة معان، توسعة وتيسيراً على العباد، وإلا جعلها كالنوع الأول..! وهذا التوجه مُنسجم مع الزعم الباطل، أنّ (الحق يتعدد) وأن (الاختلاف رحمة) .. ويُسْقِط هذه الدعوى أنّ السنة المبينة للقرآن تقطع الاحتمالات العقلية واللغوية. فرسول الله حدد القرء بالحيض قولاً، حين خاطب المستحاضة: (دعي الصلاة أيام أقرائك، ثم اغتسلي وصلِّي، وإن قطر الدم على الحصير). فلا يُترك ذلك إلى ما تقتضيه اللغة. وبَيّن أنّ لمس المرأة الناقض للوضوء هو الجماع فعلاً، حين ثبت أنّه كان يُقبل ويصلي ولا يتوضأ. وبَيّن فرض مسح الرأس بفعله في صفة وضوءه، فلا يُترك فعل النبي وقوله وهما السنة المبينة للقرآن إلى مقتضيات اللغة وترجيح العقل. مع ضميمة بطلان (أنّ الاختلاف رحمة) و(أنّ الحق يتعدد).

ومن هنا نعلم أنّ مذهب الرأي لم يظهر في الفقه الإسلامي إلا حين ابتعد أهله عن السن، إما جهلاً بها أو إعراضاً عنها، وتقديم ما سواها عليها .. ورحم الله عمر ورضي عنه إذ يقول: (أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم).

وتلخيصاً لما سبق أقول:

إنّ ترك الوحيين إلى علم الكلام ابتداع في الدين، وأي ابتداع..! ولْيُعْلَم أنّ السلف، وبخاصة أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية، لمّا أسلموا أنفسهم وأسلسوا قيادهم للوحيين عبودية لمُنْزِلِهما كانت لهم الشفافية في تبصر الخلل والانحراف الذي يتوعد الأمة، يوم يُغيرون ويُبدلون .. فهذا هو عمر رضي الله عنه رأى في صبيغ وهو من رواد أهل الكلام تلك الخطورة على المسلمين، فأدبه خير تأديب: (صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه فأحضره وقد أعد له عراجين النخل، فلما حضر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ ، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبد الله عمر، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين فقد ذهب والله ما كنت أجد في رأسي).

وبالمناسبة، أذكر كلاماً سمعته أو قرأته لأحد العلمانيين يقول: (إنّ مصادرة الرأي الآخر في الإسلام بدأت من عمر يوم ضرب صبيغا). وهذا هو الإمام الشافعي رحمه الله قال في أهل الكلام قولته المشهورة، كلمة تغني عن مجلدات: (حُكمي في أهل الكلام أن يُطاف بهم في القبائل والعشائر ويضربوا بالجريد، ويقال: هذا جزاء من ترك كتاب الله واتبع علم الكلام). وللإمام مالك كلام يشبه ذلك. ونُقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنّه قال: (لا تستمعوا إلى أهل الكلام ولو امتدحوا السنة).

وما راجت بضاعة أولئك المزجاة إلا في الأعصار المتأخرة حين وهت صلة الناس بالوحيين، ولم يعودوا يرون لها تلك القدسية، وغلبهم أهل الفرق ببدعهم على أمرهم العتيق. ويجب أنْ يعلم كل من يُريد الله والدار الاخرة أنّ طاعة الله ورسوله لا تكون إلا بتطبيق الوحيين المنزلين من فوق سبع سماوات، على منهج سلف الأمة، واتباع سبيل المؤمنين.

* الفتوى…

وممن الممنوع موضوع الفتوى .. وما أكثر ما نسمع اليوم صيحات (إصلاحية) حول (أزمة الفتوى)، (فوضوية الفتوى)، (تعدد الفتوى)، (تناقض الفتوى)، وما يُقارب ذلك من معان وألفاظ. وأقول ابتداء لكل من يرى صحة تلك العناوين، إضافة إلى المنادين بها، لقد ادَّكَرْتُم بعد أمة..! ولا يعني ذلك أنّني لا أرى ذلك الرأي، إنّني من المُنادين به، بل المصرّين عليه، حتى يوم كان الكلام في ذلك الشأن ممنوعاً..! وأجدني مضطراً للقول في كل مرة أذكر فيها (الممنوع) أنّ الذي منعه غلبة سلطان الجهل الذي يُظن عِلماً، وداعي الهوى الذي يُسمى فهماً، وضغط العامة نتيجة لذلك. والفرق بيني وبين الشريحة التي ذكرت فارق زمن.

