Skip to main content

مَا أَحْكَمَ الله … وَمَا أَعْظَمَ الإِسْلَام…!

By السبت 25 ذو الحجة 1441هـ 15-8-2020مدراسات

مَا أَحْكَمَ الله … وَمَا أَعْظَمَ الإِسْلَام…!
وَمَا أَشْقَانَا وَمَا أَظْلَمَنَا، حِينَ اسْتَبْدَلنا الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ…!

(كُتبت هذه الدراسة بتاريخ 6/6/2009)

إنّ كلمات العنوان هي رد الفعل الصحيح والعفوي (وأقصد بالعفوي، الموضوعي غير المتكلف) عند كل من يفهم أحكام الإسلام بعمق، وطرائق معالجته للمشكلات الاجتماعية الكبيرة التي ترزح تحت وطأتها كل المجتمعات البشرية، بلا استثناء، من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وإذا كنا نرى تفاوت آثار تلك المشكلات في شدتها وظهورها وتضخيمها بين المجتمات، فليُعلم أنّ ذلك التفاوت مرده إلى المنظومة الأخلاقية في كل مجتمع. فمشكلة الزنا في المجتمعات الكافرة مثلا، لا يرى لها ظهور وحضور كما هي في المجتمعات المسلمة، لأنّها عند الأولين مبسطة إلى حد أنّها، بزعمهم، أقرب إلى الشيء الطبيعي في حياة البشر، بل هناك من يقول: إنّها مطلبٌ حياتيٌ كالطعام والشراب! وقد أعان على هذا الهبوط الذريع، غياب الدين من حياة الناس، والأحرى أن نقول غياب الدين الحق أصلا.
وتتعمق النظرةُ، أكثر وأكثر، حين يرى الناظر أحوال من تركوا الإسلام كلياً، أو ادعوا الإسلام، واستبدلوا الأحكام الأرضية بالأحكام السماوية، وإلى أي حضيض آلت أوضاعهم. فأردت أن تكون هذه الكلمات مذاكرة في أمثلة للمعالجة الإسلامية لقضايا اجتماعية، خطيرةٍ في أثرها، واضحةٍ في حضورها، مدمرةٍ في نتائجها. (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).
وأحب أن أذكر بتفسير هذه الآية الكريمة، فإنّ فيها استعارة الحياة والهلاك، للكفر والإسلام، ويكون معنى الآية، كما في تفسير (السعدي): ({لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} أي: ليكون حجة وبينة للمعاند، فيختار الكفر على بصيرة وجزم ببطلانه، فلا يبقى له عذر عند الله. {وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} أي: يزداد المؤمن بصيرة ويقينا، بما أرى الله الطائفتين من أدلة الحق وبراهينه، ما هو تذكرة لأولي الألباب).
أجل (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) بعد أن كثر المرجفون، واشتد في كيدهم المضللون، ونفث سمومهم المستغربون، وكثر المفتون الجاهلون. والأخيرة هي الأسوأ من ذلك كله، لأنّها من ظلم ذوي القربى. وقد آن الأوان لأهل هذا الدين أن يأرزوا إلى حماه، ويثقوا بربهم مُنزِلِهِ ومولاه، ويوقنوا أنّه لا يصلحُ أحوالَ الناس إلاه. ولست أقصد إعطاء البراهين لصحة وحكمة وواقعية الأحكام والمعالجات الإسلامية، فالموضوع مُنتهٍ بكونها من عند الله. لكن أريد تقديم أفكار جديدة قد تكون فاتت من لم يتعمق، وتوجيه أنظارٍ أعيت من لم يتبصر. وقد اخترت موضوعات ثلاثة لتكون نماذج للدراسة والتأمل:
1. أحكامٌ في الطلاق.
2. أحكامٌ في الزنا.
3. أحكامٌ في اللعان.

وأحب أن أؤكد على فكرة، أتمنى أن تبقى مصاحبة لنا في مذاكرتنا، وهي واقعية الإسلام في المعالجة. وإنَّ أهل الأرض، وأعني المفكرين منهم، قد غرتهم عقولهم وظنوا أنَّ معالجاتهم وحلولهم تنبع من المعايشة الفعلية للمشكلات، لكن النتائج لا تزيد الأمور إلا تعقيدا، والمشكلة تلد مجموعة مشكلات وهكذا، حتى إنّك لتجد الدواء أحياناً أشد من الداء ولا يحمل شيئا من الشفاء. وأتذكر بيتا لأمير الشعراء، يخاطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول:

داويتَ متئداً وداوَوا طفرةً … وأخفُّ مِنْ بعض الدَّواءِ الداءُ

ولن يكون الموضوع دراسة أو استقصاء فقهياً للموضوعات المذكورة، إنّما هو تركيز على جوانب منها، تبرز الحكمة البالغة في المعالجة الإسلامية لها. وقد يتناول الحديث التعامل الخاطيء معها، الناتج عن الجهل أو سوء الفهم. ولأنّ الموضوع انتقائي لنماذج كما أسلفت، فإنّي أميل إلى أن يكون الطرح على شكل وقفات كل وقفة مع مسألة.

