Skip to main content

هَلْ قَامَتِ الحُجَّةُ؟

By الخميس 4 رمضان 1437هـ 9-6-2016ممحرم 21, 1441دراسات

خُلق الإنسان، وقُدِّرَ أن تكون حياته على الأرض، يوم قضى الله هبوط أبينا آدم من الجنة إلى الأرض، واقترن ذلك الهبوط بإرادته سبحانه أن يكون الإنسان مخلوقا مُكَلَّفاً على الأرض (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى). وربنا عادل
لا يظلم مثقال ذرة .. ولا يكلف إلا بعد أن يرشد ويهدي .. ولا يحاسب إلا بعد أن تقوم الحجة على العبد (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، والنصوص على ما ذكرت من عدل الرحمن أكثر من أن تحصى، وقد اخترت نصين قويين في دلالتهما على المطلوب:

في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعة يوم القيامة يدلون بحجة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ومن مات في الفترة، فأما الأصم فيقول: يارب جاء الإسلام وما أسمع شيئا. وأما الأحمق فيقول: جاء الإسلام والصبيان يقذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإسلام وما أعقل، وأما الذي مات على الفترة فيقول: يا رب ما أتاني رسولك، فيأخذ مواثيقهم ليطعنه، فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما).

وفي رواية ثانية: (يؤتى بأربعة يوم القيامة؛ بالمولود، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، والشيخ الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: ابرز، فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم، ادخلوا هذه، فيقول من كتب عليه الشقاء: يارب! أين ندخلها ومنها كنا نفر؟ قال: ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا، قال: فيقول تبارك وتعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية ، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار).

يُعطَى العبدُ فرصَته حتى اللحظة الأخيرة، كي يعلم قبل أن يُقضى عليه أنّه ليس بمظلوم، وأنّه يلقى ما يلقى بما كسبت يداه، ويعفو عن كثير .. ذلك هو الشأن يوم القيامة، كما قال ربنا: (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ). والشرائح الأربع في الحديثين السابقين، لكلٍّ مقالٌ مسموعٌ، ودفاعٌ مقبولٌ، بين يدي الرحمن، ثم يُخضعون لامتحان، وهم في عرصات القيامة، فرصة لا يحظى بمثلها غيرهم، ما داموا محقين في دعواهم، لتقوم عليهم الحجة. (فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). فالسؤال المحوري في هذا الموضوع، وفي الحياة كلها (هل قامت الحجة …؟)، فإلى التفاصيل:

ولنبدأ بالعنوان الأول: بمَ تقوم الحجة على العبد؟

تقوم الحجة على المكلفين، بأمور ثلاثة؛ إثنان في عالم الغيب، والثالث في عالم الشهادة. وهي: الميثاق الأول ..
الفطرة ..
الحجة الرسالية.

أولاً: الميثاق الأول

الميثاق الأول: هو الذي واثَقَ الله به عباده حين أخرجهم من ظهور آبائهم، ثم استنطقهم، وهو القادر على كل شيء، ليجيبوا عن سؤال محدد طُرح عليهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُم) وكان الجواب (بَلَى) .. ودليله من كتاب الله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).

ودليله من الحديث النبوي: (إن الله تعالى يقول للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا؟ فيقول: نعم. فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي.(

ولفائدة عابرة أقول: لمّا اختلفت الألفاظ بين الآية والحديث؛ ففي الآية: (أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ
)، وفي الحديث: (قد أخذت عليك في ظهر آدم…)، فأخذت بعض المفسرين والمتكلمين المآخذ، حتى جعل بعضهم القصة مجرد مجازٍ، وليست حقيقة. والصحيح أنّها حقيقة، والألفاظ المختلفة تدل على شيء واحد، فاستخراج ذرية آدم من صلبه هي استخراج للأجداد والآباء والأبناء والأحفاد، فجاء التعبير في الآية بالمفصل، وجاء في الأحاديث بالمجمل .. يقول الشوكاني في فتح القدير: (وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ عَالَمُ الذَّرِّ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ وَلَا الْمَصِيرُ إِلَى غَيْرِهِ لِثُبُوتِهِ مَرْفُوعًا إِلَى النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَمَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مُلْجِئَ لِلْمَصِيرِ إِلَى الْمَجَازِ، وَإِذَا جَاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ).