إنّي لأبديء وأعيد، وبملء فمي، أقول: إنّ الفتوى في أزمة، إلى حد من الخطورة يصل إلى تهديد سلامة التدين عند (المُفتَيْن)، وضبط الشكل ضروري للفهم. أما وصفي الناشطين اليوم لمعالجة أزمة الفتوى، بأنّهم ادَّكروا بعد أمة، فإنّ الفتوى تعاني الأزمة من حين قبلت الأمة بتوجيه علمائها الكبار أنّ خروج الدم في مذهب ينقض الوضوء، وفي آخر غير ناقض، وأنّ لمس المرأة في مذهب ينقض الوضوء وفي آخر غير ناقض، والحمد لله فالأمر واسع والدين يسر، وسكت الجميع..! إلا صوتاً خافتاً، لا يكاد يُسمع، فقد أُديرت له الظهور، وصُمت دونه الآذان، كان يقول: (وما حكم خروج الدم، ولمس المرأة عند رسول الله، وأين الاتباع يا قوم..؟) وبقي غير مؤثر لم يؤبه به ولا له في خضم استحواذ المذهبية، وطغيان مقولة (الحق يتعدد)، وتحت راية (الاختلاف رحمة).

التلاوم اليوم لا يُجدي، والمعالجة بالتشهير بالخطأ وأصحابه لا تأتي بالحل. فليتعاون اليوم أهل الاكتشاف المبكر للخلل، والذين ادَّكروا بعد أمة، ما داموا جرّدوا نواياهم لله ثم للإصلاح، وليبدؤوا العمل، وليمتاز بعدها من يُنادون بإصلاح الفتيا، مُندسين في الصف، لهدف مغاير، يُطالبون بحلول أشد انفلاتاً، وأكثر بعدا عن النصوص، فينقلبوا خائبين.

وعلى هذا الدرب، درب إصلاح أمر الفتوى، على المعنيين به، الساعين إليه، والمخلصين له، ألا تفوتهم، النقاط الأساسية الآتية:

أولاً: صيانة الفتوى من أنْ تنحاز بها عن النص سُلطة الكثرة متمثلة بكلمة (الجمهور)، المترددة كثيراً في كلام الفقهاء، وفتيا المفتين. وتعني ثلاثة من أربعة مذاهب، هم الجمهور في مصطلح الفقهاء، وأدخل في التمثيل فوراً، فطريقه أقصر، وبيانه أوضح.

مسألة: (نقض الوضوء بأكل لحم الإبل)، لم يقل بها إلا المذهب الحنبلي، وتركها الأئمة الثلاثة الآخرون وهم الجمهور، ولا أُريد الآن مناقشة استدلالاتهم، وهل هم على صواب في تركها أم لا..؟ فهم مجتهدون، وبين الأجر والأجرين إنْ شاء الله. لكن الذي أقف عنده بإصرار: هل تعذر الأمة بترك العمل بذلك متابعة للجمهور، وترك العمل بالنص الصحيح.؟ وهاكم النص:

في صحيح مسلم: عن جابر بن سمرة: (أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: (إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْتَ فَلاَ تَوَضَّأْ). قَالَ أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قَالَ: (نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ)).

ولما ذكر النووي رحمه الله هذا الحديث في شرحه صحيح مسلم أضاف إليه حديثاً آخر وهو: عَنْ الْبَرَاء بْن عَازِب قَالَ: (سُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوُضُوء مِنْ لُحُوم الْإِبِل فَأَمَرَ بِهِ)، ثم عقب بالآتي:

(قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى، وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ: صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا حَدِيثَانِ: حَدِيث جَابِر، وَحَدِيث الْبَرَاء، وَهَذَا الْمَذْهَب أَقْوَى دَلِيلًا وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُور عَلَى خِلَافه).

وتكلم النووي رحمه الله في المجموع بكلام مماثل لما قاله في شرح مسلم المذكور أعلاه، وختم كلامه بالعبارة الآتية: (واحتج أصحابنا بأشياء ضعيفة في مقابلة هذين الحديثين فتركتها لضعفها).