1. أحكامٌ في الطلاق
إنَّ كثيرا من جوانب الزواج هي من عالم الشهادة والتي تقبل الاختيار والتحكم والتنبؤ. وفيه من عالم الغيب شوب، إذ يبقى من حال الزوجين وأهليهما جوانب خافية، لا تتضح إلا مع طول العشرة وكثرة المساس. فالزواج، إذن، شأنه شأن كل أمر أرضي، عرضة للتعثر، وبخاصة إذا كانت النظرة الشرعية عند أطرافه قاصرة أو غير مُحكَّمة! أو كان هناك فشلٌ اجتماعي يتجلى في مظاهر عدة، منها سلوك غير سوي من أحد الطرفين أو من كليهما. وقد يكون فجاجة اجتماعية، تبدو في إخفاق أحد الطرفين أو كليهما عن استيعابِ صاحبه، وتَقبُّلِ بعض التصرفات، التي لا تهدم بنياناً ولا توصل إلى قطيعة. وقد يكون إدعاءً وتوخياً لمثاليةٍ خياليةٍ، يريدها طرف من الآخر، والويل لمن يخل بها. والاحتمالات، أعني احتمالات أسباب التعثر كثيرة تسهل قراءتها بوضوح من على صفحة الواقع. فماذا يكون الحل؟
كان الحل الإسلامي تشريعات إسلامية، متكاملة للطلاق، لأنَّ الطلاق كان معروفا في الجاهلية، وقد استغله أهل الجاهلية، لمصلحة الرجال، فأبدوا فيه صوراً من الظلم والتعسف مما لا يُصدَّق ولا يُقبل. فجاء الإسلام بشرع جديد في الطلاق بضوابط دقيقة، وأحكام بينة، مستمدة من عدل الإسلام ورحمته، للخروج من الطريق المسدود للحياة الزوجية المتعثرة، وفتح أفق جديد لتجربة جديدة أمام الطرفين.
وكما ذكرت في المقدمة فإنّي سأتناول بعض جوانب الموضوع التي تدعو إليها حاجة إصلاح الواقع. وسأجعل الحديث من خلال وقفات، أيضاً:
الوقفة الأولى: مع قوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا).
لخصت هذه الآية حكمةً عظيمةً من حكم تشريع الطلاق في الإسلام. ففي الآية ملمح في أنَّ الطلاق بعد فشل محاولات الصلح هو الحل الأمثل، ولا يجب التردد في إمضائه من قبل الزوجين أو ممن حولهما من محاولي الإصلاح. ولعلي لا أكون مغامراً إذا قلت قد يغدو الطلاق في بعض الحالات واجباً شرعياً، لإنهاء الظلم الذي حرمه الله على نفسه، وجعله بين الناس حراما. فالله يغني بالطلاق، في وقته المناسب، بتقدير العقلاء والحكماء والعلماء، كلَّ واحدٍ عن صاحبه، ويجعل له غناءً جديداً في تجربة جديدة، لم يوفق إليها في تجربته الفاشلة الأولى، مع طرف جديد، ويتحاشى الوقوع ثانية في سلبيات وأخطاء التجربة الأولى الفاشلة.
والذي لا بد من التركيز عليه، أنَّ الطلاقَ شرعٌ كما أنّ الزواج شرعٌ. وأنَّ سوء التعامل مع هذا الشرع، بالابتعاد عن حكمته التي شرعت له، والخروج عن ضوابطه التي ضبط بها، ممن شرعه، يغدو عند الله إثما كبيراً، وشراً مستطيراً يصيب كل الأطراف، وحدثاً مثيرا لنزاعات طويلة، وإحن وأحقاد قد يتوارثها الأبناء والأحفاد من الأباء والأجداد. وفي النهاية يكون عبئاً ووبالاً على المجتمع كله.
والآية، بعد طول المعاناة واليأس من استرداد العافية في بيت الزوجية المنهار، تُؤمل الطرفين بالفرج، وتَغيُّرِ الأحوال البائسة، وفتحِ صفحةٍ جديدةٍ، ملؤها التفاؤل، مع ما يحمله الفراق من قسوة وألم (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا). كل ذلك من واسع رحمةِ الرَّبِّ الكريمِ، وبالغِ حكمةِ الرحمن الرحيم.
ويوم نُركِّز على أنّ الطلاق شرعٌ وحدٌّ من حدود الله، يلزم به كل الناس، وبخاصة من جُعلت بأيديهم عصمته من الرجال، لأهليتهم لذلك! فكيف إذا فقدوا تلك الأهلية؟
إنَّ كثيرا من الرجال اليوم صارت ألفاظ الطلاق على ألسنتهم، أكثر من التسبيح، أقصد أنّهم يرددونها بسببٍ وغير سبب، وبغضبٍ ودون غضب، لأنّهم لا يعرفون ما يترتب على ذلك من تبعاتٍ شرعيةٍ، واجتماعيةٍ، وأخلاقيةٍ! ومن استقراء الواقع، واستجواب بعض من تحدثت معهم، يُلخَّصُ سبب تعاطي الرجال مع الطلاق بهذا الشكل غير المعقول وغير الصحيح وغير الشرعي، في الآتي:
1. الجهل المطبق في أحكام الدين، وليس في أحكام الطلاق وحسب! إنّه جهل بأحكام الصلاة والطهارة، ومن كان كذلك، كان لما سوى ذلك أضيع! وهذه مشكلة المشكلات، وكبرى الباقعات، فالدين عند الناس في غربة، والتربية الإسلامية، في المجتمعات المعاصرة أمست في ضياع. فلا البيت يؤدي دوره، ولا المدرسة، ولا المجتمع! فمن أين يأتي صلاح الأجيال!
2. تغطية الفشل الذريع، عند أكثر الأزواج، في قيامهم بدور القوامة الشرعية على البيت والزوجه. وستر ذلك بالتسلط، وسياسة البيت وتصريف الأمور، مزاجيا، وبردود الأفعال. ولذلك، ففي ظني أنّ الرجل يتحمل مسؤولية فشل الزواج بنسبة كبيرة، وإذا كان للمرأة نصيب في ذلك، فهو قليل ويرجع في سببه ابتداء إلى مواقف الرجل.
3. يجد كثير من الرجال في إيقاع الطلاق عنترياتٍ وبطولاتٍ، يتحدثون بها في المجالس أحيانا، هي عندهم من أحلام اليقظة يجعلونها من الحقائق بهذا الأسلوب. يغريهم في هذا جهلهم في الدين، أو عدم تعظيمهم حرمات الله. وقد تثور غيرة بعض الرجال وعصبيتهم لبني جنسهم فيعتبرون كلامي حُكماً جائراً! أقول وأستدل على أنّ حكمي في أولئك عادل، بأنّهم لا يعنون ما يقولون، ولا ما يفعلون، عندما يلقون عبارات الطلاق جُزافا، وبعد أقل من ساعة يستنفرون من حولهم، للبحث عن فتوى تعيد الأمر إلى نصابه، وتنقذ البيت من الانهيار. والمشكلة الكبرى أنّ الرجل يُفاجؤُ حينما يُسأل عن الرقم الترتيبي لهذا الطلاق، فيجيب بأنّه لا يعرف ذلك، لكثرة إيقاعه، طبعاً، ويصرح أحياناً، بأنّه لا يعرف أنّه لا يُسمح له شرعا بأكثر من طلقتين!
ولست ممن يحبون تضخيم الخلل، أو أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. لكنّني أقول مضطراً الحقيقة المرة: إنّ بيوتات ليس عددها بالقليل تعيش على علاقة محرمة بين الزوجين لاستنفادهما فرص الطلاق المأذون بها شرعاً، ولا يعرفون ذلك، ولا الذين من حولهم يدرون! الذي يشغل الجميع الحفاظ على هذا البيت، وهذا الزواج، برغم كل السلبيات المدمرة، فالمهم أن لا يقع الفراق، وتكون الفضيحة بين الناس! وما أُصرح بهذا إلا ليقيني أنّ تشخيص المشكلة، هو أهم خطوة على طريق الحل والإصلاح.
وأسوأ ما تعانيه بعض البيوت من المشكلات بين الأزواج، ما أفرزه هذا الواقع المريض والمنحرف وغير الشرعي، في التعامل مع الطلاق، من أناس، هم من الأخسرين أعمالا، الذين يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. أعني الذين يُفتون بعقولهم وليس بعلمهم، لأنّهم لا يعلمون، أصلاً! محكمين منطق الرأفة والرحمة، وإنقاذ البيت والأسرة من الانهيار، بزعمهم. يفتون فتاوى منحرفة، وغير شرعية لحل تلك القضايا التي هي مستحيلة الحل شرعا إلا بالفراق! فيظهرون الحرص والإنسانية والمنطقية، وكأنّ الحلول الشرعية تعارض ذلك. وأصحاب المشكلة من الزوجين ومن حولهم، راضون بهذا الجهل المطبق، والضلال المبين، لأنّه يُبقي على ذلك البيت المنهار، ولا يُفرق بين الزوجين، ويسبب ضياع الأولاد! زاعمين أنّهم وجدوا عند أولئك الدجاجلة، المخرج من النفق الذي سدته في وجوههم، الحلول والأحكام الشرعية، وإلى الله المشتكى.
ومما يساعد على اتساع رقعة الخلل، عدم وجود الردع، وكيف يكون الردع؟ الردع في مثل تلك الوقائع، يكون عند الغيورين على أمر الدين، في فضح أولئك الدجاجلة الجهال والمرتزقة، وتحذير الناس منهم، وإرشادهم إلى أهل العلم المؤهلين لمعالجة هذه المشكلات الشرعية الاجتماعية الخطيرة، وفق أحكام الشرع الحنيف. ومن الخطأ الكبير في معالجات مشكلات الخلافات الزوجية، اتخاذ الأطفال ذريعة للف والدوران في فتاوى الطلاق، بدعوى أنَّ في افتراق الوالدين ضياعاً للأطفال، وأنَّ.. وأنَّ..!! وهل فات هؤلاء أنّ الذي شرع الطلاق يعلم أنّ كل، بل جل، المتزوجين بينهم أطفال! والعجيب أنّ الأبوين الباحثين عن فتوى، من أجل عدم وقوع الطلاق، يستدران عطف من يستفتون بذكر عدد الأولاد وأعمارهم وغير ذلك، لكنّهم يوم ارتكبوا الحماقات التي أوصلتهم إلى الطلاق، غير محسوب العواقب، لم يفكروا في أولادهم آنذاك.
ولقد جرأ الناس وأغراهم بالمخالفات، من يبث في الناس، ممن يفتي بغير علم، أنّ الطلاق له كفارة، وهم يخلطون بين إيقاع الطلاق ويمين الطلاق. واسمعوا إلى من فهم الإسلام وأحكامه الفهم الصحيح، وعَظَّم شعائر الله وحرماته حق التعظيم، وهو ابن تيمية رحمه الله، يقول إجابة عن سؤال عن الطلاق: (النوع الأول: صيغة التنجيز مثل أن يقول: امرأتي طالق أو أنت طالق أو فلانة طالق أو هي مطلقة ونحو ذلك، فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين ومن قال: إن هذا فيه كفارة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل). فأين ما يفتي به الجهال اليوم من هذا الحق المبين..؟

