Skip to main content

مَاذَا بَعْدَ المَنْهَجِ؟

By السبت 24 شعبان 1430هـ 15-8-2009ممحرم 21, 1441دراسات

في موضوعات سابقة قريبة، كانت بعنوان (البحث عن الذات). خلصنا فيها إلى أهم نتيجة؛ وهي ضرورة التزام منهج (ما أنا عليه وأصحابيفردياً وجماعياً، وجوباً لا اختيارا. وأنّه لا يصح منهج غيره، وأن لا نجاة بغيره، ولا ينبني التدين الحق إلا عليه. لأنّه اختيار النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بعد أن أكد لهم حتمية الافتراق، ودلهم على ما يقيهم غوائله، وأهدى أمته طوق نجاة لمن يريد من أمته السلامة في دينه، إنّه منهج (ما أنا عليه وأصحابي).

ولا غرو بعد ذلك، أن لا يخلو كلامٌ منشورٌ لي في الموقع، من ذكرٍ لمنهجِ (ما أنا عليه وأصحابي)، وأهميتِه وضرورتِه الشرعية.

وموضوعنا اليوم استكمالٌ لما سبق، يحدد قواعد متممة
للمنهج، تعين على إقامة التدين
على ما يرضي الله، ويُحَكِّم هدي نبيه .. لذلك كان العنوان (مَاذَا بَعْدَ المَنْهَجِ؟)، فالسياق واحد .. وسنعالج بإذن الله العناوين الشرعية الآتية: العلم، العمل، الإخلاص، الاتباع، ذكرى الدار.

1. العلم…

الدينُ قبل كل شيءٍ علمٌ، وأيُّ علم؟ إنّه علم الوحيين، وبعبارة أخرى هو العلم المأخوذ عن الله تبارك وتعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم. والله تبارك وتعالى سمى الدين الذي أوحى به إلى نبيه ليعلمه الناس ويدعو إليه علماً في قوله تعالى: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا). فالنبي صلى الله عليه وسلم علمه ربه وهو بدوره علمنا ما علمه ربه، وكل عالم رباني وداعيةِ حق إلى الله جل وعلا، يواصل تعليم هذا العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم للناس، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ونجزم أنّه ليس في دين الإسلام إلا علم الوحيين، ولا أريد بهذا القول نفي دور العلوم التي تسمى بالمساندة كعلوم اللغة التي تعين على فهم الوحيين، وهما بلسان عربي مبين، إنّما الذي أريد نفيه تلك العلوم التي أقحمت في دين الإسلام فأفسدته وحرفته. وأضرب المثل بعلم الكلام الذي أفسد أول ما أفسد عقيدة المسلمين .. وحتى لا أُتهم بالتجني والولع بتوزيع الاتهامات جزافا، أحب أن أعزز قولي بأقوال المشاهير:

نقل البيهقي عن الإمام الشافعي في حكمه على أهل الكلام المخالفين لمنهج السلف حيث يقول: (حكمي في أهل الكلام أن يطاف بهم في القبائل والعشائر ويضربوا بالجريد، ويقال: هذا جزاء من ترك كتاب الله واتبع علم الكلام). وللإمام مالك كلام يشبه كلام الشافعي رحمهما الله.

ونُقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: (لا تستمعوا إلى أهل الكلام ولو امتدحوا السنة).

ونقل عن الإمام الشافعي رحمه الله قوله: (حكمي في أهل الكلام كحكم عمر في صبيغ) وهاكم قصة صبيغ:

عن سليمان بن يسار: (أنّ صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء. فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل. فلما حضر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ. فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبد الله عمر. ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين فقد ذهب والله ما كنت أجد في رأسي).

وأُضيف تعليقاً، لِنَعلم ماذا يحاك للإسلام وأهله، ولا أقول في الخفاء، لكن جهارا نهارا. وبعض دعاة المسلمين، أو من يزعمون أنفسهم كذلك، يصمون آذانهم إيثارا لحسن السمعة، حتى عند أعداء الإسلام..! يقول بعض العلمانيين المرجفين: إنّ (مصادرة الآخر) بدأت في وقت مبكر عند المسلمين، بقصة عمر مع صبيغ .. وقال آخر: إنّها كانت حينما قتل خالدُ القسري الجعد بن درهم إمام المعطلة والجهمية .. وللأسف فقد سئل بعض الدعاة عن بعض المرجفين أصحاب التوجه المشار إليه، فلم ينالوهم بنقد، ولم يذكروهم بسوء، وإلى الله المشتكى.

وصدق من قال واصفاً العلم الصحيح:

العلم قال الله قال رسوله
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
كلا ولا نصب الخلاف جهالة

قال الصحابة ليس خلفٌ فيه
بين النصوص وبين رأي سفيه
بين الرسول وبين رأي فقيه

وفي بداية الحديث لا بد من التأكيد أنّ الدين علم يكتسب بالتعلم، ليس بوراثة، إلا من إرث النبوة، وليس بإلهام، وليس بتقليد، وليس بإشراقٍ نفسي، وليس بكشف صوفي، وليس بعلم لدني، وليس لدى المجاذيب الشعثين التفلين .. وشاء الله أن لا يصح عمل في الدين إن لم يكن صادرا عن علم الوحيين، ومن ذلك نرى البخاري رحمه الله يعقد في صحيحه بابا عنوانه: (الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ) وقد ذكر البخاري عددا من الآيات والأحاديث تحت الباب المذكور ومن تلك الآيات والأحاديث:

. قال تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).

. قال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ). وللحديث رواية أخرى ذكرها ابن حجر في الفتح وأشار إلى حسنها: (يَا أَيّهَا النَّاس تَعَلَّمُوا، إِنَّمَا الْعِلْم بِالتَّعَلُّمِ، وَالْفِقْه بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدْ اللَّه بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّين).


. قال أبو ذر: (لوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ (السيف) عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا).

. وقال عليه الصلاة والسلام: (وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ).