ومما لا ينقضي منه العجب فعل النووي رحمه الله بعد الكلام السابق فقد ناقض نفسه، ولم يجد بُداً من موافقة المذهب وترك النص الذي حكم بصحته، وضرورة العمل به..! يختم النووي بحثه في المجموع فيقول: (وأقرب ما يُستروح إليه قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة والله أعلم). يقصد بذلك ترك الوضوء من أكل لحم الإبل.

ولا يُسلّم للنووي رحمه الله بذلك، فقد نبه ابن تيمية رحمه الله في القواعد النورانية على ذلك قائلاً: (وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة أنّهم لم يكونوا يتوضؤون من لحوم الإبل، فقد غلط عليهم، إنّما توهم ذلك لما نقل عنهم أنّهم لم يكونوا يتوضؤون مما مست النار).

أليس هذا المثال كافياً للتنبيه على شيئين خطيرين هما: ترك العمل بالنص من الوحيين لمخالفته المذهب أو لأنّ جمهور الفقهاء لم يأخذوا به. وهل تُسكتنا عن الكلام هيبة النووي، وموقعه المرموق، فيبقى الخلل معمولاً به إلى يومنا الحاضر..؟

وأستكمل، بل أختم هذه المسألة بقصة ذات مدلول، سعدت ذات مرة بلقاء داعية شاب، يُطل باستمرار على الناس من خلال الفضائيات في برامج الفتوى. وإنّي لأحبه في الله، وأدعو الله أنْ يُمتعه بشبابه، ويُوفقه في دعوته، فلا يخطئك وأنت تصغي إليه قوة التأصيل في ذكر الدليل، والاستشراف العلمي للمسألة التي يتناولها، ولا نبخس الناس أشياءهم كما علمنا الله . جرى في اللقاء المذكور مناقشة النقض بلحم الإبل فقال كلاماً لم يُحسنه، أو أنّي لم أفهمه. ولكي يفهم كل منا الآخر جيداً واستبعاداً لأي فرصة لسوء الفهم، طرحت عليه السؤال الآتي، وكنا جمعاً في مزرعة، قلت له: لو أنّنا قمنا إلى الصلاة بعد عشاء فيه لحم إبل وقُدم للإمامة رجل تعشى معنا ولم يتوضأ وهو يعلم نوع اللحم، هل تصلي خلفه؟ قال: نعم، وقد قالها بقوة وإصرار. فقلت لتأكيد فهمي لمجريات النقاش: لو أنّك استيقنت أنّه بال ولم يتوضأ أتصلي خلفه قال: لا. قلت ما الذي يجعل النقض بالبول عندك أقوى من النقض بأكل لحم الإبل، بل تنزل الأخير إلى مستوى تستبيح ترك العمل به، والنصوص فيهما سواء في الصحة..؟ أجاب إجابة لم تكن بالنسبة لي مقنعة، مفادها: لأنّه يعمل باجتهاد أئمة معتبرين. قلت: ولو كان على حساب ترك العمل بالحديث..؟ وهنا أوقفنا النقاش.

أُريد أن أضع هذه القصة، وما سبقها من كلام، بين يدي المعالجين لأزمة الفتوى، مع هذا التساؤل مني: هل مذهب الجمهور أقوى من نص صحيح صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟ وهل اجتهاد إمام يصيب ويخطيء، مهما علا كعبه، أو مجموعة أئمة، أو بعض الصحابة، وأبالغ فأقول: أو أهل الأرض جميعا..؟ أقوى من نصوص الوحيين..؟ لا، إنّ النص أقوى من كل أولئك، فأين تذهبون..؟

ثانياً: ألّا يستجريننا واقع جديد، أحدث بعض الإرباك في أداء بعض العبادات الجماعية، إلى استعجال الحل، دون تريّث، ويكون الضحية، وأقولها بملء فمي، النص بسلب قدسيته، وهز ثباته، والحلول الأخرى موجودة ولكنّها أطول وقتاً، وأكثر كُلفة، وأشد مشقة من جرة قلم تُصدر فتوى..! أضرب مثلاً واحداً وقع حديثاً في فتاوى الحج المعاصرة، وهو جعل رمي الجمرات جائزاً في كل وقت، بينما الثابت من فعل النبي عليه السلام، دون خلاف، أنّه لم يكن يرمي إلا بعد الزوال في أيام التشريق الثلاثة، بل نقل انتظاره حتى إذا وجب الوقت رمى، فالفعل لم يحدث اتفاقاً في الأيام الثلاثة، إنّما مقصود، وهو شرع.