ثانياً: ميثاق الفطرة

وكلمة الفطرة يعلمها كل مسلم لفظاً، ويخفق الكثيرون في فهم محتواها ودلالتها .. ولتقريب دلالتها أقول: إنّ الله تبارك وتعالى أودع بل ركّب في أصل خلق المخلوقات ميولاً ونوازع لا يماري ولا يجادل فيها أحد لوضوحها واقعاً، تسمى أحيانا غريزة وأحيانا فطرة، والفطرة هي اللفظة القرآنية والنبوية .. كغريزة حب الحياة، غريزة الأكل والشرب، غريزة حب التملك، غريزة الميل إلى الجنس الآخر … وتلبية هذه الغرائز عند كل المخلوقات ليس اختيارياً ولكنّه اضطراري، وبعض المخلوقات تقاتل من أجل ذلك..! نضيف الآن أنّ ذرية آدم عليه السلام من دون سائر المخلوقات، خُصَّتْ بفطرة، تخدم مهمة الاستخلاف في الأرض، وتعين على حسن إنجازها. وهذه الفطرة لها آلية الفطر السابقة في تأثيرها القوي وضغطها على النفس البشرية، وهي فطرة الدينونة لله، وحب الحق والبحث عنه. يؤكد موضوع الفطرة نصوص كثيرة منها :

. (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

. وفي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

وفيه أيضاً: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا).

ومن رحمة الله بعباده أنّ هذين الميثاقين، وهما من عالم الغيب ليسا الحجة التي يُحاسَبُ عليها العباد ويُعَذَّبُونَ بمخالفتهما، وإنّما هي دليل لقطع معذرتهم .. والله تبارك وتعالى لم يشأ أن يأخذ عباده بِهِمَا فقط، من أجل إعطائهم أوسع فرصة ليكونوا مهتدين. وقد شاء بحكمته تبارك وتعالى ورحمته أن يعززهما بثالث من عالم الشهادة.

ثالثاً: الحجة الرسالية

وهي ما جاءت به الرسل، وأُنزلت به الكتب، تجديداً وتأكيدا وتذكيرا بالميثاقين السابقين (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

فتصبح الحجة قائمة على العباد من ثلاث جهات؛ بالشهادة على أنفسهم قبل أن يُخلقوا، والفطرة التي ركبت في أصل خلقهم، وهذان ليسا من عالم الشهادة، ثم أخيراً بإرسال الرسل وهو ما اصطلح العلماء على تسميته (بالحجة الرسالية). والحجة الرسالية هي من عالم الشهادة يعيها الناس حق الوعي، وهي التي تذكرهم بالميثاقين المأخوذين في عالم الغيب، وقد جُعل التكليف بها، والحساب عليها، بعد سن البلوغ، وهو اكتمال الوعي. فالأصل أنَّ كل مخلوق من ولد آدم يولد منفتحاً على قبول الحق الذي يأتيه من الله، بل والبحث عنه كبحثه عن الطعام والشراب والجنس، إذا ما جرّد نفسه من العوارض والصوارف، التي تدخل على فطرته فتفسدها، أو تطمسها.

وقد استشهد الله على عباده، بخصوص التزامهم بما يأتيهم عنه تبارك وتعالى في الميثاق الثالث، الحجة الرسالية، وهي في عالم الشهادة، الملائكةَ (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، ولنقرأ كذلك قوله: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

كما يشهد على الناس شهداء من أنفسهم، لا يتوقعونها، ففي الكتاب الكريم: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

وفي الصحيح: (يقول العبد يوم القيامة: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لَكُنَّ وسُحقا، فعنْكُنَّ كنت أناضل).

فالناس، إذن، مفطورون جميعاً على التوحيد، وعلى معرفة الله، وعلى التوجه بقلوبهم إلى الله، وعلى تعظيم الله بمقتضى المواثيق الثلاثة السابقة. وكل ذلك يصل بهم إلى الطاعة والعبادة، وذلك هو توحيد الألوهية (توحيد الله بأعمال العباد). وعن ذلك كله سيسألون، وبأعمالهم مجزيون.

