Skip to main content

نَظَرَاتٌ فِي مَوْضُوعِ الأَحْرُفِ السَّبَعَةِ

By الجمعة 9 جمادى الآخرة 1426هـ 15-7-2005ممحرم 21, 1441دراسات

تُطل على المسلمين في الآونة الأخيرة، وبتواتر يصل إلى أن يكون مع إشراقة كل شمس، فتن يتفنن صانعوها فيها نوعا وكماً وعرضا وكيداً .. ولتفاهة الجهات التي تصدر عنها هذه الفتن، والأولى القول الأكاذيب والأراجيف، فهي لا تستحق الوقوف معها ولا الرد عليها. ولكن حقيقة المشكلة، التي تدعو إلى الأسف العميق، والتي تجعل ما يطلقه خصوم هذا الدين خطيراً وكبيراً، أنّ أكثر المسلمين ليسوا محصنين ضد ما ينشر ويقال، بل إنّ فيهم من وهت صلته بأصول وحقائق هذا الدين، وخَلِقَ إيمانه، حتى صار ممن تشمله الآية الكريمة: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).

ولقد ذكر البخاري رحمه الله حديثا عن ابن عباس يصور واقع الآية المذكورة في شرائح من الناس يمشون بين الناس. ففي صحيح البخاري عن ابن عباس في قوله: ((ومن الناس من يعبد الله على حرف) قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن وَلدت امرأته غلاماً ونُتجت خيله قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دينُ سُوءٍ).

ومن هذا الواقع، وحدبا وخوفا على هؤلاء الضعاف من أن يجتاحهم الباطل، يتحتم التعاطي مع ما يشاع ضد الدين. وإلا فالتمثل بقول الشاعر أولى:

لو كل كلب عوى ألقمته حجرا

لأصبح الصخر مثقالا بدينار

فالكلام إذاً ليس رداً أو مساجلة مع الطرف الآخر، إنّما هو تعليم وتذكير وبيان وتحذير، ومعذرة إلى ربنا ولعلهم يرجعون .. (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

وإساءات أعداء الدين بل كيدهم له أطوار وحلقات حسب رؤيتهم وأهدافهم. فلما فرغ المبطلون من رمي السنة وصاحبها ورواتها وأهلها، وهم في الحقيقة لما يفرغوا بعد، انعطفوا إلى كتاب الله لتحقيق الهدف نفسه، وهو ضرب الإسلام وتشكيك أبنائه بدينهم. وفي خضم ما يجري، ومع الاندفاع العاطفي ضده، وفقدان التوازن أحياناً في كيفية التعامل معه، أحب أن أذكر بآية، تحدد لنا أسلوب العمل، وتؤكد لنا أنّ المشكلة دائماً عندنا وليست عند غيرنا، وأنّ ميدان العمل المضاد (ميدان أنفسنا) مستلهمين قول ربنا (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).

وهذه آية في سورة التوبة تعالج مسألة الأطراف المرجفة التي تعمل لزلزلة وزعزعة الصف المؤمن، وتحدد للمؤمنين كيف يجب أن يكون موقفهم من ذلك، قال تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). والتأكيد والتركيز على قوله تعالى: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ). فكل ما يقال ويحاك ضد الإسلام، يبقى غيظاً وقهراً وحسرة على فاعليه، ما لم يجد طريقه إلى أسماع وعقول بل وقلوب أبناء الإسلام، فتكون عندئذ الجولة رابحة لأعداء الله، ونكون نحن الذين منحناهم فرصة الفوز. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

سألني، وهو من أهل الخير والفضل، ومن محبي العلم، أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا، عن الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن ما حقيقتها وما صحة الأحاديث فيها. وتذكرت فورا أمرين:

أولهما: أنّي قرأت منذ أمد لمرجف، ولا أذكر الآن من هو لنكارته، كلاما عن الأحرف السبعة ينتهي فيه إلى القول: إنّ القرآن تُقبل روايته بالمعنى، ولسنا ملزمين بحرفية نصوصه، ليصل إلى التشكيك في صحة نقله، وقطعية ثبوته.

فقلت حُق لكل مسلم أن يسأل عن هذه المسألة الخطيرة والدقيقة ليستبريء لدينه، وليعصم إيمانه من خطرات الشيطان.