وما أدري كيف فاتت الأفاضل الذين أجازوا ذلك أمور هي من البدهيات. أوضح فأقول: إنّ ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي لفعله يصبح تركه سنة وفعله بدعة. واختصر العلماء ذلك فقالوا: سنة النبي عليه السلام فعلية وتركية. وإذا كان المقتضي في هذه المسألة، مسألة رمي الجمرات، التخفيف واتقاء الزحام، فقد كان هذا المقتضي قائماً يوم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشكلة الزحام في الحج نسبة، تخف مع توسع الأمكنة ويسر التحرك ووجود التسهيلات .. ألم يكنْ الزحام في الحج مشكلة حتى في زمانه صلى الله عليه وسلم..؟ وقد كثرت النقول في ذلك، وإلا لماذا قال لعمر: (يا عمر إنّك رجل قوي فلا تؤذ الضعيف، وإذا أردت استلام الحجر، فإن خلا لك فاستلمه وإلا فاستقبله وكبر). ولمَ نرى في هديه صلى الله عليه وسلم تشريعات للنساء والضعفة، كمغادرة مزدلفة بعد غياب القمر..؟ وتلك عائشة رضي الله عنها اختارت البقاء معه صلى الله عليه وسلم حتى الفجر في مزدلفة، ولم تترخص مع سائر النساء، ونقل عنها الندم لما لقيت من العنت. أليس كل ذلك بسبب الزحام.

والأعجب من ذلك كلام لبعض المفتين في المسألة وهو أنّ النبي عليه السلام لم يرم قبل الزوال، ولكنْ لم يؤثر عنه أنّه قال لا ترموا قبل الزوال..! إنّ مثل هذا الطرح لا يستقيم ولا ينبغي من ثلاثة وجوه:

1. إنّ هدي النبي وهو الحُجة على العباد يثبت بالفعل والتقرير كما يثبت بالقول. فنقول إنّ وقت الرمي الجائز هو ما ثبت بفعل النبي عليه السلام، ولا يجوز خلافه، كيف لا وهو القائل: (لتأخذوا عني مناسككم)، فربط بذلك مُعظم أحكام الحج بفعله، وما يراه عليه الناس. فهل يصح أنْ يُحدد الأخذ عنه من أقواله وإهدار الأفعال..؟

2. إنّ العبادات توقيفية على ما جاء في الأدلة، ومن أراد تجاوز الدليل يكون هو المطالب بالدليل الذي يُبيح له الخروج عن الدليل، ويُقال لمن يطلب دليلاً عن عدم جواز الرمي في غير الوقت الذي رمى فيه الرسول عليه السلام: الدليل عدم الدليل لأنّ العبادات توقيفية..!

وأعجب أشد العجب كيف تفوتُ بعضَ الأفاضل القاعدة الأصولية: (لا ينبغي في حق النبي عليه السلام تأخير البيان عن وقت الحاجة) والقاعدة مشهورة واضحة غنية عن الشرح .. لكنّني للإفادة أقول: إنّ أبسط إيضاح لها أنْ نقول بلغة معاصرة: إنّ النبي عليه السلام لا يدع ملفاً فتحه قبل أنْ يستكمله من كل جوانبه، ثم يغلقه حتى لا يعبث به أحد من البشر..! وكيف يعبث بالوحي..؟ ومن أدلة ذلك قوله في الحج: (قَدْ نَحَرْت ههنا، ومنِىً كلَها مَنْحَرٌ). ووقف بعرفة فقال: (قد وقفت ههنا، وعرفة كلُّها مَوْقِفٌ)، ووقف بالمزدلفة فقال: (قد وقفت ههنا، ومزدلفة كلُّها مَوْقِفٌ). ومن هذا نعلم أنّه حين اقتضى الأمر أنْ يوسَّع عما يقتضيه فعله، بأبي هو وأمي، لم يُؤخر البيان عن وقت حاجته، وهو عليه السلام أولى بالمؤمنين والتوسعة عليهم والرأفة بهم من أي أحد يأتي من بعده فيزعم ذلك..! فما لكم كيف تحكمون..؟

3. إنّ سؤال أولئك المتوسعين في الفتوى، هل منع النبي الرمي قبل الزوال؟ قد سلكوا طريقاً خطيراً هو طريق أهل البدع، دون أنْ يقصدوا ذلك. فأهل البدع يتجاوزون كل عبادة ثبتت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ببدعهم، ويقولون لمن يعترض عليهم: نُسلّم لكم ومعكم أنّ النبي فعل هذا ولم يفعل غيره ولكن ائتونا بنص قولي يمنع..! ومن هذا الطريق المعوج، تسلل الكثير من البدع إلى دين المسلمين. ونعجب أنْ نجد بعض الأفاضل يقولون مقولة أهل البدع بتلك الفتاوى، ودون قصد.

