Skip to main content

التَّبَاعُدُ وَمَا أَدْرَاكُم مَا التَّبَاعُدُ!

By الأربعاء 3 ربيع الثاني 1442هـ 18-11-2020مدراسات

((باعده) في المعجم الوسيط (مباعدةً وبِعاداً أبعده وجانبه وجافاه، وَبَين الشَّيْئَيْنِ فرق بَينهمَا وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {فَقَالُوا رَبنَا باعد بَين أسفارنا}).انتهى من المعجم
وفي الحديث النبوي:
(اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِى وَبَيْنَ خَطَايَاىَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).
(من صام يوما في سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام).
و((تبَاعدَ) من باعدَ، أي: أبعد فِي تكلّفٍ، وَيُقَال تبَاعد مِنْهُ وَعنهُ(. ونلاحظ أنَّ معنى (التباعد) في الحديثين المذكورين ما تطلبه النفس وتتمناه، وهل من خيرٍ أكبرُ من أن يباعد الله بين العبد والنار، وأن يباعد بين العبد وخطاياه؟!
ولاستكمال الصورة، أرى من المناسب أن أذكر مثالا لاستعمال مشتقات فعل (باعد)، في معانٍ سلبية، على الجانب الآخر لما ذكر آنفا. ولا أرى استعمالا لكلمة (التباعد) أسوأ من ذاك الذي شاع في المسلمين، متلازما مع جائحة الكورونا! أعني ما أسماه بعض (المتنطعين)، وأعتذر من القاريء عن هذه اللفظة، (التباعد في صلاة الجماعة). وكما اعتذرت من القاريء، فإنّي أعتذر من كل أحد يرى هذه الكلمة (تخدشه)، فوالله ما أردت النيل من أحدٍ بعينه، وإنّما أردت الانتصار لدين الله، وهدي نبيه، لمّا رأيت النصوص الصحيحة الصريحة
تُركت وحل محلها اجتهادات عقلية، لا يُرى لها في الفقه الصحيح محلاً، تُصادم النصوص، وتبطل العبادة! وسيأتي لهذا الإجمال تفصيل، إن شاء الله.
ولا أملُّ من تكرار وصفٍ ابتكره بعض الإخوة فقال: (الاصطفاف الشطرنجي في المسجد!).

وقبل أن ألج بحثي المقرر في الذاكرة، لا بد من بيان:
إنّني مع كل وسائل الوقاية الصحية من الوباء، التي نشرتها الجهات الصحية، وتابعتها، وأعانت على تطبيقها، أفعل كل ذلك، وأنصح كل أحد بمراعاتها، ومنها ما اصطلحوا على تسميته (بالتباعد الاجتماعي). ليس لأنّي مقتنع بها علمياً وعقلياً، وحسب، ولكنْ لأنّها عندي دينٌ أدينُ الله به، مصدرها أعلم وأصدق وأحكم من كل المصادر البشرية، حتى المتخصصة! إنّه وحي السماء.
ولقد كتبت في بداية الأزمة، بحثا على الموقع، استقصيت فيه موقف الإسلام من الجوائح، وطريقة التعاطي معها. ولا بد ، في ما نحن فيه، من استحضار بعض المعلومات الشرعية، وهأنذا أقتبسها من بحثي السابق (الكورونا … ولنحسن التصرف):
(أُصَدِّقُ أن يقفَ كلُّ أحدٍ حائراً متردداً، أو يُسْقَطَ في يده أمام هذا (الفايروس المتغول)، على العالم بأسره، لا يفرق بين دولة عظمى، وأخرى من العالم العاشر، ولا بين أمير وفقير، ولا حاكم ولا محكوم، ولا ، ولا ، ولا… وأمامَ تلك الإجراءات التي تقتضيها مواجهة هذا الحدث، أجل أُصَدِّقُ ذلك! إلا مسلماً عالماً بدينه، وهو من أهيبُ به وبأمثاله، أن يرفعوا عقائرهم ليقولوا للعالم نحن الذين علَّمنا نبيُنا عليه الصلاة والسلام ما هو الحَجْر الصحي، وكيف، ولماذا؟ وما هي فلسفة العدوى وكيف نتعامل معها، منذ خمسة عشر قرنا!).
وأستأذن في اقتباس آخر، من الموضوع نفسه: (موقف الإسلام من العدوى: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَد). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
في الحديث مطلبان؛ الأول: أنّ النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يثبت العدوى الحقيقية التي يصدقها الواقع، ويتعامل معها العلم والطب، ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم أثبت ذلك من طريق نفي المعنى الخاطيء الذي لا يريده نبي الأمة أن يتسلل إلى أذهان البشر. لقد نفى النبي عليه الصلاة والسلام أن يظن العقل أنّ العدوى فاعلةٌ ومؤثرةٌ بذاتها، وهذا ينافي توحيد الربوبية، في أنّه لا فاعل في هذا الكون إلا الله تبارك وتعالى، بإرادته ومشيئته وقدرته وحكمته. ولقد خلق الأسباب التي ينتفع بها الخلق بإذن ربهم، وأودع في تلك الأسباب خصائص، تفعل بإرادته ومشيئته، لصالح الخلق. ونضرب أمثلة، فالنار سبب، وهي تُحرق بفعل خصائص أودعها الله فيها، والدواء سبب، وهو يشفي بما أودع الله فيه من عناصر. والدعاء سبب شرعه الله لعباده، ليطلب العبد من ربه حاجاته من خلاله. وقد تُتعاطى تلك الأسبات تماما والنتائج لا تكون واحدة، فلماذا؟ فقد يُتخذ السبب وتأتي النتيجة، وقد يُتخذ السبب وتتأخر النتيجة، وقد يغيب السبب وتأتي النتيجة، فكيف ذلك؟ إنَّ مِنْ وراء الأسباب التي خلقها مشيئةَ الله، وإرادتَه، ولا تفعل إلا متى شاءها الله أن تفعل، ومتى لم يشأ يسلب منها الفعل، فالنتائج بيد الله وحده. فالخلق خلقه، والأمر أمره، والحكم حكمه
).