والأمر الثاني الذي تذكرته وهو ما حدث للصحابي الجليل، وهو المرجع في القرآن الكريم، أُبَيُّ بن كعب، مع هذه المسألة، وها هي القصة كما جاءت في صحيح مسلم:

روى مسلم بسنده عن أبي بن كعب قال: (كُنْتُ فِى الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّى فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلاَةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقُلْتُ إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَرَءَا فَحَسَّنَ النَّبِىُّ شَأْنَهُمَا فَسُقِطَ فِى نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلاَ إِذْ كُنْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ مَا قَدْ غَشِيَنِى ضَرَبَ فِى صَدْرِى فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا فَقَالَ لِى: (يَا أُبَىُّ أُرْسِلَ إِلَىَّ أَنِ اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِى. فَرَدَّ إِلَىَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِى. فَرَدَّ إِلَىَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا. فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِى. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِى. وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَىَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ)).

وكأنّ الذي مر بخاطر أُبي وقتئذ أنّ هذا الاختلاف في القراءة ينافي أنّ القرآن من عند الله. أُبيٌ رضي الله عنه يعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهد التنزيل، وتذهب به هذه الفكرة (أعني: تعدد القراءات بين الصحابة، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، كُلاً على ما قرأ، قائلاً لهم هكذا أنزلت)، كل مذهبٍ إلى حد التكذيب، كما قال عن نفسه: (فَسُقِطَ فِى نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ وَلاَ إِذْ كُنْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ)، حتى يتدارك حاله النبي صلى الله عليه وسلم فيضرب في صدره ليزيل ما اعتراه .. فهل مسلمو زماننا أثبت في إيمانهم من أُبيٍ رضي الله عنه حتى لا نخشى عليهم..؟ ثم ألسنا (أقصد أهل الدعوة اليوم) الوارثين عن نبينا متابعة المهمة من بعده..؟ فنكون لمن قد يصيبهم ما أصاب أُبياً، وهو من هو، بلسماً وشفاء لما ينتاب صدورهم، بعلم ورثناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحققناه وحررناه نقلا عن علماء عالمين عاملين ربانيين، كما كان النبي لأُبَيٍ..؟

من هنا أذنت لنفسي، أن تكون مذاكرتنا مع موضوع الأحرف السبعة لتجليتها وإيضاحها. فلعل فيكم أُبيا أو من يلقى أُبيا، وبالتالي فالفائدة للجميع إن شاء الله.

الأحرف السبعة…

جاء في مسألة الأحرف السبعة عدة أحاديث صحيحة، نذكر أبرزها:

1. حديث أُبَيٍ السابق، ونعيده تثبتا: روى مسلم بسنده عن أبي بن كعب قال: (كُنْتُ فِى الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّى فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلاَةَ دَخَلْنَا جَمِيعًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقُلْتُ إِنَّ هَذَا قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَرَءَا فَحَسَّنَ النَّبِىُّ شَأْنَهُمَا فَسُقِطَ فِى نَفْسِى مِنَ التَّكْذِيبِ وَلاَ إِذْ كُنْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ مَا قَدْ غَشِيَنِى ضَرَبَ فِى صَدْرِى فَفِضْتُ عَرَقًا وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرَقًا فَقَالَ لِى: (يَا أُبَىُّ أُرْسِلَ إِلَىَّ أَنِ اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِى. فَرَدَّ إِلَىَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِى. فَرَدَّ إِلَىَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا. فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِى. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِى. وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَىَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ)).

2. روى البخاري ومسلم أيضاً، واللفظ للبخاري: أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاَةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ. قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ. فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقُلْتُ إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ). فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ). ثُمَّ قَالَ: (اقْرَأْ يَا عُمَرُ). فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِى أَقْرَأَنِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)).

3. روى مسلم بسنده: عن أبي بن كعب أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار، قال فأتاه جبريل عليه السلام فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِى لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ. فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِى لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَحْرُفٍ. فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِى لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا).