ونؤكد ثانية أنّ ما يثبت من العبادات بفعل النبي عليه السلام هو ثابت ثبوت القول ولا فارق، ولا يجوز تجاوزه .. أما أنْ يُقال المشكلة في الحج قائمة، وفي الرمي خاصة، نقول: تلمسوا الحلول في الأعمال الإنشائية وغيرها، كما أنّ توعية الحجاج إلى أنّ وقت الرمي يمتد من بعد الزوال، إلى ما قبل فجر اليوم التالي، ولا فاضل ولا مفضول، يُعطي فسحة كافية تستوعب الأعداد مهما كبرت.


ثالثاً: إنّ الفتاوي حين يستدرها استحسان العقل، ويستدرجها رغبة الواقع، فتقفز فوق الدليل النصي، تعطي المبرر للعقلانيين (معتزلة اليوم)، لعدم احترام النصوص، وتقديم العقل عليها، كما هو أصل منهجهم. مُحتجين بتلك الفتاوى الصادرة عن بعض علماء المسلمين، ولو بغير قصد .. وآتي بمثال واحد هو (زكاة الفطر) والخلاف حول إخراجها نقداً .. وقد كثرت الفتاوى المعاصرة في جواز إخراجها مالاً، بل يرى الأكثرون ذلك هو الأفضل.

ما حظُّ هذه الفتوي من الالتزام بالدليل؟ إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن زكاة الفطر: (زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين)، وكثرت الأقوال الموضحة من الصحابة التي ذكرت بعض الأطعمة بالاسم. فمَن قال بأنّ المال أحظ وأنفع للفقير، لا يعدو أحد رجلين: مخطيء في اجتهاده لم يدرك خطورة مخالفة النص، ولعله يحظى بالأجر الواحد. ومستدركٍ على الله ورسوله حين يزعم أنّ عقله أوصله إلى ما هو أنفع مما جاء به النص..! ليكن من خالف النص بالعقل والرأي أبا حنيفة رحمه الله، أو ليكن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه، هل يسوغ عقل مسلم أنْ يترك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لاجتهاد هذين، ومن أُعْجِب برأيهما، مع علو كعبيهما في الدين..؟ ولنستحضر قاعدتين أساسيتين في مثل هذه المناقشات:

أولاهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤخر ولا ينبغي في حقه أنْ يُؤخر البيان عن وقت الحاجة، فهو صلى الله عليه وسلم أولى وأحق باستثناءٍ يراعي مصلحة الفقير في كل زمان ومكان، ولو أراد ذلك لجاءنا بنص متعدد الخيارات بكلمة مثل (معونة) بدل (طعمة) وإذن لأعطتنا خياراً واسعاً يُمكننا من أنْ نناور بالنص مع كل واقعة وفي كل زمان ومكان. أما وأنّه وهو الذي أوتي جوامع الكلم، والذي لا ينطق عن الهوى اختار (طعمة) فالإطعام مقصود بذاته ولذاته. ولذلك نظائر في القرآن الكريم (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ).

وتدّبروا أنّه لو كان الإطعام باجتهادنا يمكن أنْ يتوسع إلى كسوة أو إعطاء مال، وكان ذلك مقبولاً عند الله لم يكن من حاجة للتنصيص على الكسوة فقط بديلاً من الإطعام، فيكون حصر الكفارة في الإطعام والإكساء فقط. ومثل ذلك قوله تعالى في فدية الصيام (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) فكل لفظة في النص الشرعي مقصودة لذاتها، وليس للعقل البشري العبث في ذلك عن طريق التأويل بما شاء، فمن أنزل النص، ومن بلغه عن ربه أعلم وأحكم من كل عقل في الكون.