وندخل الآن في استعراض الأحوال في العالم الإسلامي، وفي منطقتنا العربية الإسلامية بخاصة، منذ بداية (الغزو الكوروني) وحتى الآن. فلم يمض إلا وقت قليل، بعد ظهور هذا الفيروس، حتى بدأ السعي الحثيث لاتخاذ إجراءات السلامة والوقاية. وأريد أن أحدد نفسي بتناول الجانب الشرعي والفقهي من هذه الإجراءات، فهو موضوع البحث.
لا شك أنّ كل الجهات الشرعية المعنية، رسمية وغير رسمية، قد تحركت، وكانت الموجة الأولى من الفتاوى وقف أداء الصلوات في المساجد، وكذلك صلاة الجمعة والعيدين. وقد كان كثير من أهل الفتوى في معظم البلاد الإسلامية مترددين، بادئ الأمر، متهيبين من إغلاق المساجد، حتى إذا أصدر أهل الفتيا في السعودية التوصية بإيقاف الصلاة في المساجد، وطُبق ذلك حتى على الحرمين، حذت معظم الأقطار الإسلامية حذو السعودية. ولا شك أنّ هذه الفتيا منسجمة تماما مع النصوص الشرعية، ومع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه، كما ذكرنا آنفا. ولا يخفى أنّ كثيرا من الغموض كان يكتنف توصيف تلك الجائحة، في كل الأوساط الصحية العالمية، وقيل إنّها حالة جديدة، ما يخفى منها أكثر مما يُعلم، وقد نشطت الدراسات في كل مكان.
ولما طُرح عالميا، أنّ أمد استمرار الجائحة غير معلوم، أُسقِطَ في أيدي أكثر الجهات المعنية في العالم كله. ولم يكن أهل الفتيا في ديار الإسلام بمنأى عن هذا الإسقاط. وهنا نرصد طوراً جديدا دخلت فيه الفتيا الشرعية في ما يخص الكورونا، لما تحكم فيها العقل والرأي والأهواء، وتم ذلك على حساب إبعاد النصوص.
ما هو هذا الطور الجديد؟ وما هي العوامل التي كان لها تأثير واضح في الفتيا؟
لم يستطع الكثيرون من المسلمين، نُخباً وعواماً، أن يستوعبوا خُلُوَّ المساجد من المصلين لفترة طويلة، أو بعبارة أخرى إغلاق المساجد! مع أنّ النصوص الشرعية التي سوغت، بل فرضت ذلك الحال، ليس فيها تحديدٌ لفترة، بل إنّ ذلك الحكم بإغلاق المساجد يدور مع علته وجودا وعدما، والعلة هي بقاء الفيروس منتشرا، يهدد سلامة البشر! لكنْ لا بد أن نعترف أنّ الخلل الذي ساد في المنهج الفقهي عند المذاهب، قديما، فرض نفسه من جديد، في فتاوى الكورونا! إنّه إقحام العقل والمنطق والفلسفة، والرأي المذهبي مع نصوص الوحيين، حتى جاءت الأحكام مخالفة لما تقتضيه النصوص. ولما اخترتُ الاستدلال بما اعترى سلامة بعض الأحكام الفقهية، قديما، أردت أن يعرف الناس أنّ مشكلة الحاضر هي مشكلة الماضي نفسها، لأنّ الخلل لا زال يتكرر! وكان من المفيد ذكر نماذج توضح الفكرةَ موضوعَ البحث.
وأضرب مثلا بأحكام صلاة السفر. فلقد اختلف أهل المذاهب في المسافة التي يجوز فيها القصر. و
كتبُ الفقه مشحونةٌ بأقوال واجتهادات متباينة حول المسافة التي تعتبر سفرا يبيح الرخص، يقول ابن حجر في فتح الباري: (وهي من المواضع التي انتشر فيها الخلاف جدا، فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحواً من عشرين قولا). ويقول ابن حجر بعد أن ساق معظم تلك الأقوال: (ثم إنّ الصحيح في ذلك أنّه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها).
ولنلاحظْ كيف أنّ ابنَ حَجَرٍ ذكر أنّ الصحيح أمرٌ واحدٌ، وهو ما يقتضيه النص، ولكن صار الواحد في التطبيق عشرين! فلماذا؟ أعيدُ وفي الإعادة إفادةٌ، كما يقال: إنّه إقحام العقل، والمنطق، والفلسفة، والرأي المذهبي، مع نصوص الوحيين، حتى جاءت الأحكام مخالفة لما تقتضيه النصوص.
يقول ابن تيمية، في مجموع الفتاوى: (ولم يحدَّ النبي صلى الله عليه وسلم مسافة القصر بحد، لا زماني، ولا مكاني‏.‏ والأقوال المذكورة في ذلك متعارضة، ليس على شيء منها حجة، وهي متناقضة.‏ والواجب أن يطلق ما أطلقه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، ويقيد ما قيده، فيقصرُ المسافرُ الصلاةَ في كلِّ سفر).
وكما كثر الخلاف، وتعددت الأقوال في شأن تحديد مسافة ومدة السفر، فالأمر في الإقامة كذلك. والمقصود بالاقامة المدة التي إذا أقامها المسافر في مكانٍ أثناء سفره، تزيل عنه صفة السفر فيترك العمل برخصه. والأقوال في ذلك مترددة بين ثلاثة أيام، أو أربعة، أو خمسة عشر يوما، أو تسعة عشر يوما. ويقول ابن تيمية: (ولم يُحَدِّد السفرَ بزمان أو بمكان، ولا حدد الإقامةَ، أيضًا، بزمن محدود، لا ثلاثة ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا خمسة عشر. فإنّه يقصرَ‏ كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروقٌ قد ولوه ولاية لم يكن يختارها، فأقام سنين يقصر الصلاة‏.‏ وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة). ويضيف‏ (وإذا كان التحديد لا أصل له، فما دام المسافرُ مسافرًا يقصرُ الصلاة، ولو أقام في مكان شهورًا‏.‏ والله أعلم).
وحين يغيب الالتزام بالنصوص، والالتصاق بها، يترك الناس الاتباع لغربته بينهم، ويعمدون، بزعمهم، إلى الاحتياط استبراءً لدينهم، فيقعون في الابتداع. والاحتياط كلمة واسعة المعنى، وترد على كل لسان، بل صارت لعوام الناس وجهالهم ملاذاً، يلوذون بها بحق وبغير حق. ولقد أجاد ابن القيم القول في مسألة الاحتياط وأفاد، في كتاب إغاثة اللهفان: (وينبغي أن يعلم أنّ الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه: هو الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة بل ترك حقيقة الاحتياط).
وقد أقام بعض الصحابة والتابعين، بعيدا عن أوطانهم سنين طويلة، وكانوا يقصرون الصلاة، ولا يشهدون الجمع! وكل المسلمين اليوم، نخباً وعواماً، إلا من رحم الله، لو أفتيتهم بذلك، أعرضوا ونأوا بجانبهم، لأنّ عقولهم لا تقبل ذلك، وصِلَتُهم بالنصوص واهيةٌ. وفي مسند ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن أبي حمزة، نصر بن عمران قال لابن عباس: (إنّا نطيل القيام بالغزو بخراسان، فكيف ترى؟ فقال صلِّ ركعتين، وإن أقمت عشر سنين).
والمسلمون لا يزالون إلى يومهم هذا، يتمسكون بمقولات ملأت كتب الفقه، وليس عليها أثارة من علم، ولكن أصابها ما ذكرنا. ولا يزال الكثيرون لو بينت لهم تلك المسائل مع أدلتها من الوحيين، قالوا إنّا وجدنا مشايخنا على علم، وإنّا به عاملون. وما أشبه اليوم بالأمس، فاعتبروا يا أولي الألباب!