4. وروى الترمذي عن أُبي بن كعب أيضاً قال: (لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فَقَالَ: (يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ قَالَ: يَا مُحَمَّد إِنّ الْقُرْآن أُنزل عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ)). وجاء في صحيح ابن حبان: (فَمَنْ قرأ حرفاً منها فهو كما قرأ).

5. أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو أن رجلا قرأ آية من القرآن فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا فذكر ذلك للنبي فقال: (إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فأي ذلك قرأتم أحسنتم (وفي رواية: أصبتم)، ولا تماروا فيه، فإنّ المراء فيه كفر).

6. روى الحاكم وابن حبان بسندهما عن ابن مسعود قال: (أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ عَشِيَّةً فَجَلَسَ إِلَيَّ رَهْطٌ فَقُلْتُ لِرَجُلٍ: اقْرَأْ عَلَيَّ فَإِذَا هُوَ يقرأ أحرفاً لا أقرأها فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ؟ فَقَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى وَقَفْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: اخْتَلَفْنَا فِي قِرَاءَتِنَا فَإِذَا وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ تَغَيُّرٌ وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ حِينَ ذَكَرْتُ الِاخْتِلَافَ فَقَالَ: (إِنَّمَا هلك من قبلكم بالاختلاف) فأمر علياً فَقَالَ: (إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ كَمَا عُلِّمَ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَكُمُ الِاخْتِلَافُ) قَالَ: فَانْطَلَقْنَا وَكُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَقْرَأُ حَرْفًا لا يقرأ صاحبه).

7. وأخرج البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ، وَسَمِعْتُ النَّبِىَّ يَقْرَأُ خِلاَفَهَا فَجِئْتُ بِهِ النَّبِىَّ فَأَخْبَرْتُهُ فَعَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ: (كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ، وَلاَ تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا).

8. عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل وميكائيل فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل: يا محمد اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل: استزده فقلت: زدني فقال: اقرأه على ثلاثة أحرف فقال ميكائيل: استزده فقلت: زدني كذلك حتى بلغ سبعة أحرف فقال: اقرأه على سبعة أحرف كلها شاف كاف).

9. قال عليه السلام: (أُمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف كل شاف كاف).

10. قال صلى الله عليه وسلم: (يا أبي: إنّي أقرئت القرآن فقيل لي: على حرف أو حرفين؟ فقال الملك الذي معي: قل على حرفين قلت: على حرفين فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي قل: على ثلاثة قلت: على ثلاثة حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف إن قلت: سميعا عليما. وإن قلت: عزيزا حكيما. ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب).

بعد عرض الأحاديث سيكون التعليق في عدة محاور:

المحور الأول: لا بد من التأكيد على أنّ الأحرف السبعة، المتحدث عنها، لا علاقة لها ألبتة بالقراءات السبع المشتهرة عند القراء، والموجودة بين أيدي المسلمين اليوم. بل إنّ بينها فارقاً زمنياً، فالقراءات السبع لم تتبلور وتخرج إلا في القرن الثالث الهجري. والذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنّها حرف من الحروف السبعة، وبتعبير آخر إنّ مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة.

يقول أبو شامة: (فإنّ انحصار القراءات في سبع لم يدل عليه دليل ولكنّه أمر حصل إما بدون قصد أو بقصد التيمن بعدد السبعة أو بقصد إيهام أنّ هذه السبعة هي المرادة من الحديث تنويها بشأنها بين العامة. ونقل السيوطي عن أبي العباس ابن عمار أنّه قال: لقد فعل جاعل عدد القراءات سبعا ما لا ينبغي وأشكل به الأمر على العامة إذ أوهمهم أنّ هذه السبعة هي المرادة في الحديث وليت جامعها نقص عن السبعة أو زاد).

المحور الثاني: لا بد من التعرف على المقصود بالأحرف السبعة، ونبدأ بمعنى الحرف: ويستعمل بمعنى اللهجة والقراءة وليس بمعناه المعروف في النحو والصرف على أنّه جزء من الكلمة.