الوقفة الثانية: مع قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
والمنغمس في مشكلات الناس في أمر الطلاق، يرى أنّ الكثير من الناس، سواء أطراف المشكلة من الزوجين ومن حولهم، أو القائمون على المعالجة، يقعون في مخالفة أساسية للآية السابقة. وهي إهدار جهود الصلح التي يمكن أن تبذل قبل الوصول إلى الطلاق، للابقاء على بيت الزوجية وعدم تقويض بنائه، وإنقاذ الأسرة مما يترتب على الطلاق من مفاسد، إن كان ذلك ممكنا، والله يقول (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ). وخيرية الصلح لا شك في أنّه خير من الفراق، وخير لأنّه قد يضع حداً لمعاناة طويلة، لم يتح لها وقفة متأنية جادة، لا من الزوجين، ولا ممن حولهم! وقد يكون الفراق خيرا، حين يصبح ضربة لازب، إن قرر الحكماء من حول الزوجين ذلك، لأنّ استمرار الزوجية بينهما بدا غير ممكن.
والأنكى أن يجد المدقق في أحوال الناس محاولات لإعاقة إمضاء الطلاق، والخروج من جو الخصومة والنكد، إلى الطلاق الذي أصبح الحل الوحيد للأزمة. وما هي أسباب تلك الإعاقة؟ إنّه الشح الذي ذكرته الآية، فكل من الطرفين يريد، قبل أن تقع الكارثة، أن يبتز الطرف الآخر مالياً، بالقدر الذي يستطيع، إلى آخر لحظة، لِيُحدّث، عن انتصار مادي حققه، دون إعتبار للكارثة التي وقعت، في خراب بيت من بيوت المسلمين، وضياع أطفاله. ولطالما كنت أقول ولازلت، أنّ على كل من له صلة، بخلافٍ بين زوجين، ويسعى إلى حل، أن يعلم أنّ تـأخير الطلاق من أجل تسوية ممكنة، هو الواجب وهو الخير. وأن الإسراع بإمضاء الطلاق والتفريق هو الواجب وهو الخير، مادامت القناعة قائمة بأنّ الحياة الزوجية تستحيل بين ذينك الزوجين. والله سائل الجميع عن أدوارهم.
ويجب ألا يتجاهلَ متجاهلٌ، خطورة مضي الزمن، مع حالة زوجين تستحيل بينهم الحياة الزوجية، مع الوفاق، لتناكر الطباع بينهم، أو لاختلاف كبيرٍ بين الزوجين في فهم الحياة الزوجية، فما من لحظة يقضيانها معا إلا يسودها الشقاق والنكد والتحي، وفي أحيانٍ كثيرة، السباب والشتائم. وكل ذلك يكون، وكل المشاهد المخزية تعرض والأطفال، على اختلافِ أعمارهم شاهدون! فأي نوع من التربية سيتلقى الأطفال في ذلك البيت؟ وكم تتفاقم المأساة، مع كل دقيقة تمر، دون إمضاء الطلاق وإيقاع الفراق؟ وأيُّ معانٍ ومواقف، ستنغرس على صفحات تلك النفوسِ البريئةِ، نفوسِ الأطفال، لتخرج في المستقبل عُقداً نفسية وحقداً وتحاملاً! أي منطق هذا الذي لا يشتري الهناءة وراحة البال، وطاعة الله فوق كل شيء، بتنازلٍ عن مالٍ أو بعضِ مالٍ، لتُطفأَ تلك البؤرة الملتهبة، ويسلمَ الجميع، وبخاصة الأطفال، من معارك اجتماعية لا مبرر لها؟
مرة أخرى فإنّ المتعاطي مع مشكلات الطلاق، يشهد أنّ الله حق، والقرآن حق، والإسلام حق، والنبي حق، حينما يرى هذا التشخيص الرباني لما عليه مشاحات الناس اليوم، والذي اختزله الكتاب الكريم بكلمة (الشح) تحذيراً من عواقبه، وتوجيهاً إلى استبعاده، في مسألة الخلاف الزوجي.