لقد أطلت في تلك الأمثلة وأسهبت، ومثَّلتُ وشرحت، لأبين للناس أنّ مشكلتنا الفقهية اليوم، هي امتداد لمشكلاتنا قبل قرون. وإنّ الابتعاد عن الالتصاق بالنصوص، لتكون أصل الفتيا، وإقحام العقل والمنطق والفلسفة والميول المذهبية، هو أزمة الفقه التي لا زالت متحكمةً منذ قرون، عصيةً عن الحل، ومن هذا الخلل نؤتى. وسأبينُ الحال التي يجب أن تكون عليها أمورنا الفقهية، مع وجود جائحة الكورونا، لو التزمنا النصوص:
أولاً: إنّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم أعطانا رخصةً واسعةً، بل أمراً صارماً بالابتعاد عن المبتلى بمرض معدٍ، وما أروع ذلك التشبيهَ النبوي الرائع، البليغَ في عبارته، القويَّ في دلالته، الذي يغطي كل ما نواجهه من مشكلات الجائحة (وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَد). والمجذوم هو المصاب بمرض الجذام، وقد ضرب به النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث مثلا لكل مرض مُعدٍ إلى قيام الساعة. ولما قالت المجامع الصحية بضرورة التزام (التباعد الاجتماعي)، والناس لا زالوا ساهين عن أنّ تلك توجيهات نبيهم (وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ…) قبل أن تكون من المراجع الصحية، عند ذلك برزت مشكلة المساجد (المُحَيِّرة)، لأنّ الأمر لم يُردَّ إلى الله ورسوله، لتزول الحيرة، وينتهي التنازع، إنّما يُردُّ إلى ما يقتضيه العقل والنظر! وصاح صائح العقل والهوى، لا تمنعوا بيوت الله أن يذكر فيها اسمُه! ولكن غيروا ما شئتم بأحكام الصلاة، فالأمر واسع! لقد فات فقهاء (الكورونا) أنّ المشكلة ليست داخل المسجد، وإنّما في الحضور إلى المسجد! ولكنْ، ما الذي يصدُّ أهل الفقه عن تدقيق النظر؟ سيأتي فيما بعدُ جواب السؤال.
ولنرجع إلى كتب الفقه، لنتعلم ما الذي أجمع عليه العلماء، من الأعذار التي تبيح ترك صلاة الجمعة والجماعة. ونرى كل العلماء يتكلمون عن مجموعة من الأعذار، من البسيط إلى الشديد، من مثل: المرض. السفر. ظروف جوية كمطر وبرد ورياح. الخوف على النفس والأهل والمال من عدو متربص، أو سارق متوقع. وذُكِرَ تحت تلك العناوين تفصيلاتٌ أخرى، تراجع في مظانها. وسنذكر بعض الأدلة مع أعذار أخرى:
1. البرد أو المطر: عن نافع: (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِى لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ ثُمَّ قَالَ أَلاَ صَلُّوا فِى الرِّحَالِ . ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يَقُولُ أَلاَ صَلُّوا فِى الرِّحَالِ).
2. العلّة: (والمرض ضمناً). عن محمود بن الربيع الأنصاري: (أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهْوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِى بَيْتِى مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّىَ). فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ). وذكَره الإِمام البخاري في (كتاب الأذان) تحت (باب الرخصة في المطر والعلّة أن يصلّي في رَحله). والمرض المؤقت فرع عن العلة.
3. حضور الطعام الذي يريد أكْله في الحال: عن عائشة عن النّبيّصلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ).
4. مدافعة الأخبثين: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ).
وما أظنه يخفى على من عنده أدنى مسكة من عقل، ولو لم يكن من أهل الفقه، أنّ جائحةً كالكورونا، دخلت معظم البيوت، في كل أنحاء العالم بلا استثناء، تُعتبر عذراً شرعياً وعقلياً وصحياً، أقوى من كل تلك الأعذار التي جاءت بها النصوص، واتفق عليها العلماء، بل أجمعوا! فلِمَ التضييق في تطبيق ما أذن به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)، ونجتهد في التوسيع المقتضي للتبديل والتحريف، في أحكام الصلاة؟ وهي عبادة لا تقبل القياس والاجتهاد، والأصل فيها المنع والحظر. وستأتي النصوص القاطعة، إن شاء الله.