أما القاعدة الثانية: فهي أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُشرّع نتيجة رؤية بشرية لواقع عصره، فيأمر بالمتداول والمناسب والنافع في زمانه، فيمكن أنْ يكون في ذلك مندوحة لإدخال العقل والنظر والاستحسان مع النص، بحجة تغير الزمان والمكان، والعمل بالأرفق والأنفع..! وإنّما يُشرع بوحي من ربه الذي يعلم ما هو كائن ومتغير ومستجد إلى قيام الساعة. وذاك يقطع الطريق على قائل: لقد كان الإطعام في زمنه صلى الله عليه وسلم أنفع، أما اليوم فالأمر مختلف..! والفكرة خطيرة، لو تمكنت من نفس مسلم واستحلّها لخرج بها من الملة، لأنّ لازمها قطع الشريعة عن أنْ تكون وحياً من الله، وإنّما اختيار من رسول الله.

ولنصغ إلى هذا القول ممن يُعظم النص الشرعي من الوحيين ويُقدسه، الإمام أحمد رحمه الله وهو يعلم رأي أبي حنيفة رحمه الله ورأي عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ولم يأخذ بما قالا، بل نعى على من تركوا الهدي النبوي لمثل تلك الأقوال. جاء في كتاب المغني لابن قدامة: (سئل الإمام أحمد عن الدراهم في زكاة الفطر فقال: أخاف أن لا يجزئه خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقيل له قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون قال عمر بن عبد العزيز. قال ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول).

لا زال في الممنوع بقية، ولا يُفهم أنّني أُريد أنْ أستعرض كل الأمثلة، إنّما همي أنْ أضع أمام القراء نماذج لِما هو موجود في واقعنا العلمي الشرعي في القديم والحديث، بل لِما حواه التراث، ليكون مقدمة لتأكيد تلك الظاهرة، وبيان أسباب بروزها، وما تركته من آثار سيئة في تدين الناس.

وأخيراً ما المخرج منها؟

أولاً: إنّ المُسَلَّمَة الشرعية التي لا مراء فيها أنّه لا يكلف البشر إلا الله تبارك اسمه، ونبيه عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك نقول: لا تكليف دون نص من الوحيين .. وهذه حقيقة شرعية أساسية وهامة رتب عليها العلماء أصلاً أصيلاً لدى مناقشة التكليف، أسموه (البراءة الأصلية) أي أنّ ذمة الناس خالية من أي تكليف إنْ لم يوجد نص. ويتساءل المسلم المراجع للتراث، هل غابت هذه الحقيقة عن بعض العلماء، أم أنّهم خالفوها وهم يعرفونها..؟ وكلا الاحتمالين مشكلة وأي مشكلة.

ألا يعجب المسلم كل العجب وهو يقرأ في كتب الفقه على المذاهب الأربعة مثل هذا الكلام: (كُلَّ خُفٍّ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثُ شَرَائِطَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَرَابِعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فالمسح عليه جائز. أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِجَمِيعِ الْقَدَمِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ شَيْءٌ لَا مِنْ أَعْلَى الْخُفِّ وَسَاقِهِ، وَلَا مِنْ خَرْقٍ فِي وَسَطِهِ أَوْ أَسْفَلِه. وأَنْ لَا يَصِلَ بَلَلُ الْمَسْحِ إِلَى الْقَدَمِ، فَإِنْ وَصَلَ إِمَّا لِخِفَّةِ نَسْجٍ أَوْ رِقَّةِ حَجْمٍ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ. أنْ يُمْكِنَ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِ لِقُوَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ لِضعْفِهِ، أَوْ ثِقَلِهِ لَمْ يجز المسح عليه. أما الشرط الرابع المختلف فِيهِ، أَنْ يَكْونَ مُبَاحَ اللُّبْسِ، فَلَا يَكُونُ مسروقاً، ولا مغصوباً)..!

والسؤال المُلح هنا: ما هو مصدر هذا الكلام الذي بنوا عليه، يجوز ولا يجوز؟ فلم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط واحد في الممسوح إلا أنْ يكون قد أدخلت القدم فيه على طهارة، إضافة إلى شرط المدة .. من أين جاء ذلك الكلام إذن؟ والجواب دون تكلف: مصدره عقل بشري..! وأحكام المسح جاء بها الشرع للتخفيف، فإذا بالعقل البشري الذي أُقحم مع النص يُحول الرخصة واليسر إلى عنت وإرباك..! يا لله، متى كان لبشر أنْ يُكلف بشراً مثله، تكليفاً شرعياً في دين الإسلام!