العنوان الثاني: كيف تقوم الحجة؟

أما في الميثاقين الأول والثاني؛ فالحجة قامت في عالم الغيب. إذن، سؤالنا: كيف تقوم الحجة؟

لا بد أن يكون محصوراً في قيام الحجة على المكلف، بخصوص ما جاء في الحجة الرسالية، المتممة والمؤكدة والمُذكرة بالميثاقين الأولين، من أحكام شرعية في الكتاب والسنة، ومحلها عالم الشهادة، حال الوعي التام من المكلفين. وموضوعها موقف المكلفين مما جاء به الرسول من التكاليف؛ هل قبلها العبد أم ردَّها، وهل طبقها أم تجاهلها، وذلك هو بيت القصيد في الموضوع.

مسألة جِدُّ خطيرة في حياة المسلمين اليوم، وقد كثرت الصوارف، وتعددت الطروحات والآراء، مع تنامي يسر التواصل بين البشر، وانتشار الفضائيات، فصار الكلام في القضايا الدينية كلأً مباحاً لمن يحسن ومن لا يحسن، ولا رقيب، ولا وازع .. ورَقَّ تدينُ الناس فصاروا يبحثون عن أضعف الأقوال ليسرها، ويتلقفونها بغض النظر عن مصدرها، وهو ما سيسألون عنه عند الله، لأنّ الأصل في المسلم أن يبحث عن صحة القول وليس عن يسره، وأن ترد الأقوال إلى الأدلة، فبالأدلة وحدها، تبرؤ الذمة. والفكرة المفصلية في الموضوع التي يجب على كل أحد أن ينطلق منها أنّ الحجة في الدين: قال الله، وقال رسوله.

وليس لأحد من بني البشر أدنى سلطة في الدين، إلا لناقلٍ عن المصدرين السابقين (الوحيين)، فتكون الحجة في ما يُنْقُلُ وليس في الناقل .. وحتى لا يستعظم أتباع المشايخ، ومقلدو الرجال، هذا الكلام. أقول الآتي مقيماً الحجة على من هذا حاله..! فأقول: هل في البشر إلى قيام الساعة من يسبق شأو الصحابة رضي الله عنهم في الفضل والدين؟ والجواب قطعا لا. ومع ذلك فقد جُعلت الحجة على الناس في ما ينقله الصحابة رضوان الله عليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العدول الثقات، وليس في غير ذلك، ولخص علماء الإسلام القضية في العبارة الآتية: (نحن متعبدون بما روى الصحابي لا بما رأى أوفعل). والحجة عند الله تقوم بأصلين: النذارة، والبلوغ. وهذا مأخوذ من قوله تعالى حكاية عن رسوله عليه الصلاة والسلام: (وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).

تفكر أيها المسلم فيما ينجيك عند الله، واحرص على ذلك، ولا يَغُرَّنَّك، أنّك تكسب جولة أرضية في مناقشة أو مشادة، في جلسة جدال بغير حق..! وما أكثر هذا بين المسلمين اليوم. لقد انتشر في كثير من لقاءات المسلمين في تزاورهم، ما أسميناه في مذاكرة مع بعض الإخوة (إسلام الصالونات)..! يلتقي أصدقاء، وأقارب، ويزعمون حرصهم على جدية اللقاء، واستثماره معرفياً، عن طريق مناقشة قضايا إسلامية مثلاً، يلتقطونها، من الفضائيات، أو الفيسبوك، ويبدؤون الخوض فيها، كل من موقع انتمائه، وكلها انتماءات أرضية، ويغيب تماماً، موقع الانتماء العلمي الصحيح، الذي يقدم النص من الوحيين، الكتاب والسنة، والذي يحسم الجدال لصالح الحق
المنزل .. ولغياب هذا، يطول الجدال، ويعلو الصراخ، ثم ينفض المجلس عن مزيد من الاختلاف، ويقومون عن مجلس ملؤه الفوضوية، والانحياز والبعد عن الحق. أما أن يُحَوَّل أسلوب (إسلام الصالونات) إلى لقاءات خيرة يُستَحْضَر إليها العلم وأهله، ليعيش الجميع في خير مجلس، ويخرجون بخير النتائج..؟ ففي صحيح مسلم: (لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ). هذا حال من يريدون الله والدار الآخرة .. أما من يريد الانتصار لحظ النفس، وجهة الانتماء، ويخوض من أجل ذلك مع الخائضين، فهي حركات أرضية، لا تزيد أصحابها من الله إلا بعداً .. أوليس هؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ).