الوقفة الثالثة: مع قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).
شاء الله بحكمته، وهو أحكم الحاكمين، أن يضع أهل الشقاق الزوجي، بين خيارين شرعيين لا ثالث لهما. وحين أقول خيارين شرعيين فإنّي أعني ما أقول، في أنّ أي اختيار غيرهما هو معصية لله تبارك وتعالى، وكيف يرجو التوفيق من ارتضى الحل بمعصية الله..؟
والحلان؛ إما أن يصفي الطرفان، بالتفاهم والتحاور، مع مساعدة المؤهلين من الأقرباء وبالأخص الحكمان، الخلافات، وفي الغالب ما تكون تافهة، فيثوبان إلى رشديهما ويستأنفان حياتهما الزوجية بالمعروف، من حسن العشرة وعلاقة المودة والرحمة، وينسيان الماضي ويعفوان ويصفحان. وإما أن يكون القرار الصائب ممن حول الزوجين باستحالة استمرار الحياة الزوجية بينهما، وأن لا بد من الفراق، ويكون الفراق حينئذ هو الحل الأمثل والحكمة العظيمة، ولا يجوز تأخيره لحظة، ما دام الإصلاح ميؤوسا منه.
ولهذا الفراق آدابه بل لوازمه بأمر من العلي الحكيم، في أن يكون بإحسان وقد سماه الله تبارك وتعالى (بالتسريح) وهو ألطف من لفظة الطلاق. وهل يعي أهل زماننا اليوم، حين يُبتلون بالطلاق، قيمة وضرورة تطبيق: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). إنّ تطبيقها طاعةٌ لله، وتركَ ذلك معصيةٌ تستوجب العقوبة الربانية. هل يستحضر الناس، اليوم أنّ هذه الآية أنزلت لإنصاف المرأة من تعنت الرجل، يوم لا يَعرف المعروف ولا الإحسان! لنقرأ هذا الحديث: عن ابن عباس: (أنّ الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك ونزل {الطلاق مرتان}). فالآية على هذا إبطالٌ لما كان عليه أهل الجاهلية، وتحديدٌ لحقوق البعولة في المراجعة، بعد أنْ كان مفتوحاً، يجعل الرجل يتصرف كيف يشاء.
ولعل الحديث عن عائشة رضي الله عنها، يوضح ما كان عليه أمر الجاهلية من تعسف في الطلاق، نورده رغم ضعف سنده وهو في الترمذي لمعرفة صورة ما كان عليه أهل الجاهلية من أمر الطلاق، بعد أن أوردنا حديث ابن عباس الصحيح (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته والله لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبدا قالت وكيف ذاك قال أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك). وفي رواية تقول: (إنّ الرجل كان يقول لإمرأته: والله لا تركتك لا أَيماً ولا ذات زوج). ظلم وحقد وامتهان يمارسه الرجل مع زوجته سنين عددا ولا ينفرج أمرها حتى تلقى ربها. فكيف يرضى الله بهذا..؟ وأذكر بما قلت: إنّ الحديث السابق لا يصح سنداً، ولكنّنا استفدنا من معانيه، وهي صحيحة. وفي ذلك يقول علماء الحديث: إنّ الحديث يصحُّ معنىً، ولا يصح مبنىً.
وفي كتاب الله آيات أخر في الموضوع نفسه وفيها زيادات يحسن أن نطلع عليها: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
ولنتأمل قول الله تبارك وتعالى: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) فإنّ إمساك المرأة بغير دافع الإصلاح، والحياة الزوجية المستقرة، قد سماه الله تعدياً على حقوق المرأة من جهة، وتعدياً على حدود الله من جهة أخرى، واعتبرت الآية من يخالف هذا التوجيه الإلهي، ظالماً لنفسه، مُستهزئاً بآيات الله وما أنزل من أحكام.

وننتقل إلى آيات أخر: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). سمى الله تبارك وتعالى منظومة الأحكام المنزلة لتنظيم علاقة الزوجين (حُدُودَ اللَّهِ) تحذيرا من التعدي عليها والإخلال بما جاء بها.
ولقد تكرر في الآيات السابقة ألفاظ (الإمساك بمعروف، والتسريح بإحسان)، وغيرها من ألفاظ تحمل المعاني نفسها، فماذا نفهم منها؟
إنّ الله تبارك وتعالى أمر بالمعروف والإحسان، علاقة تسودُ حياة الزوجين في كل شأن، وما ذاك إلا المودة والرحمة التي تحدثت عنها آية أخرى على أنّها السمة الرئيسية في علاقة الزوجين. ولكن الذي غفل عنه الناس وفعلوا خلافه، المعروف والإحسان عندة المفارقة، وهو لا شك معصية لله. وقد يتساءل الناس، لقد دُمِّر البيت، والزوجان في طريقهما إلى الافتراق، فأين يكون المعروف والإحسان؟
إذا قدر الله الفراق بين الزوجين، وهو لصالح كلٍّ منهما، بعد أن تعذر استمرار الحياة الزوجية بينهما. فهل من الدين ومن الخلق ومن العدل، أن يُسحب الشقاق، وفساد ذات البين، بين فردين من أسرتين ليعم الأسرتين، وتبدأ القطيعة والعداوة التي ستورث لأجيال صاعدة، لم تشهد ذلك الخلاف، ولم تكن طرفا فيه؟ ليس هذا افتراضاً، إنّما هو واقع متكرر! فهل هذا من خلق الإسلام؟ لا، والله، بل هو من الجاهلية الأولى، الذين كان ينشد شاعرهم، زفر بن الحارث، ويقول:

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى … وتبقى حزازات النفوس كما هيا

يجب أن يسود التسامح بين الأسرتين، وقد يكون بينهما رحم، فلا تقطع، وتبقى العلاقة الطيبة بينهما، ولا يعكر صفو الود بينهما، فشل رجل وامرأة منهما، في الوفاق في بيت الزوجية. وقد يحدث أن يوفق كلٌّ من الزوجين الفاشلين بعد الطلاق، إلى زواج موفق، تخيم عليهما السعادة من كل جانب، كما أخبرنا ربنا (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا)، في حين أنّ أسرتيهما لا تزالان تعانيان الشقاق والفراق، وتورثان الحقد والكراهية من أجلهما. أما الشعار الإسلامي الخالد، الذي يجب أن يطبقه المؤمنون طاعة لربهم، فهو (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). ولْنتنبه إلى آخر هذه الآيات، وهو قول الله تبارك وتعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). فالحياة الزوجية، لها ضوابطُ وأحكامٌ شرعية، وليست منقادة مع أمزجة الزوجين وأهوائهم، يتصرفون كيف يشاؤون، بل عليهم أن يعلموا أنّهم عند الله مسؤولون.
هذا ما يجب أن يكون. ولْيعلم الناس أنَّ كلَّ كلامٍ عن الماضي، وأيَّ تعريضٍ بالأشخاص، يصبح بعد فراق الزوجين، ذنوباً كبيرة كالغيبة والقذف..! فهل هذا مطبقٌ في حياتنا الاجتماعية اليوم؟
إنّ الواقع يشهد أنّ التقاطع والتدابر يسود الأسرتين ويمتد حتى للأحفاد. ولقد رأيت في بعض السعوديين فهماً وتطبيقاً لأحكام الآيات السابقة. فأعرف أشخاصاً، تجد أعزَّ أصدقاء الواحد منهم، شقيقَ مطلقته، لم يفسد الطلاق الود بينهما. وأعرف من طلق ويزور أهل مطلقته في المناسبات. هذا الذي يقتضيه (المعروف والإحسان) في الآيات السابقة.

