Skip to main content

فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا

By الأحد 23 محرم 1441هـ 22-9-2019مدراسات

حديثان صحيحان، عمن لا ينطق عن الهوى، كلما قرأتهما وتدبرتهما، يُخَيَّل إلي أنّ النبي عليه السلام ما قالهما إلا لمعالجة الواقع المعاصر المتردي، الذي يعيشه المسلمون اليوم. وأقول يُخَيَّل إليّ، حتى لا أجزم على أمرٍ غيبيٍ، في مسألة، فيها للاجتهاد سعة. هما حديث افتراق الأمة المعروف، وحديث الحوار العظيم، بين النبي صلى الله عليه وسلم والصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، الذي يبدأ بـــ (كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى). وأسميته حواراً عظيماً، لأنّه بالرغم من ضغط عباراته، إلا أنّ في طياته حلولاً نبوية، لأسوأ ما أصاب ويصيب الأمة الإسلامية من هوان وانحدار وفقدان الذات، وبُعدٍ عن الله.

والحديثان يتّحدان في أنّهما يُعالجان حالات انتكاس في الأمة، ويضعان الحلول الشرعية، وبينهما تكامل في الموضوع والمعالجة. وينبني على كل ما قيل، أنّ المسلم الذي فاته الحديثان وفقههما، أو الجماعات التي يفوتها الحديثان وفقههما، إن كانوا يزعمون التصدي لمعالجة واقع المسلمين المرير، فإنّهم، يقيناً، قد ضلوا طريق الحل الناجع، ما داموا يطلبونه خارج الحديثين المذكورين.

أمَّا، والحديثان بهذه المثابة من الأهمية، فلتكن لنا وقفات، وقد تطول، مع توجيهاتٍ، بل أوامرَ نبويةٍ موجهةٍ في هذين الحديثين، إلى عقلاء وعلماء الأمة، وللمسلمين أجمعين، لتكون، بإذن الله، وسيلة الخروج من محنٍ وفتنٍ، أحاطت بالمسلمين من كل جانب.

والرسول الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، يُحاور خاصة من خواصه، من الصحابة، وهو حذيفة بن اليمان، وقد اشتهر بين الصحابة أنّه كاتم أسرار النبي صلى الله عليه وسلم. والقاعدة الأصولية تقول: (إنّ خطاب فرد من الأمة خطاب للأمة كلها، إن لم يقم على الخصوصية دليل). ومن كمال هذا الدين، أنّ الله تبارك وتعالى يُلهم صحابياً، وقد يكون أعرابياً، مسألة ما، ليطرحها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستفسراً ومستعلماً، فيعم بيانها، وتنتفع بها الأمة إلى قيام الساعة. وكل ذلك محفوظ بحفظ الله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). وهل هذا إلا بعضاً، مما توحي به الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). ولعل القضية التي حاور بها حذيفة رضي الله عنه، رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضية من أخطر القضايا التي تواجه الأمة الإسلامية. إنّه استشراف في غاية الدقة تحليلًا، والإيجاز عرضاً، من النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه للمستقبل، وللمراحل التي ستمر بها أمة الإسلام إلى قيام الساعة، مع الحلول الشرعية التي لا تقبل الأخذ والرد، لأنّها تصدر عمن لا ينطق عن الهوى. وأقول إنّ هذا الحديث واحد من الكنوز التي تذخر بها السنة، وللأسف فإنّ السنة غريبة بين المسلمين اليوم، والمسلمون غرباء عنها. بل إنّ الضعيف والموضوع، من الأحاديث قد أخذت مكان تلك الكنوز، في عقول، وقلوب، وواقع المسلمين، فأورثتهم ضياعاً وتيهاً، في عالم متلاطمٍ بأمواج الباطل والإلحاد! وصارت أحوال المسلمين في تردٍ مستمرٍ، لأنّ الأدواء تفعل فعلها فيهم، والدواء محجوب عن الناس بجهلهم، وبُعدهم عن السنة والهدي، وعن أمثال هذه الأحاديث والتفقه فيها.

ويحسن، في البداية، أنْ نستعرض الحديث كاملاً:

عن أَبَي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىَّ يَقُولُ: (سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: (نَعَمْ) فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ). قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِى وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ). فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: (نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: (نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ). فَقُلْتُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)).
والحديث في الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة.

تستوقفنا في الحديث محطات عدة، لا بُد من الوقوف معها ملياً، واستيعاب كل ما فيها من تعاليم وأوامر نبوية، ومحاولة إسقاط كل ذلك على الواقع. والحديث، ولا شك، يُحدثنا غيباً، عن أوضاع نُعايشها اليوم بكل الأحاسيس، وكل المعاناة، وكل المرارة والألم. ومن الضياع والتضييع، ومن العبث أنْ نَتَطلَّب الحل في غير مظانه، فيطول العمل والمعاناة، ويزداد السوء، ولا يتحقق تغير أو تقدم. ومن عجبٍ أنْ يتيه التائهون، ويضل الضالون، والحل النبوي بل الإلهي بين أيديهم، حتى صدق فيهم قول الشاعر:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول

وقبل ذلك تصدق فيهم الآية: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)، فإلى بعض الوقفات إنْ شاء الله…

أولاً: إمعان النظر في الحديث يجعلنا نخرج بفكرة هامة، وهي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم استعرض مع حذيفة رضي الله عنه، وبناء على تساؤلات الأخير، صروف حياة أمة الإسلام؛ بدءاً من ظهور الإسلام إلى أسوأ الأحوال التي يُمكن أنْ تصل إليها الأمة، وهي غياب الإمام والجماعة! ونلحظ لدى التمعن بالحديث، أنّ كل حالٍ سيءٍ في الأمة، يتفاقم ليفضي إلى ما هو أسوأ من بعده، إنْ لم يعالج في حينه، حتى تصل الأمة الحضيض. والحديث يُقدم لنا، أول ما يُقدم، نموذجاً بشرياً مسلماً فريداً، يُخالف في آلية تفكيره أكثر الناس. فأكثر الناس يميلون إلى أنْ يسألوا عن الخير ليفعلوه ويتعرضوا له، ثم يخلدوا إلى السكينة وتنتهي المهمة عندهم، وحذيفة وهو النموذج الفريد يسأل عن الشر، لإعداد النفس والعدة لتوقيه، وعدم الوقوع فيه. فالأمر لدى حذيفة رضي الله عنه، ليس أن يفعل ما أُمِر به ثم يستريح، إنّما الهمُّ عنده أن يفعل ما يؤمر به، ويتبعَه بعمل ما يحفظ ذلك العمل من الغِيَرِ، ويصونه عن الانتكاس.

ولا شك أنّها حالة من الشفافية، والخشية لله، وحمل الهمّ الإسلامي،
همّ الأمة كلها، وهي نادرة في المسلمين فعلاً، لأنّها تحتاج إرادة في مجاهدة النفس، وتفاعلاً إلى حد التماهي مع النصوص، وذوباناً كاملاً في قضايا الأمة، كل ذلك يوصل إلى حالة من الخوف من الحاضر والقلق على المستقبل، التي كان يعيشها حذيفة رضي الله عنه، والتي ينبغي أنْ يعيشها كل مسلم، لكي يأمن مكر الله. ومثل هذه الواقعة لا تكون فقط بين يدي النبي عليه السلام وهو حي، بل تتكرر مع كل مؤمن إلى قيام الساعة، فالمجال مفتوح دائماً لجلسة بين يدي سنة النبي وهديه لحوارهما.

أقول إنّ بعض الناس قد لا يقبلون، أو لا يفهمون كيف يمكن أنْ يحاور الإنسان نفسه! ولا يُنكر أنّ حوار النفس أسلوب من أساليب الوصول إلى الحق، وأؤكد هذه الحقيقة باستدعاء آية يغفل الكثير عنها وعن معناها: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)، وجميل أنْ أذكر لكم تعليقين من كتابين في التفسير على هذه الفكرة الهامة، التحريروالتنوير لابن عاشور: (فإنّ المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرْضَ لها بغير النصح، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنّما يختار ثانيه أعلق أصحابه به، وأقربهم منه رَأياً فسلم كلاهما من غش صاحبه).

وظلال القرآن: (مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي، فيغير تأثره بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء، وفرادى مع النفس وجها لوجه في تمحيص هادئ عميق).

ولما ذكرت في الفقرة السابقة، أنّ الجلوس بين يديي النبي الكريم لحواره كما فعل حذيفة، لا ينتهي بموت النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو مفتوح إلى يوم القيامة عن طريق حوار سنته وهديه. وأزيد على هذه الحقيقة أنّ حذيفة ليس حالة نادرة في المسلمين لا تقبل التكرار، وإنّما تُذكر للإعجاب والثناء فحسب. لا وألف لا، إنّ النصوص التي أوجدت تلك الظاهرة البشرية الفريدة، وشكلت تلك النفس العالية، لا زالت هي نفسها بين أيدي المسلمين إلى قيام الساعة، فما الذي يمنع من تكرار تلك الظاهرة..؟ بل ما الذي يُعين على إيجادها..؟ إنّها الشفافية، والإرادة القوية، والصدق مع الله ومع النفس. ويحضرني الآن نماذج للنصوص التي تربت عليها وعلى أمثالها تلك النفوس الكبيرة. أورد منها ثلاثة للتمثيل وللاعتبار، وقيام الحجة على الجميع وليس للحصر:

. (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُون فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمّ َتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَاكَسَبَت وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). ومعلومٌ أنّ الراجح أنّ هذه الآية هي آخر ما أنزل من القرآن الكريم، ولذلك دلالة هامة لا تخفى.