ويعلق صاحب الفتح ابن حجر على مدلول ترجمة الباب والنصوص التي أوردها البخاري بقوله: (أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْعِلْم شَرْط فِي صِحَّة الْقَوْل وَالْعَمَل، فَلَا يُعْتَبَرَانِ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ مُتَقَدِّم عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ مُصَحِّح لِلنِّيَّةِ الْمُصَحِّحَة لِلْعَمَلِ، فَنَبَّهَ الْمُصَنِّف عَلَى ذَلِكَ حَتَّى لَا يَسْبِق إِلَى الذِّهْن مِنْ قَوْلهمْ: “إِنَّ الْعِلْم لَا يَنْفَع إِلَّا بِالْعَمَلِ” تَهْوِين أَمْر الْعِلْم وَالتَّسَاهُل فِي طَلَبه).

وللحديثين الأخيرين: (حديث أبي ذر، وحديث العلماء ورثة الأنبياء) دلالة خاصة إضافة إلى الدلالة الأخرى التي ذكرها ابن حجر رحمه الله في ضرورة أن يسبق العلم القول والعمل، وهي: أنّ الْعِلْم الْمُعْتَبَرَ ليْسَ إِلَّا الْمَأْخُوذ مِنْ الْأَنْبِيَاء وَوَرَثَتهمْ عَلَى سَبِيل التَّعَلُّم. كما أنّ حديث أبي ذر رضي الله عنه يُبين مصدر العلم الشرعي الذي وصلنا متسلسلا من الله عن طريق الرسول الملَك جبريل إلى الرسول البشر محمد صلى الله عليه وسلم، إلى الصحابة العدول الثقات الذين تلقيناه عنهم، فهو وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وتأملوا حديث أبي ذر لتعلموا أيضا من هم الصحابة. ومن هم أهل هذا الجيل الذين اختارهم الله لصحبة نبيه .. ولتعلموا قدر هذا الجيل الذي كان لهم شرف مشاركة نبيهم في إرساء دعائم هذا الدين، وتعميق جذوره في الأرض، ليبقى الدين الخاتم، الناسخ للأديان من قبله، والذي لا يقبل الله دينا سواه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). لذلك استحقوا أن يذكرهم الله تبارك وتعالى في الكتب الثلاثة: التوراة، والإنجيل، والقرآن كما ذكر نبيهم كقوله تعالى: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). هذا هو الجيل القدوة والأسوة الذي جعلهم الله، بما كان لهم من مواقف صدق مع نبيهم، غيظاً لكل مائل عن الطريق الحق .. واسمعوا قولة الإمام مالك، ولله در الإمام مالك: (قال أبو عروة الزبيري: كنا عند مالك بن أنس فذكروا عنده رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله فقرأ مالك هذه الآية {محمد رسول الله} إلى أن بلغ قوله: {ليغيظ بهم الكفار} فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية).

فانظروا إلى حرص الصحابة على تأدية كل ما أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهم العدول الثقات، هم الحلقة الأولى التي تصل الأمة بنبيها وبكل ما جاء عن نبيها من خلال الرواية الصحيحة، ولو فُقدت هذه الحلقة أو أُهملت أو شُكِّك بأهلها، فإنّ كل ذلك يعني ضياع دين الإسلام كله .. وكيف يضيع دين تكفل الله بحفظه، من خلال هؤلاء الرجال، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ويؤكد تلك السلسلة الذهبية المتصلة للعلم الشرعي الذي بين أيدينا، والتي لا يرقى إليها شك، تلك العبارة التي جاءت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله، في قصة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: (…وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَىْءٍ عَمِلْنَا بِهِ…).

وما أريد أن أنكأ الجراح فأقول إنّ هذا العلم العظيم قد زهدت فيه الأمة، وضَّيعت بعضه، يوم قدمت عليه ما هو دونه، وهذا ما أعبر عنه دائما: (بفقدان النص الشرعي قدسيته)، وأقول: إنّ المسؤول الأول هم العلماء قديما وحديثا.

واستمعوا إلى هذه القصة العجيبة، والأسلوب المبتكر في الوعظ الذي تفطن له أبو هريرة
رضي الله عنه كما روى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند قال فيه الحافظ المنذري إنّه حسن: (إنّ أبا هريرة رضي الله عنه ذهب إلى السوق فقال للتجار هناك: ما أعجزكم يا أهل السوق! أنتم هنا والناس يقتسمون ميراث النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فتركوا تجارتهم وهرعوا إلى المسجد، فدخلوا فوجدوا الناس بين مصل وبين ذاكر وبين متفقه، فوقف ينتظرهم، فلما رجعوا قالوا له: ما وجدنا شيئاً يقسم في المسجد. فقال لهم: وما وجدتم؟ قالوا: وجدنا الناس ما بين مصل وذاكر ومتفقه. قال: ذلك ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم).

أين نحن أيها الإخوة من هذه التجارة الرابحة..؟ وهل على الأرض كلها من تجارة أعظم إغلالاً، وأحسن حالاً، وخير مآلاً من هذه (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).

أيها الإخوة، ما أكثر النصوص التي جاءت في الكتاب والسنة تتحدث عن العلم، وتحض عليه ولكنّني أحببت توخيا للاختصار، وابتعادا عن أسلوب سرد النصوص التي يمكن لكل أحد منا أن يفتح أحد دواوين السنة ليطلع عليها، أسلوب ربط العلم الشرعي بالواقع الديني. إذا كنا نرى كما علمنا ربنا أنّ الفوز العظيم ينحصر في أمرين اثنين: الزحزحة عن النار، ودخول الجنة. قال تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). فما الطريق إلى ذلك الفوز العظيم الذي يجمع فوز الدنيا والآخرة في فوز واحد؟ إنّه باختصار شديد طاعة الله. وكيف نكون مطيعين لله إلا بتعلم ما أراد الله منا..؟ فكم من مشرك، أو متلبس بشرك، يظن أنّه على التوحيد ويموت على ذلك الشرك..؟ وكم من مصلٍّ وصلاته باطلة، لأنّه لا يقيمها ولا يحسنها ويموت على ذلك. واقرؤوا حديث نبيكم المخيف: (إنّ الرجل ليصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة، ولعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع).

وكم من حاجٍ حجُّه باطل، يخسر المال ويريق العرق، ويقدم التعب والنصب ولا يعود إلى بلاده إلا بلفظة (يا حجي)، لأنّه لم يأت بحجةٍ وفق ما شرع الله تبارك وتعالى من الأحكام، وعلى طريقة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّما على طريقة رئيس الفوج وأعوانه الذين لا يريدون إلا المال.