الوقفة الرابعة: مع قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا).
هذا التوجيه القرآني، بل الأمر القرآني لقوله (فابعثوا) يوشك أنْ يكون غائباً من حياة الناس الاجتماعية، اليوم. لا سيما في ما يتعلق بالخلافات بين الزوجين. وأحب أنْ أبين أنّ مسألة التحكيم هذه وإن جاءت في معرض الخلاف الزوجي، إلا أنّ العلماء اعتبروا هذه الآية أصلا في جواز التحكيم في سائر الحقوق ومسائل الخلاف، ومسألة التحكيم مذكورة في الفقه. وأستحضر ما كان عليه أجدادنا في هذا البلد وغيره من شمول أسلوب التحكيم لكثير من مناحي الحياة. وما ألفاظ (شيخ الصاغة، وشيخ الحدادين، وشيخ الكار.. وغيرها) مما هو أسماء لعائلات معروفة في المجتمع، إلا دليل على اهتمام الناس، سابقا، لإيجاد مرجعية لكل مهنة وفن، يُحتكم إليها عند التنازع. ولنتذكر أنّه لم تكن تخلو أسرة كبيرة أو مجموعة أسر بينهم قرابة، من مُحَكَّمٍ من أهل الرأي والفهم يصار إليه عند الاختلاف. أما اليوم فكل خصمين حتى الأزواج، يحاولان حل الخلاف بينهما دون مرجع أو مُحكَّم، بل عن طريق المناطحة رأساً برأس، ولذلك تبقى الخصومات في تأزم حتى الانفجار الذي ما تدرى عواقبه. وفي موضوع التحكيم، أحب التركيز على الفِقر التالية:
1. في الراجح أنّ الأمر بتكليف الحكمين، موجه إلى أولياء الزوجين، والمهتمين بشؤونهم من حولهم.
2. يجب أن يكون الحكمان من أهل الطرفين الزوج والزوجة، لأنّهم ألصق بالمشكلة من الأباعد، ولأنّهم لقرابتهم يؤتمنون على أسرار البيوت. ولا يُلجأ إلى الأباعد، إلا إن تعذر تحكيم الأقارب.
3. يجب أن يعلم كل الأطراف، أنّ حكم الحكمين نافذٌ، وأنّ مجرد اختيارهما للتحكيم، يعني ذلك قبول حكمهما. ولا يجوز لأحد التنصل من ذلك.
4. إنَّ الله وعد الحكَمين بتوفيقهما في مهمتهما، ما داما يريدان الإصلاح، ولا يثنيهما عن ذلك محاباة طرف، أو التأثر بضغط خارج عن قناعتهما. ومن المفسرين من اعتبر الوعد بالتوفيق هو للزوجين المختلفين إن أرادا إصلاح ذات بينهما، والتزما ما يحكم به الحكمان، و كلا الرأيين متوجه، ويمكن اعتبارهما معاً.
5. من تعظيم أمر الله، والعمل بكتابه، أن لا يُلجأ إلى أي أسلوب غير التحكيم حين يصل الخلاف بين الزوجين إلى حد الشقاق، أما الخلافات التي دون ذلك فيكفي فيها مناصحة الوالدين وبعض المقربين.
وكم مِن مرةٍ، طلبت فيها ممن يستشيرني في خلاف زوجي، تطبيق أمر الله تبارك وتعالى بالتحكيم، ويكون الجواب ليس عندنا في الأسرتين من يصلح للتحكيم! وما ذاك إلا رفضٌ وهروبٌ من التحكيم، الذي أمر به الله!

2. أحكامٌ في الزنا
لا أريد أنّ أتحدث عن مضار الزنا وخطورته في المجتمعات، والنتائج التي يخلفها، فهذا ليس شأني الآن. إنّما الذي أريده أن أُبرز حكمة الإسلام في بعض معالجاتٍ لواقعة الزنا، لم تتضح في عقول بعض المسلمين، أو أنّها تعرضت للتشويش والتشويه، من مناهضين للإسلام. وأما الذين يعتقدون أنّ ممارسة الجنس حق طبيعي للبشر كالأكل والشرب والتنزه، وأنّ (الدعارة) بكل أشكالها لا تشكل عندهم خطرا يهدد المجتمع، لأنّهم لا يؤمنون بشيء اسمه الطهارة أو العفة، فهم ليسوا معنيين بما أقول، ما لم يرتقوا من مرحلة البهيمية التي يعيشون، فيما يخص الجنس، إلى مستوى الرقي الإنساني الذي يفهم فلسفة الجنس، ودورها الخيِّر في الحياة بين بني البشر. وقد نجد لأولئك القوم إسهاماتٍ وأبحاثاً، في موضوع الجنس، لكنّها ليست للإصلاح والرقي عن البهيمية، بل لتكريس الانغماس بها. من ذلك أبحاثهم في نشر الوعي والثقافة الجنسية، بزعمهم، فيما يخص الوقاية من انتشار العدوى، والحيلولة دون الحمل! ويصل اهتمامهم المنحرف، إلى حد تأمين (الواقي الذكري) في كل مكان، وبذله مجانا أحيانا، وبخاصة بعد أن دهمهم (غول الإيدز)، وحار في مكافحته علمُهم وطبُّهم وعقلُهم. وقد قرأتُ مرة، والعهدة على من كتب، أنّ بعض المدارس، في بلاد الغرب توزع الواقي الذكري على الطلبة. ثم يضلِّلون، فيسمون ذلك تربية جنسية…! هذا هو اهتمامهم وهمهم، فيما يخص الزنا، وهو بلا شك صدىً لفهمهم الخاطيء. وعندهم جريمة واحدة مكروهة، مرفوضة ومعاقبٌ عليها، وهي الاغتصاب والإكراه، إلى حد أنّ بعض القوانين في بعض البلدان تُعاقب الزوج إن شكته زوجته بأنّه يكرهها على الوقاع وهي ليست راغبة. وما سوى ذلك، فهو عندهم محكوم بمثلنا الشعبي (القاضي راضي).
أما نظرة الإسلام للزنا التي تعبر عنها الآية الكريمة (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) تحذر من مقدماته، وهي كل ما يُرى اليوم في العالم من تفنن في وسائل الإثارة المقروءة والمسموعة، والمنظورة، التي توقظ الشر، وتهيج الفتنة، وتعين على الباطل! ثم تؤكد الآية أنّ الزنا فاحشة تسري في المجتمع لتهبط به إلى الحياة البهيمية التي لا تعرف في الجنس إلا معنى قضاء الشهوة. وإنه لأسوأ سبيل يسير فيه أي تجمع بشري.
إنّ الإسلام لا يهدف إلى إنهاء المخالفات كليا في مجتمعاته، فهذا مستحيل لاستحالة انضباط جميع البشر. والمجتمع الأمثل الذي كان يعيش فيه صلى الله عليه وسلم لم يخل من مخالفات. لكنّ همّ الإسلام أن لا تصبح المخالفة ثقافة في المجتمع، يجاهر بها دون أي رادع. وفلسفة الدين في هذه المعالجة تقوم على أساس أن تكون استقامة الناس بدافع ذاتي، وهو خوف الله في سرهم وعلنهم، ولا يريد أن تكون استقامة الناس خوفاً من الرقيب البشري، لسبب منطقي بسيط وهو أنّنا إن حملنا الناس على الاستقامة خوفا من رقيب بشري، تركوها إذا خلوا إلى أنفسهم أو أمنوا عين الرقيب. فالإسلام يترك الناس في سلوكهم، مع ربهم وخالقهم وهو الذي سيحاسبهم، لكن كل من يريد أن يستعلن بالمخالفة، وينتهك حرمة المجتمع، ويجعل المخالفة ثقافة تربى عليها الأجيال لا بد من الأخذ على يده.
على ضوء هذا التوجه يمكن أن نفهم بوضوح وإعجاب عقوبة الزنا في الإسلام بعد أن نورد الآيات المتعلقة بذلك: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