ونرجع إلى الأحرف السبعة: ففي ذلك أقوال توسع فيها أصحابها أكثر مما ينبغي، وقد عدّ أَبُو حَاتِم بْن حِبَّان الاختلاف فيها فأوصله إِلَى خَمْسَة وَثَلَاثِينَ قَوْلًا. لكن الْمُنْذِرِيُّ قال: (إنّ أَكْثَرهَا غَيْر مُخْتَار).

والراجح الذي ينسجم مع الأدلة، والتزام النصوص من جهة، وإبعاد المعاني المشوشة من جهة أخرى، أنّها ألفاظ مختلفة لمعنى واحد، تختلف
باختلاف القبائل والأماكن، وبكلمات أخر: فالْمُرَاد بِالْأَحْرُفِ السبعة تَغَايُر الْأَلْفَاظ مَعَ اِتِّفَاق الْمَعْنَى .. ولمعرفة حقيقة هذه الأحرف السبعة، من جهة، والسبب الموضوعي الذي اقتضى وجودها، من جهة أخرى، لا بد من تأمل في عبارات مشتركة في الأحاديث السابقة من مثل:

. (يَا أُبَىُّ أُرْسِلَ إِلَىَّ أَنِ اقْرَإِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِى. فَرَدَّ إِلَىَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِى. فَرَدَّ إِلَىَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ).

. (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِى لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ).

. (يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ قَالَ: يَا مُحَمَّد إِن الْقُرْآن أُنزل عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ).

إنّ النظرة الدقيقة في العبارات السابقة تركز على التخفيف على من أُنزل الإسلام عليهم، ليكونوا حملةً له إلى العالم، فلا بد من فهمه العميق
والصحيح، ولن يتأتى هذا التخفيف بتغيير الحركة الإعرابية لبعض ألفاظ القرآن، التي تجيزها السليقة العربية، والتي بُلوِرَت فيما بعد بعلم النحو كما فهم البعض، وكما هو موجود في القراءات السبع مثل: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ففي قراءة (أبو عمر ونافع): (يُخْرَجُ). ومثل: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ففي قراءة (الكسائي): (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ). ومثل: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) ففي قراءة (ابْن كثير وَابْن عَامر وابو عَمْرو وابو بكر): (مَنْ) .. إنّما يتأتى الفهم باستبدال لفظة تفهمها قبيلة عربية، ولا تفهمها أخرى، ولقد جاءت الرواية عن ابن مسعود لتحسم الخلاف في ذلك: (إنّما هو كقول أحدكم: أقبل، وهلم، وتعال). فبعض العرب ينادي صاحبه (بأقبلْ) ولا يناديه (بتعالَ) وقد لا يفهمها إذا سمعها. وتغاير اللهجات العربية، وغرابة بعض الألفاظ لبعض العرب دون بعضٍ آخرَ، يُستدل عليه بقول الشاعر:

إذا جاء الشتاء فأدفئوني

فإن الشيخ يدفئه الشتاء

(فأدفئوني) الأولى يقصد بها الدفءُ الذي هو ضد البرد في لهجة قبيلة عربية. وأما (يدفئه) الثانية فتعني بلهجة قبيلة عربية أخرى يقتله الشتاء. ولكن الأحسن والأولى الاستدلال بفعل خالد بن الوليد رضي الله عنه، والقصة في الحديث الصحيح: عن ابن عمر قال: (بَعَثَ النَّبِيُّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا فجعلَ خالدٌ يقتلُ ويأسِرُ وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أسيره حَتَّى قدمنَا إِلَى النَّبِي فذكرناهُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صنعَ خالدٌ) مرَّتينِ). وفي المعجم الوسيط:
وَيُقَال صَبأ الرجل ترك دينه ودان بآخر.

فواضح جداً أنّ تعدد الأحرف بالمفهوم الذي أوضحناه، يعطي فرصة الفهم المعمق لكتاب الله الذي هو أصل دين الإسلام. وتأكيد هذه الفكرة يفضي بنا إلى تساؤلٍ يُعَنْوِنُ المحور الثالث.

المحور الثالث: ألا يؤيد هذا التفسير الافتراء الذي ذكرته في المقدمة، وهو رواية القرآن بالمعنى، تمهيدا للطعن في صحته؟

والجواب: أنّ الأحرف السبعة ليست من اختيار العرب القارئين للقرآن، بمعنى أنّها ليست ذات منشأ أرضي بل هي منزلة من الله المنزل للقرآن. يؤيد ما قلنا فقرات عدة في الأحاديث المذكورة، وها هي بعضها:

. (فأمرهما رسول الله فقرآ فحسن النبي شأنهما. ثم قال: يا أبي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي).