أمثلة كثيرة يمكن أن نضربها من صميم حياتنا الشرعية، نعمل ونتعب وننصب، ثم نفقد أجور أعمالنا عند ربنا لأنّنا لم نعبد الله بما شرع، ووفق هدي نبيه عليه الصلاة والسلام.

ولا يمكن تدارك ذلك قبل فوات الأوان إلا بالعلم،
العلم الشرعي المؤصل، والفقه المبني على الدليل الصحيح. وقبل ذلك كله، بأن توجد عندنا الإرادة لفعل ذلك.

أيها الإخوة إنّ بعض الناس حينما يجد نفسه اللوامة تدين نفسه الأمارة، يبحث فورا عن المخرج والمهرب، وما أسرع ما يجد من ينحي عليهم باللائمة..! أبوه الذي رباه، وأستاذه الذي علمه، وشيخه الذي أحسن به الظن واختاره، إلى أن يصل إلى كل علماء الأمة..! كل ذلك ليفر من إدانة نفسه .. والحقيقة المرة أنّه ليس من ملوم إلا نفسك التي قنعت بإلقاء المسؤولية على الغير في أخطر شأن وهو التفريط في جنب الله، واشتغلت بما دونه من الزائل الفاني: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).

أيها الأخوة كلمات واقعية هادئة، أهديها للمتقاعسين عن طلب العلم الشرعي بأعذار شتى. أقول لهم: إنّ الله بفضله وكرمه ورحمته بعباده لا يسلب منهم من شيء إلا عوضهم خيرا منه، فيوم يَقِلُّ في الأمة العلماء الربانيون، ويستحيل بالزمان والمكان لقياهم، عوضنا الله بهم خيرا فجاءت التكنولوجيا الحديثة لتجعل أي عالم تريد معك في البيت بالصوت والصورة، وقد يكون الأغلب بالصوت وحده من خلال هذه الأقراص المدمجة السحرية، فما الفرق بين الحضور شخصيا بين يدي العالم، الذي يحول دونه الوقت والشغل والبعد والموت و. و. و، وبين استماعك له وأنت مسترخٍ في بيتك، وتتوفر لك كل وسائل الراحة التي لا تبقي لك من مهمة إلا أن تتعلم .. فأين الإرادة..؟ (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ).

والمكتبة التي يكلف اقتناؤها مئات الألوف من الليرات، وعشرات السنين من الوقت تقتنيها بقرص قد لا يكلفك عشرين، وقد يهدى إليك مجانا، فماذا بقي من الأعذار..؟ كل تلك التيسيرات والتسهيلات زادت من حجة الله علينا .. لمَ يستعمل الكثيرون الحواسب لكل هدف دنيوي، ولا يوظفونه لنجاتهم يوم العرض، ألمْ تقُمِ الحجة؟ بلى، والله.

قبل أن أنتقل إلى بند آخر أريد أن أختم بند العلم بمسألة شديدة الخطورة، وهي أنّ الإنسان قد يفني عمره في علم لا يغنيه من الله شيئا..! آن الأوان لندرك جادين أنّ الانتقائية في العلم هي الأصل فيه، وأنّ الانتقائية أعني بها انتقاء علم الوحيين مصفى من كل ما قد يكون أدخل فيه، أو علق فيه مما ليس منه، فالتصفيةَ التصفيةَ قبل التربية.

2. العمل…

بعد الحديث عن العلم، لا بد من أن نتأكد أنّ العلم إذا تحققت فيه شروط الانتقاء والصحة فإنّ الثمرة الأساسية والطيبة له أن يُعمل به .. ومَن طلب العلم لغير هذه الغاية فسيكون وبالاً عليه وتِرةً يوم القيامة .. وقد يضاف لهذا الهدف الأول والأسمى آخر، وهو الدعوة به، وتعليم الناس إياه، ويبقى الشرط الأساسي أن يُنتفع به. ومن هنا نفسر تلازم وصف الإيمان مع العمل (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ).( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ).(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ).

وأشد آية جاءت في شأن اقتران العلم بالعمل قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).

وكما أنّ الإسلام لا يُقر عملاً لا يستند إلى علم يسبقه لأنّه لا يكون من الدين، فإنّ الإسلام، بالشدة نفسها، لا يقر علما لا يثمر عملاً. وقد بينت الآية الكريمة السابقة أنّ تأخر العمل بعد العلم أمر يمقته الله أشد المقت، وأين يكون صاحب هذا العمل الممقوت من الله، أفي الجنة أم النار..؟ وما هو مذهب الإرجاء؟

إنّه بأوجز عبارة ربط الإيمان بالاعتقاد وإخراج العمل من دائرة الإيمان، وزادوا فقالوا: الإيمان لا تزيده الطاعة ولا تنقصه المعصية. ومذهب الإرجاء مذهب منحرف ظهر في أمة الإسلام في وقت مبكر .. ولذلك كان رد أهل السنة والجماعة على المرجئة أن قالوا: (الإيمان اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان والإيمان يزيد وينقص)، تزيده الطاعة وتنقصه المعصية: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ). فالإيمان عند أهل السنة والجماعة هو تلك المكونات الثلاثة، إن فقد واحد منها انتفى الإيمان .. ويشهد الواقع لنا بظهور دعوات معاصرة هي امتداد لمذاهب قديمة مع بعض التغيير وبعض التكييف لمناسبة العصر، ومذهب الإرجاء المعاصر يتمثل في أقوام يحرصون على القراءة والثقافة الإسلامية، ويناقشون ويجادلون، دفاعا عن الإسلام بزعمهم، وقد أطلقت عليهم تسمية تليق بواقعهم، وهي (أهل إسلام الصالونات)! تستمع لأحدهم فتعجبك غيرته على الإسلام واندفاعه في الذب عنه، على طريقته، ولو سألته هل تصلي لأجابك وبنبرة عالية (الصلاة ليست كل شيْ، ويشير إلى صدره قائلا التقوى ههنا أليس هذا كلام النبي..؟) أو يقول لك الدين المعاملة. هؤلاء هم مرجئة العصر وما أكثرهم..!

ومن أعظم الإشارات إلى أهمية العمل والتطبيق قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ قَالَ: (دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! مَا كَانَ خُلُقُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ).

وقد تابع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين نبيهم في أمر ترجمة العلم إلى عمل وكذلك التابعون. يقول واحد من الصحابة: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي، وهو من كبار التابعين، قال: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنّهم كانوا يستقرئون من النبي، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل. فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً).