ثانياً: مع وجود رخصة النبي صلى الله عليه وسلم، الواسعة جدا، في التعامل مع الجوائح والأوبئة، متمثلة بقوله: (وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)، مع أحكام أخرى عن الحجر الصحي، وبِضَميمَةِ هذا التفصيل مع الأدلة، لأعذارِ ترك الجمعة والجماعة، القاطعة للنزاع، والتي تملأ كتب الفقه، لا بد من سؤال نطرحه بشدة، ما الذي حدا (بفقهاء الكورونا) أنْ يقفزوا فوق تلك الحقائق، والحلول، باحثين عن حلولٍ وفتاوى، تلوي أعناق النصوص، وتخالف منطوقها
ومفهومها، وتسلب صلاة جماعة المسلمين، أهم وآكد مقوماتها، التي جاءت بها أصح الأحاديث؟

تسوية الصفوف…
أمَر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتسوية الصفوف في عديد من الأحاديث منها:
. حديث جابر بن سمرة، رضي الله عنه قال: (خرَج علينا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (أَلاَ تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا). فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ: (يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِى الصَّفِّ)).
. و
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسْتَوُوا وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ).
. وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُول: (اسْتَووا اسْتَوُوا اسْتَوُوا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرَاكُمْ من خَلْفي كَمَا أَرَاكُم من بَين يَدي).
. وعن النعمان بن بشير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتسون لصفوفكم في صلاتكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم).
. وعن أنس رضي الله عنه قال: (أُقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله بوجهه، فقال: (أقيموا صفوفكم وتراصّوا، فإِنّي أراكم من وراء ظهري). قال أنس: فلقد رأيت أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه). وزاد معمر: (فلو ذهبت تفعل هذا اليوم لنفر أحدكم كأنّه بغل شموس).
. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ). وفي رواية لأنس رضي الله عنه، أيضاً، قال: (سوُّوا صفوفكم، فإِنّ تسوية الصفوف من إِقَامَةِ الصَّلاَة). وفي رواية: (فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ). ولندقق في معنى هذه الأحاديث الثلاثة، لنعلم أنَّ الصلاة التي لم تُسوَّ فيها الصفوف، ليس فيها تمامٌ ولا إقامةٌ ولا حُسْنٌ.

الترغيب في وصل الصفوف والتخويف من قطعها…
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الصفوف، فإِنّما تصفّون بصفوف الملائكة، وحاذوا بين المناكب، وسدّوا الخلل، ولينوا بأيدي إِخوانكم، ولا تذروا فُرجات للشيطان ومن وصل صفاً وصَله الله، ومن قطع صفاً قطَعه الله عزّ وجلّ).
. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سدّ فرجة رفعه الله بها درجة، وبنى له بيتاً في الجنّة).
. وعن أنس قال، قال عليه الصلاة والسلام: (أقيموا صفوفكم وتراصوا فوالذي نفسي بيده إنّي لأرى الشياطين بين صفوفكم كأنّها غنم عفر).

كيف تُسوَّى الصفوف؟
يبيّن لنا أنس رضي الله عنه كيف كانت تسوية الصفوف في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: (وكان أحدنا يلزق مَنكِبه بمَنكِب صاحبه، وقدمه بقدمه). وفي قول للنعمان بن بشير رضي الله عنه: (فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه).
ولا بد منَ المحاذاة بين المناكب والأعناق لقوله عليه الصلاة والسلام: (وحاذوا بالأعناق). وقوله عليه السلام: (وحاذوا بين المناكب).
ونلاحظ بكل وضوح بعد قراءة الأحاديث السابقة وكلها في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن، ولكنّي حذفت التخريج تجنبا للإطالة، أجل نلاحظ أنَّ تسوية الصفوف وتراصها تعني:
1. لصق مَنكِب المصلي بمَنكِب صاحبه، وقدمه بقدمه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه.
2. مراعاة المحاذاة بين المناكب والأعناق والصدور، بحيث لا يتقدم عنق على عنق، ولا مَنكِب على مَنكِب، ولا صدر على صدر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تختلف صدوركم، فتختلف قلوبكم).