. (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِين هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِم يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَايُشْرِكُونَ (59)وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَاآتَوْا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِم رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).

وعندما تتلى هذه الآيات، يُعين على فهمها وتمثلها أنْ نذكر حواراً بين نبي الأمة عليه السلام وبنت الصديق رضي الله عنها:

عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتونَ مَا آتوا وقُلوبُهم وَجِلَةٌ) أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: (لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)).

وتلك الآيات إنْ لم تكن تُورث خشية الله في النفوس، والخوف من وقفة للحساب، بين يديه تبارك وتعالى، فما ذا تورث؟

ولقد قرأت نصوصا كثيرة في باب خشية الله، لكن النص الذي ينخلع له القلب، وتذوب له النفس، ويهتز له الكيان والوجدان هو الآتي:

عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى). والحلس، كما في لسان العرب: (كل شيء وَلي ظَهْر البعير والدابة تحت الرحل والقَتَبِ. ويقال لِبِساطِ البيت الحِلْسُ).

جبريل كبير الملائكة، والملائكة لا تكليف عليهم ولا حساب، ومع ذلك فتلك حال جبريل عليه السلام. أما نحن فأين موقعنا؟ وهذا ما عبرت عنه سابقاً (بالشفافية، والتماهي مع النصوص). ويوم فعلت تلك النصوص فعلها في نفوسٍ أخلصتْ، وتجاوبتْ، فعملتْ، كانت الحصيلة حذيفة ومن على طريقته!

ثانياً: إنّ أول خير وقع بعد الجاهلية، التي كانت تسود جزيرة العرب، بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وظهور الإسلام وانتشاره وتمكنه في الأرض، أثناء فترة الخلافة الراشدة، ثم جاء بعد ذلك الخيرِ شرٌ لم يُفصِّله النبيُ صلى الله عليه وسلم، لأنّ الخلل لم يكن في العقائد، ولم يكن انحرافاً عن المنهج الحق، ولم يكن رغبة عن الاتباع، إنّما كان في مواقف وخلافات اجتهادية وقعت بين الصحابة، في ظل أحوال مضطربة وحوادث خطيرة، كغياب شخص النبي صلوات الله عليه من بين المسلمين، وقد أحدث هزة لا تنكر، وهذا شيء طبيعي أنْ يحدث، ثم ارتداد بعض العرب، واختلاف الصحابة حول قتالهم، إلى ما حدث من مقتل عثمان رضي الله عنه، وما جرى في خلافة على رضي الله عنه، وظاهرة الخوارج، إلى غير ذلك من أحداث. كل ذلك حدث، ولا ريب أنّها أدخلت الجماعة المسلمة آنئذ في منعطفات لم يطل انحباسها فيها! لكن وجه الإسلام بقي ناصعاً مشرقاً لم يكدره انحراف عن السبيل القويم، والمسار ما زال واضحاً مستقيماً غير ذي عوج. ولم يسجل التاريخ المنصف، في تلك الحقبة خلافاً في العقيدة، أو انحرافاً عن الاتباع. ومرة أخرى لم يُفصِّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الشر، ولم يوص حذيفة بفعل، كما سنراه يفعل عند الحديث عن الشرور اللاحقة. لأنّه لا يشكل خطراً على دين الأمة ومستقبلها وحتى حياتها، إذ الخلل سطحي، والثوابت لم تهتز، والنفوس لم تزل على نهج النبوة!

وسنرى في ما يصيب الأمة من الشرور، بعد ذلك الشر، الاختلاف النوعي، لأنّ الخلل طال المنهج، فانحرف المسار، وتعددت السبل، وتفرقت الأمة، ولا زال الخلل قائما لم يعالج! ولما سأل حذيفة رضي الله عنه، عما سيأتي بعد أول شر في حياة الأمة، كان الجواب بوصف وتفصيل: (قُلْت وَهَل بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْر قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ). قُلْت: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْم يَهْدُون بِغَيْرِ هَدْيِى تَعْرِفُ مِنْهُم وَتُنْكِرُ)).
والإشارة هنا إلى واقع جديد تمر به الأمة، س
ِمَتُه العامة أنّه خيِّرٌ، ولكنّه ليس خيراً خالصاً بل فيه كدر، أو كما جاء في الحديث (دَخَنٌ)، وجاء عن بعض العلماء أنّ الدخن كل أمر مكروه، ومنهم من قال إنّ الدخن من الدخان وهو عدم الصفاء
والوضوح. ولم يتركنا نبينا إلى المعاني المعجمية لكلمة الدخن، وفهم العلماء لها، والأمر تشخيص خلل، ومعالجة انحراف، بل أعطانا، بأبي هو وأمي، المقصود النبوي من كلمة (الدخن) ليقطع كل خلاف وكل تأويل! (قُلْتُ وَمَا دَخَنُه؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَهْدُون بِغَيْرِ هَدْيِى تَعْرِف مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ)). وهنا الإشارة النبوية إلى بداية الخلل والإنحراف في أمة الإسلام الذي يُمكن أنْ نختزله بعبارة: (ترك الاتباع، وظهور الابتداع)، وترك الصراط المستقيم إلى السُبل المعوجة. ومن أين استنبطنا ذلك؟

من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ). ففي قوله يهدون إشارة إلى أنّ غايتهم هداية الناس، ولكن تركوا الدعوة الصافية القائمة على الوحيين، واتباع الهدي النبوي، وخلطوا بها إملاءات العقول، التي لم تهتد بالوحيين، وإنّما راحت تبحث عن الحلول عند أهل الفلسفة، فهم من الذين يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً! وحال هؤلاء تنطبق عليهم القاعدة المعروفة: (إنّ الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وصواباً). وفوات أحد الشرطين أو كليهما يُحبط العمل. ونُذَكِّر بأنّ الخالص ما كان لوجه الله، والصواب ما كان موافقاً للهدي النبوي. فأولئك القوم يزعمون أنّهم يريدون هداية الناس، ولكن بغير الهداية التي أرادها الله لهم، وهي الهدي النبوي. ويمكن أنْ نصف تلك الحالة بأنّها حالة فقدان (المنهج المؤصل).

وأريد تأكيداً للفائدة أنْ أوضح ما هو المقصود بالمؤصل؟

وأبسط تفسير وجود أصولٍ يُردّ إليها، ولا بُد من إيضاح آخر، فالمسلمون قد يختلفون في أمرين رئيسيين: في الحكم، وفي الفهم .. فإن اختلف المسلمون في الحكم (المقصود حكم مسألة ما)، فالمرجع الوحيان ففيهما حكم الله. والأصل في ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْر مِنْكُم فَإِن تَنَازَعْتُم ْفِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول إِنْ كُنْتُم تُؤْمِنُون بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْر وَأَحْسَن تَأْوِيلًا). والرد إلى الله رد إلى كتابه، والرد إلى الرسول رد إلى سنته. وإذا عرف المسلمون الحكم ثم اختلفوا في الفهم (فهم ذلك الحكم وإسقاطاته على الوقائع)، فالمرجع إلى ما كان عليه أهل القرون
الثلاثة المشهود لها بالخيرية: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِىءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ). وحينما يغيب المنهج المؤصل عند الدعاة، أو المتدينين تصبح الدعوة على غير بصيرة، والله يقول: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
ويُصبح التدين تقليداً للأشخاص، واتباعاً للهوى وللعقل، بدل اتباع المعصوم، والائتساء بالقرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية.

إنّ تلك الفترة وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنّها خيرٌ فيه دخن. ومن المفيد إسقاطها على تاريخ أمة الإسلام، فبداياتها كانت، تقريباً، مع نهاية القرن الأول الهجري، وهي الحقبة التي شهدت ظهور الفرق المتعددة التي فارقت الوحيين وأحلت مكانهما العقل. فقدموا للأمة طروحاتهم التي تُقدِّم العقلَ على النقلِ، وتبتعد عن المعاني الظاهرة لنصوص الوحيين، بالعبث في الدلالة الظاهرة لهما عن طريق التأويل. كل ذلك اتباعاً للهوى، واتباعاً لإملاءات الفلسفة، وما جاء به من أسلم ظاهرياً من أتباع الديانات الأخرى، وحمل في عقله الإشكالات الغريبة على دين الإسلام! وظلت تلك الدعوات تتطور ويتسع انتشارها مع تقدم الزمن، حتى استطاعت في بعض الحقب أنْ تُنافس مدّ أهل الحق، أصحاب التأصيل، السائرين في طريق الاتباع. ولذلك أسباب كثيرة لا يتسع المجال للخوض فيها، وقد يكون في ثنايا البحث إشارات عابرة.

ولا شك، ولا مجاملة، أنّ الذي تولى كبر ذلك الخلل والانحراف، وعمل على الدعوة له، وتسويغه عند الناس، المعتزلة بكل أطيافها وانقساماتها، وكل انحراف عقدي بدأ من هناك. كما أنّ ظهور المذاهب الفقهية، وما رافق ظهورها من انغماس بعض الناس في
العصبية المذهبية، وفيهم علماء، أضاف خللاً إلى خلل ظهور الفرق، بل منحها بعض التبرير، في أنّ الاختلاف في الإسلام مقبول على إطلاقه، بل إنّه رحمة..! ويقول الإنسان بكل تعجب ومرارة! إنّ الفتنة التي أصابت الأمة واختصرناها بعبارة (غياب المنهج المؤصل) بقيت ملازمة لحياة الأمة الدينية منذ بدء ظهور تلك الفتنة، إلى يومنا الحاضر، وأعراض غياب المنهج الأساسية كالبعد عن الوحيين، وما ينشأ عن ذلك كالتفرق، والدعوة على غير بصيرة، والابتداع، لا تزال هي السمة الغالبة في الأمة، إلا حالات نادرة من وجود غرباء، بالتعريف النبوي للكلمة، موزعين في الأرض.

ويزول ذلك العجب حين يُعْرف أنّ السبب هو استعصاء معالجة ذلك الخلل على المسلمين المتألمين، وحتى على العلماء والمصلحين. وذلك أنّ الفرق خاطبت عقول الناس البسطاء منهم والعوام، وأنصاف المتعلمين والمتدينين، وطلبة العلم الذين تربوا على التقليد. أما العلماء والمصلحون فكانوا يخاطبون إيمان الناس، الذي قد أضعفته دعاوى العقل، وإملاءات الفلسفة، وفِطَرَهم التي حجبتها الأهواء عن أن تكون دليل توجههم، ما سلبَ الناسَ الأصلَ الأصيل الذي يوجب عليهم الاستجابة إلى فطرهم التي وهبهم الله إياها وهيأها لاستقبال الحق الذي سيأتي من عنده تبارك وتعالى، والاحتكام إلى إيمانهم الذي يحتِّم عليهم الالتزام بنصوص الوحيين. ومن هنا كان انتشار الباطل سريعاً، لأنّ البدع تخطف القلوب، كما قال أحد السلف. ولا تستغربوا أنّ فتنة (العقل) عند من انغمسوا فيها، عياذا بالله، تُخْفِت صوت الإيمان في النفس البشرية بل تسكته، نسأل الله السلامة، والثبات على الحق.

وحتى لا يتعجبن أحد من هذا الكلام أورد قصة عن شيخ من شيوخ المعتزلة، هو عمرو بن عبيد البصري، جاءت في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي رحمه الله. ماذا قال عنه الذهبي رحمه الله؟ (الزاهد، العابد، القدري، كبير المعتزلة، وأولهم، أبوعثمان البصري).

قال معاذ بن معاذ: (سمعت عمروا يقول: إن كانت [تبت يدا أبي لهب] في اللوح المحفوظ، فما لله على ابن آدم حجة). وسمعته ذكر حديث الصادق المصدوق، فقال: (لوسمعت الاعمش يقوله لكذبته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله لأنكرته، ولو سمعت رسول الله يقوله لرددته، ولو سمعت الله يقوله لقلت يارب ليس على هذا أخذت ميثاقنا).
(ويقول أحدهم كنت عند يونس بن عبيد (من صغار التابعين) فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله تنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد، وقد دخل عليه ابنك؟ قال: ابني! قال: نعم. فتغيظ الشيخ. فلم أبرح حتى جاء ابنه. فقال: يا بني، قد عرفت رأيي في عمرو ثم تدخل عليه؟ قال: كان معي فلان. وجعل يعتذر. قال: أنهاك عن الزنى، والسرقة، وشرب الخمر. ولأن تلقى الله بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو).

هذه آراء شيخ المعتزلة، الزاهد العابد عمرو بن عبيد، ولم يمنع زهدُه وعبادتُه عقلَه من أنْ يخطف إيمانه فلنعتبر..! وما جئت بهذه القصة إلا لأؤكد خطورة طغيان العقل لأنّه أسوأ منافس للنقل. والدين مادته وأسُّه النقل، وليس العقل. إنّما العقل أداة فهمه من خلال مدارسة النقل.

وقد يعترض معترض فيقول إنّ المدرسة العقلية وهي الاسم العصري لمعتزلة العصر، لا يقولون بتقديم العقل على النقل، وأورد كلاماً لرائد المدرسة العقلية المعاصر محمد عبده، الذي يلقبونه بالإمام يقول: (اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا يُنظر إليه على أنّه إذا تعارض العقل والنقل، أخذ بما دل عليه العقل). كبُرت كلمةً تخرج من فيه إمام…! وقد أضاف إلى انحرافه العقدي، كذباً وافتراء على أهل الملة الإسلامية. ومن أساطين هذه المدرسة المعاصرة، ونذكر بهم حتى لا يؤتى المسلمون من لدن الغفلة، أو حسن الظن: أحمد أمين، رشيد رضا، محمد الغزالي، حسن الترابي، مصطفى محمود، سليم العوا، فهمي هويدي، محمد عمارة، جودت سعيد، يوسف القرضاوي وغيرهم ممن سيعرفهم المسلمون في لحن القول!

على أنّنا يجب أنْ نُمعن النظر تماماً في كلام الصادق المصدوق لكي نتمكن من معالجة أوضاعنا بالعلاج النبوي الناجع الذي لاعلاج سواه. فنلاحظ أنّه صلوات الله عليه وسلامه، سمى المرحلة التي كنا نناقش، بأنها مرحلة غشاوة الأبصار، واضطراب العقول؛ (فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ). قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِى وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ)). لكنّها يبقى فيها خير فليست شراً كلها، لذلك لم يوص الرسول عليه السلام حذيفة بالاعتزال، فَفُهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ ذلك الواقع لم يكن ميؤوساً منه بعد، لأنّ الأمة لا زال للخير فيها مواقع، ولا زال فيها للدين الحق، المؤصل على الوحيين، دعاة، وإن كانوا غرباءً. ولا زال في الأمة علماءُ عاملون، قائمون بأمر الله على منهج النبوة، يصلحون ما فسد، ويُقوِّمون ما اعوَجِّ. فكانت وصية رسول الله عليه الصلاة والسلام لحذيفة بالإصلاح، من خلال شعيرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. نستنبطُ تلك الوصية، من قوله صلى الله عليه وسلم (تَعْرِفُ مِنْهُم وَتُنْكِرُ). فما بين السطور يُفهم منه أنّه أمرٌ من النبي صلى الله عليه وسلم بتفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذلك الواقع المنحرف الشارد. وأؤكد أنّه لا يجوز الاعتزال في حال كتلك الحال، لأنّ النبي لم يأمر بذلك. والاعتزال يغدو هروباً من واجبٍ، وتحللاً من مسؤولية.

ثالثاً: ويستمر حذيفة رضي الله عنه في تدرجه في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أنْ أدخل في تفاصيل المرحلة الجديدة أُحب أنْ أُشير إلى فهم حذيفة كلام نبيه، فقد وصف المرحلة السابقة بأنّها خير فقال: (قُلْتُ فَهَل بَعْد ذَلِكَ الْخَيْر مِن شَرٍّ) وهذا الفهم يحدد أسلوب التعامل مع ذلك الواقع، بأنّه تعميقٌ لجهود المصلحين، لتصفية ذلك الخير مما فيه من دخن.

ويطرح حذيفة السؤال من جديد: (فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: (نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: (نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)). إنّ المرحلة السابقة رغم نعتها بالخيرية مع دخنٍ يشوبها، إلا أنّها هي التي أفرزت المرحلة الأخطر التي بعدها، حين كان الخلل، أكبر من مجهود الإصلاح. وما هي تلك المرحلة الجديدة والخطيرة؟ سِمَتُها في الأعم أنّها شر مستطير ينعدم فيها، في الغالب، عنصر الخير: تتمثل في (دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا). انتبهوا! إنّ الخطورة في هذه المرحلة، وهي حال معظم ديار المسلمين اليوم، تتركز في أمرين: الأول إنّ مُعظم الدعاة دعاة إلى الباطل وإلى النار، وصوت الحق خافت أو غائب! والأمر الثاني أنّ أولئك الدعاة لم يأتوا من كوكب آخر، أو بلد آخر (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: (نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)). وما ذا تعني كلمة (مِنْ جِلْدَتِنَا)؟ جاء في فتح الباري: (معناه إنّهم في الظاهر على ملتنا وفي الباطن مخالفون. وجلدة الشيء ظاهره وهي في الأصل غشاء البدن).

وهذه المرحلة الأخيرة، هي الحال التي تكاد تكون بداياتُها ظاهرةَ الحضور، في كثير من بلاد الإسلام اليوم، على تباينٍ في نسب الشدة والتسارع. ومما يجدر التنبيه إليه، أنّ الحديث يعدد المراحل التي تتقلب فيها أحوال المسلمين، ولا ننسى أنَّ الكلام عن التطور الاجتماعي، والتغيرات الجذرية في حياة الناس، وعلى رأس ذلك الدين، ليس بالإمكان رصد حركته في فترات زمنية قصيرة، فالتطور التاريخي مراحله متطاولة، ومتداخلة فيما بينها، ولا تتميز المراحل عن بعضها بحدود فاصلة، تحدد نهاية السابقة وبداية اللاحقة، وبطْؤ التبدلات الاجتماعية يجعل رصد وتيرة حركتها غير محسوس أو ملحوظ بوضوح، وقد تتسابق مراحل التطور بين المناطق والبلدان ، فلاتتحرك في نسق واحد.

وقد يستغرب كل مسلم لأول وهلة، كيف يمكن أن تصل حال المسلمين إلى حدٍّ يغلب فيها أنْ تكون الدعوة إلى جهنم، والدعاة مسلمون وليسوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً..؟ الجواب نجده واضحاً جلياً، يزول معه كل عجب واستغراب في الحديث الآتي:

عن زياد بن لبيد قال: (ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ: (ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنحن نَقْرَأ الْقُرْآن وَنُقْرِئُه أَبْنَاءنَا ويقرؤه أبناؤنا أَبْنَاءهُم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأُرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا)).
وفي رواية: (هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا ينتفعون منها بشيء؟). وفي أخرى: (هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم).

وأنتقل الآن، إلى الحديث الثاني الذي ذكرته في المقدمة، على أنّه يشترك مع الحديث السابق في رسم الصورة الواضحة عن أحوال المسلمين، القادمة، وهي ليست تحليلا واستنتاجا وتوقعا، إنّما هي علم أوحى به العليم الخبير لنبيه البشير النذير. لينذر به من كان له قلب، أو ألقى السمع وهوشهيد!

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يارسول الله؟ قال: الجماعة). وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي).

وبضميمة حديث (الافتراق)، لا يُفهم من قوله عليه السلام في حديث حذيفة رضي الله عنه: (دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُم إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَاأنّ الدعاة في ديار المسلمين صاروا كفاراً يدعون إلى الكفر، كلا إنّهم (مسلمون) يدعون إلى جهنم، لأنّهم يدعون إلى إسلامٍ ليس إسلام الفرقة الناجية، (ما أنا عليه وأصحابي). فهم خارج الفرقة الناجية، ومن الفرق الاثنتين والسبعين الباقية، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، التي توعدها النبي صلى الله عليه وسلم بأنّها في النار، ولا شك أنّ دعوتها ودعاتها إلى النار، إلا أنْ يتوب الله على من يتوب منهم حين يرجع إلى الفرقة الناجية! على أنّه قد لا تخلو تلك الفرق، من فرق خرجت من الملة بكفر بواح أصلاً. ومع ذلك تبقى الأمة وأفرادها يحتفظون بوصف الإسلام، ونرى العبادات تقام، لكنّ البدع تغلب السنن، والتقليد يغلب اتباع الهدي. ولعل مثل هذه الأحوال هي التي تظهر فيها غربة الإسلام وتتأكد، وأُذكر بصفة الغرباء التي ذكرها نبي الأمة عليه السلام: (ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) .

وحديث الافتراق الذي بين أيدينا الآن، تمالأ عليه بعضٌ من المسلمين، وفيهم علماء، تارة يضعفون سنده، وأخرى يصفون متنه بالنكارة، وثالثة يقولون إنّه سبب تناحر الأمة وتباغضها فيجب تركه. كل ذلك ليخرجوه من دائرة العمل، ولماذا؟ لأنّه فضح الافتراق وأهله ودعاته، وكيف لداعٍ من دعاة تلك الفرق، وهم الأغلب في الأمة اليوم، أنْ يروي هذا الحديث العظيم، ويأمر الناس بالعمل به، وهو وجماعته أول المستهدفين به..؟ والنبي لم يصف الفرق الإثنتين والسبعين إلا بوصف مختصر خطير أنّها في النار، لكنَّ في الحديث وصفاً آخر مفصلاً فاضحاً مستنتجاً، وهو أنّ كل تلك الفرق تتخالف وتتعارض مع الفرقة الناجية في وصفها النبوي (ما أنا عليه وأصحابي)، وأَسْوِئْ به من وصف، أن يكون فردٌ مسلمٌ، أو جماعةٌ مسلمةٌ، لا يماثلون في تدينهم (ما أنا عليه وأصحابي)…! فماذا بقي عندها من دين؟ وماذا يرجون يوم الحساب، غير النار؟! وقد خلط المرجفون الأوراق، وقلبوا للناس الأمور، ولبَّسوا الحقائق، فيشيعون عن أهل الحق، أهل منهج (ما أنا عليه وأصحابي) أنّهم يَتألَّون على الله، حينما يصفون من يخالفهم أنّهم (في النار)، وفات كل المرجفين والمُغرر بهم، أنّ نبينا عليه الصلاة والسلام هو الذي علمنا ذلك بقوله في حديث الافتراق: (كلها في النار إلا واحدة)، ونحن نكرر قوله مبشرين ومنذرين.

ولا أدل على أنّ أهل الافتراق، وأشياعهم قد أخافهم حديث الافتراق الفاضح لهم، من أنّهم بالإضافة لتصديهم للحديث، كما ذكرنا آنفا، وضعوا، من عقولهم المنحرفة عن الحق، وأهوائهم التي مالت مع الباطل، حديثاً مفترىً، مِلْؤُه الكذب والتحريف، ليضللوا به جهال المسلمين. ففي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، [3/ 124]، خرج الشيخ الألباني رحمه الله، حديثا موضوعاً؛ (تفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة، كلها في الجنة، إلا فرقة واحدة وهي الزنادقة). وقد شهد بوضعه أكثر العلماء. ونقل الشيخ الألباني عن ابن الجوزي في كتاب (الموضوعات) قوله عن رواة الحديث المذكور: (قال العلماء: وضعه الأبرد، وسرقه ياسين الزيات، فقلب إسناده وخلط، وسرقه عثمان بن عفان وهو متروك، وحفص كذاب، والحديث المعروف: واحدة في الجنة، وهي الجماعة).

وأُحب أنْ أؤكد على ثلاث نقاط في حديث الافتراق:

1. حتميةالافتراق، والواقع أعظم شاهد لمن لم يكفه قول النبي، ونعوذ بالله من حال من هذا حاله. وأستخلص أنّنا، أهل هذا الزمان، كأنّنا وَحْدَنا المعنيون بهذا الحديث، فالسلف لا يعرفون الافتراق لتمسكهم بحبل الله المتين.

2. إنّ الفرقة الناجية واحدة كما حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن تكون تحت أي سبب أوتعليل، اثنتين أو ثلاثة، أو أكثر، ولو اجتمع وأجمع على ذلك أهل الأرض!

3. مادام نبي الأمة صلى الله عليه وسلم حدد وصف الفرقة الناجية بوضوح وتمثيل، فليس لأحد أنْ يصف من بعده أو يُضيف أو يُنقص، مستدركاً عليه صلى الله عليه وسلم، ومن فعل، فهو عاصٍ لله ورسوله، عبدٌ لهواه، داعٍ للفرقة. فـــ (ما أنا عليه وأصحابي) هي الوجه الوحيد للإسلام
الذي لا يقبل الله سواه إلى أنْ يرث الله الأرض وما عليها.

وما أحوجنا اليوم إلى تدبر كلمات مضيئة هادفة هادية، وإلى العمل بمضمونها نُشداناً للسلامة والفوز. كهذه الكلمات لابن تيمية رحمه الله: (فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَن يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْه فِي كِتَابِه فَلَا يَجُوزُ لأَ حَدِ أَن يَجْعَل الْأَصْلَ فِي الدِّين لِشَخْصِ إلَّا لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَلاَ لَقُول إلَّا لِكِتَاب اللَّهِ عَزّ وَجَلَّ. وَمَن نَصَّب شَخْصًا كَائِنًا مَن كَان فَوَالَى وَعَادَى عَلَى مُوَافَقَتِهِ فِي الْقَوْلِ وَ الْفِعْل فَهُوَ {مِنَ الَّذِين فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا}).

ثم نعود ثانية، لنتابع وقفاتنا، مع حديث حذيفة.

رابعاً: يصل في هذه المرحلة حال أمة الإسلام إلى الحضيض. فهل من شرٍّ شرٌّ من أنْ تُصبح الدعوة في أغلبها دعوة إلى جهنم، بدل أنْ تكون لله ولدين الله، ومن دعاة يدَّعون الإسلام؟ ونلاحظ أنّ الصحابي الفطن، حذيفة رضي الله عنه، أدرك أنّ تلك هي المرحلة الأخيرة في الخلل والسوء والشر، فتابع السؤال بلهفة عن المخرج (قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟) وقبل أن نذكر المخرج النبوي، نُعلق بأنّ حذيفة رضي الله عنه، يجب أنْ يكون النموذج لكل مسلم، يحذو حذوه في أنْ لا يستسلم للباطل، وأنْ يبقى تمسكه بالمنهج الحق القائم على الوحيين، مهما تغير الناس من حوله. وأنْ يستشعر خطورة الواقع الذي يعيش وتعيش الأمة، وأنْ لا يتوقف عن السعي الدؤوب للخروج من ذلك الواقع المردي، أما الانغماس في الشر وأهله، والاحتجاج بأنّ أكثر الناس على ذلك، وأنّه ليس باليد حيلة، وليس بالإمكان، أحسن مما كان. فكلها حججٌ لا تبرأ بها الذمة، ولا تنجي من النار، ولا يقبلها عاقل. فضلاً عن مسلم يرجو الله والدار الآخرة. إنّ الشرّ وأهله لا يُزاحون إلا بمنافسة الخير وأهله لهم، أما السكوت والرضا وانتظار المعجزة، فتضييع للدارين! وفي حديث أم سلمة عند مسلم: (إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِىَ وَتَابَعَ). ابن آدم محاصر بالكرام الكاتبين (وَإِنَّ عَلَيْكُم ْلَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَاتَفْعَلُونَ) يُسجلون عليه كل موقف، فإذا رأى الخلل من حوله، فله مع ذلك أحوال: إما أنْ يُنكر ذلك بكل وسيلة متاحة، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وبذلك تبرؤ ذمته، وإما أنْ يجد نفسه في مرتبة أخفض من الإنكار، وهي كراهية ما يرى وهو لا يستطيع إنكاره، لأسباب يعذره الله فيها، وقد يكون كرهه لذلك قلبياً، ومع ذلك يسلم من المسؤولية أمام الله. لكن المشكلة فيمن يرضى بذلك الخلل ويتابع أصحابه عليه، فذلك الذي أوبق نفسه. وإلى المخرج.

 

خامساً: (قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَال: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وإِمَامَهُمْ)).

سؤال فوري من متلهف، همه البحث عن الخلاص الأبدي عند الله دون تأجيل وتسويف بدعوى البحث والتفكير، والمشورة، وتقليب الأمور، من أجل اختيار سليم، إنّه بين يدي نبيِّه الذي لا ينطق عن الهوى، ويريد حذيفة أنْ لا يُضيع فرصة الانتفاع من كل ثانية مع النبي. ويُعلمنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنّ أمر الآخرة فوري عاجل لا يقبل تأجيلاً كأمور الدنيا، يقول صلى الله عليه وسلم: (التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْء إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ).
فما تأمرني؟

سؤال ملح فوري! وأُحب أنْ أستطرد في فكرة مهمة، لن تخرج عن السياق! وقد ذكرتها في البداية وأُحب أنْ تكرر للأهمية، ولحفز النفوس، ولتجسيد المثل. إذا كان حذيفة ‏رضي الله عنه بين يدي نبيه يريد الاستزادة، فأين نحن اليوم؟ نحن لا زلنا وسنبقى إلى قيام الساعة بين يدي هدي نبينا المحفوظ بحفظ الله لهذا الدين، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وأحب أنْ لا يفوتني في كل مرة أذكر فيها هذه الآية الكريمة، أنْ أُنبه على خطأ شائع وهو اعتبار كلمة (الذِّكْرَ) تعني القرآن فقط، وبالتالي يكون القرآن هو المحفوظ فقط! والصحيح أنّ كلمة (الذِّكْرَ) في الآية تعني الوحي، والأدلة كثيرة يضيق المقام عن سردها، فيكون المحفوظ هو الوحي المنزل بقسميه القرآن والسنة
النبوية الصحيحة. فالاحتكام إلى الهدي النبوي كلما حزبنا أمر يُوصلنا إلى السلامة، كاحتكام حذيفة إلى شخص النبي الكريم، وعلى هذا الفهم الدقيق، كان التفسير الجميل من بعض العلماء لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)، أي لن يعذبهم الله ما دامت سنة النبي وهديه، حيَّيْنِ بين أيدي أمته، مُحكَّمَيْنِ في كل شأن. ومن هنا يكون ائتساؤنا بحذيفة في هذا الحديث الخطير على وجهه. أجل، يأتي الجواب الحاسم من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَلْزَم جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِين وَإِمَامَهُمْ).

ولا بُد أنْ نتعمق في فهم هذا الحل العلاجي الصادر من المعصوم عليه السلام لأمته من خلال سؤال حذيفة رضي الله عنه، عن مشكلة خطيرة ستصيب المسلمين؛ تتعلق بوجود الجماعة والإمام؟ ولا بُد من نقاط عدة للإجابة عن السؤال:

أ. إنَّ أولَ ما يتبادر إلى الذهن من ذلك الجواب النبوي، أهمية (وجود الجماعة والإمام)، في حياة الأمة المسلمة. فـ(وجود الجماعة والإمام) عنوان كبير جدا، يشير إلى وحدة الأمة وعدم تفرقها، وإلى اجتماعها على الحق، فلا يجتمع شمل المسلمين، وتتحد كلمتهم، تحت لواء الجماعة والإمام، إلا على الوحيين. وفي ذلك ضمانُ حياة الأمة وفاعليتها
واستمرارها، حصنا حصيناً، للمسلمين، وضبطٌ لصحة توجهها واستقامة مسارها، ولقد أدرك البخاري هذا الأمر حين ترجم لحديث حذيفة (باب كَيْفَ الأَمْرُ إِذَا لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ) وهو حال يحتاج إلى توجيه شرعي لخطورته على وجود الأمة، ولعل البخاري لم يذكر الإمام مع الجماعة اختصاراً لأنّه مفهوم من السياق، ولأنَّ الأمرين متلازمان دوما في حياة الأمة الإسلامية، وغياب أحدهما غياب للآخر لزوماً. و(وجود الجماعة والإمام) لا يكون بتنصيب شخصٍ، أو تسمية جماعةٍ، كيفما اتفق. إنّه تفاعل الأمة مع دينها وعقيدتها وواقعها، والإخلاص لله، واتباع الرسول، واقتفاء سبيل المؤمنين، فتتميز حينئذ الجماعة الأم، أو الفرقة الناجية، وعندئذٍ لا بد من انضواؤها تحت حكم إمام واحد وجوباً. وكلُّ ذلك يُتَوِّجُهُ رضا الله، وتمكينُه للأمة، فيُيَسِّر لها أمر الإمامة حفظاً وصيانة لها.

ولابن تيمية كلمة قرأتها منذ زمن، ولم أوفق، بعد، في الحصول على نصها الحرفي لتوثيقها، لكنها مركوزةٌ في الذاكرة. يقول ما معناه: إنّ الإمامة مِنَّةٌ من الله، وهبتهٌ للناس، حينما يستقيمون على شرعه، وكلما خفت استقامتهم، ضعفت فيهم الإمامة. كما يظهر ذلك من مقارنة حال الإمامة، في المراحل التاريخية المتعاقبة، من تاريخ الأمة الإسلامية. بدءاً بالخلافة الراشدة، وانتهاءً بالدولة العثمانية. ولقد صدق رحمه الله، فالإمامة فرع عن التمكين في الأرض، والتمكين في الأرض، لم ينسب في الكتاب والسنة إلا لله تبارك وتعالى. ومن الآيات التي تستوقفني معها طويلا، فواتح سورة القصص؛( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ). ولندقق كيف بيّن لنا ربنا تبارك وتعالى أنّ التمكين أربعةُ أشياء، يَمُنُّ بها جل جلاله على عباده المستضعفين الصادقين، وَهِيَ: جَعْلُهُمْ أَئِمَّةً، وَجَعْلُهُمُ الْوَارِثِينَ، وَالتَّمْكِينُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْ يَكُونَ زَوَالُ مُلْكِ فِرْعَوْنَ(رمزُ كل طاغية) عَلَى أَيْدِيهِمْ.

ب. لا يكون في الأمة إلا جماعةٌ واحدةٌ، وإمامٌ واحدٌ، فالرسول عليه السلام لم يقل لحذيفة تلزم الجماعات الإسلامية وأئمة المسلمين! ولم يقل: إبحث عن أفضل جماعة بين تلك الجماعات، فالزمها. إنّما هي جماعة محددة بالوصف النبوي فقط (ما أنا عليه وأصحابي). ومن هنا فإنّ العبارة التي شاعت بين المسلمين (الجماعات الإسلامية) عبارة خاطئة تُكرس التفرق، وتشجع على تفتيت الجماعة الواحدة الأم، إلى كيانات صغيرة، ومُسمَّيات مفرِّقة، تفرزها الأهواء المستبدة، والعصبيات المضللة، وليس بعيداً أبداً، أن تكون من صنع عداوات متربصة! ولا يمكن أنْ تصبح الجماعة الواحدة جماعاتٍ، إلا إذا اختلفت مناهجُها، وتعددت، وتقاطعت أهدافها، وتبددت. وإلا فلا مبرر للانقسام، فالحق لا يتعدد، ولا يكون إلا مع جهة واحدة. ويحب بعض المدلسين أنْ يُلبسوا على الناس، فيقولوا الجماعة واحدة ولكن تفرقها في المناطق والديار يجعلها جماعات، وهذا حق أريد به باطل. فلو تفرقت الجماعة الواحدة في كل أصقاع الأرض، وكانت محافظة على مسمى ووحدة وحقيقة المنهج، فهي جماعة المسلمين الواحدة، ولو تفرقت بها الديار. وأنا أتحدى، وكم أكره منطق التحدي، أنْ يأتيني أحد بدليل شرعي واحد على تعدد الجماعات في المسلمين. وإنّي لأرى أنّ تعدد الجماعات ومن يقول به مخصوم بحديث الافتراق. ومعلوم أنّ إحدى الروايات الصحيحة، عندما سئل رسول الله عن الفرقة الناجية في حديث الافتراق، أنّه قال: (والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار. قلنا: من هم يارسول الله؟ فقال: هم الجماعة).
فهل يقول أفصح العرب إنّ الفرقة الناجية واحدة في وصفها، وليست متعددة الأوصاف، ثم يزيد عليه السلام الأمر بياناً ويقول هي الجماعة، بأل التعريف؛ أي جماعة المسلمين. ثم يأتي الخُلوفُ ليقولوا بتعدد الجماعات الإسلامية، ويمدوا أعينهم إلى أحوال أهل الكفر، يقلدونهم، حذو القُذَّة بالقذة؟.

وما أزرى بحالنا، وأغرانا بالفرقة والاختلاف، إلا فكرة التنظيم الحزبي التي تمنيناها أن تكون في بلادنا يوم رأيناها عند أهل الكفر، وكان ما تمنينا، ويا للأسف! فهي مُتلفِّعَةٌ بالكفر شكلاً ومضموناً! وماهي إلا كذات أنواط؛ قَالَ ابن الأثير فِي النِّهَايَةِ: (هِيَ اِسْمُ شَجَرَةٍ بِعَيْنِهَا كَانَتْ لِلْمُشْرِكِين، يَنُوطُونَ بِهَا سِلَاحَهُمْ، أَيْ يُعَلِّقُونَهُ بِهَا، وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا). وقد َسَأَلُ بعض الأصحاب نبيهم أن يكون لهم مثلها، فنهاهم عَنْ ذَلِكَ. أجل، لقد احتوى النبي عليه السلام تلك النزعة، وذلك التطلع والتمني، وعالجه بشدة، ليقطع دابر أمرٍ مفضٍ إلى التشبه بأهل الكفر، وناهيكم به خللاً! فقال لأصحابه: (سبحان الله، وفي رواية: الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ}، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم، سنة سنة).

فدولة الإسلام ليس فيها أحزاب، تتنافس وتتصارع، بحثا عن الصواب، في ركامٍ من أفكارٍ بشرية، ذات انتماء طيني. أما دولة الإسلام، فقد كفاها الله مؤنة ذلك، بوحي منزلٍ من فوق سبع سماوات، فما دور الأحزاب إذن؟ إلا أن يريد المطالبون بها، علمانيةً مبطنةً، في أرض المسلمين، وهذا ما فضحته الأيام والتجارب! وصرنا نرى الخلافات والعداوات، وكل جماعة تقول بلسان الحال: (أنا الإسلام)، وصدق الله (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، (أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). لكنّ الحزبية استهوتنا! وفشت في المسلمين بدعة (الإسلام السياسي، والتنظيمات الحزبية الإسلامية السياسية)، فأذهبت ريح المسلمين، وأفسدت عليهم أمرهم، وهي شرّ مستطير، يُبعد الوحيَ، ويُخْلِدُ إلى الأرض. ولعلي أستعمل تعبيرا معاصرا في النقد الأدبي، هو (المعادل الموضوعي)، فأقول: إنّ المعادل الموضوعي للدعوة إلى التنظيم الحزبي (الإسلامي) اليوم، في مجتمعاتنا الإسلامية، ما نراه واضحا جدا، وهو (التجمع المشيخي)، ولنأخذ مثالا على ذلك مدينة دمشق. يحيطها من أطرافها مجموعة تجمعات مشيخية، أعرض عن تسميتها، لا كتمانا لسرٍ، ولا خوفا من مغبةٍ، بل كراهةً لذلك شكلا وموضوعا. وتحسبها جميعا، فإذا تعمقتَ في البنية، فشركاءٌ متشاكسون، ما زادوا البلاد يوم محنتها، إلا خبالا. الإسلام، طريقه واحد: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ومنهجه سماوي: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، والمسلمون، حكاماً ومحكومين منفذون مكفيُّون، وليسوا منظرين مبتدعين، قال عبد الله بن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، وعليكم بالأمر العتيق).
فأين مكان (الإسلام السياسي)، و(التجمع المشيخي)، في ديار الإسلام؟ بل هو وبالٌ!

جماعة المسلمين واحدة في وصفها، واحدة في اسمها، واحدة في قبولها عند الله! وليرغم كل أنف يقول بالتعدد، لأنّه يُخالف ويستدرك على المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، الذي لا ينطق عن الهوى. وكما أنّ الجماعة واحدة، فالإمام واحد أيضاً، وإلا فما توجيه قول النبي عليه السلام: (إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا

ج. ماذا نفهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم (تَلْزَم جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِين وَإِمَامَهُمْ) إلا شيئاً واحدا،ً وهو أنّ الاصطفاف مع الجماعة الواحدة المتصفة بالوصف النبوي (ما أنا عليه وأصحابي) والإمام
الواحد الذي أعطته تلك الجماعة بيعتها، والانضواء تحت لوائهما هي الملاذ الآمن، والموقف الشرعي الصحيح المنجي لكل مسلم، حينما تدب في الأمة الفرقة، ويضيع الحق بين الفرق المتخالفة، بل والمتقاتلة! وتَمَيُّزُ جماعة المسلمين وإمامها، وظهورهم للناس، مهما احلولكت الأجواء، واشتد الافتراق والتناحر في أي زمان هو منارة الحق، وبوصلة الأمان والسلامة والنجاة، ولا يمكن أنْ يكون الحق إلا في هذا الجانب. والأمة الإسلامية حين يغيب من وجودها تميز الجماعة والإمام، فقد تُوُدِّع منها، لأنّها عندئذ في مرحلة الاحتضار. وما تصل الأمة إلى تلك المرحلة، وهي غياب الجماعة
والإمام، إلا وقد فقدت كل أهلية شرعية، إلا أفراداً من الغرباء، القابضين على دينهم، ولكنّهم فقدوا الفعل لحصار الباطل لهم من كل جانب! إنَّ أمةً، غابت الجماعة والإمام من حياتها، أمة لا خير فيها، ويبقى الخير في أفراد غرباء اعتزلوها!

د. ليست المشكلة في أنْ يحل في الأمة المسلمة ما أنبأ به الصادق المصدوق من شرور وحسب! بل تتضاعف الشرور والمصائب يوم لا يُحسن المسلمون، والنخب منهم، التعامل مع المشكلات، وعندهم العلاج النبوي، لأنّهم لا يُريدون المعالجة الشرعية القائمة على
الاتباع والتصديق، إنّما يُريدون أنْ يتصدوا للمشكلات بعقول قاصرة حادت عن السبيل القويم، وبما يمليه واقع الأمة المنحرف من حلول أرضية سياسية. وأبرز مثال أنّهم يوم غابت الجماعة والإمام من حياة الأمة، وهو نذير الشر العظيم، راحوا يصنعون جماعات ويبايعون أئمة يزعمون أنّها تقوم بدور الجماعة الغائبة والإمام
المضيع. ناسين أو متناسين أو جاهلين بأنّ الجماعة والإمام في الإسلام ليست واجهة، أو لافتة أو صورة! إنّما هي حقيقة تستند إلى موقف الأمة من دينها، وقوتها في تدينها، والتزامها واتباعها، ويقينها أن لا نجاة في الدارين إلا بالإسلام الحق، وليس كل إسلام! وأخيراً ثقتها بما عند ربها والاطمئنان به، كل ذلك تتميز به الجماعة والإمامة الحقيقية في الإسلام. أما أنْ تصبح في الأمة آلاف الجماعات، ولها بعددها أئمة، ولكل وجهة هو موليها! فقد أُضيفَ إلى الأزمة أزمات، وإلى النكسة نكسات، وزاد البعد عن الوحيين مسافات، وتلك أحوالٌ يستعجلون بها الأمة المحتضرة، إلى الممات!

سادساً: أقول لولا هيبة الصحابي، لتردد في بعض الصدور نعت حذيفة بأنّه (سَؤول) أي كثير السؤال. لكن خشية الله، وطلب النجاة منه يحتاج إلى أكثر من ذلك، فرضي الله عنك وأرضاك ياحذيفة، سألت فكنت تنوب عن كل مسلم يخشى خشيتك، ويرجو ما ترجو
من النجاة والسلامة، في كل تساؤلاتك. لا يتردد حذيفة في أنْ يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا افتراضياً، كما نسميه اليوم: (قُلْت فَإِن لَمْ يَكُن لَهُم جَمَاعَة وَلاَ إِمَامٌ؟)، ويسأل حذيفة رضي الله عنه ذاك السؤال في عصر لم يكن يدور في خلد أحد أنْ يمر بأمة الإسلام زمان يغيب من حياتها الجماعة والإمام! وتستوقفني هذه الفكرة، غير بعيد، لأنّ كثيراً من المسلمين يظنون أنَّ الأمة إذا وصلت إلى هذه المرحلة فقد انتهى الإسلام، فيدب في نفوسهم اليأس! إنَّ دين الإسلام يعمر ويسكن القلوب والنفوس، وهي التي تحمله، وتمشي به، وتدعو إليه، وتجاهد من أجله .. والانهيار (المؤسسي) بالتعبير المعاصر، متمثلاً بغياب الجماعة والإمام يُضعف واقع المسلمين، ويسقط دولتهم، وينزع مهابتهم من صدور أعدائهم، ويُفوت عليهم فرصاً كثيرة للفلاح، ويُضيع عليهم كثيراً من المصالح، ويُجَرِّئُ عليهم كل أحد، لأنّهم خسروا نصر الله وتأييده. لكنَّ جذوة الإسلام لا ولن تنطفيء، ولا بُد للنفوس الكبيرة التي تحمل هذا الدين، بمنهج وتأصيل، من أنْ تصحو بعد غفوة، وتنشط بعد كبوة، (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). وحين تستحكم الظروف الصعبة بالأمة، وتشدُّ الوَثاقَ، بكل مفصل من مفصالها، ويصبح دور المخلصين والمُخَلِّصين، بإذن ربهم، عزيزاً وغريباً في المسلمين، لسيادة الباطل وأهله، يبعث الله المجددين والمصلحين. وما يصيب الأمة فهو إرادة الله وحكمته، وبما كسبت أيدي الناس، للتمحيص، وليميز الخبيث من الطيب (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ).

ومن هنا كانت الوصية الأخيرة من النبي صلوات الله وسلامه عليه لحذيفة رضي الله عنه: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضّ بِأَصْل شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلى ذَلِكَ). جواب تنتفي معه كل الفلسفات، وكل الحكم التي يمكن أن يُتَذَرَع بها، مثل إبحث عن الأقرب للحق، خذ بأهون الشرين، ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، عالج المشكلة بالحكمة والمداراة .. إلى آخر تلك الحلول الأرضية التي نسمع! وما هو أول تفسير يتبادر إلى الذهن للأمر النبوي؟ شيء واحد وهو نزع الشرعية والخيرية والأهلية عن كل الفرق العاملة على الساحة آنئذ، لأنّها أصل المشكلة وسببها، وهي التي صنعتها! ولا يمكن أنْ تكون وسيلة أو أداة لحلها! يأتي الجواب النبوي قاطعاً واضحا. فإذا غابت الجماعة، وغاب معها الإمام تفرقت الأمة أيدي سبأ، وصار أمرها فرطا. وعندئذ يجب أنْ ينقطع الولاء لأي فرقة، إلا لــ: (ما أنا عليه وأصحابيوهي الفرقة الناجية، وهي وحدها المرشحة، والمؤهلة، إذا أذن الله، أنْ تعيد بناء الأمة من جديد. ولذلك يجب اعتزال الفرق كلها، لأنّها ناكبة عن المنهج الحق، مفرقة للصف، مبعثرة للجهد، معيقة للسير، مستوجبة سخط الرحمن. ولا بُد لأمر النبي أنْ يُطبق حرفياً (فَاعْتَزِل تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا)…!

ولزيادة إيضاح ينال الفقرتين الحاضرة والسابقة بمقارنتهما معا، أقول الآتي: حين كان الواقع خيراً مشوباً بالدخن، وكان الإصلاح ممكناً مرجواً، عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر وتعميق الدعوة، لم يكن الأمر بالاعتزال، ويكون الاعتزال عندئذ
هروباً من مسؤولية بل من واجب. ولما تطور الوضع في الأمة إلى أنْ صار الدعاة يؤزون الناس إلى أبواب جهنم، وصارت الدعوة إلى الخير والإصلاح خطراً على أصحابها، وغير منتجة، فلا تُؤتي أكلها، كان الأمر لكل مسلم صاحب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) بالاعتزال، رغم شدة المكابدة، والتميز من الغيظ لما وصل إليه حال الأمة، بانتظار فرج. فالإسلام لا يأمر المسلم بزج نفسه في معارك لا تحسب عواقبها، بالعرض على الثوابت والضوابط، فيقدم جهده ووقته ونفسه، رخيصة دون مردود شرعي يراد. إنّ المسلم صاحب المنهج يدخر نفسه وكل ما آتاه الله، لما يرضي الله، ولا تكون حركته على الأرض إلا كما يأمر الله. وترك الاعتزال في مثل تلك الأحوال والانغماس في الواقع المضطرب بدعوى محاولة الإصلاح والإنقاذ، يغدو عصياناً للرسول صلى الله عليه وسلم، وخوضاً للمعركة في غير ساحتها، وبعيداً عن أهدافها. ولا يُرزق السلامة في الدارين في تلك الأحوال، إلا من يصدر عن منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، لا من يصدر عن رؤية سياسية، أو صخب جماهيري، أو حلول إنفعالية عاطفية.

ومع تنفيذ هذا الأمر النبوي، فورياً، وحرفياً، يجب التنبه الشديد إلى التساؤل التالي: هل يعني اعتزال تلك الفرق، وموجات الباطل تعصف بالأمة، والمتربصون ينالون منها من كل جانب، أنْ ينام المسلم الذي أُمر بالاعتزال ملء جفنيه، بانتظار أن يصحو ليشهد ظهور المهدي، أو نزول عيسى عليه السلام؟

إنّ المسلم آنئذ في أصعب واقع نفسي، وفي وضع لا يُحسد عليه، يعصر الأسى قلبه وهو يرى الأمة تحتضر، ويملؤ الغيظ نفسه وهو يرى الأمة تُتَخطف بأيدي أعدائها، وأيدي أبنائها الشاردين عن الطريق القويم، هذا ماتوحي به العبارة النبوية: (وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْل شَجَرَةٍ) وذلك كناية عن المكابدة والمعاناة بكل أشكالها .. لكن تلك المكابدة والمعاناة تحفز كل صاحب منهج أنْ يتعاضد ويتآزر مع كل أولئك الذين
أطاعوا نبيهم فاعتزلوا كل الفرق على الساحة، ليتجمعوا ويرصوا صفوفهم لتتميز وسط ذلك الظلام، والركام الجماعة التي كانت غائبة، جماعة (ما أنا عليه وأصحابي) من جديد، كما تميزت بعد الجاهلية الأولى، ولتعود الكرة ثانية لغرباء آخر الزمان، كما كانت للغرباء الأولين، فيكونوا نواة بعث الأمة من جديد. وهذا ما أرشد إليه نبي الأمة عليه السلام بقوله: (إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا، وشبك بين أنامله، فالزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصة أمر نفسك، ودع عنك أمر العامة
إنّها مناورة مع الزمن، وتحرف لكرَّة قادمة، وفسحة لالتقاط الأنفاس وحشد الأنصار، وإعداد النفوس. وعبارة (وعليك بخاصة أمر نفسك)
تعني
الانتقال بالعمل الدعوي، والشأن الديني من الدائرة الأوسع، لتعذر ذلك، إلى الدائرة الأضيق، فقد فسر العلماء خاصة النفس بالأهل والأقارب والأصحاب الذين لا يجد خطراً على نفسه بأمرهم ونهيهم.

 

سابعاً: ترددت في تضاعيف الحديث عبارة المنهج كثيراً .. فلا بُد إذن من كلام سريع في المنهج، وأعني تحديدا، منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، من باب التذكرة. فما أكثر النصوص، من الوحيين، التي تؤكد أهمية المنهج في دين الله، فقد جاء في الكتاب الكريم، آية هي أصل منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، هي قوله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). فالآية صريحةٌ، أنّ من لا يماثلُ إيمانُه إيمانَ الرسول عليه الصلاة والسلام، وأصحابه، فليس بمهتدٍ، بل هو في شقاقٍ مع الدين وأهله الصادقين، ورحم الله الشيخ السعدي، فقد فسر معنى الشقاق تفسيرا رائعا، فقال:(فالمُشاقُّ: هو الذي يكون في شقٍ والله ورسوله في شق، ويلزم من المشاقة المحادة، والعداوة البليغة، التي من لوازمها، بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول، فلهذا وعد الله رسوله، أن يكفيه إياهم).

ولعل معترضا يقول: إنّ كتب التفسير قالت: إنّ المعنيين بالآية هم من عاصروا النبي، من أهل الكتاب؟ ويُردُّ على هذا الكلام، بالقاعدة الأصولية؛ (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المناسبة).

وفي السنة الصحيحة أحاديث شتى، حول الموضوع نفسه، وقد ضلَّ عنها كثير من المسلمين، أو إنّهم عرفوها ولكن عطلوها، فلم يعملوا بها، لأنّهم، وفيهم نخبٌ وعلماءٌ، لم يدركوا بعد، حقيقة أنّ التدين بلا منهج، تدينٌ بلا أصول، وصاحب تدينٍ كهذا، كحاطبِ ليلٍ، لا يفلح في مسعاه! وما أوتي أولئك إلا من قبل ظنهم أنّ الأمر واسع، وأنّ المنهج اختيار، وليس إجباراً، وأنّ المناهج كثيرة متعددة. حتى استعيض عن المنهج بالشيخ، فالمنهج ما يقول وما يفعل، وما يرجح وما يأمر وما يظن (حفظه الله). أو استعيض عن المنهج بالانتماء إلى تنظيمٍ حزبيٍ سياسيٍ (إسلامي)، فيكون النظام الداخلي هو المنهج، إضافة إلى اجتهادات القادة. ليس هذا افتراء من عندي إنّما هو أجوبة تلقيتها، في أكثر من مناقشة، وكان أصحابها مقتنعين بها، ومتحمسين لها. وكل ذلك أدى إلى (تمييع) قضية المنهج ، وأفرز حالات شاذة، أو معاندة للمنهج. وعلمتني الأيام، أنّ هجران المنهج ليس في رفضه، وحسب، إنّما هناك حالات من ممارسات مع المنهج، هي أشد من الرفض. فمن الناس من (تمنهجوا)، ترفاً فكرياً، ومجاراة للآخرين، ما دام المنهج ادعاءً، وليس قناعةً، فلا يتعارض مع أهوائهم وتوجهاتهم، وما دام للاستهلاك وليس للتطبيق. فإن كان التعارضُ، رموا المنهج وراءهم، ورجعوا إلى عقولهم، وأهوائهم وعواطفهم، وهم في نظر الناس، محسوبون على المنهج. وإساءة هؤلاء أسوأ من الشريحة السابقة لأنّهم مارسوا الكذب أو (النفاق)!. وفريق ثالث مُنتمٍ إلى المنهج بأعمال ظاهرة معدودة، وعنده الاستعداد أنْ يُخاصم بل يفاصل من أجلها، تأكيدا لولائه، لكنّه يعجز عن حمل نفسه على التطبيق عملاً وسلوكاً، لقضايا مفصلية في أهميتها، من المنهج. وهذا شر الثلاثة لأنّه أساء للمنهج، وقدمه للناس أسوأ تقديم.

لست ممن يريد تقويم الناس، لكنّي أُريد استعراض حالات عايشتها سنين عدداً، فيما يخص المنهج، وأساليب التعامل معه. وأحب كشفها للناس ليعرفوها، ويجتنبوها، ائتساءً بحذيفة رضي الله عنه: (وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى).

بقيت الفكرة الأساسية والمفصلية، التي كثر الجدل حولها، وطال الحديث فيها، أطرحها بإيجاز شديد، هل المناهج متعددة؟ ما هو مصدر تلقي المنهج؟ هل يصح تدين بلا منهج؟

والأجوبة مختصرة:

. المنهج واحد لا ثاني له وهو (ما أنا عليه وأصحابي). والنصوص لم تأت بغيره.

. مصدر تلقي المنهج من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، في حديث الافتراق. فهو الوصف الذي وصف به الفرقة الناجية من النار. وقد مر الحديث كاملا، في تضاعيف الموضوع.

. لا يصح تدين بلا منهج، لأنّ التدقيق في حديث الافتراق يبين أنّ المنهج مرتبط بالفرقة الناجية، وبالتالي فلا نجاة بلا منهج!

خاتمة:

أمة الإسلام وصلت إلى آخر ما أخبر به الرسول الكريم عليه السلام، في أكثر الديار. وصوت الحق، متمثلاً في منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، خافتٌ لغربته وغربة أهله، وهو ملاحق متابع متهم ليس من الأنظمة والحكام، وحسب، بل من بعض نخب المسلمين وعوامهم، لأنّهم متحاملون جاهلون ومقلدون، وبإيحاء غيرهم يتحركون! والساحة ملآى بالحركة والضجيج، وبخاصة بعد سقوط بعض الأنظمة العربية بحراك الربيع العربي، من كل من يناوؤون المنهج، أو لا يعترفون به، أو لا يعرفونه. فالمدرسة العقلية ترى فرصتها الذهبية، في معظم المجتمعات الإسلامية، وقد أتت تُطِلُّ علينا بأشكال ومسميات، كالعلمانية الجديدة التي بدأت تؤكد نفسها على أنّها فصيل إسلامي، وتتبرأ من المفهوم العلماني الذي كان سائداً ومعروفاً في كل العالم. والليبراليون نشطون ودعواهم أنّهم مع إسلام معاصر ضد التزمت والتشدد، مساير للعصر، مهدر ٍللنصوص. والتنظيمات السياسية الإسلامية بدأت تنشط وترى نفسها الأحق والأولى بقيادة الأمة في المرحلة الجديدة القادمة، بعد زمن طويل من الإقصاء عن الساحة، وهي ما تفتؤ تقدم التنازل تلو التنازل لتتصالح مع التيارات الفاعلة في المجتمعات التي ترى الإسلام تراثاً و(فولكلوراً) أحياناً، وأنّه لم يعد له دور في الحكم والسياسة. وطائفة ممن يمسكون العصا من الوسط مشدودون ومعجبون بالتجربة التركية الأردوغانية ويرون أنّها هي التي يجب أنْ ترث الأنظمة الساقطة في دول الربيع العربي .. ويكيلون لها الثناء الحسن، على أنّها أول تجربة أجرت المصالحة بين السياسة والدين .. ولقد قلت: إنَّ ذلك صحيح ولكن المصالحة كانت لصالح السياسة، على حساب الدين!

أما المنظومة الدينية في كل بلد إسلامي، متمثلة بالمشائخ وتجمعاتهم، وبعض المؤسسات الشرعية، ويغلب على كل أولئك التصوف، قناعةً، أو مسايرةً ومجاملةً، فقد صَحَوا على الضجيج، فوجدوا أنفسهم بين ماضٍ مُشوَّه القسمات، مشوش التفكير، صنعوه، ومهدوا ومكنوا له، بهروبهم من الساحة الرئيسية، وتباين مناهجهم، وتنافسهم في حشد وتجميع الأنصار، حتى يخيل للمراقب أنّهم يعدون العدة لمعارك انتخابية! فكان لذلك الواقع دور كبير في الخلل المعاصر الذي أجج الثورات، لأنّ تربيتهم لشباب الأمة كانت متخلفة في شكلها وموضوعها، ضيقة الأفق لا تتجاوز في أهدافها تطلعاتهم للزعامة والرئاسة، أما الأهداف الدينية فثانوية تقليدية! ودفعوا ثمن ما يطمعون فيه، مهادنة الباطل، وصرف الشباب عن التفكير في الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة، معتبرين ذلك حكمة وكياسة، ودرءا لشرور كبيرة. وبعضهم لم يستطع الحياد فكان همّه خطب ود الحاكم من أجل عرض مشيخي زائل. ولعل الموقف الذي يسجل عليهم أنّهم أشد من حارب منهج (ما أنا عليه وأصحابي)، ورضوا أن يكونوا واجهة يتستر وراءها الحكام، في محاربتهم الحق. وواقعٍ جديدٍ، لا يجدون فيه دورا لهم، ليس لصعوبته وتقاطع الخطوط فيه، ولكن لعجزهم وتخلفهم عن مواكبة الأحداث، فقد استمرؤوا العيش في همّ ووهم التمحور حول ذواتهم، وتكريس نزعة (البابوية)، فلا يصلحون لغير ذلك، ولا يحسنون غير ذلك. ثم أووا إلى ركن ظنوه شديدا فنفخ فيهم روحا جديدة، ليعدَّهم زعماء جدد، في خضم الأحداث المتلاحقة الأخيرة في المنطقة، فانحصر نشاطهم في بيانات وتصريحات ومواعظ متتالية ملؤها القصور والتناقض، فخابوا خيبتهم الأولى.

فما المخرج إذن؟

قلناها مراراً: إنّ الحالة السياسية التي ستقوم بعد سقوط الأنظمة بسبب الربيع العربي، رغم ضجيجها وشدة الحركة فيها، لا تعني أصحاب منهج (ما أنا عليه وأصحابي) وإنّما عليهم الاستفادة من جو الحرية الذي لا بُد أنْ يُرافق التغييرات الجديدة، إن صدق الظن، فيتحركوا حركتهم، المُؤيَّدة من الله، لاسترداد الأمة الغائبة، وبنائها من جديد، وهو المشروع الإسلامي الكبير، الذي ينتظرُ الرجالَ، وأيُّ رجال؟ (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). وطريقهم إلى ذلك:

1. اعتزال الفرق كلها. عملاً بالأمر النبوي.

2. تكثيف ممارسة الدعوة على بصيرة.

3. التصفية ثم التربية الجادة، المؤصلة، والمتابعة باستمرار.

ولن يقتنع بكل ما قيل إلا من صار منهج (ما أنا عليه وأصحابي) يجري في عروقه مع الدم…! (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ).

والحمد لله رب العالمين