ومثل هذا تراه في الصوم في مثل قولهم: (وإنْ أسلم الكافر، أو طهرت الحائض، أو برئ المريض، أو قدم المسافر، أو بلغ الصغير، أو عقَل المجنونُ في أثناء النهار، وهم مفطرون، لزمهم الإمساك، والقضاء لذلك اليوم، لأنّهم لم يصوموه، ولكن أمسكوا عن مفسدات الصوم لحرمة الوقت…).

إنّ النظرة الأولى لهذا الكلام تجعلك تعلم أنّه ليس بدين، وأنّ مصدره عقل بشري وليس وحياً سماوياً..! أيُعْنَتُ الناسُ ويُضيقُ عليهم باسم الاسلام، ومن أكبر خصائص الدين اليسر..؟ ليس من رد إلا أنْ نقول: لا يكلف البشر شرعياً إلا الله ورسول الله .. وتجاوز هذا، تجاوز في الدين ما بعده تجاوز، وهذه ألطف عبارة تقال.

وهنا أُحب أنْ أُضيف تعليقاً زيادة في الإيضاح وعلى قاعدة (وبضدها تتميز الأشياء). ففي الأمثلة السابقة نجد تكليف الناس بما لم يُكلفهم الله ورسوله به، بل عن طريق العقل البشري، مع تجاهلٍ كليٍ للقاعدة العظيمة وهي (البراءة الأصلية) التي يقول عنها بعض العلماء إنّها أقوى الأدلة في الدين..! وكم من المسائل الشرعية حررت بناء على تلك القاعدة (لا نص لا تكليف) .

ثانياً: كم حَكَّموا الاحتياط في مسائل شرعية..! ولو جهد الإنسان في البحث لنْ يجد ما يُثبت أنّ الاحتياط دليل يُستهدى به في تحرير المسائل الشرعية. ولو دقق الإنسان في بعض المسائل التي أُدخل فيها الاحتياط لتَبين أنّ الاحتياط قائد إلى التشدد، مُوصل إلى الابتداع..! وأُدلل على هذا بمثالين سريعين:

أولهما: لا زال بعض أتباع المذهب الشافعي يتجمعون في المسجد ليقيموا صلاة الظهر بعد أنْ صلوا الجمعة، بدعوى الاحتياط، وبناء على قاعدة موجودة في المذهب وهي (الجمعة لمن سبق) وبذلك يتشددون بلا دليل، ويجعلون الصلوات في يوم الجمعة ست صلوات.

وثانيهما: أنّ أكثر التقاويم تُحدث أذاناً يُسمى (أذان الإمساك) في رمضان يسبق الفجر بعشرين دقيقة بدعوى الاحتياط، كما يؤخرون أذان المغرب من ست إلى عشر دقائق بعد الغروب بدعوى الاحتياط أيضاً. وفي الحالين مخالفة للسنة بتأخير السحور وتعجيل الإفطار.

وما أروع كلام ابن القيم عن الاحتياط في الدين في كتابه إغاثة اللهفان يقول رحمه: (وينبغي أن يعلم أنّ الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه: الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك.

والفرق بين الاحتياط والوسوسة أنّ الاحتياط الاستقصاء والمبالغة في اتباع السنة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غير غلو ومجاوزة ولا تقصير ولا تفريط فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله. وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السنة ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة زاعما أنّه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه كمن يحتاط بزعمه ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق الثلاثة فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله. وصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارا أو مرة واحدة ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطا ويرغب عن الصلاة في نعله احتياطا إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينا وزعموا أنّه احتياط وقد كان الاحتياط باتباع هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أولى بهم فإنّه الاحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق الاحتياط وعدل عن سواء الصراط والاحتياط كل الاحتياط الخروج عن خلاف السنة ولو خالفت أكثر أهل الأرض بل كله).

والقول الذي قيل في الاحتياط إنّه ليس دليلاً في الدين يُقال في ما يتردد في كتب المذاهب من عبارة (خروجاً من الخلاف). واستعمالها أنْ يتبنى المذهب ترجيحاً في مسألة، ثم يُجيز العمل بغيره خروجاً من الخلاف..! وأي خلاف..؟ ليته مخالفة الدليل..! لا، إنّما هو مخالفة آراء المذاهب الأخرى. مثال: في المذهب الشافعي مني الآدمي طاهر ولا يحتاج إلى غسل، لكنّك تجد العبارة الآتية: (وَيسْتَحب غسل الْمَنِيّ خُرُوجًا من الْخلاف). ولا أُريد الاسترسال مع الأمثلة فكتب الفقه طافحة بها، وفي كلام لابن تيمية رحمه الله حول الاحتياط، والخروج من الخلاف، كلام هو في الذاكرة، ولم يتح لي الرجوع إليه، يقول ما معناه في مناقشة أي مسألة يجب أن يكون معك الدليل الذي تطمئن إليه، فتعمل به، وإنْ كنت ترى أنّ دليل الطرف الآخر أقوى من جهة الاستدلال، عملت به عملاً بقول النبي عليه السلام: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ)، وتكون ما خرجت عن الأدلة في الحالين، وهذ منسجم مع ما نقلناه عن ابن القيم آنفاً.