التوكيل في تسوية الصفوف…
وقد ثبت بالأحاديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولى بنفسه تسوية الصفوف وتقويمها، عن سِماك بن حَرْب، أنّه سمع النعمان بن بشير يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوِّي الصفَّ حتى يجعله مثل الرمح أو القِدْح،‏ قال: فرأى صدرَ رجل ناتئًا، فقال صلى الله عليه وسلم: (سوُّوا صفوفَكم، أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم)).
وفي لفظ عند مسلم: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُسَوِّى صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّى بِهَا الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلاً بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ فَقَالَ: (عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ)).
وعن عقبة بن عمرو قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبَنا في الصلاة، ويقول: (سوُّوا المناكب، وأقيموا الصفوف، ولا تختلفوا فيُختَلفَ بكم)).
ولقد كانت تسوية الصفوف سنَّةً معهودةً عند الصحابة رضي الله عنهم، وعند غيرهم من سلفنا الصالح رحمهم الله. وقال الترمذيُّ رحمه الله: (رُوي عن عمر رضي الله عنه: أنّه كان يوكِّل رجالاً بإقامة الصفوف، فلا يكبِّر حتى يُخبَر أنّ الصفوف قد استوت). ورَوى عن علي وعثمان رضي الله عنهما: (أنَّهما كانا يتعاهَدان ذلك، ويقولان: استووا، وكان عليٌّ يقول: تقدَّم يا فلان، تأخر يا فلان).
وأتمنى على كل مسلم يقرأ الأحاديث السابقة أن تستوقفه للتدقيق الحقائق التالية:
الأولى: إذا تأملنا الأحاديث نرى أنّ تسوية الصفوف والأمر بها مرات ومرات، ما يدل على حرص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليها قولاً وفعلاً، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم من بعده، حتى إنّنا لو قلنا: إنّ هذه السنَّة تكاد تكون مِن السُّنن المتواترة، والتي كانت معلومةً ومعمولاً بها عند السلف، لَكُنّا أصبنا كبد الحقيقة!
الثانية: في قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (فإِنّ تسوية الصفوف من إِقامة الصلاة)، وفي رواية من (تمام الصلاة)، فإذا كانت تسوية الصفوف من إقامة الصلاة فهي فرض بلا ريب؛ لأنّ إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض، ولو قال الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، والشافعي، ومالك: إنّها من سنة الصلاة! وكذلك القول عندما نرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (استووا)، وكان يقولها ثلاثاً أحياناً، زيادة في التأكيد. ويقول: (سوُّوا صفوفكم)، (ولا تختلفوا) و(أقيموا صفوفكم وتراصّوا) و(لتسوّن صفوفكم)، (وسدّوا الخلل)، (ولا تذروا فُرجات للشيطان) و(حاذوا بالأعناق) و(حاذوا بين المناكب)، كل تلك الأحاديث جاءت بلفظة الأمر، والأمر يفيد الوجوب أصولياً، إلا إن وجدت قرينة للتخفيف، وأنشدكم الله، أين تلك القرينة التي جعلت بعض العلماء يقولون، بالسنية أو الاستحباب؟!
ولقد عقد البخاري بابا في صحيحه بعنوان (باب إثم مَن لم يُتمَّ الصُّفوف)، وعلق ابن حجر على تسمية الباب، بقوله: (وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ أَخَذَ الْوُجُوبَ مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ سَوُّوا صُفُوفَكُمْ وَمِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي).
وحينما يقدم أنس بن مالك رضي الله عنه المدينة بعد غياب، فيسأله بعض الأصحاب عما ينكره عليهم، فلم ينكر عليهم إلا شيئا واحدا، ولنقرأ ما ذكره ابن حجر في الفتح عن أنس بن مالك: (أَنَّهُ قَدِمَ المَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لاَ تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ). فهل ينكر أنسٌ رضي الله عنه، الذي لزم صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا، على المسلمين وفيهم أصحاب مثله وتابعون، مخالفة بسيطة رآها عليهم في أداء صلاتهم؟ وهم الذين استنصحوه ليعرفوا هل لا يزالون على اتباع نبيهم، يصلون كما صلى؟ وماذا سيقول أنس رضي الله عنه لو رأى صلاة (الكورونا) عندنا؟ وقد سلبت أهمُّ مقوماتها، في كثير من ديار المسلمين بفتاوى ذات عوج!
ويعلق الشيخ العثيمين على قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم)، وقوله: (ولا تختلفوا، فيُختَلفَ بكم)، وما شابه من ألفاظ الأحاديث، بقوله: (هذا وعيد، ولا وعيد إلا على فعل محرَّمٍ أو تركِ واجبٍ، والقول بوجوب تسوية الصفوف قول قويٌّ”، ولذلك ترجم البخاري رحمه الله على ذلك بقوله: {باب إثم مَن لم يُتمَّ الصفوف}).
أما ابن تيمية فيعطي حكمه في صلاة تصورها، ولم يرها، وما هي إلا صلاة (الكورونا)! يقول في (مجموع الفتاوى 22/545): (جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ} وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صهيب عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَتِمُّوا الصُّفُوفَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِي} وَفِي لَفْظٍ {أَقِيمُوا الصُّفُوفَ} وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ حميد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: {أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي. وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْصِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَبَدَنَهُ بِبَدَنِهِ . فَإِذَا كَانَ تَقْوِيمُ الصَّفِّ وَتَعْدِيلُهُ مِنْ تَمَامِهَا وَإِقَامَتِهَا بِحَيْثُ لَوْ خَرَجُوا عَنْ الِاسْتِوَاءِ وَالِاعْتِدَالِ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ هَذَا عِنْدَ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْ هَذَا لَمْ يَكُونُوا مُصْطَفِّينَ وَلَكَانُوا يُؤْمَرُونَ بِالْإِعَادَةِ وَهُمْ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الَّذِي صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتَهُ فَكَيْفَ بِتَقْوِيمِ أَفْعَالِهَا وَتَعْدِيلِهَا بِحَيْثُ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ).
وأعجب العجب، في ما نحن عليه في زمان (الكورونا)، أن يستدل الذين تصدروا للفتوى في كل البلدان، بأضعفِ أقوالٍ وجدوها في التراث الفقهي، ويغمضوا
أعينهم عن الأقوال المؤصلة، من ذلك قولهم بأنّ أكثر العلماء على أنّ تسوية الصفوف وتراصها مستحب، أو سنة، فيستسهلوا صنيعهم غير الموفق، وفتاواهم الجائرة، ويُزينوها في أعين الناس. وسدوا أبواب الاعتراض عليهم بمقولة الضرورة. وأي ضرورة تلك التي جعلتهم يفرطون في واجبات ألزم النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين بفعلها في صلاة الجماعة، وأَوْعَدَ أشد الوعيد على تركها والتفريط بها، والنبي عليه الصلاة والسلام أعطى الرخص بعدم الاجتماع في حديث (وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ…)، وغيره من أحاديث الحجر الصحي، وأحاديث الرخص لترك الجمع والجماعة، بأعذار معروفة، هي أبسط بكثيرٍ من الكورونا! وما بالهم، أعني فقهاء (الكورنا)، الذين زجوا أنفسهم والمسلمين في ذلك المضيق، يوم رغبوا عن رخص نبيهم، وتوسعته، بأبي هو وأمي، على المسلمين، ثم يُبدئون ويُعيدون، أنّهم ما فعلوه إلا لينقذوا صلاة الجماعة من الاندثار، والمساجد مِنْ أن تُختم بالشمع الأحمر! وألقوا في روع العوام أنّه مهما قيل في صلاة الكورونا (الشطرنجية)، فهي خير من ترك المسجد. وتلك الخيرية في عقولهم وعقول العوام، وليست عند الله! ذلك قولهم بأفواههم، لكن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، التي هي تشريع للأمة، غيبوها في دهاليز اعوجاجهم.
وأضرب مثلا بعالم أشهد له بالعلم وصحة المنهج، وآسف أشد الأسف للفتيا التي صدرت عنه، وطريقة استنباطها. لقد قدم بمقدمة لفتواه، يقول فيها، وأنا أنقل بالحرف من بيان له: (فهذا الفِعل، التباعُد في صفوف الصلاة، ابتداءً، إذَن: هو أمرُ اضطِرار، لا أمرُ اختيار. ومِن ناحيةٍ فقهيّةٍ محضةٍ؛ فإنّ حُكمَ التراصّ في صفوف الصلاة ما قاله الإمام أبو العبّاس القُرطُبي في”المفهِم شرح صحيح مسلم: هو مِن سُنن الصلاة بلا خلافٍ. ويُوضّحُه: قولُ الحافظِ زَينِ الدين العِراقيّ في طَرح التثريب: مستحبٌّ. وهذا مذهبُ جمهور العلماء مِن السلَف والخلَف، وهو قولُ الأئمّة الأربعة، وذهَب ابنُ حزم الظاهريّ إلى وجوبِه. قلتُ: وهو كذلك قولُ عدَدٍ مِن مُحقّقي أهل العلم قديماً وحديثاً؛ كالبُخاريّ في”صحيحِه”، وهو ظاهرُ كلامِ ابنِ تيميّةَ، وابنِ حجَرٍ العسقلانيّ، والصَّنْعانيّ، وابنِ عُثيمين، والألبانيّ رحمهم الله أجمعين. وهو ما يَنشرحُ له صَدْرُ كاتبِ هذه السُّطورِ عفا الله عنه، وغفَر له. وإنْ كان حُكمُ مسألة التراصّ هنا ليس مِن أُسس بحثِنا هذا؛ لأنّ الإلزامَ بالتباعُد كما قلنا أمرُ اضطِرار، لا أمرُ اختيار).
ولا أريد مناقشته في الموضوع كله، بل في المقدمة التي بنى عليها، وما بني على ضعيف فهو ضعيف. يرى، عفا الله عنه، أنّ رأي القرطبي والعراقي والجمهور أرجح في بناء فتيا الكورونا الجائرة، عليه، في حين أعرضَ عن أقوال جبال العلم وسالكي طريق الاتباع، وهم الذين نسب نفسه إليهم، بقوله: (وهو ما يَنشرحُ له صَدْرُ كاتبِ هذه السُّطور)، واعتبره مرجوحاً. واستعجل ببيان تبريره ذلك المنعطف، بما هو أشد انعطافا، إذ قال: (وإنْ كان حُكمُ (مسألة التراصّ) هنا ليس مِن أُسس بحثِنا هذا؛ لأنّ الإلزامَ بالتباعُد كما قلنا أمرُ اضطِرار، لا أمرُ اختيار). ولا يُسلم له بذلك، لما قد بينت قبلا.