وليعلم كل أحد أنّ الحجة تقوم عليك يا عبد الله، عند الله، وأنت في مجلس تنتصر فيه لغير الحق، وقد علا صوتك، وانتفخت أوداجك، حين تُطْرَحُ آيةٌ أو حديثٌ أو عبارةٌ منهجيةٌ، في خضم الجدال، وأنت غارق في نشوة انتصار موهوم، يقولها من الحاضرين من لا تراه ولا تسمعه، لأنّك لا تلقي له بالا، لمخالفة هواك لما هو عليه.

وقد تكونُ تراقبُ على قناة حواراً، أو تتابع محاضرةً، بعين الناقد المخالف لما هو مطروح، ويمر في تضاعيف الحديث، نصٌ، أو كلامٌ لعالم، فتقومُ عليك بما سمعتَ، مما لا تراه يناسب موقفك، الحجةُ وأنت لا تدري … لا تَرْكَنَنَّ كثيرا إلى عقلك وذاكرتك، فهي ليست من دواوين الحق .. ويُحْصَى عليك كلُّ شيء، وأنت في غفلة (يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) (أحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوْهُ).

بل أشد من ذلك، في كل كتاب مطوي عندك، لكنّك لا ترجع إليه، وفي كل بحث، أو ملف في النت، فيه لك نفع في أخراك، وبينك وبينه ضغطة زر، لكنّك بلا اكتراث تمر عليه .. أجل، في كل ذلك، حُجةٌ بل حُججٌ قائمة عليك..! إنّ حال كثير من المسلمين ينتظر أن يؤتى بالحق إلى بابه، وإلا فلم يبلغه، ولم تقم عليه الحجة، هكذا يظن، وذلك ظنه الذي أرداه .. أليس قول ربنا: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً) يتصل بمثل هذا الحال، كأنّ من الناس من ينتظر أن تأتيه بطاقة دعوة، مزخرفة مذهبة، منمقة مرتبة، باسمه خاصة، تدعوه (لِيَشْرُفَ) به الحق..! ولندقق في قوله تعالى واصفا الصحف بأنّها (مُنَشَّرَةً)، أي مفتوحة غير مطوية، فليسوا على استعداد لبذل أي جهد من أجل الوصول إلى الحق .. وكَأيِّنْ من واحدٍ في الناس، يرى الانضمام إلى ركب الحق تشريفاً وليس تكليفاً، اختياراً وليس اضطراراً..! فلذلك يرى عن الحق معرضاً.

يا عبد الله، جوالك الذي لا يفارق راحتيك، فيه الحجج القائمة عليك، وأنت عنها معرض. وكذلك في حاسوبك الذي توظفه لشتى أنواع المعرفة، إلا ما يخص الدين، وتظن الحجة لم تقم بعد..! فيا لَلْبُؤس..!

ومن صميم الفكرة، التي حولها ندندن، أن لا نكون غافلين أو متغافلين عن حقيقة كبرى، وهي أنّ دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم وأصولها من الكتاب والسنة، لن تصل الناس وتُغَيِّرَهم دون جهدِ ودورِ العلماء والدعاة .. وإنّ القرآن الكريم، وأسفار سنة محمد صلى الله عليه وسلم، لن تنطق وهي على أرفف المكتبات، ولن تنادي الناس أن هلموا إلى ربكم. ولا يخفى على أحد أنّ سلف الأمة هم الذين حملوا الدين ولولاهم ما كنا مسلمين، أوليسوا لنا قدوة..؟ يكفي أن أذكركم بأحاديث عن نبيكم صلى الله عليه وسلم حمَّل فيها كلَّ منتسبٍ له ولأمته، أمةِ الإجابة، حملاً ثقيلًا، وواجباً عظيماً، يظهر لنا جليا في مناقشة الموضوع الذي بين أيدينا:

. (بلغوا عني و لو آية).

. (نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه).

. (تَسْمَعُونَ ويُسْمَعُ مِنْكُمْ ويُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ).

ومن تمام سرد هذه النصوص، ومن زيادة البيان لها، أن أشفعها بمثلٍ بشريٍ، من واقع الجيل المسلم الأول .. قصة إذا ما قورنت بالتراخي والتقاعس الذي عليه المسلمون اليوم، لَعُدَّتْ محض خيال، أو أسطورة..! لكنّ ذلك حدث فعلاً، وكأنّه المعجزة، يوم كان الناس يستشعرون المسؤولية التي حملهم الدينُ إياها، مهما كانت التكاليف، ولا رقيب، ولا وازع إلا خوف الله ونيل رضاه:

عن جابر بن عبد الله: (أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فابتعتُ بعيراً، فشددتُ إليه رحلي شهرا، حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أن جابرا بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله ؟ فقلت نعم، فخرج فأعتنقني، قلت: حديث بلغني لم أسمعه؛ خشيت أن أموت أو تموت، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد – أو الناس- عراة غرلا بهما)، قلت: ما بهما؟ قال: (ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد) أحسبه قال: كما يسمعه من قرب: (أنا الملك، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة. ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة). قلت: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة بهما؟ قال: (بالحسنات والسيئات)).

ولنضف إلى القصة بعض حواشٍ تظهر عظيم العبرة فيها:

جابر بن عبد الله كان من فقراء الصحابة وذا عيال. وما تظنون بفرد يسافر من المدينة إلى الشام ويرجع وحده، هل تلك الرحلة مظنة سلامة، أم هلاك؟ ومن الذي كلف جابرا بهذه المهمة، بل المغامرة القاسية في كل شيء، غير طاعةِ الله ورسوله (بعد موته)، ونصرةِ هذا الدين بحفظ ثاني أصوله، الوحي الثاني
سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هل قال جابر رضي الله عنه لنفسه (أليس في المدينة من صحابة رسول الله غيري…؟) فأعفى نفسه واستراح..! فأين نحن من أولئك..؟

فيا أتباع محمد .. ويا أمة محمد .. ويا إخوان محمد (وددت أني لقيت إخواني، فقال أصحابه: أو ليس نحن إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)، هل سمعنا وأسمعنا..؟ وهل سمعنا وحفظنا، وبلّغنا فاستحققنا دعوة نبينا أن تُنَضَّرَ وجوهنا..؟ وهل شرُفْنا وأبرأنا ذممنا بأن نُبَلِّغَ عن نبينا ولو آية..؟ وهل نحن اليوم عند حسن ظن نبينا بنا، يوم نعتنا بأنّنا إخوانه، وهو يتمنى لو يرانا، فأثار غيرة أصحابه منا..؟ إنّي أقول دائماً، مستدلا بالأحاديث السابقة:

إنّ الدعوة إلى الله واجب عيني على كل مسلم على قدر استطاعته، وهذا القيد المخفف مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم (بلغوا عني ولو آية) ولم يقل بأبي هو وأمي (بلغوا كل ما تسمعون)، وإذاً لكانت ذريعة للمتقاعسين بعذر العجز .. هل يدرك كل مسلم اليوم أنّ أوامر نبيه تلاحقه، وأنّ أعداداً من أهل الأرض معلقون بعنقه ينتظرونه أن يأخذ بأيديهم إلى مرضاة خالقهم والاستجابة لنبيهم .. فكيف العُمُرَ تقضون..؟ وما أنتم لربكم قائلون..؟ ومتى ذممَكُم تبرؤون..؟

أما أنت أيها المكلف، فهل وعيت أن يكون من أولويات اهتمامك، أن تعلم أنّ الحجة قد قامت عليك عند الله، وأنك ستسأل..؟ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) .. وأنّ أشقى الناس من يقدم على ربه يظن لجهله، أو لكِبْرٍ عنده، أو لغرورٍ غرَّه، أنه من الناجين، فإذا به يجد نفسه يقول في عرصات القيامة: (يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) و (يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)..! وهيهات هيهات..!

أيها المسلمون .. إنّ المسؤولية الملقاة على عواتقنا جسيمة وثقيلة، وكونها في زمن الغربة، فهي أثقل وأصعب، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً: (أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ) . (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ..
كفانا ما صرنا إليه، وحسبنا إخلادٌ إلى الأرض، وتلونٌ في الدين، فدينُ الله واحد ..
إنّها مسؤولية الدعوة على بصيرة، والتربية والتصفية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الأنفس والأهواء في ذات الله، فذلكمُ هو الطريقُ لبعث أمةٍ غائبةٍ غثائيةٍ، شردت عن منهج الوحيين، فألبسها الله لباس الذل، والخوف والجوع، وتداعت عليها الأمم من كل أقطار الأرض..! طريق الخلاص واضح .. والمخرج مما فيه المسلمون واحد .. فَلْنَدَعِ الجَدَلَ، ولْنُرِ الله من أنفسنا..! والحمدلله أولا وآخرا