والآن إلى مناقشة سريعة لتلك الظواهر وآثارها:

أ. إنّ كل حالات الخروج عن النصوص إما بتقديم أقوال الرجال، أو بتقديم العقل، أو بالتقليد دون نظر في الأدلة، أو بالتعصب المذهبي، انحراف في الدين، وعبادة لله بغير ما شرع، وتبديل في الدين، وكل ذلك في النهاية معصية لله، ومُشاقة للرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين. ولنُذكر بقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)، وبقول النبي عليه السلام في المتفق عليه: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهْوَ رَدٌّ).

ب. إنّ أخطر إفراز لتلك الممارسة، سلب قدسية نصوص الوحيين حين لا تُحكم ويُقدم عليها العقل والنظر والواقع وأقوال الرجال، وستنسحب تلك النظرة على الدين كله. ولا بُد من أنْ نقول إنّ ذلك من فعل المسلمين أنفسهم، وليس أعداءهم، وإنّ تلك الجناية أول ما تُعصب في رؤوس العلماء. وأما الأعداء فهم متربصون ويجدون في كل تلك التجاوزات حجة لهم في إنحرافات أشد، بل وفي نقد الدين وأحكامه من موقع الحداثة والمعاصرة والعلمانية، وكل ذلك بريد الكفر .. ولا بد أنّه يستوي في تلك المخالفة الآثمة، متزيد في الدين، ومتنقص منه، فللدين وسطية أنزله الله بها، ترفض كلا التطرفين.

ج. لا يُفهم من كل ما طُرح تحت عنوان (كلام في الممنوع) ما قاله لي أحدهم، إنّك تريد إحراق كتب المذاهب، وتكفير متبعيها، وإلزام الناس بمذهبك. قلت هذا كلام جاهل لا يُحسن استماع القول، ولا يفهم مرامي الكلام، أو صاحب هوى يُعارض الإصلاح، أو إمعة لا موقف له .. وليكنْ واضحاً أنّ أئمة المذاهب هم من سادات الأمة وعلمائها الذين قضوا أعمارهم في خدمة الدين، ولهم في الإسلام سابقة، إلا أنّهم بشر يُخطئون ويصيبون، شأنهم شأن الصحابة من قبلهم .. ومن الضروري جداً أنْ يعلم أن ما تركوه من ورائهم من تراث وآراء لا يعدو كونه اجتهاداً بشرياً في فهم نصوص الوحيين، ولا يجوز بحال من الأحوال أنْ يُصبح بديلاً عن الوحيين، فلنا إذنْ، أنْ نأخذ منه وندع، ولا نشك أنّ فيه ثراء للمكتبة الإسلامية. ومن الضروري أيضاً أنْ يُعلم أنّه لم يدر في خلد واحد من الأئمة مطلقاً أنْ تُجمع اجتهاداته لتكون من بعده مذهباً، ودللنا على ذلك سابقا بقول أبي حنيفة رحمه الله لصاحبه محمد: (ويحك لا تكتب كل ما تسمعه مني فإنّي بشر أقول القول اليوم وأرجع عنه غداً) .. والتراث يُحترم ولكنّه لا يُقدس، فلا قُدسية لغير الوحيين.


وأخيراً .. إذا كُنا نُريد مشروعنا الإسلامي الكبير الذي يُقيل عثرة الأمة، ويخرج بها من غثائيتها وسباتها، والذي لا يجوز أنْ يتقدم العمل فيه عمل، فلا بُد من التصفية والتربية، والدعوة على بصيرة، وعماد كل ذلك الإصلاح وهو إصلاح الدين، وكان من دعاء النبي عليه السلام: (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِى دِينِىَ الَّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِى).

وآخر دعواي قولي: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).