ونستمر على طريقتنا في مقاربة الموضوع من خلال وقفات:
الوقفة الأولى: مع قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).
في كثير من العقوبات التي فرضها الإسلام على مخالفات وانتهاكات نرى قاعدة (الجزاء من جنس العمل) مطبقة. فالزنا مخالفة وانتهاك من ورائه نشدان اللذة والمتعة الجسدية، دون عَبْءٍ بما نهى الله عنه، ودون اكتراث بطهارة وعفة الآخرين. فناسب أن تكون العقوبة إيلاما للجسد في مقابل المتعة المحرمة التي نالها المخالف.
وجاءت تتمة الآية تقول: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، لتقطعَ الطريق على من يتلبسون لباس حقوق الإنسان، ودعاة الشفقة واللاعنف، ولتبينَ أنّ العنف الموجود في العقوبة ليس اجتهاداً من عقل بشري، إنّما هو مرتبط بالإيمان بالله واليوم الآخر، فمصدره إلهي، لا يقبل الطعن والاعتراض والاستدراك، وإقامتُه وتطبيقُه مرتبطٌ بطاعة الله واستحضارِ الوقفة بين يدي الله تبارك وتعالى، يوم القيامة. ولكي يكون هذا الإجراء في عقوبة الزناة، مؤديا كل النتائج المرجوة منه، يأتي آخر الآية بتوجيه (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). فكما أنّ الجاني لم يستتر وجاهر بمعصيته، غير عابيء بطهارة وعفة المجموعة من حوله، استلزم من ذلك إشهار العقوبة، ليتحقق فيها أمرُ الردع لمن تحدثهم أنفسهم بالفعل نفسه، ويعلموا أنّهم سيلقون المصير نفسه. وأنّ من لم يستتر في معصيته، لا بد من أن يُفضح في عقوبته، على رؤوس الأشهاد، وهي مرة أخرى على قاعدة (الجزاء من جنس العمل).
أما الآية التي بعدها تؤكد لمرتكبي هذا الإثم العظيم، أنّ اسماً ووصفاً مشينين (زاني، زانية) قد التصقا بشخصيهما، يلاحقانهما في المجتمع أينما توجها، ويُنفران الناس منهما، ليصل الحد إلى أن يفقد كل منهما حقه في الزواج، فلا يجوز أن يرتبط بزان إلا زانية مثله، أو مشركة تلتقي معه، على استحلال ما حرم الله. ولا يرتبط بزانية إلا زانٍ مثلها أو مشركٌ يلتقي معها على استحلال ما حرم الله. وهل يبقى هذا حكماً إلى الأبد..؟ وهنا تتجلى عظمة الدين، وحكمة التشريع، والتي هي أصل اختيار الموضوع كيف؟
يشدد الحصار على مرتكب الذنب، ويضيق عليه، وتحيط به خطيئته من كل جانب، ويلتفت ليرى تلقاءه أكبر بابٍ مفتوح للهروب من الإثم الذي يلاحقه، ولِيأويَ من خلاله إلى ركن التوبة الركين، التي تمحو كل ما كان قبلها من الخطايا، ولو كان قراب الأرض (التائب من الذنب كمن لاذنب له). لذلك جاءت نهاية الآيات السابقة المتعلقة بالزنا (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