وأستفيد من هذا المثل الذي جئت به، في جعله مقدمة لكلام أوسع وأعم، يبين أسباب الهبوط الذريع في فتيا التباعد، من وجهة نظر كاتب السطور المتواضعة.
وقبل أن أدلف إلى الفقرة التالية، أجدني حريصا على إضافةٍ هامةٍ أُلحقُها بهذه الفقرة، فأقول: ما كان أحرى الصوت الإسلامي، الذي أفتى بالصلاة الضرار، لصلاة المسلمين المأخوذة عمن خاطب المسلمين، إلى قيام الساعة، قائلاً: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِى أُصَلِّىويُفهم منْ هذا الخطاب أنّ الصلاة المقبولة هي التي مات عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان غيرها فليس من صلاة المسلمين، فلا وحي بعد محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا اجتهاد في العبادة .. أجل، ما كانَ أحراهُ أن يقول للناس: أنتم الآن في جائحة، وقد رخص لكم نبيكم بترك المساجد، فصلوا في بيوتكم، واتخذوها فرصة لتعميق تعاهدكم أهليكم وأولادكم دينيا، وصلوا بهم جماعة ولكم في كل صلاة سبع وعشرين ضعفا عن صلاة المنفرد، واعلموا أنّه لم ينقصكم من الأجر شيءٌ بترككم المساجد، بل ازددتم أجر أهليكم، لأنّكم ما تركتم المساجد كسلاً، ولا رغبةً عنها، إنّما بأمر نبيكم. وعودا على بدء أقول: ما كانَ أحسنَ هذا لو قيلَ لكم، ولكنْ إلى الله المشتكى.

عوامل ثلاثة تشكل مصادر دفع وجذب، أوصلت علماء الكورونا إلى التباعد. والعوامل الثلاثة هي:
أولاً: مفاجأة وفتيا ..
لا شك أنّ جائحة الكورونا داهية دهياء، ما تركت أهل مدر ولا وبر
إلا دهتهم. وقد حيرت الحكام والحكماء بمعنيي الكلمة (أهل الحكمة، وأهل الطب). وكان لا بد لأهل الدين من أن يدلوا بدلائهم، مادامت المساجد صارت معنية بالأزمة. ولما كانت الفتيا تعاني أزمة مستعصية خلال نصف القرن الماضي ولما تجدِ الحل بعد، فلا بد من سلبيات ترافق التدخل.
من أشد ما تعانيه الفتيا اليوم أنّها كلؤٌ مباح، ومسرح مفتوح، يدخله من يحسن ومن لا. ومما زاد الأمر ضغثا على إبالة، وجود أجهزة التواصل الاجتماعي وبرامجه، التي منحت للمتطفلين منابر لا رقيب عليها، ولا اختبارَ أهليَّة. أسهمت بنقل ونشر غير النافع أكثر من النافع، وإلى الله المشتكى. وقد تقدم التفصيل في ما يخص الأمر الشرعي فلا نعيده.

ثانياً: دورٌ للحكام، لا يمكن تحييده .. أما عن الحكام، بغض النظر عن تصنيفهم، فإنّ لهم دورا في شأن الكورونا لا يمكن تجاهله ولا تحييده. لأنّ المسألة لا صلة لها بالسياسة، فلا تقبل المزايدات ولا المتاجرات، وإنّما تفرض على الحكام مسؤوليات كبيرة، لأنّهم حُكْماً، في الصدارة في رتل المسؤوليات. وما دامت المسألة مسألةً تتصل بالسلامة، وتختص بكل فئات السكان، فلا بد أن تكون المسؤولية الأولى والكبيرة للحكام. لذلك سيكون للحكام دورٌ ضاغط على كل الجهات المعنية، والصحية والشرعية، لكون المساجد عنصراً أساسياً في أمر السلامة، في مقدمة تلك الجهات. وفي النهاية، فالمسؤولية الأولى والأخيرة تلقى على الحاكم. لكن فات أهل الفتيا أنّ الحكام يستوي عندهم إغلاق المساجد، وحل التباعد في الصلاة، مادام يحقق الوقاية والسلامة للناس، ولا شأن لهم بتفاصيل الأمر الشرعي. إذن للحكام دورٌ ضاغطٌ وتدخلٌ، ولكن لا يَتَحملون المسؤولية عن الناحية العلمية والفنية، بل يتحمل ذلك الجهة المعنية، فالحاكم مثلا لا يفتي في المسائل الشرعية، وإن وقع خطأٌ يتحمله من أفتى.