ولنقرأ هذه الآية الكريمة التي صرفها المتحمسون لعلم التجـويد زيادة على ما ينبـغي: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ). يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إنّ حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله. ولا يحرف الكلم عن مواضعه. ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله). وعن مجـاهد قـال: ((يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ): يتبعونه حق اتباعه).

ومن اختزن بعض العلم في صدره ولم يخرجه عملا وتطبيقا، فهو ذنب كبير ارتكبه. وقد قيل: (كثرة العلم من غير العمل مادة للذنوب). وقيل: (العلم أسُّ، والعمل بناء والأس بلا بناء باطل، وقال رجل لرجل يستكثر من العلم ولا يعمل: يا هذا إذا أفنيت عمرك في جمع السلاح فمتى تقاتل؟).

وصدق ذاك القائل فالعلم سلاح يجمع، وعدة يعتد بها لمجاهدة النفس، ومجالدتها من أجل التطبيق، فمن شغل عمره بالجمع فماذا بقي من العمر لمعالجة النفس..؟

وجمع العلم دون العمل به عاقبته وخيمة، لأنّه استكثار من حجة الله على من حمله، ولم يعمل به. كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في فقرة من الحديث الذي يرويه أبو موسى الأشعري: (وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ). ونستذكر النصيحة الرائعة التي وجهتها أم سفيان الثوري لابنها يوم أراد الذهاب لطلب العلم: (إن وجدت نفسك أهلا لذلك فامض، وإلا فلا تستكثر من حجة الله عليك).

أما الوعيد لمن ترك العمل والتطبيق، فكثير في كتاب الله وسنة نبيه، وأختار بعضا من ذلك:

. عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بقومٍ تُقْرَضُ شفاهُهم بمقاريض النَّارِ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ).

. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِى النَّارِ، فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَىْ فُلاَنُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّى كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ أَفْعَلُهُ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ).

. وكان صلى الله عليه وسلم حين يستعيذ يكثر أن يقول في استعاذته: (اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا).

ولا يغني عن المرء أن يتعلم ويجهد في تعليم الناس دون أن يجعل لنفسه نصيبا من ذاك العلم، ينفعه حين يلقى الله. فعن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق نفسها).

ومن الفوائد العظيمة للعمل أنّه يثبت العلم في النفوس ويحفظه. قال وكيع: (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به) ونظم أحدهم:

هتف العلم بالعمل

فإما استجاب وإلا رحل

ومن المكانة العالية والشريفة التي اختص رب العزة والجلال بها حاملي العلم في صدورهم ما جاء في الآية الكريمة: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ). إنّ أعظم قضية في هذا الوجود إثبات الوحدانية لله تعالى في ربوبيته وألوهيته، ولقد أشهد ربنا تبارك وتعالى على تلك الحقيقة الكبرى نفسه تبارك وتعالى، وكفى به شهيدا، ثم استشهد على ذلك طائفتين ممن خلق وهم الملائكة ولا غرابة، فالملائكة عباده المكرمون (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ). وثالث الشهداء ممن اختار هم أولو العلم من بني البشر.

ولم يستشهد الله سبحانه وتعالى الملوك، ولا أهل المناصب والجاه والدنيا، ولا أهل الأموال، ولا أهل الأحساب والأنساب الرفيعة، إنّما استصفى من بني البشر لهذه الشهادة العظيمة، والتي كان تبارك وتعالى أول وأعظم الشهداء فيها، أُولي الْعِلْمِ
من البشر. فكيف يعجز مسلم أن يرفع نفسه إلى تلك المكانة السامقة بتعلم علم الوحيين النافع المعلي للقدر.

ألا يكفي طالب علم الوحيين أن يضيف لهذا العمل الصالح وهو طلب العلم، تسخير الله تبارك وتعالى بعض المخلوقات لتستغفر وتدعو له: (لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ يسْتَغْفر لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ).

3. الإخلاص والاتباع…

ولكون هذين الركنين متلازمين في أنّهما شرطان أساسيان لقبول العمل الشرعي عند الله، آثرت أن يكون الحديث عنهما معا. إنّ الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وموافقاً لشرعه الحكيم، وعلى هدي نبيه الكريم.

ولقد ذكر العلماء معانيَ كثيرةً للإخلاص، لكنّ أكثرها شمولاً هو قول أبي محمد سهل بن عبد الله التستري الذي يقول فيه: (نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركاته وسكناته، في سرِّه وعلانيته، لله تعالى وحده، لا يمازجه شيء، لا هوى ولا نفس، ولا دنيا).

وقد قرب أحد العلماء مفهوم الإخلاص للأذهان فقال: (الإخلاص إفراد الله تعالى بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر، من تَصَنُّعٍ لمخلوق، أو اكتساب مَحْمَدَةٍ عند الناس، أو محبةِ مدحٍ من الخلق، أو أي معنى آخر سوى التقرب إلى الله تعالى).

قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

وأما الاتباع: فهو اتباعُ واحدٍ من بني البشر، وهو المعصوم المبلغ عن ربه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. ولا يؤخذ الدين عن أحد من المخلوقين سوى هذا الرجل. وكلُّ متبوعٍ غير النبي صلى الله عليه وسلم يُتابع من أجل دليله لا من أجل شخصه، أما النبي عليه السلام فشخصه وقوله وفعله وإقراره هي الأدلة في الدين.

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ).(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).(وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا). (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).

وكثير من المسلمين لم يفهموا الاتباع في الدين حق فهمه، وفيهم عُبَّادٌ وزُهَّادٌ وأهلُ علمٍ. فكثيرون من الناس خلطوا بين الإيمان بالنبي واتباع النبي، وبسبب هذا الخلط بين هذين الواجبين الشرعيين ضاع أمر الاتباع في الدين، وهو من أخطر ما هدد سلامة وصحة الدين والتدين، لقرون طويلة ولا زال. فلو جئت تتهم شخصا بأنّه غير متبعٍ هَبَّ في وجهك مدافعا، دون أن يدري أنّه يدافع عن إيمانه بالنبي وليس عن اتباعه له.

وفات أولئك أنّ الاتباع للنبي فرع من الإيمان به، ولا قيمة لإيمان بالنبي لا يترجم اتباعاً (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ). قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: (يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له. وأنّ الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع للمطاع. وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأنّ الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنّهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا).