الوقفة الثانية: مع جريمة القذف…
لما كان الزنا كما قال عنه تبارك وتعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)، ويزيده بشاعة وشناعة ما تعلق به من أحكام، ذكرنا أبرزها قبل قليل. ولما كانت قضية الأعراض عند كل البشر على اختلاف مشاربهم مسألة حساسة لا تقبل الولوغ، والاستطالة فيها، استغل الأراذل من الناس، من ضعاف النفوس، والذين لا يخافون الله، ولم يتأدبوا بأدب الإسلام، مسألة الأعراض للانتقام والكيد والإساءة والابتزاز. فيرشقون التهم، ويشيعون الفاحشة، فكيف يضرب على أيدي هؤلاء العابثين؟ موطن آخر من مواطن الحكمة في التشريع الإسلامي. ولْنقرأ قوله تعالى: (الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
كل من يرمي امرأة بالزنا، فعليه أن يأتي بأربعة شهداء، وتعلمون أنّ نصاب الشهادة في الإسلام، شاهدان إلا في هذه المسألة، لخطورتها فالنصاب أربعة. وماذا يشهد الشهود حتى تكون شهادتهم صحيحة؟ يقول الشيخ العثيمين في الشرح الممتع: (ولا بد أيضاً أن يصف الزنا؛ لأنّه حد من الحدود، فيقول مثلاً: إنّه رأى ذكره في فرجها داخلاً، كما يدخل الميل في المكحلة، فإن شهد بأنّه فوقها، وأنّه يهزها مثلاً فهل يكفي ذلك أو لا؟ لا يكفي؛ لأنّ مثل هذا لا يثبت به حد الزنى، فلو أنّ شخصاً رأى إنساناً على امرأة، ورأى منه حركة تدل على الجماع، فإنّه لا يشهد بالجماع، ولكن إذا اعتبرنا هذا الشرط في الشهادة بالزنا، فلا أظن أنّ زناً يثبت بشهادة، فمتى يمكن أن يشهد الإنسان بأنّ ذكر الرجل في فرج المرأة؟!).
ولا أكون مجانباً للصواب، إن شاء الله، إذا قلت: كأنّ الشارع الحكيم، شاء أن لا يقام حد الزنا بالشهود، لاستحالة ذلك، إلا إذا كان الفاعلين في غاية الاستهتار، وتعمد الفضيحة والإستعلان، كما هو الحال في بعض بلاد الكفر. وكما أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الفواحش سترتكب على قارعة الطريق. وما دامت الفاحشة متواريةً، يسلم منها حياء المجتمع، وتسلم حياة أفراده، بأن لا تنتشر بالعدوى والتقليد، يوكَل الناس إلى أنفسهم، ودينهم، وحسابُهم العادلُ عند ربهم. ويبدو عندئذ التشدد في أمر الشهادة، إلى حد استحالة حدوثها، أمراً بالغ الحكمة، لتسلم سمعة الناس وأعراضهم، من أن تكون ألعوبة بيد الفساق. ولو أفلتت من يد العقوبة، حالاتٌ من المخالفة مستترة! يقول ابن تيمية رحمه الله في كتاب المنهاج: (لم يثبت في الإسلام الزنا بالشهادة على الفعل أبداً، إنّما ثبت بالإقرار، لكن أن يأتي أربعة يشهدون بأنّ ذكره في فرجها بزناً واحد!! فهذا صعب جداً، وعلى كل حال هذا القيد قد يكون فيه رحمة، وهو حفظ أعراض الناس حتى لا يجرؤ أحد على الشهادة بالزنا بدون أن يتحقق هذا التحقق العظيم).
وماذا تكون النتيجة لو أنّ واحداً من الشهداء الأربعة لم يشهد كما شهدوا؟ يقام حدُّ القذف على الثلاثة الآخرين. فهل من حرص بعد هذا الحرص، وهل من سد لباب الاستهتار بالأعراض، بعد هذا السد..؟
وليُعلم أنّ القذف يكون للرجال والنساء على حد سواء. جاء في كتاب تفسير آيات الأحكام: (تخصيص النساء في قوله {المحصنات} لخصوص الواقعة، ولأنّ قذفهن أغلب وأشنع، وفيه إيذاء لهن ولأقربائهن، وإلا فلا فرق بين الذكر والأنثى في الحكم، وقيل في الآية حذف تقديره (الأنفس المحصنات) فيكون اللفظ شاملاً للنساء والرجال وقد حُكي هذا عن ابن حزم، والراجح أنّه من باب التغليب).

الوقفة الثالثة: مع رجم المحصن…
بدأ الخوارج فرية، ثم تلقفها منهم فيما بعد، بعض أهل الأهواء وفيهم معاصرون، في أنّه لا تفريق بين زانٍ مُحصن وآخر غيرِ مُحصن، وأنَّ حدَّ كلِّ زانٍ الجلدُ مئة. وحجة القائلين كحججهم في كل افتراء، أنّ القرآن لم يذكر ذلك، ومن أصل انحرافهم عدم الاستدلال بالسنة، فكرسوا هذا الافتراء. والرد على هؤلاء المبطلين أنّ السنة كافية لإثبات أي حكم في الدين، ولو استقلت بذلك، وجاء في الحديث: (وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ).
وقد ثبت الرجم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، في قصة ماعز بن مالك الأسلمي، وقصة المرأة الغامدية، والأحاديث في ذلك صحيحة شهيرة كثيرة بعضها يبلغ التواتر. ومن حججهم الواهية قولهم عن الملاعنة أنّ الله قال (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ)، فقالوا لا يسمى الرجم حتى الموت عذاباً، وفهموا أنّ المقصود بالعذاب الجلد، وهذا غاية الانحراف والتنطع، في تحكيم العقل، وتهميش النصوص، فهل من مدكر؟
كذلك يثبت حكم رجم المحصن حتى الموت، من خلال أحاديث تثبت آية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها: عن عمر قال: (إنّ الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى. فالرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت به البينة أو كان الحبل أو الاعتراف وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم).
وعن سعيد بن المسيب: أنّ عمر خطب فقال: (إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل: لا نجد الرجم فى كتاب الله فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، وإنى والذى نفسى بيده لولا أن يقول قائل أحدث عمر بن الخطاب فى كتاب الله لكتبتها ولقد قرأناها الشيخ والشيخة فارجموهما البتة).
يقول الشوكاني في نيل الأوطار: (قد وقع ما خشيه رضي الله عنه حتى أفضى ذلك إلى أن الخوارج وبعض المعتزلة أنكروا ثبوت مشروعية الرجم كما سلف. وقد أخرج عبد الرزاق والطبراني، عن ابن عباس أن عمر قال سيجيء أقوام يكذبون بالرجم. وفي رواية للنسائي: وإن ناسا يقولون ما بال الرجم فإن ما في كتاب الله تعالى الجلد، وهذا من المواطن التي وافق حدس عمر فيها الصواب).
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة وكان فيها “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة”).

3. أحكامٌ في اللعان…
ما دمنا تناولنا بعض جوانب معالجة الإسلام لمشكلة الزنا، فلا بد من التعريج على مسألة وثيقة الصلة بالموضوع وهي اللعان بين الزوجين، وتسمى الملاعنة. وقد أخذت التسمية من قوله تعالى (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
والملاعنة حلٌ، يصح أن يوصف بأنّه قِمَّةٌ في الحكمة، ومخرجٌ غاية في المنطقية والراحة، من شك يلف الأسرة، ويهدد بقاءها لأنّه يعصف بكل مقومات الحياة الزوجية! زوجٌ يَشُك في عفاف زوجته وطهرها، ولو باح بذلك وليس معه الشهود الأربعة لكان قاذفاً مستحقاً للحد، وإن طلقها طلاقاً عادياً لأُنكِر عليه، حتى من أقرب الناس إليه وإليها، ممن لا يعرفون الحقيقة، وسيلاحقه دوماً سؤال لِمَ طلقت؟ وخاصة ممن يرونها من الخارج، زوجة عفيفة جيدة! فإن شكا وباح لم يسلم من إتهامٍ وحدٍّ، وإن سكت لم يسلم من شبح الخيانة الزوجية يلاحقه، والزوجة الخائنة بظنه أمام عينيه ليل نهار. فكيف تستقر الحياة؟ تأزمٌ مستمرٌ، ومعاناةٌ بازدياد، ولا سلوى ولا تنفيس!
وإنّ المنظور الدنيوي والاجتماعي، يتنبأ بجريمة قتلٍ، أو جريمة انتحارٍ وشيكتي الحدوث، وفي أية لحظة، ومسرح ذلك، بيتُ تلك الأسرة المعذبة، التي يلفها الشك، والظن السيء، والكراهية من كل جانب! فماذا يبقى من هذين الأبوين لأولادهما، ولمستلزمات الحياة المقبلة؟ يصور هذه الواقعة الحديث التالي عن ابن عمر: (إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ أَحَدَنَا رَأَى امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. فَلَمْ يُجِبْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ ذَلِكَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابتُليتُ بِهِ فَأَنْزَلَ الله {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} حتى ختم الآيات).
وطرح المسألة بأسلوب آخر صحابي آخر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنقرأ حدبث سهل بن سعد: (أَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ وَسَطَ النَّاسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِى صَاحِبَتِكَ فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا). قَالَ سَهْلٌ فَتَلاَعَنَا).
وثالثٌ من الصحابة عليهم رضوان الله، تساءل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم كالآتي، كما يروي الحديث ابن عباس: (أَنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِىُّ: (الْبَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ). فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ. فَجَعَلَ النَّبِىُّ يَقُولُ: (الْبَيِّنَةَ وَإِلاَّ حَدٌّ فِى ظَهْرِكَ). فَقَالَ هِلاَلٌ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّى لَصَادِقٌ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِى مِنَ الْحَدِّ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ)).
ولنقرأ آيات سور
ة النور التي نزلت في المتلاعنين
: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ).
ويزداد إعجابنا بالحل الإسلامي، وتقديرنا البالغ لحكمة المعالجة، إنْ استحضرنا واقع المجتمع العربي حتى في الجاهلية، ذاك المجتمع الذي يخشى العار إلى حد وأد البنت خوفاً من عارها، فكيف بعار يلحقه من خيانة الزوجة؟
ولا شك أنّه شرع مُطهرٌ حكيمٌ، وله مناسبته التي لا ينفع فيها أي حلٍ أو معالجة، إلا ما جاء في الدين الحنيف. ولنقرأ كلام الصحابي، يصور لنا الواقع الاجتماعي، آنئذٍ:
عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: (قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: (تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)).
وأيمان الزوج في الملاعنة هي بمثابة اتهام الزوجة أمام القاضي، وتوثيق ذلك الاتهام بشهادات أربع، يشهدها بالله أنّه صادق. وقد فهم بعض العلماء أنّ الشهادات الأربع، تقوم مقام الشهود الأربع، الذين يستحيل الإتيان بهم! ويأتي بالشهادة الخامسة، شاهداً على نفسه أنّه مستحق للعنة الله إن كان كاذبا. أما شهادة الزوجة بعد شهادة الزوج، أمام القاضي، فهي رد وتكذيب لشهادة الزوج دفاعاً عن نفسها، ونجاةً من أن يقام عليها حد الرجم حتى الموت، وهو ما عبر عنه القرآن (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ). ثم تضيف الشهادة الخامسة، على نفسها أنّها مستحقةٌ غضبَ ربِّها، إن كان زوجها صادقاً في ما يتهمها به.
نحن الآن أمام قضية يستحيل البت فيها من قبل القاضي، أي قاضٍ! فيكون الحل الحكيم أن يُطوى ملفها أرضياً، وترفع إلى المحكمة العلوية، محكمة السماء، التي لا تُخطيء ولا تَحيف. ويصور النبي صلى الله عليه وسلم عجزَ المحكمة الأرضية، لا عجزه الشخصي، لأنّه يصدر عن صفته قاضياً لا نبياً، عن البت في القضية بعد أن استمع للزوجين، ثم فرق بينهما لاستحالة الحياة بينهما، وكل يكذب صاحبه، في مسألة ومشكلة هي الأسوأ مما يقع بين الزوجين من مشكلات! يقول ابن عمر قال: (فَرَّقَ النَّبِىُّ بَيْنَ أَخَوَىْ بَنِى الْعَجْلاَن ، وَقَالَ: (اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟) ثلاثا).
وفي رواية أخرى لابن عمر رضي الله عنهما، يضيف في آخرها حكماً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إسقاط كل التبعات المالية عن الزوجين تجاه بعضهما: (قَالَ النَّبِىُّ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ: (حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لاَ سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا). قَالَ: مَالِى؟ قَالَ: (لاَ مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهْوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَ ، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ)).
وحتى لا
يُظن أنّ التفريق بين المتلاعنين، وإجراء الملاعنة لا يكون إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنّه خاص به. فقد جاء في المتفق عليه من حديث سهل بن سعد، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ذَاكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلاَعِنَيْنِ). فهو تعليم منه صلى الله عليه وسلم للقضاة من بعده.
والمتلاعنان لا يجوز زواجهما بعد ذلك، لأنّ التفريق بعد الملاعنة ليس طلاقا، بل هو فسخٌ، من قبل القاضي. وقد جاء عن مالك رحمه الله، في الموطأ: (السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَتَنَاكَحَانِ أَبَدًا، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ الْحَدَّ، وَأُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ أَبَدًا).

وقبل أن أختم الموضوع، لا أحب أن أُفَوِّت عليكم فائدة، لا علاقة لها بالموضوع المطروح، ولكنّه أدب وسلوك شرعي، علمه الرسول صلى الله عليه وسلم للمستفتي والمفتي. وهذا الأمر قد فات أكثر أهل زماننا. فترى الناس يسألون عن مسائل افتراضية لم تقع، إرضاء لفضول عقولهم، ويجد المفتون في ذلك فرصة لإثبات مقدرتهم، و(استعراض عضلاتهم)، فيجيبون السائل بدل أن يؤدبوه بالأدب النبوي. وإليكم هذا الحديث عن قصة عويمر العجلاني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت لكم، سابقا الرواية المختصرة، وهاكم الطويلة:
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِىَّ أَخْبَرَهُ: (أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلاَنِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ الأَنْصَارِىِّ، فَقَالَ لَهُ يَا عَاصِمُ أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ سَلْ لِى يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَسَأَلَ عَاصِمٌ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ. فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ عَاصِمٌ لَمْ تَأْتِنِى بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِى سَأَلْتُهُ عَنْهَا. قَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِى حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللّه).

أيها الأخوة … ما ضَرَّ لو أنّ المسلمين أداروا ظهورهم لثقافات العصر الهدامة للدين والخلق والمُثل، وتثقفوا بثقافة هذا الدين المنزل من فوق سبع سماوات، ثم ربَّوا أجيالهم على تلك الثقافة بعد أن تمثلوها علما وفهما وتطبيقا. إنّ الذي جعل أنظار الكثيرين تتوجه إلى الغرب، وهم مفعمون بمشاعر الدونية والانهزام، ومحاولات التسابق للتقليد الأعمى، إنّما هو الجهل بكنوز هذا الدين، وسيحمل الوزر الأول من وأد أو كتم أو شوه، أو لم يحسن الفهم ثم التربية..! فالبَدارِ البَدارِ، قبل أن يفلت الزمام من أيدينا، وقبل أن تكون صحوتنا بعد فوات الأوان، وقبل أن يتسع الخرق على الراقع.

والحمد لله رب العالمين