ثالثاً: دورٌ للعوام، كبيرٌ تأثيره .. عواطف العوام، عاملٌ هو أقوى الثلاثة تأثيرا في الأزمة. وأبدأ كلامي بعبارة مأثورة عن الشيخ العثيمين (العواطف عواصف). والعوام بعواطفهم غير المنضبطة، وغير الصائبة، غالبا تشكل هوىً جَمْعِيّاً واضح التأثير في كل شأن، وعند كل ذي شأن.
وعندما تصدر الفتاوى من أهل العلم، منفلتةً من ضوابط النصوص، وعصمة الاتباع، ويصبح العقل سيد الموقف، حينَئِذٍ ينفلت الهوى الجمعي من عقاله، لتظهر في المجتمع العجائب. وقد رصدتُ، وأخذتُ لقطاتٍ، حسب تعبير المصورين، أقدمها ليعلم المسلمون الحال التي إليها يؤولون!
ومما جاء به الهوى الجمعي، في مسألة الكورونا على سبيل المثال، تباكي العوام على المساجد ومفارقتها، وشدة الحنين إليها. وقد كُتبتِ المراثي للكعبة والمسجد الحرام، وطيبة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والعمرة والحج والزيارة. والهوى الجمعي في الغالب عفويٌ، ولكنّه قابل للتوجيه ممن يتحينون فرصا لتحققيق مآرب خاصة.
والفتيا الشرعية في حال لا يحسد عليه أصحابها، تحارُ من ترضي؟ النخبَ أم العوام، ودوائر الصحة، أم الحكام؟ وكأنّ الزمام قد أفلت من يد أهل الشأن كلهم، وصار الأمر فرطا!
وقد وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله، وتكلم في الفتيا من يعلم ومن لا يعلم، ومن يحسن ومن يسيء، وإن كانوا بالسيما والتسمية سواء! وكل الخلل القديم في أمر الفتيا وجنوحها عن سواء السبيل، وما أفرزته الحياة المعاصرة، التي ترى الدين عقلا قبل أن يكون نصا، كل أولئك أحضرته الكورونا معها، وتخبط الجميع.
ويكاد الحاكم يكون له أقل الأدوار في ما يخص الأمر الشرعي. وليس له دور إلا المتابعة والحث على الإسراع لتحقيق السلامة. والصحيح أنَّ الأمر يحتاج إلى تعاضدِ وتآزُرِ وتعاون كل السواعد وكل العقول، وزج كل القُدرات والطاقات ولكن هيهات! فقد انفرط عقد التعاون والتنسيق، وتحول الأمر عند الناس من أمر يحتاج إلى قمة الجَدِّيَّةِ في مقاربته، إلى فرحة لزوم البيوت وترك الأعمال، وحمد الله على نعمة (online)، فالانسان يداوم من فراشه! والأسرة مُلتأم شملها حول المائدة، بطريقة غير مسبوقة، ويا للفرحة! إجازة مفتوحة لا تُعرف نهايتها!
ولا شك أنّ دور العوام محسوب من القوة الناعمة، فلا يرى فعلها المباشر العاجل، ولا ينكر تـأثيرها القوي الآجل! وللعامة تأثيرهم في الفتيا وهو ملحوظ في القديم والحديث. وأما طريقة تأثير العوام على أهل الدين، وحتى على أهل السياسة، من خلال ما يُسمى بالرأي العام، والأصح أن يُسمى بالهوى الجمعي، لأنّ العامة لا ينسب لهم رأي. وقد يكون الهوى الجمعي أداة بيد فئة في المجتمع توجهه الوجهة التي تريد. وما أظن هذا الأمر سهلا، بسيطا، وقليل الكلفة، كبساطته، هذه الأيام، من خلال أجهزة التواصل الإجتماعي، ولا أقول إنّها في كل بيت بل هي في كل جيب وحقيبة يد.
وكم سمعنا أخبار الكورونا من الأفواه دون أن نسمعها في أجهزة الإعلام. وسأقتصر على ذكر بعض قصص تمثل أبرز ما يدور بين الناس.
كتب غير واحد من النخب، أنّ (الكورونا) لا أصل لها، إنّما هي مؤامرة كونية من الشرق والغرب لإغلاق مساجد المسلمين استعجالا لتطبيق العولمة. ولما بدأ التباكي والحنين والرثاء للمساجد، تفتقت قرائح بعض النخب، وعلماء الدين عن حلٍ مدهش يحفظ للناس علاقتهم بمساجدهم من أن تنقطع. فشاهدتُ على أجهزة التواصل تسجيلي فيديو لشيوخ من بلد عربي، ولن أذكر الأسماء. اقْتُرِح أن يُفتح باب التطوع لجمع كوادر من الشباب المسلم، يوزَّعون على المساجد، ليناموا فيها ويؤذنوا، ويقيموا الصلوات، وتؤمن لهم حاجاتهم ومتطلباتهم التموينية الغذائية يوميا، من متطوعين أمثالهم. وبذلك تُحل مشكلة هجر وإغلاق المسجد، التي جعلوها مشكلة، وهي ليست بذلك، لو فقهوا. وكان أصحاب الاقتراح يقدمونه كأنّه فتح مبين، وكأنّهم أنهوا مشكلة (Covid-19) في العالم كله. يا للخيبة! نبيُّكم أعطاكم الحل، فأعرضتم عن هدي نبيكم، وحكَّمتم عقولكم، فأوكلكم الله إلى أنفسكم.
ومما أشيع، من محبي الكلام بغير مردود، أنّ فتاوى إغلاق المساجد مؤامرة لتحويل مساجد المسلمين إلى مؤسسة بيد الحكام يفتحون أبوابها متى شاؤوا، ويغلقونها متى شاؤوا. وقال بعضهم كلاما يسمعونه من غيرهم وعلى التواصل الإجتماعي، وكله من باب الثرثرة، مثل أنّ كوررونا كذبة كبيرة، وأنّه لا يوجد عدوى أصلا، وأحاديث الحجر الصحي والفرار من المجذوم، فسرت بغير اللفظ الظاهر المتبادر للذهن، تفسيرات بعيدة متؤولة. وأكدوا أنّ المؤامرة يجب أن لا تنطلي على المسلمين! نحن نتكلم تحت عنوان الهوى الجمعي، ولكن ثبت أنّ بعض ما قيل خرج من عند بعض النخب!
ومن العجيب أنّه التقى على هذا التوجه، طلبة علم لم يتحملوا فتاوى إغلاق المساجد، ولم يعجبهم تعاطي الحكام وأهل الدين مع كورونا، فأكبوا على الكتب يبحثون عن مخرج، ووجدوا بعض تأويلات لظاهر بعض النصوص، لأسماء لامعة، وحسبوها شيئا، وهي ولا شك غير مستقيمة، لكن حاولوا تطبيقها ولم يفلحوا. ومع أنّهم أبعدوا النجعة، فهم غير متهمين في صدق نواياهم، ولم يصيبوا.
قلت سابقاً: (والهوى الجمعي في الغالب عفويٌ، ولكنّه قابل للتوجيه ممن يتحينون فرصا لتحققيق مآرب خاصة). وننتقل الآن إلى شريحة تختلف عن كل ما ذكر، ورصدنا كثيرا من التغريدات والتعليقات والمحاضرات، التي يريد أصحابها أن توظف حالة التخبط التي أحدثتها صدمة الكورونا، لمصالح خاصة، غير عابئين بصحة الناس، ولا عبادة الناس، لكنّهم يشيعون بين الناس آراء غريبة خارج السياق الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية الآن. يدفعهم إلى ذلك شغبٌ لتصفية حسابات قديمة لهم، وهم يعلمون ابتداء أنّهم يخوضون معركة خاسرة. إنّهم فلولُ، أو بعضُ متقاعدي الإسلام السياسي، الذين لا زالوا يبحثون عن فتح معارك يحركونها من الصفوف الخلفية، لا أريد أن أطيل الكلام عنهم، بل أنقل بعض طروحاتهم:
(إنّ حرمان الملايين من الأصحاء من حقهم الإلهي في الحياة الطبيعية والحرية والعبادة وحرمان الملايين من الفقراء من طلب الرزق، بحجزهم في بيوتهم، وعزلهم قسرا بدعوى الخوف عليهم من المرض أو الموت كل ذلك ضرب من الطغيان السياسي، والجنون الإنساني! فأسباب الموت كثيرة ومن يموت من الفلونزا وغيرها من الأمراض سنويا أكثر ممن يموت من كورونا، بل إنّ ضحايا الحروب التي تشنها الدول أضعاف أضعاف ضحايا كورونا! الأنظمة العربية الوظيفية والدكتاتورية أشد خطرا على حياة شعوبها وصحتها الجسدية والنفسية والعقلية من وباء فايروس كورونا، وكل انشغال به عن مكافحتها هي ومقاومة فسادها ومواجهة استبدادها وإزالتها والقضاء عليها وتطهير الأرض من شرورها هو تأخير لشفاء شعوب الأمة من أشد الأوبئة والأخطار فتكا بها).
ويتخذون من شريعة الحج فرصة لبث شغبهم فيقولون:
(هذا حج صوري وتحويل المسجد الحرام إلى متحف وطني لا يزوره إلا من تسمح له الحكومة السعودية! وليس هو الحج الذي شرعه الله بقوله (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق). وقال: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)
).
وفي أكثر من مرة ومناسبة، يوزعون التهم ويقولون: (إنّ الدول الإسلامية كافة يحكم عليها بالردة نظير تعليقهم لصلاة الجماعة أثناء جائحة كورونا).
وإنّ أولئك لا يبحثون عن الحق، ولا يهمهم حصول الخير، إنّما هم يبحثون عن تصفية حسابات، وإنزال ثارات، بدلا من جنوحهم إلى تقوى الله، ومراجعة النفس، والتوبة والانخراط في صفوف الخيرين، ونسأل الله لهم أن يعينهم على أنفسهم، ويذهب وحر صدورهم، والأمور بخواتيمها.

بقيت عندي ملحوظة، أودُّ إلحاقها في السياق، في نهاية المطاف. لقد ذكرت في بداية الكلام ما يلي: (أعني ما أسماه بعض (المتنطعين) (التباعد في صلاة الجماعة)). ووقوفي مع لفظة (المتنطعين). وأخذت الكلمة والاستعمال من حديث نبوي صحيح: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ). قَالَهَا ثَلَاثًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وشرَحَ النوويُّ لفظة (المتنطعون) فقال: (أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم).
ولا أكتم سراً أنّي لما سئلت مرارا عن رأيي في صلاة التباعد، كنت أجيب شفويا، لا تصح، ومن أفتى بها ومن يصليها من (المتنطعين)، وكنت أتلو الحديث المذكور. وراجعني أخٌ فقال: ألا ترى أنّ هذه اللفظة ثقيلةٌ وقاسيةٌ، في حق عالم اجتهد وأفتى، وعامي قلد وصلى. فأجبته: أما القسوة والثقل، فهي لفظة من القاموس النبوي. وأما لياقتها لمن أفتى وصلى، فذلك عند الله. قال كيف؟ قلت إنّي لأقصد أنّ العالم الذي بذل جهده وكان حرا في بحثه، غير متجنف لجهة ثم أخطأ، فله عند ربه الأجر. يبقى الاحتمال الثاني، وهو عالمٌ بحث وعلم كلَّ خفايا المسألة، وبدا له وجه الصواب، لكنّه سار في هوى غيره، فلا تبرؤ ذمته عند الله، ولا أكون تجنيت عليه. وتجرَّأت على القول، لأنّي وجدت الحل النبوي واضحا جليا، وكذلك أدلته، ومن رغب عن هدي نبيه، يستحق لفظة أثقل من هذه بكثير. ولو أنّي أسميت عالما ونعته بهذه لكنت آثما، لأنّي لا أعرف حقيقة موقفه، وأكون متجنيا عليه، أما أنّي لم أصف بهذا الوصف معينا، فما أحسبني تجاوزت. والحمد لله

وبعد الإطالة أقول: كل ما مر يكون، وغيره سيكون، ونحن عن الصواب بعيدون. والكورونا ماضية تحصد الناس، بمناجل الجهل، وتأويلات القول، وفقه التباعد .. ولِمَ لا نكون في ما أبينا واقعين، إذ كنا عن منهج الحق معرضين، وعن هدي نبينا ناكبين، فأوكلنا ربنا إلى عقولنا، فما أغنت عنا، وازدادت همومنا! فالرجعة الرجعة إلى حكم الوحيين. (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

والحمد لله رب العالمين