وشبيه بهذا الخلط من يخلط بين حب النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه، فإن لم يكن حبه اتباعا، فلن ينفع ذلك الحبُّ مُدَّعيه. لذلك وجد مدعو الحب، ممن لا اتباع عندهم، في الموالد والحفلات والولائم والمدائح والإنشاد فرصة تعبيرهم عن الحب، وما دروا أنّ أعظم الحب والتعظيم والتكريم والإرضاء يقدم للنبي عليه السلام من خلال طاعته في تطبيق سنته. ولْيُعلم أنّ كل أمر بالاتباع الحق في الدين، في كتاب الله عز وجل، يصرف إلى أنواع ثلاثة من الاتباع لا رابع لها:

1. اتباع الوحيين لقوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ).

2. اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأشد آية في شأن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكثر الآيات في ذلك، قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ). فقد طالب الله تبارك وتعالى مدعي حبه ببرهان وهو اتباع نبيه، والاتباع ليس أمرا معنويا يقبل الادعاء، بل هو فعل لا بد أن يظهر من المدعي.

3. اتباع سبيل المؤمنين، الذين لا يسلكون إلا سبيل الله، ولا يهتدون إلا بهدي نبيه، (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

كما أنّ أعظم كلمة، وهي كلمة التوحيد، وشعار الإسلام، والشهادة التي تُدخل قائلها، بحق، الإسلام وهي (أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدا رسول الله) فيها نوعان من التوحيد:

1. توحيد الألوهية؛ وهو أن يوحد الخلقُ اللهَ بأفعالهم، فلا يعبدون إلا الله، ولا يسألون إلا الله، ولا يخافون إلا الله.

2.
توحيد الرسالة؛ ويجهله كثير من المسلمين ولذلك يخالفونه.

وكلا التوحيدين على القدر نفسه من الأهمية، والإخفاق في الإتيان بهما أو بواحد منهما شرك أكبر في الدين، يحبط العمل ويخرج من الملة. وماذا يعني توحيد الرسالة؟

يعني أن لا يُؤخذ شيء من دين الله، من أبسط التكاليف إلى أعلاها عن أحد من البشر إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن طريق السنة الصحيحة فقط. ومن أخفق في ذلك فقد أشرك شرك الرسالة.

وهذا أيها الإخوة ليس تشددا، لكنّ الناس يظنونه كذلك لجهلهم بهذا النوع من التوحيد، ولانتشار أحكامٍ في كتب المذاهب تخالف ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، بتأويلات وتمحلات، فاستهان الناس بالاتباع، وكذلك انتشار الفتاوي المخالفة.

ولبعض العلماء قاعدة عظيمة تقول: (لا يعبد الله إلا بما شرع) ومن يَعلم شرع الله ويُعلمه إلا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، المؤتمن على الوحي، والذي لا ينطق عن الهوى..؟ والقاعدة العظيمة الأخرى التي تخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاتباع هي قاعدة الإمام مالك رحمه الله: (ما لم يكن دينا زمن رسول الله، فليس بدين من بعده). وصياغتها بشكل آخر لابن تيمية: (الدين ما مات عنه محمد صلى الله عليه وسلم). ولمالك رحمه الله قاعدة أخرى: (أوكلما جاءنا رجلٌ أجدلُ من رجل، تركنا ما أُنزل على محمد لقول ذلك الجدول). وفوق، وقبل ذلك كله، قول الله تبارك وتعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهْوَ رَدٌّ).

وآخر ما أحب قوله في الاتباع، قاعدة رائعة لابن تيمية وهي: (فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل فى الدين لشخص إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لقول إلا لكتاب الله عز وجل ومن نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته فى القول والفعل فهو (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا)).

ويتابع رحمه الله إيضاح هذه القاعدة الهامة بقوله: (وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل إتباع الأئمه والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم. فينبغي للانسان أن يعود نفسه التفقه الباطن فى قلبه والعمل به فهذا زاجر، وكمائن القلوب تظهر عند المحن وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه، ولا يناجز عليها بل لأجل أنّها مما أمر الله به ورسوله أو أخبر الله به ورسوله لكون ذلك طاعة لله ورسوله).

وقد جمعتْ بعض النصوص بين الإخلاص والاتباع مثل قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ). ومن أوفى الشروح لهذه الآية، وأدقها، ما قاله الفضيل بن عياض: (أَحْسَنُ عَمَلاً: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إنَّ العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. ثم قرأ قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)).

ويقول ربنا تبارك وتعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً). فما هي تلك الأعمال التي جعلها ربنا هباء منثورا؟ قد تكون كثيرة وشاقة ومتعبة لكنّها فقدت شرطي القبول أو أحدهما: الإخلاص والاتباع .

أما دليل صواب العمل فالحديث المشهور الذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهْوَ رَدٌّ).

ومن الآيات التي يعتبرها العلماء نصا في موضـوع الإخـلاص والاتباع قـوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

فإسلام الوجه كناية عن الإخلاص في النية، وصرف العمل كله لوجه الله تعالى. أما قوله تعالى (وَهُوَ مُحْسِنٌ) فالإحسان متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في العمل وعدم الابتداع أو الزيادة عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

وحينما يتحقق الإخلاص في أعمال العبد تكون أكبر وقاية من إفساد الشيطان لها، ووسوسته لصاحبها، كما جاء في الكتاب العزيز على لسان إبليس لعنه الله (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ). فمن أخلص عمله لله لن يجد الشيطان وسيلة لإبطال العمل مادام ذلك العمل يراد به وجه الله ويؤتى به كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما حينما يكون العمل عَريًّا عن الضوابط فإنّ الشيطان يجد فرصته لاستدراج العبد إلى مدارج الرياء والتسميع والمباهاة، وإدخال عقله وهواه واستحسانه في عبادته، وذلك هو المدخل الخطير إلى منزلق الابتداع، وهل من مزلة قدم أخطر من هذه..؟ ونفس المرء غير المخلصة ومن ورائها الشيطان ما يزالان به، يزينان له سوء عمله فيراه حسنا واقرؤوا هاتين الآيتين الكريمتين: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ).

وقوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ).