. (من أقرأك هذه السورة قال أقرأنيها رسول الله قلت له كذبت فوالله إنّ رسول الله أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها..).

. (قال رسول الله هكذا أنزلت ثم قال رسول الله: إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه..).

. (فأتاه جبريل عليه السلام فقال إنّ الله يأمرك أن تُقرأ أمتك القرآن على حرف فقال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك..).

. (إنّ الله يأمرك أن تُقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف).

. (فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا).

نجد كل العبارات تؤكد على كلمة الإنزال التي لا يخفى معناها الاصطلاحي القرآني. كذلك فإنّ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها أمته، وإقراره لها يؤكد أنّ حكمها حكم أيَّةِ لفظة في كتاب الله الكريم. وهذا يقطع الاشكال والافتراء بأرضية مصدرها لتوظيف هذه الفكرة ضد دين الإسلام. والفكرة لا بد من أن تلد تساؤلا هو عنوان المحور الرابع.

المحور الرابع:
أين ذهبت تلك الأحرف؟ وهل تلك الخيارات باقية حتى الآن؟

والجواب: إنّ الأحرف السبعة كانت تخفيفا لمن أُنزل عليهم القرآن أول مرة، وهم جيل الصحابة عليهم رضوان الله. ولما استقامت بالقران ألسنتهم، وتعمقت بمعانيه عقولهم، نُسخت تلك القراءات (المؤقتة) .. وكيف نُسخت؟

إنّ جبريل كان يُعارض النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن كل سنة مرة في رمضان. ولما حانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين، وعلم منها نبينا دنو أجله. جاء في مسلم عن عائشة وهي تحاور فاطمة في شأن موت النبي صلى الله عليه وسلم: (حَتَّى إِذَا قُبِضَ سَأَلْتُهَا فَقَالَتْ إِنَّهُ كَانَ حَدَّثَنِى: (أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ فِى الْعَامِ مَرَّتَيْنِ وَلاَ أُرَانِى إِلاَّ قَدْ حَضَرَ أَجَلِى وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِى لُحُوقًا بِى وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ)).

ولقد كانت العرضة الأخيرة على حرف واحد وهو لهجة قريش، وهي التي كان بها جمع القرآن الكريم أيام عثمان رضي الله عنه.

قال أبو عبد الرحمن السلمي: (قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنّه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يُقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتْب المصاحف).

ويقول ابن تيمية تعليقاً على هذه المسألة: (فإنّه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أنّ جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه بن مرتين والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره وهي التي أمر الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف، وإرسالها إلى الأمصار).

مما تقدم يتأكد أنّ العرضة الأخيرة وهي التي حواها مصحف عثمان، بناء على أمر كبار الصحابة، وفيهم زيد الذي شهد العرضة الأخيرة، قد نَسَخت كل ما كان مأذونا به قبل ذلك.

لكن هناك فكرة أهم من قضية النسخ ويجب تأكيدها، واستيعابها جيدا لأنّها توصد باب شر على أمة الإسلام. هذه الفكرة هي أنّ الله لما شاء أن تكون لهجة قريش هي الباقية إلى قيام الساعة، مع ترك ما سواها، اقترنت قدرته مع مشيئته وهو القادر على كل شيء، في أن يستل كل الأحرف المنسوخة من صدور الصحابة رضي الله عنهم، ليحمي كتابه من أي تشويش يمكن أن يثيره المغرضون في أي زمان. وقد يقول قائل قد لا يقتنع المغرضون أو يصدقون، أقول نحن يُهمنا أن يقتنع ويصدق المسلمون، وألا يكونوا سماعين كما ذكرت في المقدمة.

