Skip to main content

صَلَاةُ الجَمَاعَةِ

By الجمعة 8 جمادى الأولى 1441هـ 3-1-2020مبحوث ومسائل, فقه

صلاةُ الجماعة من أعظم شعائر الإسلام، وكل شعائر الإسلام عظيمة، وبخاصة ركن الإسلام الركين، ألا وهو الصلاة … لكن الذي أحببت أن ألفت إليه في صلاة الجماعة، هو موضوع البعد الاجتماعي فيها، وما له من تأثيرٍ كبيرٍ في حياة المجتمع. فأهل المسجد الواحد في الحي، أسرة واحدة يطلون على بعضهم خمس مرات في اليوم، يحيون بعضهم، يتصافحون، يسأل كل الآخر عن أحواله … ولطالما تسأل إنسانا عن إنسان يُسلم عليه بحفاوة وحرارة، من أين تعرف هذا؟ فيجيبك فورا إنّه من جماعة مسجدنا. علاقة كزمالة الدراسة، ورفقة العمل، إلا أنّها صلة تحت مظلة الدين والخير والحق، وطاعة الله! وأبعد ما تكون عن مصالح الدنيا وحطامها. إنّك تلتقي في المسجد أناساً اختصر لك الدين مراحل كثيرة في التعرف عليهم، واتضحت لك هويتهم، وبان انتماؤهم من اللحظة الأولى، في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، ومرجت عهود الناس، واندس الباطل بين أهل الحق. ولما كانت صلاة الجماعة بهذه المثابة، فلا عجب أن تكثر النصوص في فضلها والحض عليها وهذه بعضها:
فضل صلاة الجماعة
ونبدأ بالآيات الكريمة:
. (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).
. (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ).
واستشكل البعض الآية الثانية لأنّها توجب الجماعة على المرأة. والرد على ذلك: بأنّ شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، إلا إن جاء في شرعنا ما يدل على ذلك. وقيل إنّها حكم خاص بمريم عليها السلام.

أما الأحاديث، فهذي بعضها:
. عن أبي هريرة مرفوعا: (إِنَّ أَثْقَلَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فتُقام ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمُ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بيوتهم بالنار).
واستدل بالحديث على أنّ الجماعة لو لم تكن واجبة، لَمَا هُدِّد تاركوها بتحريق بيوتهم عليهم. ولو كانت فرضا كفائيا، كما قال بعضهم، لقام النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه بذلك الفرض عن الباقين.
. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِى بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِى الصَّفِّ).
وفي رواية: (لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلاَةِ إِلاَّ مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ أَوْ مَرِيضٌ إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لَيَمْشِى بَيْنَ رَجُلَيْنِ حَتَّى يَأْتِىَ الصَّلاَةَ. وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلاَةَ فِى الْمَسْجِدِ الَّذِى يُؤَذَّنُ فِيهِ).
. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صَلاَةُ الرَّجُلِ فِى جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِى بَيْتِهِ وَصَلاَتِهِ فِى سُوقِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لاَ يَنْهَزُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ فَلَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِى الصَّلاَةِ مَا كَانَتِ الصَّلاَةُ هِىَ تَحْبِسُهُ وَالْمَلاَئِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِى مَجْلِسِهِ الَّذِى صَلَّى فِيهِ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ).
. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مِنْ صَلاَةِ الْفَذِّ).
. عن ابن عمر، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً).
ويعلق الشوكاني رحمه الله على مناقشة بعض العلماء لتلك الأعداد فيقول: (وَاعْلَمْ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِهَذَا الْعَدَدِ مِنْ أَسْرَارِ النُّبُوَّةِ الَّتِي تَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ إدْرَاكِهَا).
. عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الله ليعجب من الصلاة في الجمع). أي الجماعة.
. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي في أحسن صورة، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى، فقلت: لا أدري، فوضع يده بين كتفي، حتى وجدت برد أنامله، ثم قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات والدرجات، قال: وما الكفارات؟ فقلت: إسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، قال: فما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وصلاة بالليل والناس نيام، قال: قلت: ما أقول؟ قال: قل: اللهم إني أسألك عملا بالحسنات، وتركا للمنكرات، وإذا أردت في قوم فتنة وأنا فيهم، فاقبضني إليك غير مفتون).
. عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاق).
. عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورهم شَيْئا).
. عن أُبي بن كعب قال: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا الصُّبْحَ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: (أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟) قَالُوا: لَا. قَالَ: (أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟) قَالُوا: لَا. قَالَ: (إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَلَو تعلمُونَ مَا فيهمَا لأتيتموهما وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ وَإِنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ وَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا فضيلته لَابْتَدَرْتُمُوهُ. وَإِنّ صَلَاة الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتَهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ)).
. عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِى جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ).
.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال
: (كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الْإِنْسَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ أَسَأْنَا بِهِ الظَّنَّ).
. عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر).
. عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ).

حكم صلاة الجماعة
اختلف الفقهاء في حكم صلاة الجماعة، شأنهم في كثير من المسائل، وإنّ ابن رشد في كتابه المشهور (بداية المجتهد) يلخص لنا أسباب إختلافهم بعبارة يكررها لدى استعراض كثير من المسائل وهي (تعارض الأثر والنظر). وأقول بمزيج من الجِدِّ والدعابة (لو عملنا بالأثر دون عرضه على النظر لكان خيرا لنا، والله أعلم).
ولنستعرض مذاهب العلماء في ذلك:
يرى الأحناف كما في كتاب حاشية رد المحتار (ج1/ ص493): (أنّ صلاة الجماعة واجبة على الراجح في المذهب أو سنة مؤكدة في حكم الواجب كما في البحر، وصرحوا بفسق تاركها وتعزيره، وأنّه يأثم).
أما الشافعية فقد جاء في المجموع (ج4/ ص182): (اختلف أصحابنا في الجماعة فقال أبو العباس وأبو اسحق هي فرض كفاية يجب اظهارها في الناس فان امتنعوا من اظهارها قوتلوا عليها).
وجاء عن المالكية في كتاب (التاج والإكليل لمختصر خليل) (ج2/ ص117): (الْجَمَاعَةُ بِفَرْضٍ غَيْرِ جُمُعَةٍ سُنَّةٌ). وجاء عندهم عن ابْن عَرَفَةَ: (صَلَاةُ الْخَمْسِ جَمَاعَةَ، عند أكْثَرُ الشُّيُوخِ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ).
وعند ابْن رُشْدٍ: (فَرْضٌ فِي الْجُمْلَةِ، سُنَّةٌ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، مُسْتَحَبَّةٌ لِلرَّجُلِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ).
وترى عند بعضهم كلاما إنشائيا (زئبقيا) مثاله ابْنُ الْعَرَبِيِّ: (الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ مَعْنَى الدِّينِ وَشِعَارُ الْإِسْلَامِ لَوْ تَرَكَهَا أَهْلُ مِصْرٍ قُوتِلُوا، وَأَهْلُ حَارَةٍ جُبِرُوا عَلَيْهَا وَأُكْرِهُوا).
وجاء في حاشية الصاوي على الشرح الصغير: (وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ بِوُجُوبِهَا، فَتَحْرُمُ صَلَاةُ الشَّخْصِ مُنْفَرِدًا عِنْدَهُمْ مَعَ الصِّحَّةِ).
بَلْ إنِّ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ، قالوا: (بِالْبُطْلَانِ لِلْمُنْفَرِدِ). لكنَّ ظَاهِر الْمَذْهَبِ: (أَنَّهَا سُنَّةٌ فِي الْبَلَدِ، وَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَفِي حَقِّ كُلِّ مُصَلٍّ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْأَكْثَرِ، وَقِتَالُ أَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى تَرْكِهَا لِتَهَاوُنِهِمْ بِالسُّنَّةِ).
أما الحنابلة ففي الشرح الكبير لابن قدامة (ج2/ ص2): (وهي واجبة للصلوات الخمس على الرجال لا شرطا). وفي زاد المستقنع (ج1/ ص18): (وتلزم الرجال للصلوات الخمس، لا شرط، وله فعلها في بيته).
وجاء في الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ العثيمين (ج4/ص103) شرح للعبارة السابقة، وهو رحمه الله يرى وجوبها، قوله: («للصلوات الخمس» أي: أنَّها واجبةٌ للصَّلاةِ، وليست واجبةً في الصَّلاةِ، لأنَّ الواجبَ تارةً يكون واجباً للصَّلاةِ، وتارةً يكون واجباً فيها، فالواجبُ فيها: يكون مِن ماهيَّتِها مثل: التشهُّدِ الأولِ، والتكبيرِ، والتَّسميعِ، والتَّحميدِ، والواجبِ لها: ما كان خارجاً عنها مثل: الأذانِ، والإقامةِ، والجماعةِ، لأنَّ هذا خارجٌ عن ماهيَّةِ الصَّلاةِ، فيكون واجباً لها، وليس واجباً فيها).
ويتابع الشيخ في مكان آخر فيقول: (والذي تبطل به الصَّلاة إذا تعمَّد تَرْكه هو ما كان واجباً في الصَّلاة؛ لا ما كان واجباً لها، ولهذا لو تَرَكَ التشهُّدَ الأول عمداً بطلت صلاتُه؛ لأنّه واجب في الصَّلاة، ولو تَرَكَ إقامة الصَّلاة عمداً لم تبطل صلاتُه؛ لأنّ الإقامة واجب للصَّلاة، وكذلك على القول الرَّاجح لو تَرَكَ صلاة الجماعة عمداً فإنَّ صلاته لا تبطل، لأنّ الجماعة واجبة للصَّلاة، لا واجبة فيها).
وأطال الشوكاني في نيل الأوطار النفس في حكم صلاة الجماعة ومقارنة أقوال العلماء، التي مرت معنا ومناقشتها على ضوء النصوص وحاصل ما وصل إليه: (فَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبُهَا إلَى الصَّوَابِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي لَا يُخِلُّ بِمُلَازَمَتِهَا مَا أَمْكَنَ إلَّا مَحْرُومٌ مَشْئُومٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فَلَا).
ورغم قوة استدلاله، ودقة مناقشته للأدلة، رحمه الله، فإنّ أعدل الأقوال، وأقواها وأبرؤها للذمة، وأكثرها انسجاما مع روح النصوص السابقة، وأشدها تعظيما لها، أي صلاة الجماعة، كما عظمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله، أن يقال: إنّ صلاة الجماعة واجبة، على كل رجل في الصلوات المكتوبة، مع المسلمين في مساجدهم، مع القدرة عليها، أما مع العذر فتسقط. ومن تركها دون عذر، تهاوناً وتقصيراً، فإنّ صلاته وحده صحيحة، ولكن يأثم بترك الجماعة، ويفوت على نفسه ثواب الخطى إلى المساجد وهو معروف.

ويرد إلى الذهن سؤال: ما هي الأعذار المقبولة شرعياً في ترك الجماعة؟
قد أجاب العلماء إجابات عديدة، ولكنَّ أكثرها ليست مأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما العمل إذن؟
إنّ الإسلام، ذلك الدين العظيم، أوكل الإنسان المسلم إلى مراقبة نفسه (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، وملاومتها (من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن). يتضح ذلك من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فالمسلم الذي يقرؤ كل الأحاديث التي جاءت في فضل صلاة الجماعة، والحض عليها، والتحذير من التهاون فيها، يصبح حسيب نفسه. فإذا طرأ عليه شاغل يمنعه من أداء الجماعة، وقلبه معلق بها، وهو راجٍ لثوابها، ليس مفرطاً ولا زاهداً في قيمتها، يقبل الله منه تركها ولو لم يكن العذر مما جرى على ألسنة الفقهاء.
قد تستغربون هذا الكلام، وتعجبون من الجرأة فيه، لكن العجب يزول والاستغراب يمتنع، حينما نقرأ معاً الحديث الصحيح الآتي. ومن العجيب أنّي، في حدود علمي واطلاعي، لم أجد كتابا في الفقه ذكره، وتناوله بالبحث، وإنّي لأعتبره أصلاً في بحث صلاة الجماعة وإيجابها.
جاء في السلسلة الصحيحة، الحديث الآتي: (حافظ على العصرين: صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها).
واستكمل الشيخ الألباني رحمه الله، تحت حديث الباب المذكور، الرواية المطولة بتمامها، وذكر مراجعها، فقال: (رواه أبو داود [453 – صحيحه]، والطحاوي في [المشكل] [1/440]، وابن حبان [282]، والحاكم [1/ 20، 3/ 628]، والبيهقي، والحافظ ابن حجر في [الأحاديث العليات] [رقم 31]):
عن عبد الله بن فضالة الليثي عن أبيه فضالة قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيما علمني أن قال لي: (حافظ على الصلوات الخمس). فقلت: إنّ هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني، قال: (حافظ على العصرين: صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها). وقال الحافظ: (هذا الحديث صحيح. وفي المتن إشكال لأنّه يوهم جواز الاقتصار على العصرين، ويمكن أن يحمل على الجماعة، فكأنه رخص له في ترك حضور بعض الصلوات في الجماعة، لا على تركها أصلا). قلت: والترخيص إنّما كان من أجل شغل له كما هو في الحديث نفسه. والله أعلم
). انتهى من السلسلة الصحيحة.
وإلى مناقشة سريعة لمدلول الحديث، رغم وضوحه، فأقول: لا خلاف ابتداء أنّ الترخيص من رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بترك الجماعة، وليس بترك الصلاة مطلقا في الأوقات الباقية فهذا الفهم مستحيل. ولننظر مليا في ألفاظ الحديث وفي قول فضالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حينما أمره بالصلوات الخمس: (إنّ هذه ساعات لي فيها أشغال). ولندقق أكثر في أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل فضالة عن الأشغال وماهيتها وطبيعتها. ولا شك أنّ تلك الأشغال من أمور الدنيا. فانظروا إلى النبي الرحيم بأمته، الذي لا يتجاهل واقع الحياة، يرخص لفضالة، دون أن يستفصل منه عن نوع الأشغال، بترك الجماعة في بعض الفروض ولزومها في بعض، ولا ننسَ قول فضالة للنبي صلى الله عليه وسلم: (فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني). ويكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم له كافيا شافيا، لا لبس فيه ولا غموض! ولنقارن هذا الموقف النبوي، مع موقف شيخٍ اليوم، أي شيخ، لو قيل له ذلك لتكلف الخوض في نوع الأشغال، ولردها وقال لسائله: أتؤثر الدنيا على الآخرة، أما تعلم أنّ (الصلاة خير موضوع)؟ ألا تتقي الله؟ وغير ذلك من عبارات التقريع. أما نبي الأمة، بأبي هو وأمي، لم يستفصل أبدا عن تلك الأشغال بل أعطى سائله، فُضالة، الرخصة! أفلا نهتدي بهدي نبينا؟

لا يفهمنَّ أحدٌ الكلام بشكل خاطئ، ولا يقولنَّ في سره أو علنه، إنَّ كاتب السطور متساهلٌ في صلاة الجماعة، وقد يبطن كلمة (ومفرط). فأقول: من استجاز لنفسه اتهامي، فليتهم نبي الأمة، فأنا لم أصدر عن عقلي ولا عن فهمي ولا عن اجتهادي، ولا عن شيخي، إنّما أصدر عن حديث صحيح صريح لمن لا ينطق عن الهوى، ومن وصفه ربه (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ). أَعْملتُ منطوقَ الحديث ومفهومه، وقدَّمَتهُما على التشدد، والغلو، والتضييق، والمزايدة! فكم تَعْرِضُ من مشكلات يضطر الإنسان فيها إلى حضور الجماعة على مضض، خوفاً من نقد الآخرين، ومزايداتهم، وتكون نفسه مطمئنةً برخصة رسول الله له، لكنّه يتحرج من فعلها، فهل هذا من الدين الحق؟ وجَلَّ من جعل التشريع لذاته ولنبيه، وليس لأحد سواهما (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ).
وكل ما ذكرت قد واجهتُه واقعياً، لدى مناقشاتي، مع بعض أهل العلم. ولمَّا يُحاط بهم، وتُعجزهم الحجة، يقولون هذه رخصة خاصة، حتى لا يتراجع متشدد عن تشدده، وجاهل عن جهله، إلى اتباع هدي المعصوم! وقد كنت أقول لمن يجادلني، تعلموا القاعدة الأصولية التالية، واعلموا كيف يجب أن يكون موقفكم من هدي نبيكم، لتبثوا هدي الرحمة المهداة، في المسلمين، بَدَلَ جلدهم بسياط الجهل والتشدد، والفهم السقيم. تقول القاعدة الأصولية: (تركُ الاستفصالِ عن الحالِ، في معرِضِ السؤال، يُنَزَّلُ منزلةَ العمومِ في المقال). وإذا طُبقت هذه القاعدة الأصولية، وبالفهم الصحيح لحديث فضالة، نُخرج الكلام عن صلاة الجماعة، في كثير من الكتب، من إسار الحجز التعسفي، والاحتكار غير المنطقي، لصالح التشدد. ونقول بكل ثقةٍ وجرأةٍ، مع تأكيدنا على أهمية صلاة الجماعة في الدين، وأنّها واجبة على الأعيان، ويأثم تاركها إن لم يكن له عذر شرعي، أجل، نقول: إنَّ نبي الرحمة، فصَّل لنا تفصيلاً، وبيَّن لنا بياناً، في حواره مع فضالة الليثي، يغنينا عن أقوالٍ مصدرها عقل بشري لا يستطيع التحرر من الميل مع الهوى، وإسقاط نزعة الذات، وهو يعطي الحكم في مسألة..!
ولا بد من أن يَرِد السؤال الفوري المعتاد: وما هو العذر الشرعي لإسقاط الجماعة عن مسلم؟ فنجيب بالنصِّ النبوي، والعذرِ الذي قَبِلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم دون استفصال: (إنّ هذه ساعات لي فيها أشغال!). والأصل أن يُترك المسلم إلى دينه وربه (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، والتذكير والنصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل أولئك، لا ينبغي أن تغيب عن حياة المسلمين. والمرفوض فرض الوصاية على الآخرين، الذي يُفضي إلى ردود أفعال خاطئة، وتحميل الدعوة إلى الله، على وسيلة خشنة، يفسد ولا يصلح (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ). وينتهي الأمر بإقامة الحجة، وإبراء الذمة، ثم يوكَل الناس إلى ديانتهم.
ويحسنُ أن نذكر بحديث نبوي: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)، رواه البخاري ومسلم.
ونلخص أهم ما جاء في الحديث، بالآتي من كلام للشيخ عبد الرحمن السعدي، في شرح طويل للحديث: (أما من شدد على نفسه، فلم يكتفِ بما اكتفى به النبي صلّى الله عليه وسلم ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه، بل غلا وأوغل في العبادات، فإنّ الدين يغلبه، وآخر أمره العجز والانقطاع، ولهذا قال: (ولن يَشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه). فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو ولم يقتصد، غلبه الدين، واستحسر، ورجع القهقر ، ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم بالقصد، وحثّ عليه فقال: (والقصد القصد تبلغوا)). والقصد يعني الاعتدال!

وإنّ غياب حديث عبد الله بن فضالة الليثي، الذي ناقشناه، من أجل معرفة حدود التكليف، في صلاة الجماعة، هذه الشعيرة العظيمة، من كلام العلماء، أفرز غياب هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت النتيجة تشدداً، في غير محلِّه، وابتداعاً لا دليل عليه، وسيأتي التفصيل بإذن الله.

وقبل ترك هذه الفقرة، أودُّ إيضاح، أنّ الذي أشكل على كثيرين، وحملهم على التشدد في شأن صلاة الجماعة، حديث الأعمى، وله روايتان:
عن أبي هريرة قال: (أَتَى النَّبِىَّ رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِى قَائِدٌ يَقُودُنِى إِلَى الْمَسْجِدِ. فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّىَ فِى بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: (هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ). فَقَالَ نَعَمْ. قَالَ: (فَأَجِبْ)). رواه مسلم
وَعَن عبد الله بن أم مَكْتُوم قَالَ:
(يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ وَالسِّبَاعِ وَأَنَا ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ رُخْصَةٍ؟ قَالَ: (هَلْ تَسْمَعُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (فَحَيَّهَلَا). وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ). رواه أبو داود والنسائي
أخذ الكثيرون بظاهر الأ
حاديث، دون تدقيق، واختطفوا منهما عبارتين: (وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ) و((هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ). فَقَالَ نَعَمْ. قَالَ: (فَأَجِبْ)).
أقول إن
ّ هذا لتعسف في فهم الحديث، والله! لأنّه يناقض يسر الإسلام، وما جاء في كتاب الله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)، ولا بد، إذن، من التأويل أنّ الأعمى طلب الرخصة، مع بقاء أجر الجماعة، حتى ننفي التعارض بين الكتاب والسنة، وهل من عذر أشدُّ من العمى؟ كما أنّ عدم التأويل يحدث تعارضا بين الحديث الذي بين أيدينا، وحديث عتبان بن مالك:
عن محمود بن الربيع الأنصاري: (أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهْوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَر ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِى بَيْتِى مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّىَ). فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ).
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يكيل بمكيالين؟
ولنقرأ فهم الشوكاني للنص في نيل الأوطار (ج5/16): (وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ سَأَلَ هَلْ لَهُ رُخْصَةٌ فِي أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ، وَتَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لِسَبَبِ عُذْرِهِ؟ فَقِيلَ: لَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُذْرِ الْعَمَى إذَا لَمْ يَجِدْ قَائِدًا كَمَا فِي حَدِيثِ عِتْبَانِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَسَيَأْتِي).

وأحب أن أرتب الأفكار في هذه المسألة المهمة، لما فيها من التداخل، فأقول:
1. إنّ العمى عذرٌ شرعيٌ، يُسقط وجوب صلاة الجماعة عن المبتلى به، ولا نزاع في ذلك.
2. قررنا سابقا أنّ صلاة الجماعة فرض عيني على كل رجل مسلم، وتركها دون عذر شرعي، إثمٌ يحاسب عليه فاعله، وصلاته وحده صحيحة. بخلاف من قال إنّ من ترك الجماعة بلا عذر، فصلاته وحده لا تصح، لأنّهُ بناءً على هذا القول تصبح الجماعة شرطا لصحة الصلاة، ولم يقل بهذا إلا بعض المتشددين من الحنابلة.
3. فمن ترك صلاة الجماعة لعذر شرعي مقبول مثل: (العمى، وغيره من العجز، وأشغال دنيوية، يصعب تركها، كما في حديث عبد الله بن فضالة الليثي)، فإنّ العذر يُسقط وجوب صلاة الجماعة عن صاحب العذر، وبالتالي لا يأثم بترك الجماعة.
4. إنّ عدم منح النبي صلى الله عليه وسلم للأعمى الرخصة التي طلبها، يقتضي منا من أجل فهم صحيح، أن نطرح السؤال الآتي: أيُّ رخصةٍ تلك التي لم يجدها النبي له؟ إنّها، ولا بد، رخصة ثانية فوق التي يتمتع بها أصلاً، لعذر العمى، الذي أسقط عنه حضور الجماعة، لقول الله تبارك وتعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ)، فماذا تكون تلك الرخصة الثانية، إذن؟ إنّها ولا شك أن يصلي في بيته ويكون له أجر صلاة الجماعة. وليست كما فهمها بعض العلماء بأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجد للأعمى رخصة لإسقاط وجوب صلاة الجماعة عنه، مع ما أبداه من أعذارٍ صحيحة! ولذلك نراهم يذكرون حديث الأعمى، على أنّه أشدُ نصٍ في وجوب صلاة الجماعة، قائلين إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لم يجد الرخصة للأعمى الذي اعتذر ببعد داره، وعدم وجود قائد له، فما بالكم بالمبصر الصحيح؟ وليس هذا بوجيه، بل هو استدلال غير موفق، لأنّ القرآن والسنة رخصا للأعمى بترك الجماعة. والذي لم يرخص به النبي عليه الصلاة والسلام هو طلب الأعمى رخصة ثانية، وهي: أن يصلي في بيته، ويكون له أجر حضور المسجد.
ويبقى الخيار مع صاحب العذر، إن كان أعمى، ويجد القائد، ولا يشق عليه أن يحضر الجماعة، تطوعًا، ويكسب أجرها. وكذلك تكون الحال مع كل معذور، إن تحامل على نفسه، وحضر صلاة الجماعة، كما في الحديث: (الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَام فِي الصَّفّ)، وهذه العبارة جزء من حديث عظيم في صحيح مسلم، أثبته كاملا للفائدة:
عن عبد الله بن مسعود قال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا، فليحافظ على هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ. فَإِنَّ اللَّهَ شرع لنبيكم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً، ويحط عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَام فِي الصَّفّ).

لقد ذكرت أكثر من مرة، في تضاعيف الحديث، أنّ الغلو في شعيرة صلاة الجماعة، والاتجاه بها نحو التشدد والتضييق والإعنات، أفرز ممارسات
فقهيةً غير صائبة، وفتاوى تسوغها وتساندها. ولقد انتشرت بين المسلمين، وعلمائهم ومفتيهم، ولم أجد للأسف، من وقف مع الموضوع وقفة متأنية، لِتُعادَ هذه الشعيرة العظيمة، إلى حظيرة يسر الإسلام، وتحقيق الانسجام مع النصوص. لقد انفلتت بعض الفتاوى من العلماء خارج إطار الأدلة التي تَحكم أحكام الدين، ولاسيما العبادات، وسيأتي إيضاحٌ، إن شاء الله.

صور من إفرازات الغلو في صلاة الجماعة
الصورة الأولى:
يدخل الرجل المسجد في أي وقت كان، وقد فاتته الجماعة مع الإمام الراتب، ثم يسرع، ليصطف وراء أول مصلٍ تقع عينه عليه، طلبا لأجر الجماعة الذي فرط فيه كثيرا وزهد، يوم لم يجب النداء فورا، دون أن يعرف ماذا يصلي ذلك الذي اختار الصلاة وراءه! وما أكثر ما حصل أن يَكتشف، بعد انتهاء الصلاة، أنّ إمامه كان مسبوقاً يتم صلاته بعد انتهاء الجماعة، أو أنّه يصلي تحية المسجد، أو سنة بعدية، أو أي نافلة أخرى. ومن العلماء بل كثير منهم يجيزون هذه الصورة ولو سألتهم عن الدليل لقالوا: الحرص على ثواب الجماعة. أما هدي محمد صلى الله عليه وسلم فلم يأتنا بهذا، فهل فاته هذا الحرص المتكلف، والورع المصطنع! وانظروا إلى هدي نبيكم وتعلموه وعلموه الناس:
يقول الصادق المصدوق: (إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد. فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له. فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعض، صلى ما أدرك و أتم ما بقي، فإن أتى المسجد وقد صلوا، فأتم الصلاة (أي وحده) كان كذلك).
والحديث واضح لا يحتاج إلى شرح. ولكنّي أنبه إلى فكرة في الحديث، جهلها كثيرون وفيهم علماء. إنّ من أحسن الوضوء وخرج لا يريد إلا الصلاة، قد يواجه احتمالات ثلاثة: أن يدرك الصلاة كاملة مع الإمام. أن يكون مسبوقا فيصلي بعضا مع الإمام، ويتم ما فاته وحده. أن لا يدرك شيئا مع الإمام، فينتحي جانبا، ويصلي وحده. وإنّ النبي صلى الله عليه وسلم، قد ضمن له الأجر نفسه، في الحالات الثلاثة، وهو (فصلى في جماعة غفر له)، ودليل أنّ له الأجر نفسه في الحالات كلها، العبارة الأخيرة في الحديث، (فإن أتى المسجد وقد صلوا، فأتم الصلاة (أي وحده) كان كذلك)، وهذه العبارة تغطي الحالة الثانية، والثالثة، وهو ما يفهم من عبارة (كان ذلك). ولندقق تماما في الحديث: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ولم يندب من فاتته الصلاة كلها مع الإمام أن يبحث عمن يقتدي به ليعوض الأجر الذي فاته، لا، بل طمأنه أنّه فاز بالأجر الكامل، في الحالات الثلاث. ولنقرأ حديثا آخر يلخص ما جاء في الحديث السابق: عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورهم شَيْئا).
لِمَ يتدخلُ العقلُ، إذن، ليبحث عن حلول (لا شرعية) لمواقف سكت عنها رسول الله؟ أليس هذا هو عينَ الاستدراك على الشارع؟! ونفتح الباب لمن يأتينا ليزعم نفسه أنّه أحرص على أجر الجماعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفتي ويشرع من البدع والضلالات، ما لم يأذن به الله، وإلى الله المشتكى.

الصورة الثانية: تشويش ما بعده تشويش، وتعقيد لا يعدله تعقيد، وابتداع هو أخطر ابتداع. أن يذهب الرجل في رمضان، لصلاة العشاء والتراويح جماعةً في المسجد، فيدخل المسجد متأخرا، وقد شرع الإمام في التراويح، فيُفتى بالدخول مع الإمام بنية العشاء، ثم يفارقه بعد أن يسلم من الركعتين، فيقوم ليتم باقي العشاء.
ويدخل مسافر، نوى الجمع بين العشائين، المسجد فيجد الإمام قد شرع في العشاء، وهو لم يصل المغرب بعد، فيُفتى بأن يدخل مع الإمام بنية المغرب، ثم يفارقه، في الثالثة، ليكملها مغرباً. أو يُفتى من بعضهم بصلاة العشاء جماعةً، ثم يصلي المغرب وحده، مخالفا الترتيب الشرعي للصلوات الخمس. كل ذلك من باب الحرص على صلاة الجماعة، وحبذا لو انعكس الحرص ليكون من أجل التبكير إلى الصلاة، وترك التشاغل عنها، وإجابة النداء من اللحظة الأولى، أما أن يكون الحل ابتداعا في الصلاة فلا. وأتجرأ على القول بأنّه ابتداع، لأنّ العبادات لا تقبل الاجتهاد ولا القياس، لأنّهما عمليتان عقليتان، والعبادات لا معقولة المعنى، كما يصفها الأصوليون، ولذلك لا تقبل تدخل العقل، وإنّما تكون أحكامُها وأعمالُها توقيفيةً على النصوص.
وأذكر أنّني منذ سنين عديدة، بحثتُ طويلا عن مسألة من دخل المسجد والإمام قد شرع بالتراويح ولم يكن قد صلى العشاء، ووجدت لدى البحث أنّ كلَّ العلماء يتداولون فتيا واحدة، على اختلاف مشاربهم ومنازعهم. فيأمرون من هذا شأنه، أن يدخل مع الإمام في التراويح بنية العشاء، فإذا سلم الإمام من الركعتين لم يُسلم معه، وقام وتابع العشاء وحده. وكانت حجة كل من أفتى بذلك أن يكسب الجماعة في صلاة العشاء التي تـأخر عنها. ولم أتقبل ذلك، بادي الرأي، لكن قلت في نفسي لعل في ذلك دليلاً، حتى التزم كل العلماء تلك الفتوى، واجتهدت في البحث، وكان البحث مضنيا، وقليل المردود، لأنّي لم أكن قد دخلت عالم الكمبيوتر بعد. ولم ألتزم تلك الفتيا، ولم ألزم المقربين مني بها. لكنّي لم أكن أناقش في ذلك أحداً، وكلما سألت من يتبنون ذلك عن الدليل، يأتيني الجواب (أهمية صلاة الجماعة)، وما كان ذلك ليقنعني، ما دمتُ لم أجد له في الهدي النبوي ذكرا. وأعترف أن من يفتون بهذا من العلماء، ينزهون عن أن يوصموا بالابتداع. لكن من عادة العلماء أن يأخذ اللاحق عن السابق، خاصة ما كان له قبول عام، بسبب تحوله إلى عادة، ويستند عند الكثيرين، إلى أهمية صلاة الجماعة، وضرورة الحرص على كسب أجرها! ومع ذلك فالحق أحق أن يتبع.
وتابعت البحث، فلم أجد لمن أجازوا هذه الحالات الفقهية المتعدد، والمُشَوَّشَة، والمُشَوِّشَة! إلا مُتعلَّقاً واحداً. حديثين صحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجيزان حالتين فقط من الاختلاف بين الإمام والمأموم، وتصح مع ذلك الصلاة:
الحالة الأولى: أن يكون الإمام متنفلا، والمأموم مفترضاً. ودليل ذلك: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ ثُمَّ يَأْتِى قَوْمَهُ فَيُصَلِّى بِهِمُ الصَّلاَةَ، فَقَرَأَ بِهِمُ الْبَقَرَةَ قَالَ فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيفَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَأَتَى النَّبِىَّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، وَنَسْقِى بِنَوَاضِحِنَا، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ، فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ، فَزَعَمَ أَنِّى مُنَافِقٌ. فَقَالَ النَّبِىُّ: (يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ ثَلاَثًا اقْرَأْ (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) وَ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) وَنَحْوَهَا)). رواه البخاري ومسلم
وقال النووي في شرح مسلم: (في هذا الحديث: جواز صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأنّ معاذاً كان يصلِّي الفريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُسقط فرضَه ثم يصلِّي مرة ثانية بقومه هي له تطوع ولهم فريضة).
وأما الحالة الثانية، أن يكون الإمام مفترضاً، والمأموم متنفلاً. ودليل ذلك: عن أبي سعيد الخدري: (أنّ رسول الله صلى الله عله وسلم أبصر رجلا يصلي وحده، فقال: (ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلِّي معه)). رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وعَن يزِيد بن الْأسود قَالَ: (شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ وَانْحَرَفَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي آخِرِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ قَالَ: (عَلَيَّ بِهِمَا) فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ: (مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟) فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: (فَلَا تَفْعَلَا إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ)). رواه الترمذي وأبو داود والنسائي
وإلى المناقشة، وقبل ذلك أعيد
،
إلى الأذهان، قاعدةً متفقاً عليها، وهي (أنّ العبادات توقيفية، لا تقبل تدخل العقل والنظر)، وبالتالي لا تقبل الاجتهاد والقياس، لأنّهما عمليتان عقليتان. وعلى ضوء هذه القاعدة، نقول: إنّ الصلاة هي أجل العبادات، وربطها النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية أدائها بهديه وسنته في ذلك الحديث الجامع (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّيفلا يضاف إلى الصلاة فعل أو ذكر أو حركة باستحسان أو قياس، ولا بد من النص الصحيح الصريح.
ولنضرب مثلاً لما نقول على المسألة التي بين أيدينا. لقد جَوَّزَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالحديثين السابقين، أن تختلف النية بين الإمام والمأموم، بأمرين اثنين فقط، وهما جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، والعكس. والأصل أن يقف الأمر عند هذا الاختلاف، لوجوب التزام منطوق النص. ولكنّ أكثر العلماء في القديم والحديث، لم يقفوا مع منطوق النص، بل وسعوا الأمر اعتماداً على مفهوم النص، فأجازوا كل أشكال الاختلاف بين الإمام والمأموم، مثل (اختلاف اسم الصلاة: ظهر عصر، مغرب عشاء، اختلاف نوع الصلاة: فريضة تراويح، عدد الركعات)، وما يستتبع ذلك من إحداثات في الصلاة، حتى تحولت تلك الرخصة (العقلية)، وأقصد بالعقلية كونها لا تعتمد النص، إلى فوضى في العبادة. كل ذلك للحرص على أجر الجماعة، ولكن بعيدا عن ضبط النصوص، إنّما بالاجتهاد العقلي، والفهم (العاطفي، وأعني غير العلمي)، لفضل الجماعة حتى لمن فرط بها!
وأضرب مثلا، أليس الأسلمُ، أن نقول لمن جاء متأخرا للعشاء والتراويح، وألفى الإمام قد شرع بالتراويح، أن ينتحي جانبا من المسجد، ويصلي فرض العشاء باطمئنان، وكذلك راتبة العشاء، ثم يدخل مع الإمام في صلاة التراويح. ولو فعلنا، لوجدنا صفوف المصلين منتظمة، موحدة الحركة خاشعة، تغشى المسجد كله السكينة والهدوء. أما مع تلك الرخصة التي لا يطمئن لها القلب، لفقدان الدليل المعتبر، فمن يقف ليراقب حال المسجد يرى عجبا، وقد فعلت ذلك! وبخاصةٍ، أنّ نسبةً لا بأس بها من المصلين تفوتهم صلاة العشاء مع الإمام، في رمضان، لضيق الوقت بين إقامتها وفراغ الناس من طعامهم. وأسوأ ما يرى أنّ الصفوف الأخيرة في بدايات التراويح، تكون نسبة من يدخل في الصف ويخرج، أو يخالف أعمال الإمام بسبب مفارقته بعد الركعة الثانية وإتمام العشاء، كبيرة. وأكاد أقسم أنّ المشهد يصبح في لَجَبِهِ مع بداية الصلاة، أشبه بورشة عمل، وكل من يرى تلك المشاهد، بعين الانضباط الشرعي سيستقر في نفسه، أنّ ما يجري ليس صحيحا..!
ولماذا يحدث ذلك؟ أقولها بملء فمي، وبكل صراحة، وجرأة، ونصح، من أجل حرصٍ على ثواب الجماعة، خارج إطاره الشرعي..! فرحم الله علماءنا، لقد فاتهم أنّ النص أحكمُ لأمر الدين من التوسع في الاجتهاد العقلى! وبه تكون العصمة من كل شطط، وبه يقترب المسلمون، في صلاتهم، من صلاته عليه الصلاة والسلام.

يبقى بعد هذا الشرح، أن أُتَوِّجَهُ، وأنفعَ القارئَ بمعلومةٍ، كانت لي حين، وقفت عليها أثناء بحثي الطويل، في هذه المسألة، كنزاً، والله، وسأشرح السبب. لقد استقر قراري بعد أن وقفت عليها، واطمأننت لصواب توجهي، والحمد لله على ما علمني ووفقني. وتلك المعلومة جعلتني أتكلم بما عندي، وأكتب بثقة، في المسألة، بعد صمت طويل، لأنّي ما كنت لأتجرأ على مخالفة العلماء، فأنتقدهم بعلمي القليل، وفهمي الكليل، قبل أن أظفر بذلك الكنز. وما هي تلك المعلومة التي أسميتها كنزا!؟
خلال بحثي الطويل، كان همي أن أقف، ولو عند واحد من العلماء الكبار، على دليلٍ نصّي، أعرف منه مستندا لذلك التوسع في تلك الرخصة. وكنت كلما هممت أن أبين فهمي، سرعان ما أسائل نفسي، كيف لو كان للعلماء دليل، وأنت تجهله؟ حتى كانت النهاية أن أظفرني الله بعبارتين لعالمين كبيرين عندي، أنهت معاناتي البحثية، وسمحت لي أن أجاهر بما كنت أسر! يقول الشيخ الألباني في معرض فتيا له عن جواز صلاة المغرب جماعة مع إمام يصلي العشاء: (الحقيقة أنّه لا يوجد لدينا نصٌ في هذه المسألة التي جاء السؤال عنها، وإنّما تؤخذ بطريق شيء من الاستنباط والاجتهاد). مأخوذ عن شريط رقم (497) من سلسلة الهدى والنور.
ويقول الشيخ العثيمين رحمه الله، في فتيا مشابهة، عمن يدخل مع الإمام في التراويح بنية العشاء: (ذلك جائز). وينهي الفتوى بقوله: (إنّ ذلك ليس على الوجوب، إنّما المسألة اجتهادية)! ولم أستطع العثور على الفتيا مكتوبةً للتوثيق، لكنّها في الذاكرة حاضرة، والحمد لله.

وخلاصة هذه المسألة، أنّه ليس عندنا في موضوع الائتمام في الصلاة، إلا استثناءين عن الاختلاف بين المأموم والإمام. وفيهما نصان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما الاختلاف في النية بين مفترض ومتنفل، وقد ذكرنا الحديثين. ولمّا كانت العبادة لا تقبل القياس، فإنّ التوسع في الرخصة لتصبح تغطي كل اختلاف بين المأموم والإمام، كالدخول مع الإمام في صلاة التراويح بنية العشاء ثم مفارقته، والدخول مع الإمام الذي يصلي العشاء بنية المغرب ثم المفارقة، والدخول بنية الظهر مع من يصلي العصر، إلى حد أنّ من فاتته الجماعة يصطف مع كل مصلٍ يراه في المسجد! وكل ذلك من باب الحرص على أجر الجماعة، وذلك بارتكاب مخالفة أعظم، وهي الإحداث في الصلاة، بغير دليل.
وأعيد أنّني ما تجرأت على الخوض في هذا الموضوع، إلا بعد أن وقفت، عن طريق إمامين كبيرين، بأنّ إجازة ذلك اجتهاد واستنباط ولا يوجد نص صحيح صريح بذلك. فتبين لي أن آوي إلى ركنٍ شديدٍ، وهو القاعدة المتفق عليها، أنّ أمر العبدات توقيفي. والأصل قول النبي عليه الصلاة والسلام في المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ). وكلُّ من يعلم في تلك المسألة، نصا صحيحا، فلا يضنَّ علي بذلك، مأجورا.

الصورة الثالثة: لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أكل البصل والثوم، وما في حكمهما، بأن يصلي في بيته ولا يقرب مسجد الجماعة. وهذه بعض الأحاديث:
. قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبْنَا، أَوْ لاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا). وقال: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ).
. وعن أبي سعي الخدري: لما ذكر الثوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوه، ومن أكل منكم فلا يقرب هذا المسجد حتى يذهب ريحه منه).
. عن معاوية بن قرة عن أبيه؛ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا، فإن كنتم لا بد أكليهما فأميتوهما طبخا).
وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم علة النهي عن الحضور للمسجد في حديث جابرٍ المتفق عليه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ).
وكان بيني وبين بعض طلبة العلم سجالات حول مفهوم تلك الأحاديث، فمنهم من فسرها بتشدد، يخرجها عن قصد نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام. أما أنا فأفهم من هذه الأحاديث أنّها رخصة من النبي الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، لمن أكل البصل والثوم، أن لا يشهد الجماعة، حتى لا يؤذي المصلين والملائكة، ويُعرِّض نفسه لتجنب الناس له، ونقده. وعلى ما أفهم تلك الأحاديث، يكون أكل هذه النبتات عذرا مسقطا للجماعة، عمن أكلها. وبالتالي فمن أكل منها وترك الجماعة مترخصا برخصة النبي صلى الله عليه وسلم فليس بآثم، شريطة أن لا يتخذ الأكل من تلك البقول ذريعة لترك الجماعة، وألا يجعل ذلك عادة.
لكنَّ من ناقشتُ من أهل التشدد، في شأن صلاة الجماعة، على غير بصيرة، يُحَرِّجون على الإنسان أكلها، ويُؤثمونه إن أكلها وحضر الجماعة، لإيذائه الناس والملائكة، ومخالفة أمر النبي، ويعتبرونه آثما لترك الجماعة. أي، لا يرون ذلك رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لآكلها بترك الجماعة. وكنت أقول: إنَّ النبي عليه السلام أفصح العرب وأبلغهم، ويُحسن البيان والتعبير، وكما قال عن نفسه (أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ). فإنّه في الأحاديث السابقة نهى مَنْ أكل البصلَ والثومَ عن شهود الجماعة ولم ينهه عن أكلهما، من أجل حضور صلاة الجماعة. كأن يقول، لا تأكلوا من هذه الشجرات قبل حضور الجماعة. وكان بعض من يناقشني لا يرى فرقا في النتيجة بين القولين، ووافقه آخرون. فقلت إنّ النهي عن أكل تلك النبتات قبل صلاة الجماعة، يجعل أكلها محرما، لماذا؟ لأنّ الجماعة واجبة على الرجال وجوبا عينيا، إلا من عذر. ولأنّ أكلها يؤذي المسجد ومن فيه، صارت ممنوعة، لأنّ ما لا يتم الواجب إلابه فهو واجب! ومرة أخرى، أقول: إنَّ نبي الرحمة قال: من أكل فلا يشهد الجماعة! فيكون من أكل ولم يحضر المسجد مطيعاً لرسول الله، أما لو قال: لا تأكل حتى لا تفوتك الجماعة، صار الآكل عاصيا للرسول، وآثما لترك الجماعة!
ولنفهم مراد نبينا، ولنحذر من أن نجعل هوانا يتحكم في فهمنا، فلا نحسن الفهم، ونكون ممن حرفوا القاعدة الذهبية (استدل ثم اعتقد)، وجعلوها (اعتقد ثم استدل)، فيأتي الفهم منكوساً معكوساً، محكوما بالهوى!
وفي هذه الرواية، التي تتجلى فيها رحمة النبي عليه السلام وواقعيته (كلوه ومن أكل منكم فلا يقرب هذا المسجد، حتى يذهب ريحه منه). ولو قلَّبنا القولَ من كل الوجوه، لا نجد إلا أن نقول: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أعفى الآكل من شهود الجماعة فتكون رخصة، ولا يأثم بترك الجماعة، إذا أكل لأنّه يشتهي الأكل، وكأنّي بنبي الرحمة عليه الصلاة والسلام يقول لهذا الآكل: كل هنيئا مريئا. وأما من تعمد الأكل ليجعله ذريعة، لترك الجماعة، نقول له: هداك الله ولا تعد لمثلها. وقد حدثني، من لا أتهم، عن طائفة إسلامية منحرفة في لبنان، يفتيهم أشياخهم أنّ من أراد أن لا يشهد الجماعة، أو الجمعة، فليبتلع فصاً من الثوم، فتسقط عنه. وهذا فقه أعوج، بل فقه شيطاني.

الصورة الرابعة: إنّ الغلو والتشدد في أمر الجماعة، خارج ما جاءت به النصوص، جعل بعضاً من العلماء يتساهلون في تكرار الجماعة في المسجد ذي المؤذن والإمام الراتب، بعد قيام الجماعة الأولى فيه، بحجة التيسير على الناس وعدم حرمانهم أجر الجماعة. وللتفصيل أقول:
1. ذكرُ المسجد ذي الإمام الراتب، يخرج من الحكم مساجد الطرق والأسواق، التي ليس فيها إمام راتب، ولا تؤدى فيها الصلوات الخمس، فتلك المساجد تخرج من حكم عدم جواز تكرار الجماعة فيها.
2. الأدلة على عدم جواز تكرار الجماعة، وفق التفصيل السابق، هي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض الصحابة رضي الله عنهم:
. عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجد الناس قد صلوا، فمال إلى منزله، فجمع أهله، فصلى بهم).
وفي مصنف عبد الرزاق، عن إبراهيم: (أنّ علقمة والأسود، أقبلا مع ابن مسعود إلى المسجد، فاستقبلهم الناس وقد صلوا، فرجع بهما إلى البيت، ثم صلى بهما). فلو كانت الجماعة الثانية، في المسجد جائزة مطلقا، لما أخذ ابن مسعود صاحبيه إلى البيت، وصلى بهما جماعة.
واحتج بعضهم بالجواز، لما روى الأثرم، وسعيد بن منصور، عن أنس: (أنّه دخل مسجدا قد صلوا فيه، فأمر رجلا فأذن بهم، وأقام فصلى بهم جماعة).
ويعلق الشيخ الألباني: (قلت: قد علقه البخاري، ووصله البيهقي بسند صحيح عنه، وقد يستدل به بعضهم على جواز تعدد صلاة الجماعة في المسجد الواحد، ولا حجة فيه لأمرين: الأول: أنّه موقوف. الثاني: أنّه قد خالفه من الصحابة من هو أفقه منه، وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه). كما جاء في الحديث المذكور سابقاً.
وقال بعضهم: على فرض صحة حديث أنس، فيحمل على أنّه كان في مسجد سوق أو طريق وليس في مسجد ذي إمام راتب.
3. وجمهور الأئمة مالك، والشافعي، وأبوحنيفة، على ذلك. فقد جاء عن الشافعي في الأم؛ (ج1/ص180): (وَإِذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ إمَامٌ رَاتِبٌ فَفَاتَتْ رَجُلًا، أَوْ رِجَالًا فِيهِ الصَّلَاةُ صَلُّوا فُرَادَى وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ جَمَاعَةً فَإِنْ فَعَلُوا أَجْزَأَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ فِيهِ وَإِنَّمَا كَرِهْت ذَلِكَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا فَعَلَ السَّلَفُ قَبْلَنَا بَلْ قَدْ عَابَهُ بَعْضُهُمْ).
ويضيف الشافعي: (وَأَحْسَبُ كَرَاهِيَةَ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إنَّمَا كَانَ لِتَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ وَأَنْ يَرْغَبَ رَجُلٌ عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ إمَامِ جَمَاعَةٍ فَيَتَخَلَّفُ هُوَ وَمَنْ أَرَادَ عَنْ الْمَسْجِدِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِذَا قُضِيَتْ دَخَلُوا فَجَمَعُوا فَيَكُونُ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ وَتَفَرُّقُ كَلِمَةٍ وَفِيهِمَا الْمَكْرُوهُ. وَإِنَّمَا أَكْرَهُ هَذَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ، فَأَمَّا مَسْجِدٌ بُنِيَ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، أَوْ نَاحِيَةٍ لَا يُؤَذِّنُ فِيهِ مُؤَذِّنٌ رَاتِبٌ وَلَا يَكُونُ لَهُ إمَامٌ مَعْلُومٌ وَيُصَلِّي فِيهِ الْمَارَّةُ وَيَسْتَظِلُّونَ فَلَا أَكْرَهُ ذَلِكَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْت مِنْ تَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ وَأَنْ يَرْغَبَ رِجَالٌ عَنْ إمَامَةِ رَجُلٍ فَيَتَّخِذُونَ إمَامًا غَيْرَهُ وَإِنْ صَلَّى جَمَاعَةٌ فِي مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ آخَرُونَ فِي جَمَاعَةٍ بَعْدَهُمْ كَرِهْت ذَلِكَ لَهُمْ لِمَا وَصَفْت وَأَجْزَأَتْهُمْ صَلَاتُهُمْ).
ويلخص الإمام الشافعي المسألة، ويفصلها على فهم السلف، وقد وافقه في ذلك الإمامان أبو حنيفة ومالك، كما ذكرنا سابقاً. وذلك ردٌ مفحمٌ على أكثر المعاصرين، ممن دفعهم التعصب غير المُدلَّل لصلاة الجماعة، خارج ما جاءت به النصوص، إلى رد ما جاء عن السلف ممثلا بما جاء في الأم عن الإمام الشافعي، كما أنّ بعض المعاصرين اعتبر ذلك من (غرائب الشيخ الألباني)، يدفعهم التعصب والهوى.
أما المناقشة العقلية والمنطقية، التي تُستلهم من النصوص ومن روح الأدلة والأحكام، تقضي أنّ الفضل والأجر الكبير يكون للجماعة الأولى مع الإمام الراتب، التي يشهدها من أجابوا النداء من اللحظة الأولى، وهرعوا إلى تلبيته تاركين كل ما يشغلهم عن الصلاة. ولا يمكن أن يكون ذلك الأجر لعشرة جماعات تراخوا عن إجابة النداء، لأشغال الدنيا، تجيءُ الواحدة تلو الأخرى، لا يضبطهم ضابط إجابة النداء. ومن كان عنده أثارة من علم فليرشدنا إلى جوائز تلك الجماعات المتراخية، إن كان الشرع جعل أجرا…! في حين يجب أن يكون البحث في الوزر الذي يلزمهم لعدم إجابة النداء، وتهاونهم في أمر صلاة الجماعة، بلا عذر. وكل من أراد الكلام في هذه المسألة، فليقرأ بإمعانٍ عبارات الإمام الشافعي في الأم، والتي ذكرناها قبلا.
وأذكر مرة أخرى بأنّ الاندفاع العاطفي، من أن أجل تحصيل أجر الجماعة، لن يُدرك الأجر، مادام من مخرجات العقل، وليس من محكمات النصوص! كالأجر المنصوص عليه، والذي هو ولا شك للجماعة الأولى مع الإمام الراتب تلبيةً للنداء حين سمعوه.
ولِمَ يكون التساهل والحرص على أهل الاستهتار والتراخي، على حساب النصوص القاطعة في دلالتها؟ ومتى يفيئون ويعرفون أنّهم مذنبون إن قلنا لهم صلوا الجماعة متى شئتم ولكم الأجر؟!
أما إن كان ذلك، بزعم القائلين به، من أجل أهل الأعذار، فقد جاءت في الهدي النبوي الحلول، ولا حاجة لتدخل العقول! ولِمَ نُحدث الفوضى في المسجد، ونُجرِّؤُ الناس على محدثات الأمور، وقد كفانا نبينا صلى الله عليه وسلم بهديه مسؤولية الحلول الشرعية. فإنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال لصاحب العذر الذي قال له: (إنّها ساعت لي فيها أشغال)، فأسقط عنه فرض الجماعة في ثلاث صلوات، وأمره بصلاة (البَرْدَيْن) أو (العَصْريْن) في بعض الروايات، وهما صلاة الفجر وصلاة العصر.
ومرة أخرى، لِمَ نأت بالحلول من العقول، ونبينا صلى الله عليه وسلم كفانا ذلك. ففي حديث تقدم ذكره، عمن يذهب إلى المسجد مجيبا النداء، بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أنّ الرجل سيواجه ثلاث حالات، وهذه هي بنص الحديث: (فإن أتي المسجد فصلى في جماعة غفر له. فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعض، صلى ما أدرك و أتم ما بقي. فإن أتى المسجد وقد صلوا، فأتم الصلاة (أي وحده) كان كذلك). فإنّ من أخلص نيته، وخرج من بيته، لا يريد إلا الصلاة، حصل على الأجر كاملا، وهو غفران الذنب، سواء أدرك الصلاة كلها مع الإمام، أو أدرك بعضها، أو لم يدرك شيئأ، فصلى في المسجد وحده! دققوا هل أمره النبي صلى الله عليه وسلم في الحالة الثالثة، أن يبحث عن متأخر ليصلي معه من أجل أجر الجماعة؟!

الصورة الخامسة: وهي بيان مستند من أجاز تكرار الجماعة، في المساجد بعد انقضاء الجماعة الأولى، ومناقشة ذلك المستند. ومنهم شيخنا ابن عثيمين رحمه الله، وقد استدل لذلك بحديث أبي سعيد الخدري،: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبصر رجلا يصلي وحده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه)).
وقد علق الشيخ الألباني رحمه الله على ذاك الاستدلال في كتاب تمام المنة في التعليق على فقه السنة، (ج 1 / ص 157) بقوله: (ولا يعارض هذا الحديث المشهور: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه). فإنّ غاية ما فيه حض الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الذين كانوا صلوا معه، صلى الله عليه وسلم، في الجماعة الأولى، أن يصلي وراءه تطوعاً، فهي صلاة متنفل وراء مفترض. وبحثنا إنّما هو في صلاة مفترض وراء المفترض فاتتهم الجماعة الأولى. ولا يجوز قياس هذه على تلك لأنّه قياس مع الفارق من وجوه:
الأول: أنّ الصورة الأولى المختلف فيها لم تنقل عنه صلى الله عليه وسلم لا إذنا ولا تقريرا، مع وجود المقتضي، في عهده صلى الله عليه وسلم، كما أفادته رواية الحسن البصري: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا المسجد وقد صُلِّيَ فيه صلوا فرادى).
الثاني: أنّ هذه الصورة تؤدي إلى تفريق الجماعة الأولى المشروعة، لأنّ الناس إذا علموا أنّهم تفوتهم الجماعة، يستعجلون فتكثر الجماعة. وإذا علموا أنّها لا تفوتهم يتأخرون فتقل الجماعة، وتقليل الجماعة مكروه. وليس شئ من هذا المحذور، في الصورة التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبت الفرق. فلا يجوز الاستدلال بالحديث على خلاف المتقرر من هديه صلى الله عليه وسلم
). انتهى من كتاب تمام المنة.

النساء وصلاة الجماعة
ما دمنا نتحدث عن صلاة الجماعة، فحريٌ أن نتطرق إلى حكمها بالنسبة للنساء.
الأصل أنَّ كلَّ تكليفٍ في حق الرجال هو تكليفٌ في حق النساء، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنّما النساء شقائق الرجال). إلا إن جاء من الشارع تفريقٌ بين الجنسين، في حكم معين. والموضوع الذي نبحثه كذلك. فالنساء غير مخاطبات بصلاة الجماعة في المساجد كالرجال، وبالتالي فصلاة الجماعة ليست واجبة في حقهن مطلقاً. ولقد جاءت أحاديثُ تخصُّ النساء في صلاة الجماعة، فلا بد من معرفتها للعمل بها. والأحاديث الصحيحة هي:
. عن أبى هريرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن، وليخرجن وهن تفلات).
. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ).
. عن أبى هريرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ).
. وعن عبد الله بن سويد الأنصاري، عن عمته امرأة أبي حميد الساعدي: (أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ مَعَكَ قَالَ: (قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلَاةَ مَعِي، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكَ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِي). قَالَ: فَأَمَرَتْ فبُنِيَ لَهَا مَسْجِدٌ فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ بَيْتِهَا وأظلمِهِ وَكَانَتْ تُصَلِّي فِيهِ حَتَّى لَقِيَتِ اللَّهَ جَلَّ وعلا).
. وعن عائشة مرفوعا: (لأن تصلي المرأة في بيتها خير لها من أن تصلي في حجرتها، ولأن تصلي في حجرتها خير لها من أن تصلي في الدار، ولأن تصلي في الدار خير لها من أن تصلي في المسجد).
ولعل في الحديث بعض الكلمات تحتاج شرح معانيها مثل:
(في بيتها): هو الحجرة التي تكون فيها المرأة .وسميت كذلك لأنّها تبيت بها.
(حجرتها): المراد بها صحن الدار التي تكون أبواب الغرف إليها، ويشبه ما يسميها الناس الآن بـ (الصالة).
(مخدعها): هو كالحجرة الصغيرة داخل الحجرة الكبيرة ، تحفظ فيه الأمتعة النفيسة .
وقد يشكل على بعضنا ما تفضي إليه تلك الأحاديث، وشرحها كاملةً لا يتسع له المقام، ولكن سأتناول، بعض ما أظنه غامضاً.
في البداية، يجب أن نبين أنّ الإسلام يؤكد أنّ الأصل في المرأة الستر، وليس الستر في حجابها فقط، إنّما الستر واجبٌ في أمر ظهورها للناس، بدءاً من تقليل هذا الظهور وانتهاءً بشكل لباسها، وطريقة سلوكها، في هذا الظهور. ولندقق في هذه النصوص التي تعتبر الأساس الشرعي لما قلنا آنفاً:
. قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).
. وقوله: (يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا).
. قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، وَإِنَّهَا إِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ أَقْرَبَ مِنْهَا في قعر بيتها).
ويقول الشيخ علي القاري في (المرقاة)، شارحاً المقصود بعبارة استشرفها الشيطان: (أي زينها في نظر الرجال. وقيل أي نظر إليها ليغويها، ويغوي بها).
وفي السلسلة الصحيحة: (وأصل (الاستشراف) أن تضع يدك على حاجبيك وتنظر، كالذي يستظل من الشمس حتى يستبين الشيء).
وفي نهاية هذه الإحاطة العجلى بالموضوع، أود أن أقول: إنّ هذا الكلام لا يعجب أنصار المرأة وتحررها، وغشيانها كل المجتمعات، من باب المساواة بالرجال، أقول ليقل من شاء ما شاء، أما أنا فأخاطب كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

هذا ما تيسر تقريره، وكان بالمكنة تحريره، والضعف من طبيعة الإنسان، وآفة العلم النسيان، وفوق كل ذي علم عليم. فما كان فيما سمعتم من صواب، فمن فضل الكريم الوهاب، وتوفيقه، وما كان من خطأ أو خطل فمن نفسي ومن الشيطان، وأسأل الله العفو والغفران.

والحمد لله رب العالمين