وصدق أحد العلماء إذ يقول: (وددت لو أنّه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلاَّ، فإنّه ما أوتى كثير من الناس إلا من تضييع ذلك).

وفي السنة أحاديث تؤكد أمر الإخلاص منها:

. عن أبي أمامة قال: (جاء رجل إلى النبي فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله: (لا شيء له) فأعادها ثلاث مرات، ويقول الرسول: (لا شيء له) ثم قال: (إنّ الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغى به وجهه)) .

. وقوله عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره؛ فإنّه رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم أبدا: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم. وقال: من كان همه الآخرة؛ جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا؛ فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).

ومن كلام الشيخ العثيمين في الإخلاص: (قد تجد الرجلين يصليان في صف واحد مقتديين بإمام واحد، يكون بين صلاتهما كما بين المشرق والمغرب، لأنّ القلب مختلف، أحدهما قلبه غافل، بل ربما يكون مرائياً والعياذ بالله يريد الدنيا، والآخر قلبه حاضر يريد بصلاته وجه الله واتباع سنة رسول الله).

والعمل الذي يصاحبه الإخلاص يكتب للعبد أجره ولو لم يفعله لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة).

والإخلاص من أعمال القلوب، وهو بين العبد وربه. وخطورته في خفائه، وفقدانه عند الإنسان لا يظهر للآخرين فيناصحونه كما هو الحال في معصية الجوارح، وكذلك يخفى على نفسه التي اعتادت ترك الإخلاص فاستمرأته، ولذلك تكون فرص التوبة أمامه قليلة إلا أن يشاء الله.

ونستطيع اكتشاف مواطن نقص الإخلاص في أنفسنا وعند الآخرين مستفيدين من القاعدة القائلة (وبضدها تتميز الأشياء)، وإنّ ضد الإخلاص الرياء، وحيث أنّ الرياء محبب إلى بعض الأنفس الأمارة بالسوء وهي تسعى إليه، وللمراءاة مسلك ظاهر لا يخفى على الناس، وله شعور مُرضٍ ومحببٌ عند النفوس المريضة. وحيث وجد الرياء فُقد الإخلاص لذلك فإنّ فقدان الإخلاص يعرف بوجود الرياء بشكل أوضح.

وقد حذر الله تعالى من الرياء فقال سبحانه (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). وإن لم يكن الرياء شركا فماذا يكون..؟ إنّ المرائي جعل أعماله العبادية للناس أو يشرك فيها الناس مع الله، وبهذا المعنى جاء الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِى غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) رواه مسلم.

وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يحذر أمته من الرياء بقوله وفعله، فكان يقول عند التلبية بالحج: (اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة).

ومن الأحاديث المحذرة من الرياء في العبادة بكل صراحة ووضوح: عن أبي سعيد قال: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟) فَقُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّيَ فَيَزِيدَ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رجلٍ)).

ومن قاصمة الظهر في موضوع الإخلاص في العمل وضده الرياء، حديث عن نبي الأمة ترتعد له الفرائص وتنخلع له القلوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِىءٌ. فَقَدْ قِيلَ.

ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ فِى النَّارِ).
رواه مسلم

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا يُبْتَغَى “يَعْنِي: بِهِ وَجْهَ اللَّهِ” لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرَفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يَعْنِي رِيحَهَا.

ولخطورة موضوع الإخلاص وخفائه نرى المؤمنين الصادقين على خوف ووجل من أن لا تقبل أعمالهم يوم يعرضون على ربهم، وقد وصف الله تبارك وتعالى بعضا من هؤلاء في كتابه الكريم، فلنقرأ هذه الآيات من سورة الإنسان يصف ربنا فيها الأبرار من عباده، الذين يجتهدون كل الاجتهاد من أجل تمحيص نواياهم لله إخلاصا دون أي شوب من الرياء خوفا من عذابه الذي يستحقه أهل الشرك والرياء (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا).

وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تسأل رسول الله عن معنى آية في كتاب الله أشكل عليها فتحظى منه بالجواب الآتي: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتونَ مَا آتوا وقُلوبُهم وَجِلَةٌ) أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: (لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)).

قال الحسن رضي الله عنه
تعليقا على الآية: (إنَّ المؤمن جمع إحسانًا وشفقةً، وإنَّ المنافق جمع إِسَاءة وأَمْنًا).

ما أعظم عبارة الحسن رضي الله عنه .. فمن ذا الذي يأمن مكر الله، ومن ذا الذي يظن أنّ عمله يدخله الجنة إن لم يتغمده الله برحمته، ومن ذا الذي يضمن نفسه من أن تنزلق في مهاوي الرياء فيلقى الله بعمل لا إخلاص فيه..؟

موضوع الإخلاص من السعة والطول بحيث يصعب على المرء لملمته وهذا ما أعانيه وأنا أكتب، فكلما رأيتني أميل إلى استبعاد فكرة تجنبا للإطالة قلت إنّها هامة وخطيرة. لكنّي لا بد من أن أختم بفكرتين: أنّ نفع الإخلاص ليس في الآخرة فقط، بل إنّ الله يجزي المخلصين في الدنيا خيرا، ويدفع عنهم به شرورا كثيرة. ولنقرأ ما جاء في سورة يوسف: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ). وتعلمون محنة يوسف التي ثبت فيها بفضل إخلاصه الذي يتجلى بعبارة (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ
وما برهان ربه إلا الإيمان به والإخلاص له، فلقد تعرض إلى ألوان من الظلم بدءا من ظلم ذوي القربى، إلى الغربة، إلى محاولات تدنيس طهره وتلويث سمعته، في أصعب الأماكن والمواقف والظروف، لكنّ رحمة الله مع من أخلص له من عباده.

والمثال الآخر قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار وانسد عليهم، ولما أحيط بهم قال قائلهم: (إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ)
وتعلمون باقي القصة أنّ كلا من الثلاثة توسل إلى الله بعمل صالح فعله وكان يختم قصة عمله الصالح بعبارة: (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ)
فإنّهم في الحقيقة لم يكونوا يتوسلون إلى الله بالأعمال نفسها بل بدرجة إخلاصهم فيها، إنّهم ما فعلوها إلا لوجه الله تعالى فأنجاهم.

4. ذكـــرى الدار…

لقد ذكرنا الأسس التي يجب أن يبنى عليها التدين الحق، ولكنَّ هناك ضابطًا أخيرًا لكل تلك الأسس وهو استحضار مشهد اليوم الآخر في كل شأن، ولا بد من أن يترجم هذا الاستحضار لذلك اليوم العظيم إلى عمل مبني على يقين في أنّه يوم الدين، أي يوم الجزاء، فتكون من ذلك مراقبة العمل وضبطه .. إنّ الإيمان باليوم الآخر وبأنّه حق شيء، واستدامة استحضار هذا اليوم، مع كل عمل، بكل ما فيه وبخاصة الثواب والعقاب شيء آخر. واستحضار صور الجنة وما أعد الله فيها للمؤمنين من نعيم، وصور النار وما أعد الله فيها للكافرين من عذاب، هو الذي يضبط المسار أخيرا.

وتأسيسا على ذلك نقول إنّ الله تبارك وتعالى، رغم كل ما أنزل على قلب نبيه من أحكام ليبلغها للناس، كان آخر ما أنزل وفق الراجح هو قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). واتقوا بمعنى اخشوا واحذروا .. وكأنّي أفهم من كونها آخر ما أُنزل أنّه إشارة للناس أن يكون التدقيق الأخير لكل عمل يأتيه الإنسان، تذكر الآخرة. فالدنيا وما فيها من عمل هو في الحقيقة للآخرة. وفي الآخرة يتلقى الإنسان الجزاء. ولزيادة إيضاح الفكرة نربطها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (صل صلاة مودع). أي أن تعتقد أنّ هذه الصلاة هي آخر صلاة تلقى الله بها.

والآية في سورة (ص) تؤكد المعنى المذكور في ضرورة استحضار صورة اليوم الآخر دائما، ودور هذا الاستحضار الدائم في التصحيح والتمحيص، وبناء النفس المؤمنة بناء صحيحا. يقول الله تبارك وتعالى: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ).

جاءت هذه الآية بعد سرد مجموعة من أسماء بعض الأنبياء الذين اصطفاهم الله تبارك وتعالى وتعالى لرسالاته. يبين لنا الله جل وعلا أنّ هؤلاء الأصفياء والأنقياء من الأنبياء والرسل كان سبب صفائهم، وسر نقائهم، أنّ ذكر الدار الآخرة لا يغادر وجدانهم، وبتعبير آخر هم بحالة اتقاء مستمر لهذا اليوم فأورثهم الصفاء والنقاء، وكل كريم الخلال وصالح الأعمال.

وكانت هذه الفكرة، استحضارُ الدار الآخرة، مشكلةً عند الصحابة، شكوا معاناتهم من نقصٍ فيها إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث المعروف عن حنظلة: عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِىِّ (وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ) قَالَ: (لَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (وَمَا ذَاكَ). قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِى وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً)).

ومن العلاج لتلك المشكلة ما جاء في الحديث: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فليَقرأْ: (إِذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ) و(إِذا السَّماءُ انفطرَتْ) و(إِذا السَّماءُ انشقَّتْ)).

وقد حذرنا ربنا تبارك وتعالى، في آيات عدة، من أنّ أعظم خسارة في الوجود خسارة الآخرة فهي خسارة لكل شيء ولا تعويض لها بشيء ولنتدبر هذه الآيات:

. (فاعبدوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).

. (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ).

ولو استقرءنا واقع المسلمين الذين يجترحون السيئات، ويكثرون من ارتكاب المعاصي، لوجدنا أنّ السر وراء ذلك أنّهم لا يخشون ربهم بالغيب، أو بعبارة أخرى إنّ إيمانهم باليوم الآخر إيمان نظري لا يجاوز تراقيهم، ويرون الدنيا أقوى شداً لهم من الآخرة، بل ما تكاسلَ المتكاسلون في عمل الصالحات، سواءٌ الواجب منها والمسنونُ، إلا بسببِ الغفلةِ عن الآخرة والانشغالِ عنها، يقول تعالى في وصف عباده الصالحين: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ). وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).

وقد تجد من العاملين من يكثرون العمل دون أن يحققوا فيه شرطي القبول اللذين ناقشناهما آنفا، والسبب عدم استحضار أمر الآخرة يقول ربنا تبارك وتعالى في سورة الكهف: (قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

ومما جاء في تأكيد ضرورة الخوف من اليوم الآخر، لضبط عمل الدنيا، وأنّ الدنيا إذا انتهت ختم سجل العمل فلا رجعة ولا تبديل ولا تعديل، عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ. أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ. جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ).

ولا يصون الحقوق في ما بين الناس في الدنيا إلا الخوف من الوقفة بين يدي ربهم لترد المظالم إلى أهلها وينصف المظلوم ممن ظلمه، حتى بين الحيوانات: عن أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ).

وعنه أيضا (لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ تنطحها).

ولعلي رضي الله عنه كلام عظيم التأثير في هذا المجال يقول: (وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ الآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ، وَلاَ حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلَ).

فاليقينُ بالآخرة هو مفترقُ الطريق بين منغمسٍ في الدنيا لا يرجو لقاء ربه، ومؤمنٍ يرى الدنيا بكل ما فيها معبرا إلى الآخرة حيث الجزاء الأوفى. هذه الحالة التي ذكرت في سورة القيامة (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) .

وعندما ننظر في واقع المسمين اليوم وما هم عليه من فرقة، وبأيمانهم كتاب الله وسنة نبيه، ومع ذلك لا يحكمونهما في ما تنازعوا فيه، بل نراهم، وفيهم دعاة ومشائخ، يصرون على التنازع ويوجدون للاختلاف فلسفة وأدبا وفقها و..و..و.. وإذا ما طولبوا برد التنازع إلى الكتاب والسنة تهربوا من هذا الواجب الأعظم بالتأويلات والتهويمات. فإلام يمكن أن يرد ذلك الموقف، وهو عدم رد التنازع إلى الله ورسوله..؟ لا سبب إلا ما ذكره ربنا تبارك وتعالى في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) فالآية واضحة الدلالة في أنّ من لا يرد المتنازَعَ فيه من أمر الدين إلى الله تعالى (كتابه) وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم (سنته) فليس مؤمنا بالله واليوم الآخر على الحقيقة، وإن ادعى ما ادَّعى!!

وأختم الحديث عن الإيمان الحقيقي باليوم الآخر وأثره في نفس المسلم، وفي صحة عمله، وفي كونه حافزا على المراجعة الدائمة لحاله مع الله، بالقصص الآتية التي تعطي أوضح المثل على هذا الواجب الغائب عند كثير من المسلمين اليوم وهو (ذكرى الدار) وما ينتج عنه. وإليكم هذه الأحاديث:

عن عطاء بن أبي رباح قال: (قَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ بَلَى. قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ إِنِّى أُصْرَعُ، وَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِى. قَالَ: (إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ). فَقَالَتْ أَصْبِرُ. فَقَالَتْ: إِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَ).

أي امرأة تلك التي تقبل معاناة المرض إلى أمد لا تعلمه وتختار ما عند الله في الآخرة ثقة وإيمانا وتصديقا وصبرا واحتسابا. لا ترى للحياة الدنيا أيّة قيمة مادام النبي صلى الله عليه وسلم ضمن لها الآخرة بصبرها، فقبلت ووعدت.

وأي امرأة تلك التي تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصر أن يقيم عليها حد الرجم، ونبي الرحمة يؤخرها ويؤجلها سنوات لعلها تؤثر الحياة، وبين يديها طفلها، أو تنسى أو تتناسى الحد، ولا يزيدها ذلك إلا إصرارا علي بيع الدنيا بالآخرة..!

وأي رجل ذاك الذي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يقيم عليه حد الرجم، ولا يدع الرسول صلى الله عليه وسلم سبيلا لإبعاده عن الموضوع الذي سيطر على كل جوارحه، وما يزيده ذلك إلا إصرارا ، إلى حد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاول أن يلقنه حجة يستطيع بها التخلص من إقامة الحد، ولا يرضى بغير الحد بديلا..! ولنستمع القصتين:

عن بريدة قال: (أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الأَسْلَمِىَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِى وَزَنَيْتُ وَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِى. فَرَدَّهُ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى قَدْ زَنَيْتُ. فَرَدَّهُ الثَّانِيَةَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: (أَتَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا تُنْكِرُونَ مِنْهُ شَيْئًا). فَقَالُوا مَا نَعْلَمُهُ إِلاَّ وَفِىَّ الْعَقْلِ مِنْ صَالِحِينَا فِيمَا نُرَى فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ وَلاَ بِعَقْلِهِ فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ.

قَالَ فَجَاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِى. وَإِنَّهُ رَدَّهَا فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِى لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِى كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا فَوَاللَّهِ إِنِّى لَحُبْلَى. قَالَ: (إِمَّا لاَ فَاذْهَبِى حَتَّى تَلِدِى). فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِىِّ فِى خِرْقَةٍ قَالَتْ هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ. قَالَ: (اذْهَبِى فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ). فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِىِّ فِى يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ هَذَا يَا نَبِىَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ. فَدَفَعَ الصَّبِىَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا. فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا فَسَمِعَ نَبِىُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: (مَهْلاً يَا خَالِدُ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ). ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ). رواه مسلم

حتى الذي ارتكب ما دون الزنا وستر الله عليه إذ لم يره أحد، ولم تقدم ضده شكوى، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم معترفا ويطلب أن تنزل به العقوبة الدنيوية خوفا من العرض على الله بذاك الذنب: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى عَالَجْتُ امْرَأَةً فِى أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَإِنِّى أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِىَّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ؟ قَالَ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ فَأَتْبَعَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً دَعَاهُ وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ يَا نَبِىَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً قَالَ: (بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً)).

إنّنا نستفيد من هذه القصص فائدتين عظيمتين:

الأولى: النموذج والمثل الذي يجب أن يكون عليه، أو يصل إليه أمر ذكرى الدار (اليوم الآخر) في تدين المسلم، ليكون أعظم وأهم ضابط لصحة العمل في فعل المأمور وترك المحظور، وهو الأهم لأنّ النفس تميل إلى ما تُنهى عنه. ولو أنّ المسلمين اليوم يملكون واحدا من المئة مما كان يملكه أولئك من خوف الله والدار الآخرة لكان واقع المسلمين مختلفا جدا.

الثانية: أنّ الكثير من العلماء والدعاة والموجهين والمصلحين في الأيام الحاضرة، وممن هم على صلة بمشكلات الناس، تحيرهم حالات بعض الناس، وهي كثيرة، والتي تتلخص في المعاصي وتعدي حدود الله من أشخاص متدينين وعندهم العلم الشرعي لكنّهم غير مستقيمين. وتراهم يعلنون عجزهم عن معالجة تلك الحالات. أبالعلم فهو موجود عند أولئك العصاة..؟ أبالوعظ فإنّ بعض أولئك العصاة وعاظ..؟ فما السبب إذن؟

إنّه نقص كبير في (ذكرى الدار) أو استحضار اليوم الآخر..! إنّه وجود إيمان نظري فقط وإن شئنا قلنا إيمان غير معمق وغير حقيقي، عبّر القرآن الكريم عن هذه المشكلة لدى بني البشر في موقفهم من اليوم الآخر بقوله تعالى (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا). وإذا استحضرنا قول: (كل آت قريب) لتفسير معنى الآية، فهمنا أنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة يرون يوم الدين بعيدا بمعنى أنّه غير واقع وغير آت، والله يقول إنّا نراه قريبا؛ أي يقيني الوقوع والمجيء، وعلى المؤمنين أن يروه كذلك.

والمشكلة تندرج تحت أصل أعم وهو الإيمان بالغيب، لأنّ الإيمان باليوم الآخر جزء من الإيمان بالغيب. ومسألة الإيمان بالغيب لدى أجيال المسلمين المعاصرة مهزوزة جدا جدا. وليس الآن وقت التعليل والمعالجة، فالموضوع يحتاج بحثا مستقلا أو أبحاثا، ولكنّي أحب أن أستودع عقولكم فكرتين تقلبونهما، إن شاء الله، فأقول:

من الأسباب: الانغماس في الدنيا، والإغراق في الماديات من جهة، وتأثير المدرسة العقلية على أفكار المسلمين، وبخاصة عن طريق برامج وأبحاث الإعجاز العلمي التي شغلت الناس أيما إشغال من جهة أخرى .. وستذكرون ما أقول لكم .. والحمد لله رب العالمين