ومن حق من يقرأ هذه السطور أن يسألني عن الدليل على أنّ الأحرف الستة المنسوخة قد استلت، فأقول إقرؤوا كل الأحاديث المذكورة في هذه المسألة وفيها جدال الصحابة حول اختلاف القراءات، إلى حد قول وفعل عمر رضي الله عنه: (فكدت أساوره في الصلاة فانتظرته حتى سلم ثم لببته بردائه أو بردائي) (ساوره: واثبه وَأخذ بِرَأْسِهِ فِي العراك). لكنّكم لا تجدون مثالا أو ذكرا للقراءات التي اختلفوا فيها، رغم أنّ الصحابة مشتهرون بدقة النقل وحسن البيان، والأهم أنّهم ينقلون احتكامهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعقل أن يكون الاحتكام دون ذكر الأمر المختلف فيه..؟ أمر غيبي، وقدرة إلهية، ووعد رباني، بأن يحفظ الله كتابه، فما على عقولنا إلا التصديق وترك المماحكة. وليرجع كل منا إلى قول الله تبارك وتعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

قال القاسمي في تفسيرها:
(أَوْ نُنْسِها أي: نُذهبها من القلوب).

وقال السعدي: (أَوْ نُنْسِهَا أي: نُنسها العباد، فنزيلها من قلوبهم).

وقال ابن عاشور: (أَيْ نُنْسِ النَّاسَ إِيَّاهَا).

وتؤكد الأحاديث المعنى نفسه .. فقد ذكر الشوكاني في تفسيره عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: (أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ مَعَهُ سُورَةٌ، فَقَامَ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَامَ بِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَقَامَ آخَرُ يَقْرَأُ بِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، وَقَامَ آخَرُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَأَصْبَحُوا فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: (إِنَّهَا نُسِخَتِ الْبَارِحَةَ)) .

كما ذكر في أكثر التفاسير، ما أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
(قَرَأَ رَجُلَانِ سُورَةً أَقْرَأَهُمَا إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَا ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيَانِ فَلَمْ يَقْدِرَا مِنْهَا عَلَى حَرْفٍ، فَغَدَيَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُمَا: (إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ وَأُنْسِيَ فَالْهُوَا عَنْهَا)).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ وغيره: هَذَا الْحَدِيثُ فِي سَنَدِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. ولقد أوردت الحديث مشيرا إلى ضعفه، لكنّه يشهد لمتنه الأحاديث الأخرى الصحيحة. فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ: (أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا فِي بِئْرٍ مَعُونَةَ: أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنَّ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا) ثُمَّ نُسِخَ.

وَهَكَذَا ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عن أبي موسى: (كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ ببراءة فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَهُ إِلَّا التُّرَابُ)) . (وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ، أَوَّلُهَا: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ) فَأُنْسِينَاهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبَ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُوا عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنْهُ آيَةُ الرَّجْمِ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وأحمد، وابن حبان عن عمر.

المحور الخامس: نستفيد من البحث السابق أن نتعرف على صفة من صفات الرعيل الأول الذين زكاهم الله في قرآنه، والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته، إنّهم الصحابة النقلة العدول لهذا الدين، والحماة المؤتمنون على وحي السماء، كم كانوا متيقظين من أجل سلامة الدين وعدم التبديل والتحريف فيه حتى مع من ليس بمظنة لذلك أعني الصحابة. فحين يجدون اختلافا مهما كان يهرعون للاحتكام إلى نبيهم ليدفعوا عن الدين ما يفسده، فلا يجاملون ولا تأخذهم في الحق لومة لائم. بل إنّ غيرتهم العظيمة على هذا الدين تظهر في مثل قول عمر: (فكدت أساوره في الصلاة فانتظرته حتى سلم ثم لببته بردائه أو بردائي).

وبعد، فلعلي وفقت في تجلية مسألة كثير خفاؤها، قليل طرحها، بين المسلمين، لكنّها غرض مستهدف لأعداء الإسلام، يدخلون من خلاله الحيرة والتشكيك وفقدان الثقة، إلى عقول بعض المسلمين .. وإنّي اعتبر دائماً أنّي أطرح موضوعات أمام دعاة يستمعون ويعون ثم يؤدون إلى الآخرين، وبذلك نقوم على حراسة هذا الدين، ودعوة الناس إلى ما دعاهم إليه نبيهم دون تحريف أو تبديل.

والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين…